النّفس من كتاب الشّفاء

أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا [ شيخ الرئيس ابن سينا ]

النّفس من كتاب الشّفاء

المؤلف:

أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا [ شيخ الرئيس ابن سينا ]


المحقق: الشيخ حسن حسن زاده الآملي
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-146-0
الصفحات: ٣٧٦

يكون شيئا له بالقياس إلى ما هو شكله فى الموجودات (١) حتى يكون كأنه شكل منزوع عن موجود هو لهذا الخيال ، أو يكون شيئا له بالقياس إلى المادة الحاملة. ولا يجوز أن يكون شيئا له فى نفسه من العوارض التى تخصه ، لأنه إما أن يكون لازما أو زائلا.

ولا يجوز أن يكون لازما له بالذات إلا وهو لازم لمشاركه فى النوع ، فإن المربّعين وضعا متساويين فى النوع فلا يكون لهذا عارض لازم ليس لذلك.

وأيضا فإنه لا يجوز إن كان هو فى قوة غير متجزئة تجزّئ القوى الجسمانية أن يعرض (٢) له شىء دون الآخر الذى هو مثله ومحلهما واحد غير متجزئ وهو القوة القابلة. ولا يجوز أن يكون زائلا ، لأنه يجب إذا زال ذلك الأمر أن تتغير صورته فى الخيال ، فيكون الخيال أنما يتخيله كما هو لأنه يقرن به ذلك الأمر ، فإذا زال تغير ، و (٣) الخيال إنما يتخيله هكذا لا بسبب شىء يقرنه به ، بل يتخيله كذلك كيف كان ، ولا إلى الخيال أن يلحق بالآخر هذا العارض فيجعله كالأول ، بل مادام موجودا فيه يكون كذلك ويعتبره الخيال كذلك من غير التفات إلى أمر آخر يقرنه به.

ولهذا لا يجوز أن يقال : إنّ فرض الفارض جعله بهذه الحال ، كما يجوز أن يقال فى مثله فى المعقولات (٤) ، وذلك لأن الكلام يبقى بحاله فيقال ما الذى فعله الفارض حتى خصصه بهذه الحال متميزا عن الثانى.

__________________

(١) اى فى الخارج.

(٢) فاعل لا يجوز.

(٣) حالية.

(٤) فى المعقول ، نسخة.

٢٦١

وأما فى الكلى فهناك أمر يقرنه به العقل وهو حد التيامن أو حد التياسر ، فإذا قرن بمربع حد التيامن صار بعد ذلك متيامنا ، والحد إنما يكون لأمر معقول كلى وفى مثله يصح لأنه أمر فرضى يتبع الفرض فى التصور. وأما هذا الجزئى الذى ليس يكون بالفرض ، بل إنما تتصور فى الخيال صورة عن محسوس من غير اختلاف فتثبت منظورا إليها متخيلة بعينها ، فليس يمكن أن يوجد له هذا الحد (١) دون صاحبها إلا لأمر به يستحق زيادة هذا الحد دون صاحبها ، ولا الخيال يفرضها كذلك بشرط يقرنه بها ، بل يتخيلها كذلك دفعة على أنها فى نفسها كذلك لا بفرضه فيتخيل هذا المربع يمينا وذلك يسارا ، لا بسبب شرط يقرن بذلك وبهذا ، وبعد لحوقه يفرض ذلك يمينا وهذا يسارا. وأما فى صقع العقل فإن حد التيامن وحد التياسر يلحق المربع ـ وهو مربع لم يعرض له شىء آخر ـ لحوق الكلى بالكلى ، فإنه يجوز أن يثبت فى العقل كلى من غير إلحاق شىء به ، ويكون معدّا لأن يلحق به ما يلحق.

وأما الخيال فما لم يتشخص المعنى فيه بما يتشخص به لم يتمثل للخيال ، فلذلك يجوز أن يكون فى سلطان العقل أن يقرن معنى بمعنى على سبيل الفرض (٢).

وأما الخيال فما لم يقع للتمثل (٣) فيه وضع محدود جزئى لم يرتسم فى الخيال ، ولا كان شيئا يجرى عليه فرض. فقد بطل أن يكون هذا التمييز

__________________

(١) فليس يمكن ان يقال انها يوجد لها هذا الحد دون صاحبتها ، نسخة.

(٢) فى تعليقة نسخة : حتى يتمكن من تغيير ذلك الفرض.

(٣) فى المباحث : واما التخيل فالامتياز غير حاصل بالفرض لان المرجع المعين الذى على الأيمن لا يمكن ان يفرض فيه عارض حتى يصير هو بعينه فى الخيال مربعا ايسر.

٢٦٢

بسبب عارض فى ذاته لازم أو غير لازم فى ذاته أو مفروض (١).

فنقول : ولا يجوز أن يكون بالقياس إلى الشىء الموجود (٢) الذى هو خياله ، وذلك لأنه كثيرا ما يتخيل ما ليس بموجود.

وأيضا فإن وقع لأحد المربعين نسبة إلى جسم وللمربع الآخر نسبة أخرى (٣) ، فليس يجوز أن تقع ومحلهما غير منقسم ، فإنه ليس أحد المربعين الخياليين أولى بأن ينسب إلى أحد المربعين الخارجين من الآخر إلا أن يكون قد وقع هذا فى نسبة من الجسم الموضوع له الحامل إياه إلى أحد الخارجين لا يقع الآخر فيها. فيكون إذن محل هذا غير محل ذلك ،

__________________

(١) او معروض ، نسخة.

(٢) اى فى الخارج.

(٣) قال صدر المتألهين فى الاسفار ( ج ٤ ص ٥٨ ط ١ ـ ص ٢٣٧ ج ٨ ط ٢ ) : « قول المعترض ان تخصّص هذا المربع الخيالى ليس بفرض فارض واعتبار معتبر. قلنا : لا نسلم بل تخصصه بمجرد اعتبار المعتبر وتصوره وجعله جعلا بسيطا. قوله والا لا مكننا ان نعمل بالمربع الايمن عملا به يصير المربع الايمن الايسر. قلنا تخصيص الفاعل للامر الصورى الذى لا مادة له ليس الا جعل هويته الصورية لا افادة صفة او عرض على مادة وليس فى المربع الخيالى الاّ صورة المربع الخاص بعينه الحاصل من الجاعل النفسانى اختراعا بسيطا.

وبالجملة اذا ارادت النفس ان يجعل هذا المربع الخيالى مربعا آخر وهذا المقدار مقدارا آخر أو ارادت تقسيم مقدار بعينه الى قسمين لا يمكن لها ذلك. اذ ليس لتلك الامور تركيب من مادة قابلة وصورة غيرها حتى يكون هناك مجعول ومجعول اليه. بل كل واحد من تلك الامور صورة فقط بلا مادة قابلة. وتلك الصور عين تصور النفس ومشيتها وارادتها. فاذا انقسم مقدار خيالى الى قسمين كان ذلك فى الحقيقة انشاؤهما ابتداء لا من شىء سواء عدم المقدار الاول اولا. واذا عدم فلم يعدم الى شىء ليلزم وجود مادة قابلة هناك. ويحتاج الى مخصص من خارج كما هو شأن الخارجيات المادية ».

٢٦٣

وتكون القوة منقسمة ولا تنقسم بذاتها ، بل بانقسام ما فيها فتكون جسمانية. وتكون الصورة مر تسمة فى الجسم (١) ، فليس يصح أن يفترق المربعان فى الخيال لافتراق المربعين الموجودين وبالقياس إليهما ، فبقى أن يكون ذلك إما بسبب افتراق الجزئين فى القوة القابلة أو الجزئين من الآلة التى بها تفعل القوة.

وكيف كان ، فإن الحاصل من هذا القبيل أن الإدراك إنما يتم بقوة متعلقة بمادة جسمانية. فقد اتضح أن الإدراك الخيالى هو أيضا إنما يتم بجسم.

ومما يبيّن ذلك أنا نتخيّل الصورة الخيالية كصورة الناس مثلا أصغر أو أكبر كأنّا ننظر إليهما. ولا محالة أنها ترتسم وهى أكبر ، وترتسم وهى أصغر فى شىء لا فى مثل ذلك الشىء بعينه ، لأنها إن ارتسمت فى مثل ذلك الشىء فالتفاوت فى الصغر والكبر إما أن يكون بالقياس إلى المأخوذ عنه الصورة وإما بالقياس إلى الآخذ وإما لنفس الصورتين.

ولا يجوز أن يكون بالقياس إلى المأخوذ عنه الصورة ، فكثيرا من الصور الخيالية غير مأخوذة عن شىء ألبتة ، وربما كان الصغير والكبير صورة شخص واحد.

ولا يجوز أن يكون بسبب الصورتين فى أنفسهما فإنهما لما اتفقتا فى الحد والماهية واختلفتا فى الصغر والكبر فليس ذلك لنفسيهما ، فإذن ذلك بالقياس إلى الشىء القابل ، ولأن الصورة تارة ترتسم فى جزء منه أكبر وتارة فى جزء منه أصغر.

__________________

(١) فى جسم. نسخة.

٢٦٤

وأيضا فإنه ليس يمكننا (١) نتخيل السواد والبياض فى شبح خيالى واحد ساريين فيه معا ، ويمكننا ذلك فى جزئين منه يلحظهما الخيال مفترقين. ولو كان الجزءان لا يتميزان فى الوضع ، بل كان كلا الخيالين يرتسمان فى شىء غير منقسم ، لكان لا يفترق الأمر بين المتعذر منهما والممكن. فإذن الجزءان متميزان فى الوضع والخيال يتخيلهما متميزين فى جزئين.

فإن قال قائل : وكذلك العقل ، فنجيبه ونقول : إن العقل يعقل السواد والبياض معا فى زمان واحد من حيث التصور (٢) ، وأما من حيث

__________________

(١) قال الفخر الرازى : « الثالث انه ليس يمكننا ان نتخيل السواد والبياض فى شبح جسمانى واحد ويمكننا ذلك فى جزئين ولو كان ذلك الجزءان لا يتميزان فى الوضع لكان لا فرق بين المتعذر والممكن فاذن الجزءان متميزان فى الوضع » انتهى كلامه ( ص ٣٤٠ ج ٢ من المباحث ).

واقول : قوله : « فى شبح جسمانى » هو مكان قول الشيخ « فى شبح خيالى ». وعندنا نسخة مخطوطة من المباحث موافقة للمطبوعة. وكأن « خيالى » حرّفت بـ « جسمانى ».

وانت تعلم ان المباحث خلاصة الشفاء ، بتقرير آخر ، ولو لم نقل بالتحريف لوجب ارتكاب التكلف فى اثبات المطلوب ، فتامل.

(٢) فى تعليقة نسخة : قوله : « من حيث التصور » اى تصورهما فى عالم العقل بنحو الكلية لا يستلزم تصور الموضوع والشبح حتى يقال لا يجتمعان فى شبح واحد ولكن تصورهما فى الخيال يستلزم الموضوع لهما وعروضهما له واما بحسب التصديق بان يقال السواد سواد او السواد قابض للبصر مثلا والبياض بياض او البياض مفرق للبصر مثلا فان موضوع هذين التصديقين لا يمكن ان يكون واحدا ولا يجتمعان بهذا الاعتبار والحاصل ان مفهوم السواد ومفهوم البياض لا يكونان متضادين حتى يمتنع اجتماعهما فى موضوع واحد فيمكن اجتماعهما فى موضوع واحد فيكون موضوع المفهومين من حيث التصور واحدا وهو النفس المجردة لكن الموضوع للحكم عليهما بحكم غير متحد لان موضوع الحكم نفس المفهومين والمفهومان متغايران.

٢٦٥

التصديق فيمتنع أن يكون موضوعهما واحدا. وأما الخيال فلا يتخيلهما معا لا على قياس التصور ولا على قياس التصديق. على أن فعل الخيال إنما هو على قياس التصور لا غير ، ولا فعل له فى غيره.

ولمّا علمت هذا فى الخيال ، فقد علمت فى الوهم الذى ما يدركه إنما يدركه متعلقا بصورة جزئية خيالية على ما أوضحناه.

٢٦٦

الفصل الرابع

فى أحوال القوى المحركة وضرب من النبوة المتعلقة بها

وإذ قلنا فى القوى المدركة من قوى النفس الحيوانية فخليق بنا أن نتكلم فى القوى المحركة منها (١) فنقول :

إن الحيوان ما لم يشتق اشتياقا إلى شىء شعر باشتياقه أو تخيله أو لم يشعر به ، لم ينبعث إلى طلبه بالحركة. وليس ذلك الشوق هو لشىء من القوى المدركة ، فليس لتلك القوى إلا الحكم والإدراك ، وليس يجب إذا حكم أو أدرك بحس أو وهم أن يشتاق الى ذلك الشىء ، فإن الناس

__________________

(١) قال الشيخ فى النجاة ص ٣٢١ : « للنفس الحيوانية بالقسمة الاولى قوتان محركة ومدركة. والمحركة على قسمين : اما محركة بانها باعثة ، واما محركة بانها فاعلة.

والمحرك على انها باعثة هى القوة النزوعية الشوقية وهى القوة التى اذا ارتسم فى التخيل صورة مطلوبة او مهروب عنها حملت القوة التى تذكرها على التحريك ولها شعبتان شعبة تسمى قوة شهوانية وهى قوة تنبعث على تحريك تقرب به من الاشياء المتخيلة ضرورية او طلبا لللذة. وشعبة تسمى غضبية وهى قوة تنبعث على تحريك يدفع له الشىء المتخيل ضارا او مفسدا طلبا للغلبة. واما القوة على انها فاعلة فهى قوة تنبث فى الاعصاب والعضلات من شانها ان تشنج العضلات فتجذب الاوتار والرباطات الى جهة المبدأ او ترفيها وتمددها طولا فتصير الاوتار والرباطات الى خلاف جهة المبدأ ».

٢٦٧

يتفقون فى إدراك ما يحسون ويتخيلون من حيث يحسون ويتخيلون ، لكن يختلفون فيما يشتاقون إليه مما يحسون ويتخيلون. والإنسان الواحد قد يختلف حاله فى ذلك ، فإنه يتخيل الطعام فيشتاقه فى وقت الجوع ولا يشتاقه فى وقت الشبع.

وأيضا فإن الحسن الأخلاق إذا تخيل اللذات المستكرهة لم يشتقها ، والآخر يشتاقها. وليس هذان الحالان (١) للإنسان وحده ، بل وللحيوانات كلها.

والشوق قد يختلف : فمنه ما يكون ضعيفا بعد. ومنه ما يشتد حتى يوجب الإجماع. والإجماع ليس هو الشوق فقد يشتد الشوق إلى الشىء فلا يجمع على الحركة ألبتة ، كما أن التخيل يقوىّ فلا يشتاق إلى ما يتخيل ، فإذا صحّ الإجماع أطاعت القوى المحركة التى ليس لها إلا تشنّج العضل وإرسالها. وليس هذا نفس الشوق ولا الإجماع ، فإن الممنوع من الحركة لا يكون ممنوعا من شدة الشوق ومن الإجماع ، لكنه لا يجد طاعة من القوى الأخرى التى لها أن تحرك فقط ، وهى التى فى العضل.

وهذه القوة الشوقية من شعبها القوة الغضبية والقوة الشهوانية. فالتى تنبعث مشتاقة إلى اللذيذ والمتخيل نافعا لتجلبه هى الشهوانية ، والتى تنبعث مشتاقة إلى الغلبة وإلى المتخيل منافيا لتدفعه فهى الغضبية.

وقد نجد فى الحيوانات انبعاثات لا إلى شهواتها ، بل مثل نزاع (٢) التى ولدت إلى ولدها والذى ألف الى إلفه ، وكذلك اشتياقها إلى الانفلات من الأقفاص والقيود ، فهذا وإن لم يكن شهوة للقوة الشهوانية فإنه اشتياق

__________________

(١) فى تعليقة نسخة : اى الادراك والشوق. او الشوق وعدم الشوق.

(٢) النزاع بمعنى الشوق.

٢٦٨

مّا إلى شهوة للقوة الخيالية. فإن القوة المدركة تخصّها فيما تدرك وفيما تنقلب فيه من الأمور التى تتجدد بالمشاهدة أو من الصور مثلا لذة تخصها ، فإذا تألّمت بفقدانها اشتاقت إليها طبعا ، فأجمعت القوة الإجماعية على أن تحرّك إليها الآلات كما تجمع لأجل الشهوة والغضب ، ولأجل الجميل من المعقولات أيضا. فيكون للشهوة اشتداد الشوق إلى اللذيذ ، وللقوة النزوعية (١) الإجماع ، وللغضب اشتداد الشوق إلى الغلبة ، وللقوة النزوعية الإجماع ، وكذلك للمتخيل أيضا ما يخصّه وللقوة النزوعية الإجماع.

والخوف والغم والحزن عن عوارض (٢) القوة الغضبية بمشاركة من القوى الدراكة ، فإنها إذا انخزلت (٣) اتباعا لتصور عقلى أو خيالى كان خوف ، وإذا لم تخف قويت : ويعرض لها الغم (٤) من الذى يوجب الغضب إذا كان غير مقدور على دفعه أو كان مخوفا وقوعه.

والفرح الذى من باب الغلبة فإنه غاية لهذه القوة أيضا. والحرص

__________________

(١) قال بهمنيار فى التحصيل والحال فى المفكرة هذه الحال لانه اذا اشتاقت النفس الى مسالة واجتمعت تبع الاجماع عمل القوة المفكرة.

(٢) قال بهمنيار : وهذه اعراض تعرض للنفس وهى فى البدن ولذلك يستحيل معها امزجة الابدان وقد يتغير الامزجة فيتبعها هذه الاعراض.

(٣) انخذلت ، نسخة.

(٤) فى تعليقة نسخة : الغم هو كيفية نفسانية يتبعها حركة الروح الى داخل البدن خوفا من موذى واقع عليه والحزن هو ما يتبعها حركة الروح الى الداخل قليلا قليلا. الفزع هو ما يتبعه حركة الروح الى الداخل هربا من الموذى واقعا كان او متخيلا. قال الشيخ فيما بعد وقد يعرض انفعال نفسانى بسبب ظنه ان امرا فى المستقبل يكون مما يضره وذلك يسمى الخوف.

٢٦٩

والنهم (١) والشهوة والشبق وما أشبه ذلك فهى للقوة البهيمية الشهوانية. والاستيناس والسرور من عوارض القوى الدراكة.

وأما القوى الإنسانية فتعرض لها أحوال تخصها سنتكلم فيها بعد.

والقوى الإجماعية تتبع للقوى المذكورة ، فإنها إذا اشتد نزاعها أجمعت وهى كلها تتبع أيضا القوة الوهمية ، وذلك أنه لا يكون شوق ألبتة إلا بعد توهم المشتاق إليه وقد يكون وهم ، ولا يكون شوق. لكنه قد يتفق أحيانا لآلام بدنية تتحرك الطبيعة إلى دفعها أن توجب تلك الحركة انبعاث التوهم ، فتكون تلك القوى سائقة للتوهم إلى مقتضاها ، كما أن اكثر التوهم فى أكثر الأمر يسوق القوى إلى المتوهم ، فالوهم له السلطان فى حيز القوى المدركة فى الحيوانات ، والشهوة والغضب لهما السلطان فى حيز القوى المحركة وتتبعهما القوة الإجماعية ثم القوى المحركة التى فى العضل.

فنقول الآن : إن هذه الأفعال والأعراض هى من الاعراض (٢) التى تعرض للنفس وهى فى البدن ولا تعرض بغير مشاركة البدن ، ولذلك فإنها تستحيل معها أمزجة الأبدان. وتحدث هى أيضا مع حدوث أمزجة الأبدان ، فإن بعض الأمزجة يتبعه الاستعداد للغضب ، وبعض الأمزجة يتبعه الاستعداد للشهوة ، وبعض الأمزجة يتبعه الجبن والخوف. ومن الناس من سجيته (٣) سجية مغضب فيكون سريع الغضب ، ومن الناس من يكون كأنه مذعور مرعوب فيكون جبانا مسرعا إليه الرعب. فهذه

__________________

(١) النهمة بالتحريك وهى افراط الشهوة فى الطعام.

(٢) العوارض ، نسخة.

(٣) من تكون سجيته ، نسخة.

٢٧٠

الأحوال لا تكون إلا بمشاركة البدن.

والأحوال التى للنفس بمشاركة البدن على أقسام :

منها ما يكون للبدن أولا ولكن يكون لأجل أنه ذو نفس.

ومنها ما يكون للنفس أولا ولكن لأجل أنها فى بدن.

ومنها ما يكون بينهما بالسوية. فالنوم واليقظة والصحة والمرض أحوال هى للبدن ومبادئها منه ، فهى له أولا ، ولكن إنما هى للبدن بسبب أن له نفسا.

وأما التخيل والشهوة والغضب وما يجرى هذا المجرى فإنها للنفس من جهة ما هى ذات بدن ، وللبدن من جهة أنها لنفس البدن أولا ، وإن كان من جهة ما ان النفس ذو بدن ، لست أقول من قبل البدن.

وكذلك الغم والهمّ والحزن والذكر وما أشبه ذلك ، فإن هذه ليس فيها ما هو عارض للبدن من حيث هو بدن ، ولكن هذه أحوال شىء مقارن للبدن لا تكون إلا عند مقارنة البدن ، فهى للبدن من قبل النفس ، إذ هى للنفس أولا وإن كانت للنفس من قبل ما هى ذات بدن ، لست أقول من قبل البدن.

وأما الألم من الضرب ومن تغير المزاج فإن العارض فيه موجود فى البدن ، لأن تفرق الاتصال والمزاج من أحوال البدن من جهة ما هو بدن ، وأيضا موجود فى الحس الذى يحسه من جهة ما يحسه ولكن بسبب البدن. ويشبه أن يكون الجوع والشهوة من هذا القبيل.

وأما التخيل والخوف والغم والغضب فإن الانفعال الذى يعرض له يعرض أوّلا للنفس ، وليس الغضب والغم من حيث هو غضب وغم انفعالا من الانفعالات المؤلمة للبدن ، وإن كان يتبعه انفعال بدنى مؤلم

٢٧١

للبدن ، مثل اشتعال حرارة أو خمودها وغير ذلك. فإن ذلك ليس نفس الغضب والغم ، بل هو أمر يتبع الغضب والغم.

ونحن لا نمنع أن يكون أمر الأخلق به أن يكون للنفس من حيث هى فى بدن ثم تتبعه فى البدن انفعالات خاصة بالبدن ، فإن التخيل أيضا من حيث كونه إدراكا ليس هو من الانفعالات التى تكون للبدن بالقصد الأول ، ثم قد يعرض من التخيل أن ينتشر بعض الأعضاء ، وليس ذلك بسبب طبيعى أوجب أن مزاجا قد استحال وحرارة قويت وبخارا تكوّن ونفذ فى بعض العضو حتى نشره ، بل لما حصلت صورة فى وهم أو جبت الاستحالة فى مزاج او حرارة ورطوبة وريحا ، لولا (١) تلك الصورة لم يكن فى الطبيعة ما يحركها.

ونحن نقول بالجملة إن من شأن النفس أن تحدث منها فى العنصر البدنى استحالة مزاج تحصل من غير فعل وانفعال جسمانى فتحدث حرارة لا عن حار ، وبرودة لا عن بارد.

بل إذا تخيلت النفس خيالا وقوى فى النفس لم يلبث أن يقبل العنصر البدنى صورة مناسبة لذلك أو كيفية. وذلك لأن النفس من جوهر بعض المبادئ التى هى تلبس المواد ما فيها من الصور المقومة لها ، إذا هى أقرب مناسبة لذلك الجوهر من غيره ، وذلك إذا استتم استعدادها لها (٢). وأكثر استعداداتها إنما تكون بسبب استحالات فى الكيف ؛ كما قلنا فيما سلف ، وإنما تستحيل فى الأكثر عن أضداد تحيلها.

فإذا كانت هذه المبادئ قد تكسو العنصر صورة مقومة لنوع طبيعى

__________________

(١) ولولا ، نسخة.

(٢) اى استعداد المواد للصور ، وفى تعليقة نسخة : اى افاضته المبادى الصور فى المواد.

٢٧٢

لنسبة ممّا تتقرر بينهما ، فلا يبعد أيضا أن تكسوها الكيفيات من غير حاجة إلى أن تكون هناك مماسة وفعل وانفعال جسمانى يصدر عن مضادة.

بل الصورة التى فى النفس هى مبدأ لما يحدث فى العنصر ، كما أن الصورة الصحيّة التى فى نفس الطبيب مبدأ لما يحدث من البرء ، وكذلك صورة السرير فى ذات النجار لكنه من المبادئ التى لا تنساق إلى إصدار ما هو موجب (١) له إلا بآلات ووسائط ، وإنما تحتاج إلى هذه الآلات لعجز وضعف وتأمل حال المريض الذى توهم أنه قد صح والصحيح الذى توهم أنه مرض ، فإنه كثيرا ما يعرض من ذلك أن يكون إذا تأكدت الصورة فى نفسه وفى وهمه انفعل منها عنصره فكانت (٢) الصحة أو المرض ، ويكون ذلك أبلغ مما يفعله الطيب بآلات ووسائط. ولهذا السبب ما يمكن الإنسان مثلا أن يعدو على جذع ملقى (٣) فى القارعة من الطريق وإن كان موضوعا كالجسر وتحته هاوية لم يجسر أن يمشى عليها (٤) دبيبا (٥) إلا بالهوينا ، لأنه يتخيل فى نفسه صورة السقوط تخيلا قويا جدا فتجيب إلى ذلك طبيعته وقوة أعضائه ولا تجيب إلى ضده من الثبات والاستمرار.

فالصور إذا استحكم وجودها فى النفس الكلية واعتقاد أنها يجب أن توجد فقد يعرض كثيرا أن تنفعل عنها المادة التى من شأنها أن تنفعل عنها وتكون.

__________________

(١) ما هى موجبة له ، نسخة.

(٢) فوجدت ، نسخة. فكانت الصحة والمرض ، نسخ مصحّحة.

(٣) مطروح ، نسخة.

(٤) عليه ، نسخة.

(٥) دبّ الجيش دبيبا سار سيرا ليّنا ومنه دبيب النمل. مجمع البحرين ج ٢ ص ٥٥.

٢٧٣

فإن كان ذلك فى النفس الكلية التى للسماء والعالم جاز أن يكون مؤثرا فى طبيعة الكل ، وإن كان فى نفس جزئية جاز أن يؤثر فى الطبيعة الجزئية.

وكثيرا ما تؤثر النفس فى بدن آخر كما تؤثر فى بدن نفسها تأثير العين العائنة (١) والوهم العامل.

[ كلام سام جدا فى تأثير النفوس ]

بل النفس إذا كانت قوية شريفة شبيهة بالمبادئ أطاعها العنصر الذى فى العالم وانفعل عنها ووجد فى العنصر ما يتصور فيها. وذلك لأن النفس الإنسانية سنبين أنها غير منطبعة فى المادة التى لها ، لكنها منصرفة الهمة إليها. فإن كان هذا الضرب من التعلق يجعل لها أن تحيل العنصر البدنى عن مقتضى طبيعته ، فلا بدع أن تكون النفس الشريفة القوية جدا تجاوز بتأثيرها ما يختص بها من الأبدان إذا لم يكن انغماسها فى الميل إلى ذلك البدن شديدا قويا وكانت مع ذلك عالية فى طبقتها قوية فى ملكتها جدا ، فتكون هذه النفس تبرئ المرضى ، وتمرض الأشرار ، ويتبعها أن تهدّم طبائع ، وأن تؤكّد طبائع ، وأن تستحيل لها العناصر فيصير غير النار نارا وغير الأرض أرضا ، وتحدث بارادتها أيضا أمطار وخصب كما يحدث خسف ووباء كل بحسب الواجب العقلى.

وبالجملة فإنه يجوز أن يتبع إرادته وجود ما يتعلق باستحالة العنصر فى الأضداد ، فإن العنصر بطبعه يطيعه ويتكوّن فيه ما يتمثل فى إرادته ، إذ

__________________

(١) فى تعليقة نسخة : اى العين التى يصيب منها تعب ومشقة.

٢٧٤

العنصر بالجملة طوع للنفس وطاعته لها أكثر من طاعته للأضداد المؤثرة فيه. وهذه أيضا من خواص القوى النبوية.

وقد كنا ذكرنا خاصيّة قبل هذه تتعلق بقواها المتخيلة وتلك خاصية تتعلق بالقوى الحيوانية المدركة ، وهذه خاصية تتعلق بالقوى الحيوانية المحركة الإجماعية من نفس النبى العظيم النبوة.

فنقول : إنه لما تبين أن جمع القوى الحيوانية لا فعل لها إلا بالبدن ، ووجود القوى أن يكون بحيث تفعل ، فالقوى الحيوانية إذن إنما تكون بحيث تفعل وهى بدنية فوجودها أن تكون بدنية ، فلا بقاء لها بعد البدن. وقد تكلمنا فى كتبنا الطبية فى أسباب استعدادات الأشخاص المختلفة بجبلتها وبحسب اختلاف أحوالها للفرح والغم والغضب والحلم والحقد والسلامة وغير ذلك كلاما لا يوجد للمتقدمين ما يجرى مجراه فى تفصيله وتحصيله فليقرأ من هناك.

٢٧٥
٢٧٦

المقالة الخامسة

وهى ثمانية فصول :

الفصل الأول : فى خواص الافعال والانفعالات التى للانسان وبيان قوى النظر والعمل للنفس الانسانية.

الفصل الثانى : فى اثبات ان قوام النفس الناطقة غير منطبع فى مادة جسمانية.

الفصل الثالث يشتمل على مسألتين : احداهما كيفية انتفاع النفس الانسانية بالحواس. والثانية اثبات حدوثها.

الفصل الرابع : فى ان الانفس الانسانية لا تفسد ولا تتناسخ.

الفصل الخامس : فى العقل الفعال فى انفسنا والعقل المنفعل عن انفسنا.

الفصل السادس : فى مراتب افعال العقل وفى اعلى مراتبها وهو العقل القدسى.

الفصل السابع : فى عدّ المذاهب الموروثة عن القدماء فى امر النفس وافعالها وانها واحدة او كثيرة وتصحيح القول الحق فيها.

الفصل الثامن : فى بيان الآلات التى للنفس.

٢٧٧
٢٧٨

الفصل الأول

فى خواص الافعال والانفعالات التى للإنسان

وبيان قوى النظر والعمل للنفس الانسانية

قد فرغنا من القول فى القوى الحيوانية أيضا (١) ، فحرى بنا أن نتكلم الآن فى القوى الإنسانية. فنقول :

إن الإنسان له خواص أفعال تصدر عن نفسه ليست موجودة لسائر الحيوان. وأول ذلك أنه لما كان الإنسان (٢) فى وجوده المقصود فيه يجب أن يكون غير مستغن فى بقائه عن المشاركة ولم يكن كسائر الحيوانات التى يقتصر كل واحد منها فى نظام معيشته على نفسه وعلى الموجودات فى الطبيعة له. وأما الإنسان الواحد فلو لم يكن فى الوجود إلا هو وحده وإلا

__________________

(١) كالنباتية.

(٢) الفصل الرابع من النمط التاسع من الاشارات : « اشارة ، لما لم يكن الانسان بحيث يستقل فى امر نفسه ... ». ثم ان الفصل الاول من الباب التاسع من نفس الاسفار ( ص ١١٦ ج ٤ ط ١ ) بتمامه مطالب هذا الفصل من الشفاء بتحرير آخر يغاير ما فى الشفاء قليلا. وهكذا الفصل الاول من الباب السادس من المباحث المشرقية فى كتاب النفس ( ج ٢ ص ٤٠٩ ط حيدر آباد الدكن ) قال : « الفصل الاول فى خواص النفس الانسانية وهى عشرة فمنها النطق وذلك ... ».

٢٧٩

الأمور الموجودة فى الطبيعة له لهلك أو لساءت معيشته أشد سوء.

وذلك لفضيلته ونقيصة سائر الحيوان على ما ستعلمه فى مواضع أخرى ، بل الإنسان محتاج إلى أمور أزيد مما فى الطبيعة ـ مثل الغذاء المعمول واللباس المعمول والموجود فى الطبيعة من الأغذية ـ ما لم تدبّر بالصناعات فإنها لا تلائمه ولا تحسن معها معيشته. والموجود فى الطبيعة من الأشياء التى يمكن أن تلبس أيضا ، فقد تحتاج أن تجعل بهيئة وصفة حتّى مكنها أن يلبسها.

وأما الحيوانات الأخرى فإن لباس كل واحد معه فى الطباع ، فلذلك يحتاج الإنسان أول شىء إلى الفلاحة وكذلك إلى صناعات أخرى ، لا يتمكن الإنسان الواحد من تحصيل كل ما يحتاج إليه من ذلك بنفسه ، بل بالمشاركة حتى يكون هذا يخبز لذاك ، وذاك ينسج لهذا ، وهذا ينقل شيئا من بلاد غريبة إلى ذلك ، وهذا يعطيه بإزاء ذلك شيئا من قريب.

فلهذه الأسباب وأسباب أخرى أخفى وآكد من هذه ما احتاج الإنسان أن تكون له فى طبعه قدرة على أن يعلم الآخر الذى هو شريكه ما فى نفسه بعلامة وضعية وكان أخلق ما يصلح لذلك هو الصوت لأنه ينشعب إلى حروف تتركب منها تراكيب كثيرة من غير مؤونة تلحق البدن ويكون شيئا لا يثبت ولا ييقى فيؤمن وقوف من لا يحتاج إلى شعوره عليه.

وبعد الصوت الإشارة فإنها كذلك ، إلا أن الصوت أدل من الإشارة ، لأن الإشارة إنما تهدى من حيث يقع عليها البصر (١) ، وذلك يكون من جهة مخصوصة ، ويحتاج أن يكلف المراد إعلامه أن يحرّك حدقته إلى

__________________

(١) من حيث يقع البصر عليه ، نسخة. وضمير « عليه » راجع الى « حيث » لانه بمعنى المكان.

٢٨٠