النّفس من كتاب الشّفاء

أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا [ شيخ الرئيس ابن سينا ]

النّفس من كتاب الشّفاء

المؤلف:

أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا [ شيخ الرئيس ابن سينا ]


المحقق: الشيخ حسن حسن زاده الآملي
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-146-0
الصفحات: ٣٧٦

الفصل الثالث

فى تمام مناقضة المذاهب المبطلة لأن يكون النور شيئا

غير اللون الظاهر (١) وكلام فى الشفاف واللامع

فنقول : إن ظهور اللون يفهم منه فى هذا الموضع معنيان :

أحدهما صيرورة اللون بالفعل.

والآخر ظهور لون موجود بنفسه بالفعل (٢) للعين.

__________________

(١) قال صدر المتألهين فى الاسفار ص ٣٠ ج ٢ ط ١ ـ ص ٩٣ ج ٤ ط ٢ : وقع الاستدلال على مغايرة النور واللون بوجوه : الاول ان ظهور اللون اشارة الى تجدد امور فهو اما اللون او صفة نسبية او صفة غير نسبية. والاول باطل لان النور اما ان يجعل عبارة عن تجدد اللون او اللون المتجدد والاول يقتضى ان يكون مستنيرا الاّ فى آن تجدده. والثانى يوجب ان يكون الضوء نفس اللون ولا يبقى لقولهم الضوء هو ظهور اللون معنى وان جعلوا الضوء كيفية ثبوتية زائدة على ذات الملون وسموّه بالظهور فذلك نزاع لفظى.

وان زعموا ان ذلك الظهور تجدد حال نسبيته فهذا باطل لان الضوء امر غير نسبى فلا يمكن تفسيره بالحالة النسبية ». انتهى وهذه بعينه عبارة الرازى فى المباحث المشرقية ص ٤١٢ ج ١.

« الثانى : ان البياض قد يكون مضيئا ومشرقا وكذلك السواد فان الضوء ثابت لهما جميعا فلو كان كل واحد منهما مضيئا نفس ذاته لزم ان يكون الضوء بعضه مضادا للبعض وذلك محال فان الضوء لا يقابله الا الظلمة. »

(٢) متعلق بظهور.

١٤١

والمعنى الأول يدل على حدوث اللون أو وجوده (١) لونا.

والمعنى الثانى يدل على حدوث نسبة اللون (٢) أو وجود تلك النسبة. وهذا الوجه الثانى ظاهر الفساد. فإن ظنّ أن النور نفس نسبة اللون إلى البصر ، فيجب أن يكون النور نسبة أو حدوث نسبة ولا قوام ولا وجود له (٣) فى نفسه (٤). وإن عنى به أنه مصير اللون بحيث لو كان بصرا لرآه أو كونه كذلك ، فإما أن يكون هذا نفس اللون أو معنى يحدث إذا زال معنى من خارج كزوال ستر أو غيره. فإن كان نفس اللون كان هذا هو الوجه الأول ، وإن كان حالا تعرض له به يظهر فيكون الضوء غير اللون (٥).

وأما المعنى الأول فلا يخلو أيضا ، إما أن يعنى بالظهور خروج من القوة إلى الفعل فلا يكون الشىء مستنيرا بعد ذلك الآن الواحد (٦) ، وإما أن يعنى به نفس اللون ، فيكون قوله الظهور لا معنى له أيضا ، بل يجب أن يقال : إن الاستنارة هو اللون ، أو يعنى به حال تقارن اللون إما دائما وإما وقتا مّا ، حتى يكون اللون شيئا يعرض له النور تارة وتعرض له الظلمة أخرى. واللون فى الحالين موجود بالفعل ، فإن كان نفس نسبته إلى ما يظهر له عاد إلى المذهب الآخر ، وإن كان شيئا آخر عاد إلى

__________________

(١) يعنى الجعل المركب بان يكون قبل الظهور موجودا لكنه غير اللون.

(٢) اى الى البصر.

(٣) ولا قرار وجود له ، نسخة.

(٤) فى الشوارق : لانه يوجب ان يكون النور نسبة او حدوث نسبة ولا قوام وجود له فى نفسه.

(٥) فى تعليقة نسخة : والحال انهم قالوا ان الضوء ليس شيئا عليحدة بل الضوء نفس اللون الظاهر.

(٦) فى تعليقة نسخة : لانه صار بالفعل فلا يصير ثانيا بالفعل.

١٤٢

ذلك أيضا (١).

فإن قررنا الأمر على أن الضوء وإن كان نفس اللون فيكون كأن الضوء هو اللون نفسه إذا كان بالفعل (٢) ، فلا يخلو إما أن يكون الضوء مقولا على كل لون بالفعل ، أو يكون البياض وحده ضوءا. فيكون السواد ظلمة. فيستحيل أن يكون الجسم الأسود مشرقا بالضوء ، لكن هذا ليس بمستحيل ، فإن الأسود يشرق وينوّر غيره فليس الضوء هو البياض وحده ، وإن لم يكن الضوء هو البياض وحده ، بل كل لون كان بعض ما هو ضوء يضاد بعض ما هو ضوء ، ولكن الضوء لا يقابله إلا الظلمة ، هذا خلف.

وأيضا فإن المعنى الذى به الأسود مضىء غير سواده لا محالة ، وكذلك هو غير البياض ، واللون أعنى طبيعة جنسه الذى فى السواد هو نفس السواد ، واللون الذى فى البياض هو نفس البياض لا عارضا له ، فليس اللون المطلق الجنسى هو الضوء.

وأيضا فإن الضوء قد يستنير به الشفاف ، كالماء والبلّور إذا كان فى ظلمة فوقع عليه الضوء وحده (٣) دل عليه وأشف ، فبهذا هو ضوء وليس بلون.

وأيضا فإن الشىء يكون مضيئا وملوّنا ، فتارة يشرق منه على شىء آخر الضوء وحده كما يشرق على ماء أو حائط ، وتارة يشرق منه إذا كان قويّا الضوء مع اللون جميعا حتى يحمّر الماء أو الحائط الذى يشرق عليه أو يصفّره. فلو كان الضوء ظهور اللون وكانت الظلمة خفاء اللون ، لكان

__________________

(١) فى تعليقة نسخة : وهو كون الضوء غير اللون وهو احد شقوق المذهب الاخر.

(٢) فى تعليقة نسخة : اى اللون نفس الضوء لا خروج اللون من القوة الى الفعل.

(٣) بلالون.

١٤٣

تأثير اللون الأحمر فيما يقابله حمرة لا بريقا ساذجا ، فإن كان هذا ظهور لون آخر (١) ، فلم إذا اشتد فعل فيما يقابله إخفاء لونه بأن ينتقل لون هذا القوىّ اللون إليه (٢).

وعلى أن مذهب هذا الإنسان يوجب أن الخضرة أو الحمرة وغير ذلك مختلطة من ظهورات بياضية وخفاءات سوادية. فيلزم من ذلك أنه إذا كان جسم ظاهر اللون بشعاع وقع عليه ثم انعكس على المعنى الذى تفهمه ضوء جسم آخر ذى لون أن لا يقع لونه عليه ، لأنه لا يخلو إما أن يكون هذا المستنير المنير لغيره الأجزاء الظاهرة اللون وحدها أو مع غيرها ، فإن كانت وحدها فهى إنما توجب ظهور اللون فى تلك بأن تبيّض لإخفاء اللون بأن تحمّر أو تخضّر. وإن كانت مع غيرها حتى كانت الظاهرة اللون والخفية اللون تفعلان جميعا هذا خفاء وذلك ظهورا. فيكون لخفاء اللون تأثير فى المقابل ، لكن خفاء اللون ليس له هذا التأثير ، ألا ترى أنه إذا كان خفاء لون مجرد لم يؤثر فيما يقابله كما يؤثر ظهور اللون الذى يقولون به لو كان مفردا.

فإن قالوا : إن اللون ظهور الحمرة أيضا والخضرة وغير ذلك من حيث

__________________

(١) قوله : « فان كان هذا ظهور لون آخر » كلمة هذا اشارة الى قوله : « وتارة يشرق منه اذا كان قويا الضوء مع اللون جميعا » فلا تغفل.

(٢) اى الى المقابل. قال الرازى : الثالث ان اللون يوجد من غير الضوء فان السواد قد لا يكون مضيئا وكذلك ساير الالوان. وكذلك الضوء قد يوجد بدون اللون مثل الماء والبلور اذا كانا فى ظلمة ووقع الضوء عليه وحده فانه حينئذ يرى ضوئه فذلك ضوء وليس بلون واذا وجد كل منهما دون الاخر فلابد من التغاير. قال شارح المواقف الضوء الذى فى البياض يماثل فى الماهية الضوء الذى فى السواد كما يشهد به الحس. وهما لا يتماثلان فى الحقيقة قطعا فلا يكون ضوء كل منهما عينه بل امر زايد عليه.

١٤٤

هو حمرة وخضرة وإن الخضرة إذا اشتد ظهورها فعلت مثل نفسها ففعلت خضرة وحمرة. فيقال : ما باله إذا كان قليل الظهور أظهر اللون (١) فى الذى يقابله على ما هو عليه على المعنى الذى هو ضوء مجرد فقط ، وفعل مثل ما يفعله مضىء لو لم يكن له لون ، فإذا اشتد ظهوره أبطله أو أخفاه بلون نفسه ، فكان يجب أول الأمر أن يكون إنما يفعل فيه لونا من لونه قليلا ، ثم إذا اشتد فعل فيه كثيرا ، فكان كل فعل يفعله إنما هو إخفاء لون ذلك (٢) بمزجه بلونه وليس كذلك ، بل يظهر أول شىء لونه (٣) إظهارا شديدا. وإنما يظهر فيه اللون الذى فى استعداده مالو حضر مضىء لا خضرة ولا حمرة فى فعله ، ثم يعود بعد ذلك إذا صار أقوى ظهورا آخذا فى إبطال لونه وإخفائه وإلباسه لونا آخر ليس فى جبلّته ولا طبيعته.

فيكون إذن أحد الفعلين عن شىء غير الآخر ، فيكون مصدر أحد الفعلين (٤) عن الضوء الذى لو كان الجسم لا لون له وله ضوء لكان يفعل ذلك مثل بلورة مضيئة ، والفعل الآخر يكون من لونه إذا اشتد ظهوره بسبب هذا الضوء حتى صار متعديا.

فإنا وإن كنا نقول : إن الضوء ليس هو ظهور اللون ، فلا نمنع أن يكون الضوء سببا لظهور اللون وسببا لنقله. ونقول : إن الضوء جزء من جملة هذا المرئى الذى نسميه لونا وهو شىء إذا خالط اللون بالقوة (٥) حدث

__________________

(١) اى اظهر لون مقابله.

(٢ و ٣) اى المقابل.

(٤) فى تعليقة نسخة : احدهما اظهار اللون الذى فى استعداده والاخر ابطال لونه واخفائه والباسه لونا آخر ليس فى جبلته ولا فى طبيعته اذا صار اقوى.

(٥) اى الاستعداد المخصوص.

١٤٥

منهما الشىء الذى هو اللون بالفعل بالامتزاح ، فإن لم يكن (١) ذلك الاستعداد كان إنارة وبريقا مجردا (٢). فالضوء كجزء من الشىء الذى هو اللون ومزاج فيه ، كما أن البياض والسواد لهما اختلاط مّا تحدث منه تلك الألوان المتوسطة.

وأما قول القائل : إن الضوء واللمعان أيضا ليس إلا ظهور اللون ، ثم قوله فى الأشياء اللامعة فى الليل ما قاله ، فيبطل بأن السراج والقمر كثيرا ما يبطلان لمعان ذلك ويظهران ألوانها (٣). فيجب أن يكون نور السراج أشد ظهور لون (٤) ، فيجب أن يكون أيضا ما يصير بالسراج ظاهر اللون لا يرى له فى الظلمة لونه. وليس الأمر كذلك ، فإن اللامعات يرى لونها أيضا (٥) بالليل كما يرى بريقها. فليس ما قالوه بحق.

وأما القائل بأن للشمس والكواكب ألوانا وأن الضوء يخفى لونها ، فيشبه أن يكون الحق أن بعض الأشياء يكون له فى ذاته لون فإذا أضاء اشتدت إضاءته حتى يبهر البصر فلم يميز اللون ، ومنه ما يكون له مكان

__________________

(١) تامة اى لم يوجد.

(٢) بلالون.

(٣) اى الوان الاشياء اللامعة.

(٤) فى تعليقة نسخة : من لمعان الحيوانات اللامعة بالليل.

(٥) فى تعليقة نسخة : قوله : « فان اللامعات يرى ايضا لونها » اى يرى بنور السراج يعنى الاشياء المستضيئة بضوء السراج يرى لونها ايضا كما يرى بريقها بالليل حين كون الرائى فى الموضع المظلم بظلمة الليل فلو كان شدة الضوء تمنع البصر فى الظلمة لا ضعاف الظلمة اياه عن ادراك اللون لوجب ان لا يرى لتلك الاشياء المستضيئة بضوء السراج حين كون الرائى فى الظلمة لون لانّ الضوء الواقع من السراج على تلك الاشياء اشد ظهورا للون من لمعان الحيوانات اللامعة بالليل فكما يمنع ذلك اللمعان لشدة ظهوره البصر عن ادراك لون الحيوانات اللامعة يجب ان يمنع ما هو اشد منه اعنى ضوء السراج.

١٤٦

اللون الضوء وهو الشىء الذى يكون الضوء له طبيعيا لازما غير مستفاد ، وبعض الأشياء مختلط الجوهر من ذلك الأمر ، إما اختلاط تركيب أجزاء مضيئة وأجزاء ذوات ألوان كالنار ، وإما اختلاط امتزاج الكيفيات كما للمريخ ولزحل. وليس يمكننى أن أحكم فى أمر الشمس الأن بشىء.

فقد عرفنا حال الضوء وحال النور وحال اللون وحال الإشفاف. فالضوء هو كيفية هى كمال بذاتها للشفاف من حيث هو شفاف ، وهو أيضا كيفية مّا للمبصر بذاته لا لعلّة غيره. ولا شك أن المبصر بذاته أيضا يحجب عن إبصار ما وراءه. والنور كيفية يستفيدها الجسم الغير الشفاف من المضىء فيكمل بها الشفاف شفافا بالفعل. واللون كيفية تكمل بالضوء من شأنها أن تصيّر الجسم مانعا لفعل المضىء فيما يتوسط ذلك الجسم بينه وبين المضىء. فالأجسام مضيئة وملونة وشفافة.

ومن الناس من قال : إن من الأجسام ما يرى بكيفية فى ذاتها. ومنها ما يرى بكيفية فى غيرها ، وجعل القسم الأخير هو الشفاف. وأما القسم الأول فقد جعله أولا قسمين : أحدهما ما يرى فى الشفاف لذاته (١)

__________________

(١) قوله : « لذاته » متعلق بقوله : « يرى ». وضمير « لذاته » راجع الى « ما ». و « لحضوره » عطف على لذاته وهو ايضا متعلق بفعل « يرى ». وضميره راجع الى « ما ». و « المشف » فى الموضعين هو الشفاف القسم الاخير ، وهو واسطة عامة لكى تصير الاجسام ملوّنة. ثم ما يشترط فى مقابل لذاته وهو قسمان : احدهما ما يشترط فى رؤيته الضوء. وثانيهما ما يشترط فى رؤيته الظلمة. وقوله فى الموضعين « مع شرط المشف » يعنى مع وجود الشفاف الذى هو واسطة عامة لرؤية الاجسام المرئية سواء كان فى الموضعين او غيرهما ، كما قال فى القسم الاول احدهما ما يرى فى الشفاف يعنى فى الهوى مثلا وهكذا المراد من قوله مع شرط المشف فى الموضعين.

١٤٧

ولحضوره وهو المضىء ، وثانيهما ماليس كذلك. ثم قسم هذا بقسمين : أحدهما ما يشترط فى رؤيته الضوء مع شرط المشف وهو الملون ، والثانى ما يشترط فى رؤيته الظلمة مع شرط المشف كالحيوانات التى تلمع فى الليل من حيث تلمع كاليراعة (١) ، وبعض الخشب المتعين (٢) وبعض الدود. وقد رأيت أنا بيضة دجاجة بهذه الصفة ، وجرادة ميتة بهذه الصفة ، وصرارة (٣) ميتة بهذه الصفة.

وليست هذه القسمة (٤) بمرضية ولا صحيحة ، فإن المضىء يرى لذاته فى الظلمة وفى الضوء جميعا. فإن اتفق أن كان الرائى فى الضوء الذى يفعله (٥) رؤى ، وإن اتفق أن لم يكن فيه رؤى أيضا ، كالنار يراها الإنسان فى الضوء سواء كان ضوؤها أو ضوء غيرها ويراها فى الظلمة.

وأما الشمس فإنما ليس يمكننا أن نراها فى الظلمة بسبب أنها حيث تكون مقابلة لبصر الرائى تكون قد ملأت العالم ضوءا ولم تترك مكانا مظلما. وأما الكواكب فإنها إنما ترى فى الظلمة ، لأن ضوءها يقصر عن ضوء الشمس فلا تضىء الأشياء ولا تنورها ، بل لا يمتنع أن توجد فقد يمكن أن تكون ومعها ظلمة فترى فى الظلمة لا لأن الظلمة سبب ان ترى

__________________

(١) اليراعة ذباب يطير بالليل كانه نار ( كرمك شبتاب ).

(٢) المتعفن ، نسخة.

(٣) الصرّ عصفور او طائر فى قده اصفر اللون ، سمى به لصوته من صرر اذا صاح. مجمع البحرين ج ٣ ص ٣٦٥.

(٤) فى تعليقة نسخة : اى المضيئات طبقة والملونات طبقة واللوامع التى تلمع فى الليل طبقة. بل القسمة المرضية هى ان اللوامع داخلة فى المضيئات.

(٥) اى يفعل المضىء الضوء رؤى المضىء وان اتفق ان لم يكن الرائى فى المضىء رؤى المضىء ايضا.

١٤٨

هى بالذات ، بل يجب أن يعلم أن بعض الأنوار يغلب بعضا حتى لا يرى ، كما أن ضوء الشمس يغلب ضوء النار الضعيفة وضوء الكواكب ولا ترى مضيئة عند ضوء الشمس فلا ترى ، لا لأجل الحاجة فى رؤيتها إلى الظلمة ، بل للحاجة إلى أن تكون فى أنفسها مضيئة غير مظلمة بالقياس إلى أبصارنا. فإذا كانت الشمس غائبة ظهرت ورؤيت ، لأنها صارت مضيئة بالقياس إلى أبصارنا وبحال فى أبصارنا.

وربما كان حكم النار والقمر عند ضوء مّا هو أضعف منهما هذا الحكم بعينه. ويجب فى ذلك الضوء (١) أن لا يكون موجودا بالقياس إلينا عند ظهور نار أو قمر ، فيلزم أن تكون ظلمة حتى يظهرا ، ويلزم أن لا يكون باهر حتى يرى (٢) ويتمكن البصر من إدراكه. فأنت تعلم (٣) أن الهباء الذى فى الجو ليس من جنس ما لا يرى المستنير منه إلا فى الظلمة ، لكن إن كان الإنسان فى الظلمة وقد وقع على هذه الهباءات شعاع الشمس أمكن أن ترى تلك الهباءات (٤) ، فإن كان الإنسان فى شعاع لم يمكن ، وذلك

__________________

(١) اى الضوء الضعيف.

(٢) اى ما كان ضوؤه ضعيفا.

(٣) بيان لقوله او يلزم.

(٤) فى تعليقة نسخة : قالوا البياض انما يتخيّل من مخالطة الهواء المضىء للاجسام الشفافة المتصغرة جدا كما فى الثلج وزبد الماء فانهما مركبان من اجزاء مائية متصغرة جدا وليس بينها تفاعل يؤدى الى مزاج يترتب عليه لون بل تداخل تلك الاجزاء هواء واشعة فائضة من أجرام العلوية وتتعاكس تلك الأشعة من سطوح بعضها الى بعض ويتراكم الاشعة بعضها على بعض والشعاع المنعكس يشبه البياض فان الشمس اذا اشرقت على حوض من الماء وانعكس شعاعها الى جدار غير مستنير يرى ذلك اللون كانه لون بياض فاذا راى الحس الشعاع المتراكم على تلك الاجزاء يغلط لعدم الفرق بين الشىء وشبهه فيحكم بانه بياض.

١٤٩

لأمر فى بصر الإنسان لا لأمر فى ضوء الهباءات ، فإن بصر الإنسان إذا كان مغلوبا بضوء كثير لم يرها ، وإن لم يكن مغلوبا رآها. وكذلك هذه اللوامع فى الليل ليست جنسا آخر ، بل هى المضيئات ويخالفها لا فى جملة الطبع ، بل فى الضعف (١) ، ولو كانت هذه مخالفة للمضيئات فى جملة الطبع ، فالكواكب كذلك.

ولا يتحصل لهذه القسمة محصول صادق ، إلا أن يقال : إن بعض المضيئات باهرة لبعض وبعضها مبهورة لبعض. ومعنى ذلك البهر ليس تأثيرا منها فيها ، بل فى إبصارنا ، كما أن بعض الصلابات أصلب وبعضها أضعف فلا يجب إذن أن يقال : إن اللواتى تلمع فى الليل نوع أو جنس مفرد خارج عن الملونات والمضيئات ، بل هى من جملة المضيئات التى يبهرها ما فوقها فى الإضاءة فلا ترى معها لعجز أبصارنا حينئذ ، بل إنما تقوّى عليها أبصارنا عند فقدان سلطان الباهرة لأبصارنا من المضيئات.

فإن ذهبوا إلى هذا فالقسمة جيدة ، إلا أنهم ليسوا يذهبون إلى هذا بل يوهمون أن المضيئات طبقة ، والملوّنات طبقة ، وهذه (٢) طبقة.

__________________

(١) فى تعليقة نسخة : بحيث لا يرى فى الضوء القوى.

(٢) اى اللوامع فى الليل.

١٥٠

الفصل الرابع

فى تأمل مذاهب قيلت فى الالوان وحدوثها (١)

ومما يجب أن نفرغ عنه تأمل مذاهب اخر فى أمر الألوان والضوء ، ما لم نفرغ عنه لم يكن سبيل إلى أن ندل على صحة ما ذهبنا إليه بطريق القسمة.

فنقول : إن من المذاهب فى أمر الألوان مذهب من يرى أن اللون الأبيض (٢) أنما هو تكونه من الهواء والضوء ، وأن الأسود تكوّنه من ضد

__________________

(١) راجع ص ٢٨ ج ٢ ط ١ ـ ص ٨٥ ج ٤ ط ٢ من الاسفار. وفى شرح المواقف : قال بعض من القدماء لا وجود للّون اصلا بل كلها متخيّلة.

(٢) قوله : « مذهب من يرى ان اللون الابيض » هذا المذهب يرى ان اللون لا حقيقة له اصلا والالوان كلها متخيلة ، وذكر امثلة مما ليس بينها تفاعل اصلا كزبد الماء والثلج سيما المسحوقات من البلور والزجاج ردا لقول من يقول كالشيخ والفارابى ومن يحذو حذوهما : ان الالوان بالفعل انما يحدث بسبب النور والاستعدادات الحاصلة فى الاجسام من تفاعلها وبالجملة ان الالوان موجودات لا ان كلها خيالات. ثم ان الشيخ ومن سلك سبيله لا ينكرون حدوث الالوان الدفعية المتخيلة كالمسحوقات المشفة وكقوس قزح. قال صدر المتألهين فى الفصل الاول من الباب الثالث من الجواهر والاعراض من الاسفار ( ٢٨ ج ٢ ط ١ ـ ص ٨٥ ج ٤ ط ٢ ) : ذهب بعض الناس الى ان لا حقيقة لللون اصلا بل جميع الالوان من باب الخيالات كما فى قوس قزح والهالة

١٥١

ذلك ، وأن حدوث اللون الأبيض هو من الشفاف إذا انقسم إلى أجزاء صغار ثم ارتكم فإنه يعرض هناك أن تقبل سطوحها النور فتضىء ، ولأنها شفافة يؤدى بعضها إضاءة بعض. ولأنها صغار يكون ذلك فيها كالمتصل ، ولأن المشف لا يرى إلا بلون غيره ، فإن شفيفها لا يرى ، لكن العكوس عن السطوح المتراكمة منها ترى متصلة ويرى الجميع أبيض.

قالوا : ولهذا ما كان زبد الماء أبيض بمخالطة الهواء ، والثلج أيضا أبيض لأنه أجزاء صغار جامدة شفافة خالطها الهواء ونفذ فيها الضوء ، والبلّور المسحوق والزجاج المسحوق لا يشف (١) ، وأىّ هذه اتصلت سطوحها اتصالا لا يبطل به انفراد كل شخص منها بنفسه عادت شفافة ، والشفاف الكبير الحجم إذا عرض فيه شق ادّى (٢) ذلك الموضع منه إلى البياض. قالوا : فأما السواد فيتخيل لعدم غور الجسم وعمقه الضوء والإشفاف معا.

ومنهم من جعل الماء سببا للسواد. قال : ولذلك إذا بلّت هذه الأشياء مالت إلى السواد. قال : وذلك لأن الماء يخرج الهواء ولا يشف إشفافه

__________________

وغيرهما فان البياض انما يتخيل من مخالطة الهواء للاجسام الشفافة المتصغرة جدا لكثرة السطوح المتعاكسة عنها النور بعضها من بعض كما فى الثلج. الى ان قال : والمحققون على انها كيفيات متحققة لا متخيلة وان كانت متخيلة فى بعض المواضع ايضا وظهورها فى الصور المذكورة بتلك الاسباب لا ينافى تحققها وحدوثها باسباب اخرى التى هى باستحالات المواد.

(١) « والبلور المسحوق والزجاج المسحوق لا يشفان بل يريان على لون مع ان سطوحهما عند الاجتماع لم ينفعل بعضها عن بعض حتى يقال حصل هناك لون » ( المباحث المشرقية ).

(٢) رؤى ، نسخة.

١٥٢

ولا ينفذ فيه الضوء إلى السطح فتبقى مظلمة. ومنهم من جعل السواد لونا بالحقيقة وأصل الألوان. قال : ولذلك لا ينسلخ ، وأما البياض فعارض للمشف بتراكمه ولذلك يمكن أن يصبغ. ولا يبعد أن يكون المذهب الأول فى السواد يؤدى إلى هذا المذهب أيضا ، إذ جعل السواد حقيقة ما لا يشف من جهة ما لا يشف وهو حقيقة اللون المنعكس عنه.

وقال قوم : إن الأسطقسات كلها مشفة ، وإنها إذا تركبت حدث منها البياض على الصفة المذكورة ، وبأن يكون مايلى البصر سطوحا مسطحة من المشف فينفذ فيها البصر ، وأن السواد يعرض إذا كان مايلى البصر من الجسم زوايا تمنع الإشفاف للأطراف التى تقع فيها فهى وإن أضاءت (١) فبما لا ينفذ فيها الضوء نفوذا جيدا فتظلم.

والذى يصعب من هذه الجملة فصل القول فيه تولد البياض من الضوء ، وكون السواد لونا حقيقيا. فإنا نعرف أن المشفات تبيضّ عند السحق والخلط بالهواء ، وكذلك اللخالخ (٢) ، والناطف (٣) يبيض لاجتماع احتقان الهواء فيه مع الإشفاف الذى فى طبعه ، ونعلم أن السواد لا يقبل لونا ألبتة كما يقبل البياض ، فكأن البياض لإشفافه موضوع ومعرى مستعد ، والمعرى عن الكيفيات قابل لها من غير حاجة إلى إزالة شىء ،

__________________

(١) اضائه : روشن شدن وروشن كردن. لازم متعد. ( منتهى الارب ) فما لا ينفذ فيها الضوء نفوذا جيدا يظلم ـ نسخة.

(٢) لخلخه : كف صابون وچوبه كه از دست زدن بهم رسد. وفى بحر الجواهر للهروى :

الخلخة بالفتح هى اشياء مركبة يشم بها. وقيل ظرف يصبّ فيه من مياه الخلاف والوردة والكزبرة وامثال ذلك.

(٣) الناطف هو الذى يقال له بالفارسية « قبيده » حلوائى است معروف.

١٥٣

والمشغول بواحدة لا يقبل غيرها إلا بزوالها. فهؤلاء قوم يجعلون مخرج الألوان من الإشفاف وغير الإشفاف.

وبإزاء هولاء قوم آخرون لا يقولون بالإشفاف ألبتة ، ويرون أن الأجسام كلها ملوّنة ، وأنه لا يجوز أن يوجد جسم إلا وله لون. ولكن الثقب والمنافذ الخالية إذا كثرت فى الأجسام نفذ فيها الشعاع الخارج من المضىء إلى الجهة الأخرى ، ونفذ أيضا شعاع البصر فرؤى ماوراءها.

فأما المذهب الأول فإذا نقول : لعمرى إنه قد يظهر من دق المشف وخلطه بالهواء لون أبيض (١) ، ولكن إنما يكون ذلك لا فى جسم متصل

__________________

(١) قال صاحب الشوارق : قال الشيخ ما حاصله انه لا شك فى ان اختلاط الهواء بالمشف سبب لظهور البياض ولكنا ندعى ان البياض قد يحدث من غير هذا الوجه كما فى الجصّ فانه يبيضّ بالطبخ فى النار وقد يبيضّ بالسحق والدق مع ان تفرق الاجزاء ومداخلة الهواء فيه اكثر وكما فى البيض المسلوق فانه يصير اشد بياضا مع ان النار لم تحدث فيه تخلخلا وهوائية بل اخرجت الهوائية عنه ولو فرض ان هوائية داخلت رطوبته فبيّضته لكان خثورة لا انعقاد وكما فى الدواء الذى يتخذه اهل الحيلة ويسمونه لبن العذراء فانه يكون من خل طبخ فيه المرداسنج حتى انحل فيه ثم صفّى حتى بقى الخل فى غاية الاشفاف والبياض وخلط بماء طبخ فيه القليا وصفى غاية التصفية ويبالغ فيها ثم تخلط الماء ان فينعقد المنحل الشفاف من المرداسنج ويصير فى غاية البياض كاللبن الرائب ثم يجف وما ذلك لحدوث وتفرق فى شفاف ونفوذ هواء فيه فانه كان متفرقا منحلا فى الخل ولا لتقارب اجزاء متفرقة وانعكاس ضوء البعض الى البعض لان حدة ماء القليا بالتفريق اولى. واعلم ان كون الالوان ذوات حقائق فى الخارج امر ضرورى وليس الغرض من هذه الوجوه الا التنبيه عليه وازالة وهم من توهم غيره فلا يرد عليها ما اورده الامام فى المباحث المشرقية من ان لقائل ان يقول على هذه الوجوه جاز ان يكون لتخيل البياض سبب آخر لا نعلمه اذ المفروض انه لا اعتماد على الحس والا لوجب الحكم بكون الثلج ابيض حقيقة هذا ». شوارق الالهام ج ٢ ص ٤٠٣.

وقال الرازى فى المباحث ص ٤٠٧ ج ١ : واعلم ان الشيخ ذكر فى فصل توابع المزاج من

١٥٤

ومجتمع ، بل إنما يظهر ذلك اللون فى الركام منه ، وأنه إذا جمع وبلّ زال عنه البياض عند الاجتماع والجفوف. وليس الجص على ما اظنه ويوجبه غالب ظنى أن ما يبيض بياضه لذلك فقط ، بل لأن الطبخ يجعله بحيث إذا بل ثم جف ابيض بياضا شديدا لمزاج يحدث فيه.

والدليل على ذلك أنه لو كان فعل النار فى الجص ليس إلا تسهيل التفريق ، وأن تسهيل التفريق قد يوصل إلى الهيئة التى ذكر أنها سبب لكون البياض ، لكان السحق الكثير المؤدى إلى غاية تصغير الأجزاء يفعل ذلك الفعل فى الجص وفى النورة وفى غيره ، ولكان المهيئ بالسحق والتصويل إذا اجتمع بالماء فعل فعل الجص من البياض ، وليس كذلك.

ثم (١) لنفرض أن الجص يتكوّن فيه ذلك البياض على الصورة المذكورة ، فليس كل بياض يحدث على هذه الصفة ، فإن البيض إذا سلق (٢) يصير بياضه الشفاف (٣) أبيض وليس يمكن أن يقال إن النار زادته تخلخلا وتفرقا فإنها قد زادته تكاثفا على حال ، ولا أنه قد حدثت فيه هوائية وخالطته.

فأول ذلك أن بياض البيض يصير عند الطبخ أثقل وذلك لما يفارقه من الهوائية.

__________________

ثانية الفن الرابع من الطبيعيات انه لم يعلم انه هل يصح البياض بغير هذا الطريق ام لا.

واما فى ثانى المقالة الثانية من علم النفس فقد قطع بوجود ذلك فقال لا شك ان اختلاط الهواء بالمشف سبب لظهور اللون الابيض ولكنا ندعى ان البياض يحدث من غير هذا الوجه ويدل عليه امور اربعة ....

(١) بل ، نسخة.

(٢) اى طبخ.

(٣) سفيده تخم.

١٥٥

وثانيا أنه لو كانت هوائية داخلت رطوبته فبيضته لكانت خثورة (١) لا انعقادا ، وقد علمت هذا قبل.

وأيضا فإن الدواء الذى يتخذه أهل الحيلة ويسمّونه لبن العذراء يكون من خل طبخ فيه المرداسنج حتى انحل فيه ، ثم صفّى حتى بقى الخل فى غاية الإشفاف والبياض ، وخلط بماء طبخ فيه القلى ، وصفى غاية التصفية حتى صار كأنه دمعة. فإنه إن قصر فى هذا لم يلتئم منهما المزاج الذى يطلبونه. فكما يخلط هذان الماءان ينعقد فيه المنحل الشفاف من المرتك (٢) أبيض فى غاية البياض كاللبن الرائب ، ثم يجف ، فليس ذلك لأن هناك شفافا عرض له التفرق ، فإن ذلك كان متفرقا منحلا فى الخل ولا أجزاء مشفة صغارا جدا تدانت وتقاربت ، بل إن كان ولا بد فقد ازدادت فى ماء القلى تفرقا (٣) ولا أيضا خالطها هواء من خارج بوجه من الوجوه ، بل ذلك على سبيل الاستحالة ، فليس كل تولد بياض فيما أحسب على الصفة المذكورة.

ولو لم يكن البياض إلا ضوءا والسواد إلا ما قيل ، لم يكن تركيب السواد والبياض إلا آخذا مسلكا واحدا.

بيان هذا : أن البياض يتجه (٤) إلى السواد قليلا قليلا من طرق ثلاثة :

__________________

(١) غلظت.

(٢) فى تعليقة نسخة : المرتك كمقعد المرداسنج ( القاموس ).

(٣) فى تعليقة نسخة : قال الامام ولان تلك الاجزاء تقاربت حتى ينعكس ضوء بعضها الى بعض فان حدّة ماء القلى اولى بالتفريق.

(٤) قوله : « بيان هذا ان البياض يتجه ... » ، الشيخ ـ قدس‌سره ـ ابطل المذهب الاول بطريقين : طريق الاتجاه وطريق الانعكاس. اما طريق الاتجاه فتنتهى العبارة فى بيانه الى قوله : « ولو كانت هذه لا تكون الا باختلاط الاجسام ». واما طريق الانعكاس فيبدأ من قوله

١٥٦

أحدها طريق الغبرة وهو الطريق الساذج ، فإنه إذا كان السلوك ساذجا يتوجه إلى الغبرة ثم منها إلى العوديّة (١) ، وكذلك حتى يسوّد. فيكون سالكا طريقا لا يزال يشتد فيه السواد وحده يسيرا يسيرا حتى يمحضّ.

والثانى الطريق الآخذ إلى الحمرة ، ثم إلى القتمة ، ثم إلى السواد.

والثالث الطريق الآخذ إلى الخضرة ، ثم إلى النيلية ، ثم إلى السواد.

وهذه الطرق إنما يجوز اختلافها ، لجواز اختلاف ما تتركب عنها الألوان المتوسطة. فإن لم يكن إلا بياض وسواد ، ولم يكن أصل البياض إلا الضوء وقد استحال ببعض هذه الوجوه ، لم يمكن فى تركيب البياض والسواد إلا الأخذ فى طريق واحد لا يقع الاختلاف فيه إلا وقوعا بحسب النقص والاشتداد فيه فقط ، ولم تكن طرق مختلفة. فإن كانت طرق

__________________

ـ هذا : « ولو كانت هذه لا تكون الاباختلاط الاجسام » الى قوله : « واما المذهب الثانى. » ثم الاتجاه من البياض الى السواد انما هو على سبيل الحركة واللون الحاصل منه لون طبيعى باستحالة المادة وليس من قبيل الالوان الدفعية الحاصلة من المسحوقات المشفة وغيرها مما ذكرها القائل بتخيل الالوان كلها فلا يخفى عليك ما فى التمسك بالاتجاه من ارغام الخصم وابطال مذهبه وذلك لانه لا يتمشى القول بتخيل الالوان فى الالوان الطبيعية الحاصلة من الاتجاه ، على ان الاتجاه يلزم الخصم بوجوه مذكورة ذكرها الشيخ ايضا فتبصّر.

قال صدر المتألهين فى آخر الفصل الاول من الباب الثالث من الجواهر والاعراض من الاسفار ( ص ٢٩ ج ٢ ط ١ ـ ص ٨٨ ج ٤ ط ٢ ) : اعلم ان كل ما يحدث من الالوان بسبب طبخ صناعى او نضج طبيعى وبالجملة باستحالة للمادة فهو لون طبيعى ، وكل ما يحدث دفعة فى محل وان كان بعد حركة مكانية فهو لون غير طبيعى كالالوان القزحية والزجاجية والوان المسحوقات المشفة وكالجمد المسكور باجزاء صغيرة وكلا القسمين موجودان لكن احدهما مادى حاصل بانفعال المادة ، والآخر من تعينات النور الحاصل واختلاف ظهوره على الابصار حسب اختلاف المظاهر.

(١) رنگ چوب قندس.

١٥٧

مختلفة ، فيجب أن يكون شوب من غير البياض والسواد مع أن يكون شوبا من مرئى وليس فى الأشياء شىء يظن أنه مرئى ، وليس سوادا ولا بياضا ولا مركبا منهما إلا الضوء عند من يجعل الضوء شيئا غيرهما. فإن بطل مذهبه امتنع استحالة الألوان فى طرق شتى ، وإن أمكنه هذه الاستحالة وجب أن يكون مرئى ثالث خارج عن أحكام البياض والسواد ، ولا وجه أن يكون هذا المرئى الثالث موجودا إلا أن يجعل الضوء غير اللون.

فمن هاهنا يمكن أن تركب الألوان فيكون البياض والسواد اذا اختلطا وحدهما كانت الطريقة هى طريقة الاغبرار لا غير ، فإن خالط السواد ضوء فكان مثل الغمامة التى تشرق عليها الشمس ومثل الدخان الأسود تخالطه النار ، فكان حمرة إن كان السواد غالبا ، أو صفرة إن كان السواد مغلوبا وكان هناك غلبة بياض مشرق. ثم إن كان هناك صفرة خلطت بسواد ليس فى أجزائه إشراق حدثت الخضرة. وبالجملة إذا كان الأسود أبطن والمضىء أظهر والحمرة بالعكس (١). ثم إن كان السواد غالبا فى الأول كانت قتمة ، وإن كان السواد غالبا فى الثانى كانت كراثية تلك الشديدة التى لا اسم لها ، وإن خلط ذلك ببياض كانت كهوبة (٢) زنجارية ، وإن خلط بالكراثية سواد وقليل حمرة كانت نيلية ، وإن خلطت بالحمرة نيلية كانت أرجوانية. فبهذا يمكن تأليف الألوان سواء كان بامتزاج الأجرام أو بامتزاج الكيفيات.

__________________

(١) اى اذا كان الاسود اظهر والمضىء ابطن.

(٢) كهبة بالضم مثل قهبه سفيد تيره رنگ.

١٥٨

ولو كانت هذه لا تكون إلا باختلاط الأجسام (١) وقد علم أن السواد لا يصبغ منه الضوء بالعكس جسما ألبتة أسود لكان (٢) يجب أن تكون الألوان الخضر والحمر إنما ينعكس منها البياض ولا ينعكس من الأجزاء السود شىء ، وخصوصا وهى ضعيفة منكسرة.

فإن قيل : فقد نراها تنعكس عن المخلوط. فالجواب أن ذلك لأن الخلط يوجب الفعل والانفعال ، ويجب بسبب ذلك امتزاج الكيفية سواء فعلته الصناعة أو الطبيعة. على أن الطبيعة تقدر على الامتزاج الذى على سبيل الاستحالة ، والصناعة لا تقدر عليه ، بل تقدر على الجمع ، فربما أوجبت الطبيعة بعد ذلك استحالة ، والطبيعة تقدر على تلطيف المزج الذى على سبيل الخلط وتصغير الأجزاء ، والصناعة تعجز عن ذلك الاستقصاء. والطبيعة لا تتناهى مذاهبها فى القسمة والنسبة قوة وفعلا ، والصناعة لا يمكن أن تخرج جميع ما فى الضمير منها إلى الفعل.

فقد بان من هذا أن البياض بالحقيقة فى الأشياء ليس بضوء.

ثم لسنا نمنع أن يكون للهواء تأثير فى أمر التبييض ، ولكن ليس على الوجه الذى يقولون (٣) ، بل بإحداث المزاج المبيض (٤). ولذلك ليس لنا

__________________

(١) اى اختلاط الاجسام الشفافة بالضوء.

(٢) الضوء فاعل يصبغ ، وجسما مفعوله ، ولكان جواب لو كانت.

(٣) قوله : « ليس على الوجه الذى يقولون » يعنى الوجه الذى هو بحسب المخالطة فقط كما سيصرح به بعد سطر.

وقوله : « او على سبيل الصبغ » لا يبعد ان يكون الصبغ فى الموضعين بالنون والعين المهملة بمعنى الصناعة.

وقوله : « مما يكذبهم الشباب والشيب » كما قيل بالفارسية :

گويند پس از سياه رنگى نبود

پس ريش سياه من چرا گشته سفيد

١٥٩

أن نقول : إن بياض الناطف كله من الجهة التى يقولون ، بل من المزاج ، فإن الهواء يوجب لونا أبيض لا بحسب المخالطة فقط ، بل بحسب الإحالة أيضا.

ولو كان مذهبهم صحيحا لكان يمكن أن يبلغ بالشىء الأبيض والملون بشدة الترقيق حتى يذهب تراكمه إلى أن يشف أو إلى قريب منه ، وهذا مما لا يكون.

وأما قولهم : إن الأسود غير قابل للون آخر ، فإما أن يعنوه على سبيل الاستحالة أو على سبيل الصبغ. فإن عنوا على سبيل الاستحالة ، فقد كذبوا ، ومما يكذبهم الشباب والشيب. وإن عنوا على سبيل الصبغ ،

__________________

وقوله : « فذلك حال مجاوره » الضمير راجع الى الاسود. وكذا الضمير فى « كيفيته » راجع الى الاسود.

وقوله : « فلا يبعد ان يكون الشىء المسود لا يكون مسوّدا » تعليل لقوله : « فذلك حال مجاوره لا حال كيفيته ». وكل واحد من المسوّدين على هيأة اسم الفاعل من التسويد.

يعنى انّ قولهم ان الاسود غير قابل للبياض او اللون الآخر غير صحيح لانّ المجاور اى البياض وغيره من الالوان غير نافذ فى الاسود ، لا أنّ الاسود غير قابل لغيره من الالوان.

ثم قال : « على ان ذلك ليس ايضا مما لا يمكن » يعنى ان ارباب الحيل واصحاب الاكسير يعملون حيلة فى تبييض الاسود فعملهم بالحيلة يكذب القول بان الاسود غير قابل للون آخر.

قال شارح المواقف : ومما استدل فى الشفاء على حصول البياض من غير اختلاط الهواء بالمشف امران : احدهما اختلاط طرق الاتجاه من البياض الى السواد. وثانيهما انعكاس الحمرة والخضرة ونحو ذلك من الالوان فانه لو كان اختلاف الالوان لاختلاف الشفاف بغيره لوجب ان لا ينعكس من الأحمر والاخضر الا البياض لان السواد لا ينعكس بحكم التجربة ( شرح المواقف ج ٥ ص ٢٣٩ والمباحث المشرقية ج ١ ص ٤٠٩ ).

(٤) التبييض ـ خ.

١٦٠