النّفس من كتاب الشّفاء

أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا [ شيخ الرئيس ابن سينا ]

النّفس من كتاب الشّفاء

المؤلف:

أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا [ شيخ الرئيس ابن سينا ]


المحقق: الشيخ حسن حسن زاده الآملي
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-146-0
الصفحات: ٣٧٦

غير متمثل بالحقيقة (١) فإن كثيرا من الأمور التى بالحقيقة وليست بالعرض فإنها تكون بمتوسطات.

وهذه المحسوسات المشتركة لما كان إدراكها بهذه الحواس ممكنا لم يحتج إلى حاسة أخرى ، بل لما كان إدراكها بلاتوسط غير ممكن استحال أن تفرد لها حاسة.

فالبصر يدرك العظم والشكل والعدد والوضع والحركة والسكون بتوسط اللون ، ويشبه أن يكون إدراك الحركة والسكون مشوبا بقوة غير الحس (٢).

واللمس يدرك جميع هذا بتوسط صلابة أولين فى أكثر الأمر ، وقد يكون بتوسط الحر والبرد.

والذوق يدرك العظم بأن يذوق طعما كثيرا منتشرا ، ويدرك العدد بأن

__________________

(١) وليس اذا كان الشىء متمثلا ومدركا لشىء فى شىء متوسط فهو غير متمثل بالحقيقة ، نسخة مصحّحة.

(٢) قال صدر المتألهين فى الاسفار : « واعلم ان معنى كون الحركة والسكون محسوسين ان العقل با عانة الحس يدركهما فان الحس يدرك الجسم تارة قريبا من شىء وتارة بعيدا وهكذا على التدريج فيحكم العقل بان ذلك الجسم متحرك خارج من القوة الى الفعل واما معنى خروج الشىء من القوة الى الفعل فليس من مدركات الحس لانه امر نسبى اضافى وكذا الحس يدرك جسما واقعا فى مكانه غير زايل فالعقل يحكم باتصافه بالاستقرار وعدم الانتقال وليس للحس ان يدرك استقرار الجسم او عدم انتقاله وزواله عن المكان الاول لان الاول اضافى والثانى عدمى وشىء من الامور الاضافية والعدمية ليس من مدركات الحس ولذلك راكب السفينة لما لم يدرك حسه باختلاف اوضاع للسفينة وقربها وبعدها بالنسبة الى جسم آخر خارج عنه لم يشعر بالحركة فيشبه ان يكون ادراك الحركة والسكون امرا ذهنيا بشركة الحس كالبصر » آخر الفصل الرابع من نفس الاسفار ج ٤ ص ٤٩ ط ١ ـ ص ٢٠٣ ج ٨ ط ٢.

٢٢١

يجد طعوما كثيرة فى الأجسام ، وأما الحركة والسكون والشكل فيكاد أن يدركه أيضا ولكن ضعيفا ، يستعين فى ذلك باللمس.

وأما الشم فيكاد لا يدرك به (١) العظم والشكل والحركة والسكون إدراكا متمثلا فى الشام ، بل يدرك به العدد بأن يتمثل فى الشام ، ولكن النفس تدرك ذلك بضرب من القياس أو الوهم بأن تعلم أن الذى انقطعت رائحته دفعة قد زال والذى تبقى رائحته هو ثابت.

وأما السمع فإن العظم لا يدركه ولكن السمع قد تدلّه النفس عليه دلالة غير مستمرة على الدوام ، وذلك من جهة أن الأصوات العظيمة قد ينسبها إلى أجسام عظيمة ، وكثيرا ما تكون من أشياء صغيرة وبالعكس. ولكن قد يدرك العدد ويدرك الحركة والسكون بما يعرض للصوت الممتد من ثبات أو اضمحلال يكون مصيره إلى ذلك الاختلاف فى تحدد مثل ذلك البعد. ولكن هذا الإدراك من جملة ما تدركه النفس للعادة التى عرفتها.

وقد يمكن أن يسمع الصوت عن الساكن على هيئة الصوت الذى يسمع عن المتحرك وعن المتحرك على هيئة الصوت الذى (٢) يسمع عن الساكن ، فلا تكون هذه الدلالة مركونا إليها ولا تجب وجوبا ، بل تكون فى أكثر الأمر. وأما الشكل فلا يدركه السمع إلا شكل الصوت لا شكل الجسم ، وأما الذى يسمع عن المجوّف فيوقف على تجويفه فهو شىء يعرض

__________________

(١) قال صدر المتألهين فى الاسفار ص ٤٩ ج ٤ ط ١ ـ ص ٢٠٤ ج ٨ ط ٢ : اما الشم فانه لا يدرك شيئا من ذلك الاّ العدد باعانة من العقل وهو ان يعلم ان الذى انقطعت رائحته غير الذى حصلت ثانيا.

(٢) اكثر النسخ : « على هيأة الذى » اى على هيأة الصوت الذى. وفى بعضها : « على هيأته التى ».

٢٢٢

للنفس وتعرفه النفس على سبيل الاستدلال. وتأمل مذهب العادة فيه.

ويشبه أن يكون حال البصر فى كثير مما يدركه هذه الحال أيضا إلا أن إدراك البصر لما يدركه من ذلك أظهر.

فهذه هى المحسوسات التى تسمى مشتركة ، إذ قد تشترك فيها عدة من الحواس والعدد كأنه أولى ما يسمى مشتركا (١) فإن جميع الحواس تشترك فيه.

وقد ظن بعض الناس أن لهذه المحسوسات المشتركة حاسة موجودة فى الحيوان تشترك فيها وبها تدرك ، وليس كذلك. فأنت تعلم أن من ذلك ما يدرك باللون لولا اللون لما أدرك ، وأنّ منه ما يدرك باللمس لولا الملموس لما أدرك. فلو كان يمكن أن يدرك شىء من ذلك بغير المتوسط من كيفية هى تدرك اوّلا لشىء من هذه الحواس ، لكان ذلك ممكنا ، وأما أن ما يستحيل فينا إدراكه إلا بتوسط مدرك بحاسة معلومة أو استدلال من غير توسط الحاسة فليس لها حاسة مشتركة بوجه من الوجوه.

__________________

(١) قال صدر المتألهين فى الاسفار ص ٤٩ ج ٤ ط ١ ـ ص ٢٠٢ ج ٨ ط ٢ : كل ما يقال انه محسوس فاما ان يكون بحيث يحصل منه عند الحس اثر او لا يحصل فان لم يحصل فهو المحسوس بالعرض وان حصل فلا يخلو اما ان يتوقف الاحساس به على الاحساس بشىء آخر او لا يتوقف فالاول هو المحسوس الثانى والثانى هو المحسوس الاول.

٢٢٣
٢٢٤

المقالة الرابعة

فى الحواس الباطنة

أربعة فصول

[ الفصل الأوّل : فيه قول كلّى على الحواس الباطنة التى للحيوان ]

[ الفصل الثانى : فى افعال القوّة المصوّرة والمفكّرة من هذه الحواسّ الباطنة ]

[ الفصل الثالث : فى أحوال القوى المتذكّرة والوهمية ]

[ الفصل الرابع : فى أحوال القوى المحرّكة وضرب من النبوة المتعلّقة بها ]

٢٢٥
٢٢٦

الفصل الأول

فيه قول كلى على الحواس الباطنة التى للحيوان

[ فى اثبات الحس المشترك ]

وأما الحس المشترك فهو بالحقيقة (١) غير ما ذهب إليه من ظنّ أن للمحسوسات المشتركة حسا مشتركا ، بل الحس المشترك هو القوة التى تتأدى إليها المحسوسات كلها ، فإنه لو لم تكن قوة واحدة تدرك الملون والملموس لما كان لنا أن نميّز بينهما قائلين : إنه ليس هذا ذاك. وهب أن هذا التميز هو للعقل ، فيجب لا محالة أن يكون العقل يجدهما معا حتى يتميّز بينهما ، وذلك لأنها من حيث هى محسوسة وعلى النحو المتأدى من المحسوس لا يدركها العقل كما سنوضح بعد. وقد نميّز نحن بينهما ، فيجب أن يكون لها اجتماع عند مميّز إمّا فى ذاته (٢) وإما فى غيره ، ومحال ذلك فى العقل على ما ستعلمه. فيجب أن يكون فى قوة أخرى.

ولو لم يكن قد اجتمع عند الخيال من البهائم التى لا عقل لها المائلة

__________________

(١) واما الحس الذى هو المشترك فهو بالحقيقة. نسخة.

(٢) قوله : « فى ذاته » كالحس المشترك فانه يكون الاجتماع فى ذاته. قوله : « واما فى غيره » كالنفس فانه يكون الاجتماع فى غير ذاته كالحس المشترك.

٢٢٧

بشهوتها إلى الحلاوة مثلا أن شيئا صورته كذا هو حلو لما كانت إذا رأته همّت بأكله ، كما أنه لولا أن عندنا نحن أن هذا الأبيض هو هذا المغنّى لما كنّا إذا سمعنا غناه الشخصى أثبتنا عينه الشخصية وبالعكس. ولو لم يكن فى الحيوان ما تجتمع فيه صور المحسوسات لتعذرت عليه الحياة ، ولم يكن الشمّ دالا لها على الطعم ، ولم يكن الصوت (١) دالا إياها على الطعم ، ولم تكن صورة الخشبة تذكّرها صورة الألم حتى تهرب منه ، فيجب لا محالة أن يكون لهذه الصور مجمع واحد من باطن.

وقد يدلنا على وجود هذه القوة اعتبارات أمور تدل على أن لها آلة غير الحواس الظاهرة منها نراه من تخيل المدور به أن كل شىء يدور ، فذلك إما عارض عرض فى المرئيات أو عارض عرض فى الآلة التى تتمّ بها الرؤية ، وإذا لم يكن فى المرئيات كان لا محالة فى شىء آخر.

وليس الدوار إلا بسبب حركة البخار فى الدماغ وفى الروح التى فيه فيعرض لتلك الروح أن تدور (٢) ، فتكون إذن القوة المرتبة هناك هى التى يعرض لها أمر قد فرغنا منه. ولذلك يعرض للإنسان دوار من تأمّل ما يدور كثيرا على ما أنبأنا به. وليس يكون ذلك بسبب أمر فى جزء من العين ، ولا فى روح مصبوب فيه (٣). وكذلك تخيل استعجال (٤) المتحرك النقطى مستقيما أو مستديرا على ما سلف من قبل ، ولأن

__________________

(١) اى الصوت المسموع عند تصويب بعضها بعضها حال الورود على مطعوم. قوله : « المدور به » اى من به مرض دوار الرأس.

(٢) لذلك الروح ان يدور. نسخة.

(٣) والاّ لم يعرض لفاقد العين.

(٤) وكذلك نتخيل استعجال ـ نسخة.

٢٢٨

تمثل الأشباح الكاذبة وسماع الأصوات الكاذبة قد يعرض لمن تفسد لهم آلات الحس أو كان مثلا مغمضا لعينه ، ولا يكون السبب فى ذلك إلا لتمثلها فى هذا المبدأ.

والتخيلات التى تقع فى النوم إما أن تكون لارتسام فى خزانة حافظة للصور ، ولو كان كذلك لوجب أن يكون كل ما اختزن فيها متمثلا فى النفس ليس بعضها دون بعض حتّى يكون ذلك البعض كأنه مرئى أو مسموع وحده أو أن يكون يعرض لها التمثل فى قوة أخرى ، وذلك إما حس ظاهر وإما حسّ باطن ، لكن الحس الظاهر معطل فى النوم ، وربما كان ذلك الذى يتخيل ألوانا مّا مسمول العين (١) فبقى أن يكون حسا باطنا ، وليس يمكن أن يكون إلا المبدأ للحواس الظاهرة. والذى كان إذا استولت القوة الوهمية وجعلت تستعرض ما فى الخزانة تستعرضه بها ولو فى اليقظة ، فإذا استحكم ثباتها فيها كانت كالمشاهدة.

فهذه القوة هى التى تسمى الحس المشترك وهى مركز الحواس ، ومنها تتشعب الشعب ، وإليها تؤدى الحواس ، وهى بالحقيقة هى التى تحس.

[ فى اثبات الخيال ]

لكن إمساك ما تدركه هذه هو القوة التى تسمى خيالا وتسمى مصورة وتسمى متخيلة ، وربما فرّق بين الخيال والمتخيلة بحسب الاصطلاح ، ونحن ممّن يفصّل ذلك. والصورة التى فى الحس المشترك. والحس المشترك والخيال كأنهما قوة واحدة ، وكأنهما لا يختلفان فى الموضوع ، بل

__________________

(١) يعنى چشم كنده شده وكور شده.

٢٢٩

فى الصورة. وذلك لأنه ليس أن يقبل هو أن يحفظ (١) ، فصورة المحسوس تحفظها القوة التى تسمى المصورة والخيال ، وليس لها حكم ألبتة ، بل حفظ. وأما الحس المشترك والحواس الظاهرة فإنها تحكم بجهة مّا أو بحكم مّا ، فيقال إن هذا المتحرك أسود وإن هذا الأحمر حامض ، وهذا الحافظ لا يحكم به على شىء من الموجود إلا على ما فى ذاته بأن فيه صورة كذا.

[ فى اثبات القوة المتصرفة ]

ثم قد نعلم يقينا أنه فى طبيعتنا أن نركّب المحسوسات بعضها إلى بعض ، وأن نفصّل بعضها عن بعض ، لا على الصورة التى وجدناها عليها من خارج ولا مع تصديق بوجود شىء منها أو لا وجوده. فيجب أن تكون فينا قوة نفعل ذلك بها ، وهذه هى التى تسمى إذا استعملها العقل تسمّى (٢) مفكرة ، وإذا استعملتها قوة حيوانية تسمّى متخيلة.

[ فى اثبات الواهمة ]

ثم إنا قد نحكم فى المحسوسات بمعان لا نحسّها ، إما أن لا تكون فى طبائعها محسوسة ألبتة ، وإما أن تكون محسوسة لكننا لا نحسّها وقت الحكم. أما التى لا تكون محسوسة فى طبائعها (٣) فمثل العداوة والرداءة والمنافرة التى تدركها الشاة فى صورة الذئب ، وبالجملة المعنى الذى

__________________

(١) قوله : « لانه ليس ان يقبل هو ان يحفظ » يعنى ليست قوة قبول الصور هى قوة حفظها.

(٢) تسمّى متفكرة. نسخة.

(٣) راجع الفصل الرابع عشر من المسلك الخامس من الاسفار وايضا الفصل الثالث والخامس من نفس الاسفار. والجذوات ص ٩٤.

٢٣٠

ينفّرها عنه ، والموافقة التى تدركها من صاحبها ، وبالجملة المعنى يؤنسها به. وهذه أمور تدركها النفس الحيوانية ، والحسّ لا يدلّها على شىء منها. فإذن القوة التى بها تدرك ، قوة أخرى ولتسمّ الوهم.

وأما التى تكون محسوسة فإنا نرى مثلا شيئا أصفر فنحكم أنه عسل وحلو ، فإن هذا ليس يؤديه إليه الحاس فى هذا الوقت ، وهو من جنس المحسوس ، على أن الحكم نفسه ليس بمحسوس ألبتة وإن كانت أجزاؤه من جنس المحسوس ، وليس يدركه فى الحال ، إنما هو حكم نحكم به وربّما غلط فيه وهو أيضا لتلك القوة.

وفى الإنسان للوهم أحكام خاصة (١) من جملتها حمله النفس على أن تمنع وجود أشياء لا تتخيل ولا ترتسم فيه وتأبيّها التصديق بها. فهذه القوة لا محالة موجودة فينا ، وهى الرئيسة الحاكمة فى الحيوان حكما ليس فصلا كالحكم العقلى ، ولكن حكما تخيليا مقرونا بالجزئية (٢) وبالصورة الحسية ، وعنه تصدر أكثر الأفعال (٣) الحيوانية.

وقد جرت العادة بأن يسمى مدرك الحس المشترك صورة ومدرك الوهم معنى ، ولكل واحد منهما خزانة.

فخزانة مدرك الحس وهو الصورة هى القوة الخيالية ، وموضعها مقدم الدماغ ، فلذلك إذا حدثت هناك آفة فسد هذا الباب من التصور ، إما بأن تتخيل صورا ليست أو تصعب استثبات الموجود فيها.

وخزانة مدرك المعنى هو القوة التى تسمى الحافظة ، ومعدنها

__________________

(١) راجع ص ٦٤ تمهيد القواعد ـ ط ١.

(٢) قوله : « مقرونا بالجزئية » وعلى ما فى الاسفار فهو كلى مضاف الى الجزئى.

(٣) افعال. نسخة.

٢٣١

مؤخر الدماغ ، ولذلك إذا وقع هناك آفة وقع الفساد فيما يختص بحفظ هذه المعانى (١).

وهذه القوة تسمى أيضا متذكّرة ، فتكون حافظة لصيانتها ما فيها ، ومتذكرة لسرعة استعدادها لاستثباته (٢) ، والتصور به مستعيدة إياه إذا فقد ، وذلك إذا أقبل الوهم بقوته المتخيلة فجعل يعرض (٣) واحدا واحدا من الصور الموجودة فى الخيال ليكون كأنه يشاهد الأمور التى هذه صورها. فإذا عرض له الصورة التى أدرك معها المعنى الذى بطل ، لاح له المعنى حينئذ كما لاح من خارج ، واستثبتته القوة الحافظة فى نفسها كما كانت حينئذ (٤) تستثبت فكان ذكر (٥).

__________________

(١) قال الرازى : حفظ المعانى مغاير لادراكها وادراكها مغاير للتصرف فيها واستعراضها فالاسترجاع لا يتم الا بحفظ وادراك وتصرف فالمسترجعة لا تكون قوة واحدة فيزيد عدد القوى الباطنة على الخمس المشهور واجيب ان الادراك للوهم والحفظ للحافظة والتصرف للمفكرة وبهذه القوى يتم الاسترجاع من غير حاجة الى قوة اخرى غيرها فوحدة المسترجعة وحدة اعتبارية غير حقيقية وكذا الذاكرة مركب من ادراك وحفظ يتم بالوهم والحافظة. قال صدر المتألهين فى الاسفار ص ٥٣ ج ٤ ط ١ ـ ص ٢١٩ ج ٨ ط ٢ : واعلم ان هذه القوى وان كانت متغائرة الوجود مختلفة الحدوث منفكة بعضها عن بعض والحيوان ما لا يكون له الا الحس الظاهر ومنه ما له خيال ولا وهم له ومنه مالا حفظ له انها ترجع عند كمالها الى ذات واحدة لها شئون كثيرة.

(٢) قوله : « لاستثباته » الضمائر الثلاثة راجعة الى « ما » فى قوله « ما فيها ». وفى شرح المحقق الطوسى على الفصل التاسع من نفس الاشارات كانت الضمائر على التأنيث فهى ايضا راجعة الى « ما » فى قوله : « ما فيها » اى الصور التى فيها. وفى الكتاب راجعة الى لفظ « ما ». وما فى ذلك الشرح الى معنى « ما ».

(٣) فى تعليقة نسخة : اى يكون المطلوب هو المعنى لا الصورة.

(٤) فى تعليقة نسخة : اى حين لاح من خارج.

(٥) فكان ذاكرا ، فكان ذكرا ، نسختان.

٢٣٢

وربما كان المصير من المعنى إلى الصورة ، فيكون المتذكر المطلوب ليست نسبته إلى ما فى خزانة الحفظ ، بل نسبته (١) إلى ما فى خزانة الخيال. فكأن إعادته إما فى وجه العود إلى هذه المعانى التى فى الحفظ حتى يضطر المعنى إلى لوح الصورة فتعود النسبة إلى ما فى الخيال ثانيا ، وإما بالرجوع إلى الحس.

مثال الأول (٢) إذا نسبت نسبته إلى صورة وكنت عرفت تلك النسبة تأملت الفعل (٣) الذى كان يقصد منها ، فلما عرفت الفعل ووجدته وعرفت أنه أى طعم وشكل ولون يصلح له فاستثبت النسبة به فالفيت ذلك (٤) وحصّلته نسبة إلى صورة فى الخيال وأعدت النسبة فى الذكر ، فإن خزانة الفعل هو الحفظ لأنه من المعنى. فإن كان أشكل ذلك عليك من هذه الجهة أيضا ولم يتضح فأورد عليك الحس صورة الشىء ، عادت مستقرة فى الخيال وعادت النسبة إليه مستقرة فى التى تحفظ.

وهذه القوة المركّبة بين الصورة والصورة ، وبين الصورة والمعنى ، وبين المعنى والمعنى ، هى كأنها القوة الوهميّة بالموضوع ، لا من حيث تحكم ، بل من حيث تعمل لتصل إلى الحكم. وقد جعل مكانها وسط الدماغ ليكون لها اتصال بخزانتى المعنى والصورة.

ويشبه أن تكون القوة الوهمية هى بعينها المفكرة والمتخيلة والمذكّرة. وهى بعينها الحاكمة فتكون بذاتها حاكمة وبحركاتها وأفعالها متخيلة

__________________

(١) فى تعليقة نسخة : اى يكون المطلوب هو الصورة لا المعنى.

(٢) فى تعليقة نسخة : اى اعادة الوهم الصورة من المعانى التى تكون فى الحافظة.

(٣) اى الحفظ وملاحظة المحفوظات التى فى تلك القوة من المعانى.

(٤) اى فيحصل الصورة التى تكون منشأة لذلك المعنى.

٢٣٣

ومتذكرة ، فتكون متخيلة بما تعمل فى الصور والمعانى ، ومتذكرة بما ينتهى إليه عملها. وأما الحافظة فهى قوة خزانتها ، ويشبه أن يكون التذكر الواقع بالقصد معنى للإنسان وحده ، وأن خزانة الصورة هى المصورة والخيال. وأن خزانة المعنى هى الحافظة. ولا يمتنع أن تكون الوهمية بذاتها حاكمة متخيلة ، وبحركاتها متخيلة ذاكرة.

٢٣٤

الفصل الثانى

فى أفعال القوة المصورة والمفكّرة من هذه الحواس الباطنة

وفيه القول على النوم واليقظة (١) والرؤيا الصادقة والكاذبة وضرب من خواص النبوة.

فلنحصّل القول فى القوة المصورة أولا فنقول :

إن القوة المصورة التى هى الخيال هى آخر ما تستقر فيه صور المحسوسات ، وإن وجهها إلى المحسوسات هو الحس المشترك ، وإن الحس المشترك يؤدّى إلى القوة المصوّرة على سبيل استخزان ما تؤديه إليه

__________________

(١) قال الرازى : المتعلق الاول للنفس جوهر لطيف متكون من بخارية الاخلاط ومن الطف فيها يسمى ذلك الجوهر الروح واذا انصب ذلك الروح الى الحواس حصلت الادراكات الظاهرة وذلك هو اليقظة وان لم تنصب الروح الى الحواس او رجع منها بعد انصبابه اليها تعطلت الحواس الظاهرة وذلك هو النوم. ( المباحث المشرقية ج ٢ ص ٣٣٢. )

وقال يعقوب بن اسحاق الكندى : النوم ترك الحىّ الثابت على طباعه فى الصحة استعمال الحواس بالطبع. قال الحكيم الفاضل ابو الحسن سعد بن هبة الله فى رسالة الحدود : النوم رطوبة معتدلة تنحصر فى الدماغ تمنع الروح النفسانى من الجريان فى الاعصاب يتبعها سكون الحيوان ، واليقظة تصرف الحواس لغاية هى معيشة الحيوان.

٢٣٥

الحواس فتخزنه. وقد تخزن القوة أيضا أشياء ليست من المأخوذات عن الحس ، فإنّ القوة المفكرة قد تتصرف على الصور التى فى القوة المصوّرة بالتركيب والتحليل لأنها موضوعات لها ، فإذا ركّبت صورة منها أو فصّلتها أمكن أن تستحفظها فيها ، لأنها ليست خزانة لهذه الصورة من جهة ما هذه الصورة منسوبة إلى شىء وواردة من داخل أو خارج ، بل إنما هى خزانة لها لأنها هذه الصورة بهذا النحو من التجريد ، ولو (١) كانت هذه الصورة على نحو ما فيها من التركيب والتفصيل ترد من خارج لكانت هذه القوة تستثبتها. فكذلك إذا لاحت لهذه القوة من سبب آخر.

وإذا عرض بسبب (٢) من الأسباب إما من التخيل والفكر وإما لشىء من التشكلات السماوية أن تمثلت (٣) صورة فى المصورة وكان الذهن غائبا أو ساكنا عن اعتباره ، أمكن أن يرتسم ذلك فى الحس المشترك نفسه بعينه الى تبيانه (٤) فيسمع ويرى ألوانا وأصواتا ليس لها وجود من خارج ولا أسبابها من خارج. وأكثر ما يعرض هذا عند سكون القوى العقلية أو غفول الوهم ، وعند اشتغال النفس النطقية عن مراعاة الخيال والوهم. فهناك تقوى المصورة والمتخيلة على أفعالها الخاصة حتى يتمثل مما تورده من الصور محسوسة.

ولنزد هذا بيانا فنقول : إنه سنبيّن بعد أن هذه القوى كلها لنفس واحدة وأنها خوادم للنفس ، فلنسلّم ذلك وضعا ، ولنعلم أن اشتغال النفس

__________________

(١) فلو كانت ، نسخة.

(٢) لسبب ، نسخة.

(٣) فاعل عرض.

(٤) على هيئاته ، نسخة.

٢٣٦

ببعض هذه يصرفها عن إعانة القوى الأخر على فعلها أو عن ضبطها عن زيفها (١) أو عن حملها على الصواب ، فإن من شأن النفس إذا اشتغلت بالأمور الباطنة أن تغفل عن استثبات الأمور الخارجة فلا تستثبت المحسوسات حقها من الاستثبات ، وإذا اشتغلت بالأمور الخارجة أن تغفل عن استعمال القوى الباطنة ، فإنها إذا كانت تامة الإصغاء إلى المحسوسات الخارجة ففى وقت مّا تكون منصرفة إلى ذلك يضعف تخيّلها وتذكّرها ، وإذا انصبت إلى أفعال القوة الشهوانية انكسرت منها أفعال القوة الغضبية ، وإذا انصبت إلى أفعال القوة الغضبية انكسرت منها أفعال القوة الشهوانية ؛ وبالجملة إذا انصبت إلى استكمال الأفعال الحركية ضعفت الأفعال الإدراكية ، وبالعكس.

فإذا لم تكن النفس مشتغلة بأفعال قوى عن أفعال قوة مّا بل كانت وادعة كأنها معزّلة عرض (٢) لأقوى القوى وأعملها أن تغلب ، وإذا اشتغلت بقوة مّا وعارض مّا عن تثقيف قوة ، إنما تضبطها عن حركاتها المفرطة مراعاة النفس أو الوهم إياها استولت تلك القوة ونفذت فى أفعالها التى بالطبع قد خلالها الجو وتثقفت.

وهذا الذى يعرض للنفس من أن لا تكون مشتغلة بفعل قوة أو قوى فقد يكون لآفة أو لضعف شاغل عن الاستكمال ، كما فى الأمراض وكما فى الخوف ؛ وإما أن يكون لاستراحة مّا ، كما فى النوم ؛ وإما أن يكون لكثرة انصراف الهمة إلى استعمال القوة المنصرف إليها من غيرها.

__________________

(١) عن زيغها بالغين المعجمة ، عدة نسخ.

(٢) جواب « اذا لم تكن ». ( معتزلة ، عرض ـ خ ل ).

٢٣٧

ثم إن القوة المتخيلة قوة قد تصرفها (١) النفس عن خاص فعلها بوجهين : تارة مثل ما يكون عند اشتغال النفس بالحواس الظاهرة وصرف القوة المصورة إلى الحواس الظاهرة وتحريكها بما يورد عليها منها حتى لا تسلم (٢) للمتخيلة المفكرة فتكون المتخيلة مشغولة عن فعلها الخاص وتكون المصورة أيضا مشغولة عن الانفراد بالمتخيلة ويكون ما تحتاجان (٣) إليه من الحس المشترك ثابتا واقعا فى شغل الحواس الظاهرة وهذا الوجه هو وجه.

وتارة عند استعمال النفس إياها (٤) فى أفعالها التى تتصل بها من التميّز والفكرة. وهذا على وجهين أيضا :

أحدهما أن تستولى على المتخيلة فتستخدمها والحس المشترك معها فى

__________________

(١) قال الرازى فى المباحث المشرقية ص ٤٣٠ ج ٢ : ولصرف القوة المتخيلة عن الفعل امران : احدهما الحس المشترك اذا نقش بالصور التى توردها الحواس الظاهرة لم يتسع للصور التى تركّبها المتخيلة فحينئذ ينصرف المتخيلة عن العمل. الثانى تسلط العقل والوهم عليها بالضبط والحفظ عن الاضطراب والحركة عند ما يستعملانها فيما يهمّهما فان المتخيلة عند ذلك لا تفرغ لتركيب الصور ونقش الحس المشترك بها ثم اذا انتفى الشاغلان او احدهما ظهر سلطان المتخيلة فاخذت فى التلويح والتشبيح. اما فى النوم فقد انكسرت سورة احد الشاغلين وهو الحس الظاهر فيتعطل الحس المشترك عما يتأدى اليه ويتسع للانطباع بالصور التى تركبها المتخيلة وينقلب تلك الصور المتخيلة مشاهدة مرئية واما فى حالة المرض فان النفس تكون مشغولة بتدبير البدن فلا يمكنها فى ان يتفرغ لتثقيف المتخيلة فحينئذ يقوى سلطان المتخيلة وما يرى فى الخوف من الصور الهائلة فهو بهذا السبب فان الخوف المستولى على النفس يصدّها عن تثقيف المتخيلة برسم صور هائلة فى الحس المشترك كصورة الغول.

(٢) اى على المصورة من الحواس الظاهرة حتى لا تسلم المصورة.

(٣) اى المتخيّلة والمصورة.

(٤) اى عند استعمال النفس القوة المتخيلة.

٢٣٨

تركيب صور بأعيانها وتحليلها على جهة يقع للنفس فيها غرض صحيح ، ولا تتمكن المتخيلة لذلك من التصرف على ما لها أن تتصرّف عليه بطباعها ، بل تكون منجرّة مع تصريف النفس النطقية إياها انجرارا.

والثانى أن تصرفها عن التخيلات التى لا تطابق الموجودات من خارج فتكفها عن ذلك استبطالا لها فلا تتمكن من شدة تشبيحها وتمثيلها ، فإن شغلت المتخيلة من الجهتين جميعا ضعف فعلها ، وإن زال عنها الشغل من الجهتين كلتيهما ـ كما يكون فى حال النوم أو من جهة واحدة كما يكون عند الأمراض التى تضعف البدن وتشغل النفس عن العقل والتمييز وكما عند الخوف حتى تضعف النفس وتكاد تجوّز ما لا يكون وتكون منصرفة عن العقل جملة لضعفها وتخوّفها وقوع أمور جسدانية فكأنها تترك العقل وتدبيره ـ أمكن التخيل (١) حينئذ أن يقوّى ويقبل على المصورة ويستعملها ويتقوى اجتماعهما معا فتصير المصورة أظهر فعلا فتلوح الصور التى فى المصورة فى الحاس المشترك فترى كأنها موجودة خارجا ، لأن الأثر المدرك من الوارد من خارج ومن الوارد من داخل هو ما يتمثل فيها وإنما يختلف بالنسبة.

وإذا كان المحسوس بالحقيقة هو ما يتمثل ، فإذا تمثل كان حاله كحال ما يرد من خارج. ولهذا ما يرى الإنسان المجنون والخائف والضعيف والنائم أشباحا قائمة كما يراها فى حال السلامة بالحقيقة ويسمع أصواتا كذلك ،

__________________

(١) عبارته فى المبدء والمعاد هكذا : « واذا سكن فعل احد الشيئين قوى الخيال اما الحس فاذا تعطل فعله عند النوم واما العقل فاذا لم يصح الآلة لاستعماله لها بسوء المزاج ولهذا يتخيل المجانين امورا ليست فيقوى ذلك فى خيالهم حتى يكون حاله حال الموجود الماخوذ من الحس ».

٢٣٩

فإذا تدارك التميّز أو العقل شيئا من ذلك وجذب القوة المتخيلة إلى نفسه بالتنبيه اضمحلّت تلك الصور والخيالات.

وقد يتفق فى بعض الناس أن تخلق فيه القوة المتخيلة شديدة جدا غالبة حتى أنها لا تستولى عليها الحواس ولا تعصيها المصورة ، وتكون النفس أيضا قوية لا يبطل التفاتها إلى العقل وما قبل العقل انصبابها إلى الحواس. فهؤلاء يكون لهم فى اليقظة ما يكون لغيرهم فى المنام فى (١) الحالة التى سنخبر عنها بعد وهى حالة إدراك النائم مغيبات يتحققها بحالها أو بأمثلة تكون لها. فإن هؤلاء قد يعرض لهم مثلها فى اليقظة ، وكثيرا ما يكون لهم فى توسط ذلك (٢) أن يغيبوا آخر الأمر عن المحسوسات ويصيبهم كالإغماء وكثيرا ما لا يكون ، وكثيرا ما يرون الشىء بحاله ، وكثيرا ما يتخيل لهم مثاله للسبب الذى يتخيل للنائم مثال ما يراه مما نوضحه بعد ، وكثيرا ما يتمثل لهم شبح ويتخيلون أن ما يدركونه خطاب من ذلك الشبح بألفاظ مسموعة تحفظ وتتلى ، وهذه هى النبوة الخاصة بالقوة المتخيلة. وهاهنا نبوات أخرى سيتضح أمرها (٣).

وليس أحد من الناس لا نصيب له من أمر الرؤيا ومن حال الإدراكات التى تكون فى اليقظة ، فإن الخواطر التى تقع دفعة فى النفس إنما يكون سببها اتصالات مّا (٤) لا يشعر بها ولا بما يتصل بها لا قبلها ولا بعدها ، فتنتقل النفس منها إلى شىء آخر غير ما كان عليه مجراها. وقد يكون

__________________

(١) من الحالة ، نسخة.

(٢) فى تعليقة نسخة : اى فيما بين تلك الحالة.

(٣) فى آخر فصول هذه المقالة.

(٤) فى تعليقة نسخة : اى بالمبادى العالية والالواح المحفوظة.

٢٤٠