النّفس من كتاب الشّفاء

أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا [ شيخ الرئيس ابن سينا ]

النّفس من كتاب الشّفاء

المؤلف:

أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا [ شيخ الرئيس ابن سينا ]


المحقق: الشيخ حسن حسن زاده الآملي
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-146-0
الصفحات: ٣٧٦

فذلك حال مجاوره لا حال كيفيته. فلا يبعد أن يكون الشىء المسود لا يكون مسودا إلا وفيه قوة نافذ متعلقة قباضة ، فيخالط ، وينفذ ويلزم ، وأن يكون ما هو موجود فى الأشياء البيض بخلاف ذلك فى طبعه ، فلا يمكنه أن يغشى الأسود ويداخله ويلزمه. على أن ذلك ليس أيضا مما لا يمكن ، فإنه إذا احتيل بمثل الاسفيذاج (١) وغيره حيلة مّا حتى يغوص ويتخلل السواد صبغه أبيض.

وأما المذهب الثانى (٢) فإن ذلك المذهب لا يستقيم القول به إلا إذا فرض الخلأ موجودا ، وذلك لأن المسام التى يذكرونها لا يخلو إما أن تكون مملوءة من جسم أو تكون خالية. فإن كانت مملوءة من جسم ، فإما أن يكون ذلك الجسم يشف من غير مسام ، أو تكون له أيضا مسام ، وينتهى لا محالة : إما إلى مشف لا مسام له ، وهذا خلاف قولهم. وإما إلى خلاء ، فيكون مذهبهم يقتضى وجود الخلاء ، والخلاء غير موجود.

ثم بعد ذلك فإنهم يقولون : إنه ليس كل مسام تصلح لتخييل الإشفاف ، بل يجب أن تكون المسام مستقيمة الأوضاع من غير تعريج (٣) حتى تنفذ فيه الشعاعات على الاستقامة. فلنخرّط كرة من جمد ، بل من بلور ، بل من ياقوت أبيض شفاف ، فهذه المسام التى تكون فيها شفافة مستقيمة هبها (٤) تكون كذلك طولا ، فهل تكون كذلك أيضا عرضا ،

__________________

(١) سفيد آب.

(٢) فى تعليقة نسخة : اى الذين لا يقولون بالاشفاف والقائلون بالثقب والمنافذ فى الاجسام.

(٣) اى من غير ميل وانعطاف.

(٤) فى تعليقة نسخة : هب لفظ يونانى بمعنى نعم ثم استعمل بمعنى سلّم. اى سلمناها.

١٦١

وهل تكون كذلك قطرا ومن أى جهة أثبتّ ، فكيف تكون مستقيمات تداخل مستقيمات فتكون من أى جهة تأملتها لا تنعرج. فمن الضرورة أن يعرض من بعض الجهات خلاف الاستقامة ووقوف الأجزاء التى لا مسام لها فى سمت الخطوط التى تتوهم خارجة على الاستقامة من العين أو يكون الجسم خلأ كله ، وهذا محال. فيجب أن تكون الكرة إذا اختلف منك المقامات فى استشفافها يختلف عليك شفيفها ضرورة.

ثم كيف يكون حال جسم فيه من المسام والمنافذ ما يخفى لونه حتى تراه كأنه لالون له ، وله فى نفسه لون ، ولا يستر لونه شيئا ملصقا مما وراءه ، بل يؤدى ماوراءه بالحقيقة. فإن أحدث سترا فإنما يحدث شيئا ، كأنه ليس ، فتكون لا محالة الثقب التى فيه أكثر كثيرا من الملأ الذى فيه ، فكيف يجوز أن يكون لها استمساك الياقوت وهو كله فرج. ولو أن إنسانا أحدث فى الياقوت منافذ ثلاثة أو أربعة ، ثم حمل عليه بأضعف قوة لا نرضّ ولا نكسر ؛ فهذا المذهب أيضا محال.

فالألوان إذن موجودات ، وليس وجودها أنها أضواء ، ولا الأضواء ظهورات لها ، ومع ذلك فليست هى مما هى بالفعل بغير الأضواء. والمشف أيضا موجود ، وهذا ما أردنا بيانه إلى هذه الغاية. وقد بقى علينا أن نخبر عن حال الإبصار أنه كيف يكون ، ويتعلق بذلك تحقيق كيفية تأدى الأضواء فى المشف.

١٦٢

الفصل الخامس

فى اختلاف المذاهب فى الرؤية (١) وإبطال المذاهب

الفاسدة بحسب الأمور أنفسها

فتقول : إن المذاهب المشهورة فى هذا الباب مذاهب ثلاثة ، وإن كان

__________________

(١) فى تعليقة نسخة : اعلم ان الابصار بخروج الشعاع لكن لا عن الرائى بل عن المرئى.

وظنّى ان اعتقاد المتقدمين كان كذلك ولكن لما اطلقوا القول وقالوا ان الابصار بخروج الشعاع ولم يتقيدوا بخروجه عن المرئى توهم ان مرادهم خروج الشعاع عن الرائى. ولما كان كذلك فالاعتراضات التى اوردت على خروج الشعاع كلها مندفعة. واعلم ايضا ان القائلين بالانطباع ايضا مذهبهم عين هذا المذهب لان الضوء الخارج عن المرئى الحامل لصورة المرئى اذا انطبع فى البصر يتحقق الابصار فالمذهبان يرجعان الى امر واحد. قال ابن هيثم فى المناظر والمرايا فى الفصل السادس من المقالة الاولى : قد تبين مما تقدم ان اضواء الاجسام المضيئة تصدر الى كل جهة يقابلها فاذا قابلت البصر وردت الاضواء الى سطح البصر وقد علم من خاصية الضوء تاثيره فى البصر فاخلق ان يكون ادراكه للاضواء بما يرد منها اليه. وتبين ان صورة لون الاجسام يصحب الضوء دائما ممازجة له انتهى. واعلم ان لابن هيثم فى تلك الرسالة عبارات كثيرة صريحة دالة على ان الابصار بخروج الشعاع والضوء عن المرئى واصلا الى الرائى ومن اراد الاطلاع عليه فليراجع تلك الرسالة.

وقال الرازى فى المباحث ص ٢٩٩ ج ٢ : المذاهب المشهورة بين الحكماء فى الابصار ثلاثة : الاول قول من يقول انه يخرج من العين جسم شعاعى على هيئة مخروط رأسه

١٦٣

كل مذهب منها يتفرع :

أحدها مذهب من يرى أن شعاعات خطية تخرج من البصر على هيئة مخروط يلى رأسه العين وقاعدته المبصر ، وأن أصحها إدراكا هو السهم منها ، وأن تبصّر الشىء هو فعل (١) السهم فيه.

ومنها مذهب من يرى أن الشعاع قد يخرج من البصر على هيئة ، إلا أنه لا يبلغ كثرته (٢) أن يلاقى نصف كرة السماء إلا بانتشار يوجب انتشار الرؤية. لكنه إذا خرج واتصل بالهواء المضىء ، صار ذلك آلة له وأدرك بها.

ومنها مذهب من يرى أنه كما أن سائر المحسوسات ليس يكون إدراكها بأن يرد عليها شىء من الحواس بادرا إليها متصلا بها أو مرسلا رسولا إليها ، كذلك الإبصار ليس يكون بأن يخرج شعاع ألبتة فيلقى المبصر ، بل بأن تنتهى صورة المبصر إلى البصر بتأدية الشفاف إياها.

وقد استدل الفريقان الأولان وقالا : إنما جاز فى سائر الحواس أن تأتيها المحسوسات ، لأنها يصح إدراكها بالملامسة كاللمس ، وكالذوق ،

__________________

فى العين وقاعدته يلى المبصر والادراك التام انما يحصل من المواضع الذى هو موضع سهم هذا المخروط. المذهب الثانى من يقول الشعاع الذى فى العين يتكيف الهواء بكيفيته ويصير الكل آلة فى الادراك. المذهب الثالث ان الابصار انما يحصل بانطباع اشباح المرئيات بتوسط الهواء المشف فى الرطوبة الجليدية انتهى. وقال صدر المتألهين فى شرحه للهداية ص ١٨٨ : والاشراقيون قالوا لا شعاع ولا انطباع وانما الابصار بمقابلة المستنير للضوء الباصر الذى فيه رطوبة صقيلة فاذا وجدت هذه الشروط مع زوال المانع يقع للنفس علم حضورى اشراقى على المبصر فتدركه النفس مشاهدة ظاهرة جلية.

(١) نقل ، نسخة.

(٢) الا انه لا يبلغ من كثرته ، نسخة.

١٦٤

وكالشم الذى يستقرب الروائح بالتنشق ليلاقيه وينفعل به ، وكالصوت الذى ينتهى به التموج إلى السمع. ثم أن البصر ليس يمكن فيه ذلك لأن المرئى منفصل ، ولذلك لا يرى المقرّب منه (١) ولا أيضا من الجائز أن ينتقل إليه عرض موجود فى جسم مرئى أعنى لونه وشكله ، فإن الأعراض لا تنتقل. فإذا كانت الصورة على هذا ، فبالحرى أن تكون القوة الحاسة ترحل إلى موضع المحسوس لتلاقيه. ومحال أن تنتقل القوة إلا بتوسط جسم يحملها فلا يكون هذا الجسم إلا لطيفا من جنس الشعاع والروح ، فلذلك سميناه شعاعا.

ولوجود جسم مثل هذا فى العين ما يرى الإنسان فى حال الظلمة أن نورا قد انفصل من عينيه وأشرق على أنفه أو على شىء قريب يقابله.

وأيضا فإن الإنسان إذا صيح ودعاه دهش الانتباه إلى حك عينيه فإنه يتراءى له شعاعات قدام عينيه.

وأيضا فإن الثقبة العنبيّة تمتلىء من إحدى العينين إذا غمضت الأخرى ، وفى التحديق المفرط أيضا فلا محالة أن جسما بهذه الصفة ينصبّ إليها (٢).

__________________

(١) قال الرازى : واما البصر فليس كذلك لانه لا يرى ما يكون فى غاية القرب منه فضلا عما يكون مماسا له ولابد من الملاقاة فهى اما ان يكون لانه ينتقل من المحسوس عرض والانتقال عليه محال فتعيّن الثانى. المباحث المشرقية ج ٢ ص ٣٠٢.

(٢) قال بهمنيار فى التحصيل : الابصار اما بان ينفذ من البصر شىء الى المبصر او بان ينفعل عنه البصر وهذا الشىء الذى يجوز ان يخرج عن البصر لا يصح الا ان يكون جسما اذا الاعراض لا يصح عليها الانتقال ومحال ان يخرج عن البصر شىء شعاعى يقع على المبصر لانه اما ان يكون الخارج يصل الى المبصر فيدركه واما ان يكون الشفاف آلة فى ان يستحيل الى جنسه او فى ان يكون مؤديا. اما القسم الاول فاستحالته ظاهرة

١٦٥

ثم أن الفرقة الثانية (١) استنكرت أن يكون جسم مثل العين يسع من الشعاع ما يتصل خطا واحدا بين البصر والكواكب الثابتة فضلا عن خطوط تنتهى إلى ما يرى من العالم ، وخصوصا ولا يرى ما يرى منها إلا متصلا مستوى الاتصال ، فيجب أن يكون ما يرى به متصلا.

واستنكرت أيضا أن يتحرك هذا الشعاع الخارج فى زمان غير محسوس حركة من العين إلى الثوابت ، وقالت يجب أن تكون نسبة زمان حركتك نحو شىء بينه وبينك ذراعان إلى زمان الحركة إلى الكواكب الثابتة نسبة المسافتين ، فيجب أن يظهر بين الزمانين اختلاف.

وربما احتج بهذا أصحاب المذهب الثالث (٢) أيضا على أصحاب الشعاع الخطى.

ولم يعلموا أن هذا فاسد ، وذلك لأنه يمكن أن يفرض زمان غير محسوس قصرا أو أكثر زمان غير محسوس قصرا ، فتجعل (٣) فيه الحركة

__________________

وذلك لانه من المحال ان يخرج من البصر جسم متصل يملأ نصف العالم وينتهى الى كرة الكواكب الثابتة ثم كما ينطبق الجفن يعود اليه ثم اذا فتح مرة اخرى خرج مثله كانه واقف على نية المغمض. وان كان هذا الجسم الخارج منتشرا لم يدرك المبصر بكليته بل انما يدرك ما يقع منه عليه وايضا فلو كان ادراك الشىء على الصفة المذكورة اعنى بشىء يخرج من البصر لكان وجب ان يرى الشىء البعيد فى غاية البعد بشكله وعظمه والرؤية تتم بوصوله اليه. وايضا فانه لو كان هذا الشعاع كخط جسمانى لكان وجب عند هبوب الرياح ان يصرفه عن المحاذات الى غير المحاذات ثم كيف ينفذ هذا الجسم فى الافلاك وهى لا تقبل الخرق. وايضا فان حركة هذا الجسم يكون طبيعية لا محالة فيجب ان تكون الى جهة واحدة وليس كذلك عندهم.

(١) فى تعليقة نسخة : اى القائلون بتكيف الهواء بكيفية الشعاع.

(٢) اى الانطباع.

(٣) فتحصل ، نسخة.

١٦٦

التى للشعاع إلى الثوابت ، ثم يمكن أن ينقسم هذا الزمان إلى غير النهاية فيمكن أن يوجد فيه جزء أو بعض نسبته إليه نسبة المسافة المستقصرة إلى المسافة المستبعدة ، فيكون الزمانان اللذان بينهما البعد كلاهما غير محسوسين قصرا.

لكن لأصحاب الشعاعات حجة فى حلها أدنى صعوبة وهو قولهم : إن المرايا تشهد بوجود هذه الشعاعات وانعكاسها ، وذلك أنه لا يخلو : إما أن يكون البصر تتأدى إليه صورة المرآة وقد تتأدى إليها صورة المرئى متمثلة متشبحة فيها ، وإما أن يكون ما نقوله من أن الشعاع يخرج فيلقى المرآة ويصير منها إلى أن يلقى ما ينعكس عليه على زاوية مخصوصة (١). وإذا بطل القول الأول ، بقى القول الثانى.

ومما يتضح به بطلان القول الأول أنه لو كانت هذه الصورة متشبحة فى المرآة لكانت لا محالة تتشبّح فى شىء بعينه من سطحها ، كما إذا انعكس الضوء واللون معا فتأديا فى المشف إلى غير الحامل الأول لهما فإنما يتمثّل المتأدى من ذلك فى بقعة واحدة بعينها يرى فيها على اختلاف مقامات الناظرين. وليس الشبح الذى فى المرآة بهذه الصفة ، بل ينتقل فيها بانتقال الناظر ، ولو كان إنما ينتقل بانتقال المرئى فقط لم يكن فى ذلك إشكال. وأما انتقاله بانتقال الناظر فدليل على أنه ليس هناك بالحقيقة موضع تتشبح فيه الصورة. ولكن الناظر إذا انتقل انتقل مسقط الخط الذى إذا انعكس إلى المرئى فعل الزاوية المخصوصة فرأى بذلك الخط بعينه المرئى ورأى جزءا من المرآة آخر ، فتخيل أنه فى ذلك الجزء الأخر من المرآة ، وكذلك

__________________

(١) فى تعليقة نسخة : من ذلك الشىء الذى وقع عليه خط الانعكاس.

١٦٧

لا يزال ينتقل (١).

وقالوا : ومما يدل على صحة هذا أن الناظر (٢) الذى للإنسان قد ينطبع فيه شبح مرئى ينعكس عنه إلى بصر ناظر حتى يراه هذا الناظر الثانى ، ولا يراه صاحب الحدقة التى تمثل فيها الشبح بحسب التخيل ، ولو كان لذلك حقيقة انطباع فى ناظره لوجب على مذهب أصحاب الأشباح أن يتساوى كل منهما فى إدراكه ، فإن عندهم أن حقيقة الإدراك تمثّل شبح فى الناظر فيكون كل من تمثّل فى ناظره شبح رآه.

قالوا : فمن هذا نحكم ونقول إن الناظر فى المرآة يتخيل له فى المرآة أنه يرى صورته وليس كذلك ، بل الشعاع إذا لاقى المرآة فأدركها كر منعكسا فلاقى صورة الناظر فأدركها ، فإذا رأى المرآة ونفسه فى سمت واحد من مخرج الخط الشعاعى يتخيل أن أحدهما فى الآخر.

قالوا : والدليل على أن ذلك ليس منطبعا فى المرآة أنه يرى المرئى فى المرآة بحيث لا يشك أنه ليس فى سطح المرآة ، وإنما هو كالغائر فيه والبعيد عنه. وهذا البعد لا يخلو إما أن يكون بعدا فى غور المرآة ، وليس للمرآة ذلك البعد ، ولا أيضا إن كان لها ذلك الغور كانت المرآة مما يرى ما يتشبح فى باطنها ، فبقى أن يكون ذلك البعد بعدا فى خلاف جهة غوره فيكون بالحقيقة إنما أدرك الشىء بذلك البعد من المرآة ، فلا يكون قد انطبع شبحه فى المرآة.

فيلزمنا أول شىء أن نبطل المذهبين الأولين ، فنثبت صحة مذهبنا وهو الثالث ، ثم نكّر على هذه الشبهة فنحلها.

__________________

(١) اى الشبح بانتقال الناظر. ( ولذلك لا يزال ينتقل ، خ ل ).

(٢) مردمك چشم.

١٦٨

فنقول : إن الشىء الخارج من البصر (١) لا يخلو إما أن يكون شيئا مّا قائم الذات ذا وضع ، فيكون جوهرا جسمانيا ؛ وإما أن يكون شيئا لا قوام له بذاته وإنما يقوم بالشىء المشف الذى بين البصر والمبصر. ومثل هذا الشىء فلا يجوز أن يقال له بالحقيقة : إنه خارج من البصر ، ولكن يجب أن يقال : إنه انفعال للهواء من البصر ، ويكون الهواء بذلك الانفعال معينا فى الإبصار. وذلك على وجهين : إما على سبيل إعانة الواسطة ، وإما على سبيل إعانة الآلة.

وقبل الشروع فى التفصيل ، فإنى أحكم حكما كليا أن الإبصار ليس يكون باستحالة فى الهواء إلى حالة تعين البصر ألبتة ، وذلك لأن تلك الحالة لا محالة تكون هيئة فى الهواء ليست معنى إضافيا بحسب ناظر دون ناظر. فإنا لا نمنع وجود هذا القسم ، بل نقول لابد منه ، ولابد من إضافة تحدث للهواء مع الناظر عند نظره بتلك الإضافة يكون الإبصار فانّا إنما نمنع (٢) وجود حالة وهيئة قارة فى نفس الهواء وذاته يصير بها الهواء

__________________

(١) قال صدر المتألهين فى تعليقة على شرح حكمة الاشراق : ولقائل ان يقول اذا حصلت المقابلة بين البصر الصحيح والمبصر يحدث بينهما جسم شعاعى دفعة ويكون به الرؤية وهذا الجسم الشعاعى مجرد عن المادة فيداخل وينفذ فى الاجسام اللطيفة ولا تفاوت فى مداخلته اياها بين ان يكون ليّنة او صلبة بعد ان كانت صافية غير مكدرة لان مداخلته اياها ليست بالحركة والزمان ولا تفاوت ايضا بين القريب والبعيد فى اصل مواصلته لها لان فيضانه دفعى بلا مادة وحركة وزمان ولفظ الخروج والنفوذ والمداخلة والانبساط كلها مجازات اطلقها هذا القائل تسامحا وانما الفرض اصل حدوث الشعاع على شكل المخروط الذى راسه عند البصر وقاعدته عند سطح المرئى. ( شرح حكمة الاشراق ص ٢٦٨ ).

(٢) وانما نمنع ، نسخة.

١٦٩

ذاكيفية (١) أو صفة فى نفسه وإن كانت لا تدوم له ولا توجد عند مفارقة الفاعل أو توجد لأن مثل هذه الهيئة لا يكون له بالقياس إلى بصر دون بصر ، بل يكون موجودا له عند كل شىء ، كما أن الابيض ليس أبيض بالقياس إلى شىء دون شىء ، بل هو أبيض بذاته وأبيض عند كل شىء وإن كان لا يبقى أبيض مع زوال السبب المبيض.

ثم لا يخلو إما أن تكون تلك الهيئة تقبل الشدة والضعف فتكون أضعف وأقوى ، أو تكون على قدر واحد. فإن كان على قدر واحد فلا يخلو : إما أن تكون العلة الموجبة تقبل الأشد والأنقص أو لا تقبل ، فإن كانت طبيعة العلة تقبل الأشد والأنقص وتلك الطبيعة لذاتها تكون علة ، فيجب أن يتبعها المعلول فى قبول الأشد والأنقص. فإنه من المحال أن يفعل الضعيف الفعل الذى يفعل القوى نفسه إذا كانت قوته وضعفه أمرا فى طبيعة الشىء بما هى علة. فيجب من ذلك أن القوى المبصرة الفاعلة فى الهواء إذا كثرت وازدحمت ، كان حدوث هذه الحالة والهيئة فى الهواء أقوى وأن يكون قوىّ البصر أشدّ فى إحالة الهواء إلى هذه الهيئة من ضعيف البصر ، وخصوصا وليس هذا من باب ما لا يقبل الأشد والأضعف لأنه من باب القوى والحالات فى القوى. ولا تكون قوتها كما ذكرنا بقياس بصر دون بصر ، بل بنفسها كما قلنا ، فيجب أن يكون ضعفاء الإبصار إذا اجتمعوا رأوا أقوى وإذا تفرقوا رأوا أضعف ، وأن ضعيف البصر إذا قعد بجنب قوىّ البصر رأى أشد ، وذلك لأن الهواء يستحيل إلى تلك الهيئة كيف كانت (٢) باجتماع العلل الكثيرة والقوية استحالة

__________________

(١) فى تعليقة نسخة : مراده انه ليس الابصار لاجل حدوث كيفية فى الهواء.

(٢) اى واسطة كانت او آلة.

١٧٠

أشد ، فيكون أداؤه لصورة ومعونته فى الإبصار أقوى ، وإن كان ضعف نفس البصر يزيد خللا فى ذلك فاجتماع الضعفين معا ليس كحصول ضعف واحد ، كما أن ضعيف البصر لا يستوى حال إبصاره فى الهواء الكدر والهواء الصافى ، لأن الضعيف إذا وجد معونة من خارج كان لا محالة أقوى فعلا. ثم نحن نشاهد ضعيف البصر لا يزيده اقتران أقوياء البصر به ، أو اجتماع كثرة ضعفاء البصر معه شيئا فى إبصاره. فبيّن أن المقدم باطل.

ولنعد إلى التفصيل الذى فارقناه فنقول : إنه لا يخلو الهواء حينئذ إما أن يكون آلة ، وإما أن يكون واسطة. فإن كان آلة فإما أن تكون حساسة ، وإما أن تكون مؤدية. ومحال أن يقول قائل : إن الهواء قد استحال حساسا حتى أنه يحس الكواكب ويؤدى ما أحسّه إلى البصر. ثم ليس كل ما نبصره يلامسه الهواء ، فإنا قد نرى الكواكب الثابتة والهواء لا يلامسها. وما أقبح بنا أن نقول : إن الأفلاك التى فى الوسط أيضا تنفعل عن بصرنا وتصير آلة له كما يصير الهواء آلة ، فإن هذا مما لا يقبله عاقل محصّل.

أو نقول : إن الضوء جسم مبثوث فى الهواء ، والفلك يتحد بأبصارنا ويصير آلة لها ، فإن ساعدنا على هذا القبيح فيجب أن لا نرى كلية جسم الكواكب بعد تسليمنا باطلا آخر وهو أن فى الفلك مسامّ (١) ، وذلك لأنه لا تبلغ مسامهما (٢) أن تكون أكثر من نصف جرمهما ، فيجب أن تكون الكواكب المنظور إليها إنما ترى منها أجزاء ولا ترى أجزاء. ثم ما أشد قوة

__________________

(١) مسام الجسد ثقبه.

(٢) اى الهواء والفلك.

١٧١

إبصارنا حتى تحيل الهواء كله والضياء المبثوث فى أجسام الأفلاك بزعمهم إلى قوة حساسة أو أية قوة شئت.

ثم الهواء والضوء ليسا متصلين ببصر دون بصر ، فلم يؤديان ما يحسّانه إلى بصر دون بصر. فإن كان من شرط البصر الذى يرى أن يقع فى مسامتة المرئى حتى يؤدى حينئذ الهواء إليه ما أحس ، فليس إحساس الهواء بعلة لوصول المحسوسات إلى النفس ، ولكن وقوع البصر من المبصر على نسبة وتوسط الهواء بينهما. فإن كان الهواء يحس بنفسه ويؤدى أيضا فما علينا من إحساسه فى نفسه ، بل إنما المنتفع به فى أن نحس نحن تأديته المرئى إلينا. ولا نبالى أنه يحس فى نفسه أو لا يحس فى نفسه ، اللهم إلا أن يجعل إحساسه لإحساسنا ، فيكون الهواء والفلك كله يحس لأجلنا.

وأما إذا لم يجعل ذلك آلة ، بل واسطة تنفعل أولا من البصر ثم يستتم كونها واسطة ، فبالحرى أن نتأمل أنه أى انفعال ينفعل حتى يؤدى؟ أبأن تقبل من البصر قوة حياة وهو أسطقس بسيط ، هذا لا يمكن. أو يصير بالبصر شافا بالفعل. فالشمس أقوى من البصر فى تصييره شافا بالفعل وأكفى ، فليت شعرى ماذا يفعل البصر بهذا الهواء. وإن كان البصر يسخنه ، فيجب إذن برد الهواء أن يمنع الإبصار أو يبرّده ، فيجب إذا سخّن أن يمنع الإبصار ، وكذلك الحال فى باقى الأضداد. ولجميع الأضداد التى يستحيل بها الهواء أسباب غير البصر إن اتفقت كفت الحاجة إلى إحالة البصر وإن اتفق أضدادها لم تغن إحالة البصر أو عساه لا يحدث إشفافا ولا كيفية ذات ضد من المعلومات ، بل يحدث خاصية غير منطوق بها ، فكيف عرفها أصحاب هذا المذهب ، ومن أين توصلوا إليها.

أما نحن فقد قدمنا مقدمة كلية تمنع هذه الاستحالات كلها سواء كانت

١٧٢

منسوبة إلى خاصية أو طبيعة ، منطوق بها أو غير منطوق بها. وبعد ذلك فإنا نظن أن الهواء إذا كان شفافا بالفعل وكانت الألوان ألوانا بالفعل وكان البصر سليما ، لم يحتج إلى وجود شىء آخر فى حصول الإبصار.

ولنضع الآن أن الخارج جوهر جسمانى شعاعى كما يميل إليه الأكثر منهم فنقول : حينئذ إن أحواله لا تخلو عن أربعة أقسام :

إما أن يكون متصلا بكل المبصر وغير منفصل عن المبصر.

وإما أن يكون متصلا بكل المبصر ومنفصلا عن المبصر.

وأما أن يكون متصلا ببعض المبصر دون بعض كيف كان (١) حاله مع المبصر.

وإما أن يكون خارجا عن المبصر وغيره متصل بالمبصر.

فأما القسم الأول فإنه محال جدا ، أعنى أن يخرج من البصر جسم متصل يملأ نصف العالم ويلاقى الأجسام السماوية ، ثم كما يطبق الجفن يعود إليه ، ثم يفتح فيخرج آخر مثله ، أو كما يطبق تعود الجملة إليه ، ثم كما يفتح مرة أخرى تخرج عنها (٢) ، حتى كأنها واقفة على نية المغمض.

ثم كيف لا يرى الشىء البعيد بشكله وعظمه إن كانت الرؤية بوصوله إليه وملامسته إياه. فإن العظم أولى بأن يدرك بالملامسة بتمامه من اللون ، لأن الشعاع ربما يفرّق ويهلهل (٣) فرؤى اللون كما يرى الخلط من اللون ، وأما القدر فرآه حينئذ كما يرى الخلط من المقدار والخلط من المقدار الجسمانى ، وإن كان متخلخلا كأنه مركب من مقدار جسمانى ومن

__________________

(١) اى سواء كان منفصلا عنه ام لا فهذا قسمان.

(٢) تخرج عنه ـ ظ ـ اى تخرج الجملة عن الجفن.

(٣) هلهل كجعفر جامه تنك بافته وموى تنك نرم وشعر رقيق ، معرّب است.

١٧٣

لا شىء أو لا جسم لا ينقص من عظم كليته ولا تنفعهم الزاوية التى عند البصر. إنما ينفع ذلك أصحاب الأشباح إذ يقولون : إن الشبح يقع على القطع (١) الواقع فى المخروط الموهوم عند سطح الجليدية الذى رأسه فى داخل. فإن كانت الزاوية أكبر لأن الشىء أقرب كان القطع أعظم والشبح الذى فيه أعظم ، وإن كانت الزاوية أصغر لأن الشىء أبعد كان القطع أصغر والشبح الذى فيه أصغر. وأما على مذهب من يجعل المبصر ملموسا بآلة البصر فما تغنى هذه الزاوية.

وأما القسم الثانى فهو أظهر بعدا واستحالة ، وهو أن يكون ذلك الخارج يفارق المبصر ويمضى إلى الفرقدين ويلمسهما ولا وصلة بينه وبين المبصر فيحسّ المبصر بما أحس هو (٢) ، ويكون كمن يقول : إنّ لامسا يقدر أن يلمس بيد مقطوعة وأن الحية يتأدى إلى بدنها ما يلمسه ذنبها المقطوع المفصول عنها وقد بقى فيها الحس (٣) ، إلا أن يقال إنه (٤) أحال المتوسط وحمله (٥) رسالة إلى المبصر فيكون الهواء مؤديا مستحيلا معا ، وقد قلنا على هذا بما فيه كفاية. وإن كان متصلا ببعض المبصر (٦) وجب أن لا يراه كله ، بل ما يلاقيه منه فقط. فإن جعل مستحيلا (٧) إلى

__________________

(١) فان المخروط حينئذ ناقص اذ رأسه فى داخل العين كما صوّروه.

(٢) اى الخارج المفارق.

(٣) وقد بقى فيه ، نسخة. اى فى الذنب. وارى انّ الصواب « فيهما » بتثنية الضمير اى وقد بقى فى اليد المقطوعة والذنب المقطوع الحس.

(٤) اى ذلك الخارج المفارق للمبصر بالكسر.

(٥) اى المرئى ( المتوسط ).

(٦) فى تعليقة نسخة : هذا هو القسم الثالث.

(٧) فان جعل الهواء مستحيلا ، نسخة.

١٧٤

طبيعته (١) وصار معه كشىء واحد فما الذى يقال فى الفلك ، إذا أبصرناه ، أترى الفلك يستحيل أيضا إلى طبيعة ذلك الشعاع الخارج ويصير حساسا معه كشىء واحد حتى يلاقى كوكب زحل بكليته فيراه والمشترى وسائر الكواكب العظام ، وهذا ظاهر الفساد بعيد جدا. ثم قد قلنا فى فساد هذه الاستحالة ما قلنا.

فإن قالوا : إن الهواء المشف ليس يتحد به كشىء واحد ولكن يستحيل إلى طبيعة مؤدية ، فما يلاقيه الشعاع يدركه الشعاع ، وما لا يلاقيه يؤدى إليه الهواء صورته باستحالة عرضت له.

فأول جواب ذلك أن الهواء لم لا يستحيل عن الحدقة (٢) وحدها ويؤدى إليها إن كان من شأنه الأداء فلا يحتاج إلى جسم خارج (٣).

وأما ثانيا فقد فرغنا من بيان استحالة هذه الاستحالات.

وأما ثالثا فإن الهواء المتوسط بين خطين خارجين يجب أن يودى إلى كل خط منهما ما يؤدى إلى الآخر فيكون آخر الأمر قد تأدى إلى جملة الشعاع من جملة الهواء المتخلل للخطوط صورة المحسوس مرتين أو مرارا ، فيجب أن يرى المحسوس مرتين أو مرارا وخصوصا (٤) إن كان على ما فى بعض مذاهب القوم من أن الخطوط لا تدرك بنفسها ، بل بما يؤدى إليها الهواء.

ثم إن كان الأداء إلى الحدقة من الجميع أعنى الخطوط والهواء معا

__________________

(١) اى طبيعة الشعاع.

(٢) فى تعليقة نسخة : اى عن الشعاع الذى فى الحدقة من غير ان يخرج الشعاع عنها.

(٣) وهو الشعاع الخارج من البصر.

(٤) مرارا خصوصا ، نسخة مصحّحة.

١٧٥

فالهواء مؤد للأشباح (١) على مثل ما قال المعلم الأول. ومن عرف أن لا خلاء وأن أجرام الأفلاك مصمتة لا فرج فيها ولا فطور عرف أن ذلك مستحيل لا يمكن وأنه لا يمكن أن ينفذ فيها هذا الخارج ، بل كيف ينفذ هذا الشعاع فى الماء إن لم يكن فيه خلاء حتى يلاقى جميع الأرض تحته ويراه وهو متصل ، والماء لا يربو حجمه لما خالط منه. وإن كان هناك خلأ ، فكم يكون مقدار تلك الفرج الخلائية التى تكون فى الماء مع ثقل الماء ونزوله فى الفرج وملئه إياها. فيرى أن الماء فرج كله أو أكثره أو مناصفه حتى يمكن الخارج أن ينفذ إلى جميع ما فى قعر الماء ويلاقيه ويماسه وهو غير منقطع عن البصر ، وإن انقطع فذلك أعجب.

فإن قال قائل : إنا نرى الشىء القليل ينفذ فى الماء الكثير حتى يستولى على كليته مثل الزعفران يصبغ قليله كثيرا من الماء.

فنقول : إن انصباغ الماء الكثير بالزعفران القليل لا يخلو من وجهين :

إما أن يكون الصبغ الحادث فى الماء غير موجود إلا فى الأجزاء الزعفرانية وأجزاء الماء بحالها ، وإما أن تكون أجزاء الماء استحالت أيضا فى نفسها إلى الصبغ كما تستحيل إلى الحر والبرد والرائحة ، لا أن جوهرا داخلها ، إما استحالة إلى صبغ حقيقى وإما استحالة إلى صبغ خيالى ، أعنى بالخيالى كما ترى على سطح الماء شبح شىء ملقى فيه غير محاذ للبصر ، وكما يتخيل من الماء أنه على لون إنائه ، وذلك مما إذا كثر وعم أرى جميع وجه الماء بذلك الصبغ وهو فيه قليل.

فإن كان هذا الانصباغ على مقتضى القسم الآخر (٢) فلا منفعة لهذا

__________________

(١) فى تعليقة نسخة : فهذا فى الحقيقة قول بالشبح والانطباع لا غير.

(٢) القسم الاخير ، نسخة. اى القسم الثانى.

١٧٦

الاعتراض فى الغرض ، لأن الماء يكون قد استحال أو تشبح لا أن الصبغ القليل نفذ فى كله ، وقد يستحيل كثير المقدار من كثير القوة قليل المقدار. وبالجملة إن كان حال الهواء فى استحالته عن الأشعة هذه الحال ، عرض ما سلف منا منعه ، ووجب أن تكون الأشعة إذا كثرت جدا ازداد الهواء استحالة نافعة فى الإبصار. وإن كان على سبيل التأدية دون الاستحالة فطبيعة الهواء (١) مؤدية للأشباح إلى القوابل فليؤد أيضا إلى الإبصار.

وإن لم يكن على مقتضى القسم الثانى ، بل على سبيل القسم الأول ، فإنا لا يمكننا أن نشك فى أن الماء متجز بين أجزاء الزعفران والزعفران متجز بين أجزاء الماء ، وأن أجزاء الماء لا محالة أعظم حجما من أجزاء الزعفران ، وأن بين كل جزئين من أجزاء الزعفران متواليين ماء صرفا (٢) ، وأن هذه المياه الصرفة فى أكثر المواضع التى بين جزئى الزعفران أعظم كثيرا من أجزاء الزعفران ، حتى تكون نسبة الأجزاء إلى الأجزاء إذا أخذت واحدا إلى الآخر كنسبة الكل إلى الكل. فإذا كانت كذلك كانت مقادير أجزاء الزعفران صغارا ولم يجز أن تستولى على الماء كله ، فما كان ينبغى أن ينصبغ الماء بالكلية ، بل هذا الوجه باطل.

وإنما يرى الماء مصبوغا كله لأحد الأمرين :

إما لأن كل واحد من أجزاء الماء وأجزاء الزعفران من الصغر بحيث لا يدركه الحس متميزا ، وذلك لا يمنع أن يكون أحدهما أكثر كثيرا جدا من

__________________

(١) وطبيعة الهواء ، نسخة.

(٢) مياها صرفة ، وان هذه المياه الصرفة ، عدة نسخ.

١٧٧

الآخر لأن الجسم ينقسم إلى غير النهاية فيمكن أن يكون جزء من الماء هو ألف ضعف جزء من الزعفران وهو مع ذلك فى الصغر بحيث لا يحسّ مفردا. فإذا كان كذلك ، لم يكد البصر يفرّق بين أجزاء الزعفران وبين أجزاء الماء فيرى منهما صبغا واحدا شائعا بين الأحمر والشاف ، فهذا وجه.

وإما أن تكون الأجزاء المحسوسة من الزعفران ليست على أوضاع متسامتة متوازية (١) ، بل إذا حصل بين جزئين من ترتيب بحال جزء من الماء محسوس القدر ، فإن أجزاء أخرى من تحت تقع مواقع لو رفعت لغطّت سطحا مع الأول (٢) ، فيكون بعضها يرى لأنه فى السطح الأعلى ، وبعضها يرسل شبحها إلى السطح الأعلى ، فتتوافى الأشباح بصبغ واحد إذا الماء يؤدّى لون كل واحد منها لإشفافه ، فيرى الجميع متصلا فى سطح واحد ، ويتخيل مستوليا على الماء ولا يكون (٣). ويصحح هذا القول قلة ما يرى من الصبغ فى الرقيق الذى لا ثحن له ، وكثرة ما يرى فى الكثيف العميق.

وإن كانت النسبة متشابهة ، وكانت (٤) نسبة الزعفران الذى فى الرقيق إلى الرقيق كنسبة الزعفران الذى فى العميق إلى العميق فعلى هذين الوجهين (٥) يمكن أن يستولى القليل على الكثير. وأما فى الحقيقة فإن

__________________

(١) كما فى النسخ التى عندنا ، ولكن فى المطبوعة الحجرية : « على اوضاع متشابهة متسامتة متوازية ».

(٢) مع الاولى ، ظاهرا.

(٣) اى مستوليا.

(٤) فى تعليقة نسخة : بيان التشابه.

(٥) جواب ان كانت.

١٧٨

القليل لا يستولى على الكثير بالكمية ، بل عسى بالكيفية المحيلة هذا.

وأما إن جعلوا (١) الخارج ينفذ قليل نفوذ فى الهواء ولا يتصل بالمبصر ، ثم الهواء البعيد يؤدى إليه ويؤدى هو إلى المبصر فإما أن يؤدى إليه الهواء لإشفافه فقط من غير استحالة ، فلم لا يؤدى إلى الحدقة فيكفى ذلك مؤنة خروج الروح إلى الهواء وتعرّضه للآفات ، وإن كان بالاستحالة فقد قيل فى ذلك ما قد قيل ثم لم لا يستحيل من الحدقة من غير حاجة إلى الروح (٢).

__________________

(١) هذا هو القسم الرابع.

(٢) اى خروج الروح.

١٧٩

الفصل السادس

فى إبطال مذاهبهم من الأشياء المقولة فى مذاهبهم

ولنقبل الآن على عد بعض المحالات التى تلزمهم بحسب أوضاعهم :

فمن ذلك وضعهم أن أجزاء الخارج عن البصر تنعكس من الأجسام إلى أجسام أخرى ، فإذا رأت جسما انعكست عنه إلى جسم آخر فرأته ورأت ذلك الجسم الآخر المنعكس إليه ، مثلا لما وصلت إلى المرآة رأت المرآة ، ثم لما انعكست عن المرآة إلى جسم آخر رأته أيضا معا ، فيكون شىء واحد رأى شيئين معا ، فيتخيل أن أحد الشيئين تراه فى الآخر وتلزم وضعهم هذا مباحث عليهم.

من ذلك أن انعكاس هذا الشعاع هو عن الصلب أو عن الأملس أو عن مجتمعهما ، لكن هذا العكس مما قد يرونه يقع عن أملس غير صلب مثل الماء فليست الصلابة هى الشرط ، بل بقى أن يكون السبب فيه هو الملاسة. فإذا كان السبب فيه هو الملاسة ، فلا يخلو إما أن يكفى لذلك أىّ سطح أملس اتفق ، أو يحتاج إلى سطح متصل الأجزاء أملس. فإن كان الشرط هو القسم الثانى لم يجز أن ينعكس عن الماء ، لأنه لا اتصال لسطحه عندهم لكثرة المسام التى يضعونها فيه التى بسببها يمكن أن يرى

١٨٠