الأمر بين الأمرين

الأمر بين الأمرين

المؤلف:


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
الطبعة: ٠
ISBN: 964-319-036-6
الصفحات: ١٠٧
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

( قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها ) ( الأنعام ٦ : ١٠٤ ).

( وما كان ربّك مهلك القرى حتى يبعث في أمّها رسولاً يتلوا عليهم آياتنا وما كنّا مهلكي القرى إلاّ وأهلها ظالمون ) ( القصص ٢٨ : ٥٩ ).

ويقرر القرآن رابعاً : أنّ الله تعالى لا يكلّف عباده فيما لا يستطيعون ولا يكلّفهم إلاّ بقدر وسعهم :

يقول تعالى : ( لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) ( البقرة ٢ : ٢٨٦ ).

ولا يصح كلّ هذا التأكيد على أنّ التكليف من جانب الله لا يكون إلاّ بعد أن يمنح الله عباده التمييز ، وبعد أن يبعث إليهم الأنبياء مبشرين ومنذرين ، ولا يكلّفهم فيما لا يستطيعون ، لا يصح كلّ ذلك إلاّ إذا كان التكليف يستتبع تقرير مبدأ حرية الاختيار.

وينسب القرآن خامساً : الأعمال التي تصدر عن الإنسان إلى الإنسان نفسه، وإنّها ما كسبت وجنت يداه ، ولا يصح ذلك لولا أنّ الإنسان يختار بنفسه ما يفعل بإرادته ، وليس هو موضعاً وظرفاً للفعل الصادر منه ، كما يقول القائلون بالجبر :

يقول تعالى : ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ) ( الشورى ٤٢ : ٣٠ ).

( فويل لهم ممّا كتبت أيديهم وويل لهم ممّا يكسبون ) ( البقرة ٢ : ٧٩ ).

٤١

( بلى من كسب سيّئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) ( البقرة ٢ : ٨١ ).

ويقرر القرآن سادساً : مبدأ ارتباط الإنسان بعمله ، وعودة العمل إلى الانسان ، خيراً كان أو شراً. واعتبار الجزاء نحو من أنحاء عودة العمل إلى صاحبه وهو من الجزاء التكويني الذي نظّمه الله تعالى في دورة الكون ، ولا يصح ذلك إلاّ عندما يتحمل الإنسان مسؤولية عمله ، والمسؤولية دائماً تتبع حرية الاختيار :

( قد جاءكم بصائر من ربّكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها ) ( الأنعام ٦ : ١٠٤ ).

( يا أيّها الناس قد جاءكم الحقّ من ربّكم فمن اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فإنّما يضلّ عليها ) ( يونس ١٠ : ١٠٨ ).

( لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) ( البقرة ٢ : ٢٨٦ ).

ويقرر القرآن سابعاً : مبدأ الجزاء في الدنيا قبل الآخرة. والجزاء دائماً يتبع المسؤولية ، والمسؤولية تتبع حرية الاختيار :

يقول تعالى : ( وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كلّ مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) ( النحل ١٦ : ١١٢ ).

( فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون ) ( البقرة ٢ : ٥٩ ).

٤٢

( ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي الناس ) ( الروم ٣٠ : ٤١ ).

ويقرر القرآن ثامناً : مبدأ الجزاء في الآخرة في الصالحات والسيئات ، وقد ذكر آنفاً أن الجزاء لاينفك عن الاختيار ولا يصح الجزاء إلاّ في حالة الاختيار :

( ووفيت كلّ نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون ) ( الزمر ٣٩ : ٧٠ ).

ويقرر القرآن تاسعاً : أنّ الله تعالى يجزي كلّ واحد بفعله ولا يعاقب أحداً بسيئة غيره :

يقول تعالى : ( ولا تزرُ وازرة وزر أخرى ) ( الأنعام ٦ : ١٦٤ ).

ويقرر القرآن عاشراً : ندامة الإنسان يوم القيامة على ما فرط منه من سيئات الأعمال في الدنيا.

والندامة من آثار وأمارات الاختيارات ، ولا ندامة على ماليس للإنسان فيه اختيار :

( يا أيّها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) ( الحجرات ٤٩ : ٦ ).

( وأسرّوا الندامة لما رأوا العذاب وقُضي بينهم بالقسط وهم لا يُظلمون ) ( يونس ١٠ : ٥٤ ).

والحادي عشر يقرر القرآن : أنّ عمل الإنسان هو الذي يقرر مصير الإنسان فيفلحه أو يخيبه :

يقول تعالى : ( ونفس وما سوّيها * فألهمها فجورها وتقويها * قد

٤٣

أفلح من زكّيـها * وقد خاب من دسّيـها ) ( الشمس ٩١ : ٧ ـ ١٠ ).

والثاني عشر : أنّ التغيير الذي يحدثه الله تعالى في حياة الناس والأمم من إغناء وإثراء أو إهلاك أو استدراج أو عذاب أو مكر إنّما هو نتيجة أعمالهم. وليس يصح ذلك إلاّ إذا كان الإنسان يتمتع بكامل حريته :

يقول تعالى : ( إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم ) ( الرعد ١٣ : ١١ ).

( ذلك بأنّ الله لم يك مغيّراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم ) ( الأنفال ٨ : ٥٣ ).

والثالث عشر : أنّ الله تعالى يعطي عباده من الدنيا والآخرة بعض أو كلّما يطلبون بأعمالهم كما يريد سبحانه. وإذا كان العطاء من الله تعالى وبإرادته ومشيئته فإنّ الطلب من الانسان. والعطاء من الله إجابة لطلب الانسان. ولا معنى لكل ذلك إلاّ إذا كان الإنسان حراً مختاراً فيما يطلب :

( من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنّم يصلاها مذموماً مدحوراً * ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً * كلاً نمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربّك وما كان عطاء ربّك محظورا ) ( الإسراء ١٧ : ١٨ ـ ٢٠ ).

والرابع عشر : إنّ الله تعالى لا يظلم عباده وإنّما الناس هم الذين يظلمون أنفسهم : والآيات التي تشير إلى هذه الحقيقة تقرب من ثمانين آية في كتاب الله. وهذه الآيات جميعاً تقرر بوضوح مبدأ الاختيار في الإنسان. فإنّ معاقبة العبد بأشد العقاب والعذاب على شيء لا إرادة له

٤٤

فيه، من الظلم الذي يتنزه عنه سبحانه وتعالى :

يقول تعالى : ( وما ربّك بظلام للعبيد ) ( فصلت ٤١ : ٤٦ ).

( فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) ( التوبة ٩ : ٧٠ ).

( ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلاّ مثلها وهم لا يظلمون ) ( الأنعام ٦ : ١٦٠ ).

( وتوفّى كلّ نفس ما عملت وهم لا يظلمون ) ( النحل ١٦ : ١١١ ).

( وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم ) ( هود ١١ : ١٠١ ).

( وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) ( النحل ١٦ : ١١٨ ).

( وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ) ( الزخرف ٤٣ : ٧٦ ).

٢ ـ نفي التفويض واستقلال الانسان في القرآن :

كما ينفي القرآن بشكل قاطع الحتمية في سلوك الإنسان الفردي والاجتماعي ، كذلك ينفي بشكل قطعي أيضاً استقلال الإنسان في سلوكه عن الله ، وتفويض أموره وحركته إليه من جانب الله تعالى كما يقول المفوضة من المعتزلة ، وفيما يلي نستعرض من كتاب الله تسع طوائف عن آيات القرآن تنفي بشكل واضح مبدأ التفويض واستقلال الإنسان في أفعاله من الله تعالى. وإليك الطوائف التسع من كتاب الله :

الطائفة الأولى : الآيات التي تقرر حاجة الإنسان وفقره الدائم إلى الله تعالى. كقوله تعالى :

٤٥

١ ـ ( يا أيّها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنيّ الحميد ) ( فاطر ٣٥ : ١٥ ).

الطائفة الثانية : الآيات التي تقرر سلطان الله تعالى المطلق على الإنسان من دون قيد أو استثناء. كقوله تعالى :

٢ ـ ( ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إنّ الله على كلّ شيء قدير ) ( البقرة ٢ : ٢٠ ).

٣ ـ ( وإن يمسسك الله بضرّ فلا كاشف له إلاّ هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير ) ( الأنعام ٦ : ١٧ ).

٤ ـ ( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مُرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم ) ( فاطر ٣٥ : ٢ ).

٥ ـ ( قُلْ لا أملك لنفسي ضرّاً ولا نفعاً إلاّ ماشاء الله ) ( يونس ١٠ : ٤٩ ).

٦ ـ ( ولو نشاء لطمسنا على أعينهم ) ( يس ٣٦ : ٦٦ ).

٧ ـ ( ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم ) ( يس ٣٦ : ٦٧ ).

الطائفة الثالثة : الآيات التي تقرر بأنّ الإيمان لا يتم ولا يتحقق في حياة الناس إلاّ بإذن الله ومشيئته نحو قوله تعالى :

٨ ـ ( وما كان لنفس أن تؤمن إلاّ بإذن الله ) (يونس ١٠ : ١٠٠).

الطائفة الرابعة : تعليق الإضرار بإذن الله فيما علَّم الشياطين الناس من

٤٦

السحر ممّا أُنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وغيره ، وكانوا بهذا السحر يفرقون بين المرء وزوجه ويضرّون الناس. إلاّ أنّ القرآن يقرر أنّهم لم يكونوا قادرين على إضرار أحد بهذا السحر إلاّ بإذن الله. يقول تعالى :

٩ ـ ( وما هم بضارّين به من أحد إلاّ بإذن الله ) ( البقرة ٢ : ١٠٢ ).

الطائفة الخامسة : الآيات التي تدل على أنّ الله تعالى قادر على أن يحول بينهم وبين ما يفعلون. يقول تعالى :

١٠ ـ ( ولو شاء الله ما فعلوه ) ( الأنعام ٦ : ١٣٧ ).

١١ ـ ( ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكنّ الله يفعل ما يُريد ) ( البقرة ٢ : ٢٥٣ ).

الطائفة السادسة : الآيات التي تدل على أنّ النصر والهزيمة بإذن الله.

١٢ ـ ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ) ( البقرة ٢ : ٢٤٩ ).

١٣ ـ ( فهزموهم بإذن الله ) ( البقرة ٢ : ٢٥١ ).

الطائفة السابعة : الآيات التي تدل على أنّ مشيئة الإنسان بمشيئة الله ، فلا يشاء الإنسان إلاّ بمشيئة الله. يقول تعالى :

١٤ ـ ( وما تشاءون إلاّ أن يشاء الله إنّ الله كان عليماً حكيماً ) ( الإنسان ٧٦ : ٣٠ ).

١٥ ـ ( وما تشاءون إلاّ أن يشاء الله ربُّ العالمين ) ( التكوير ٨١ : ٢٩ ).

الطائفة الثامنة : الأمر بتعليق إرادتنا ومشيئتنا وأعمالنا على مشيئة الله تعالى.

٤٧

١٦ ـ ( ولا تقولنّ لشيء إنّي فاعل ذلك غداً * إلاّ أن يشاء الله ... ) ( الكهف ١٨ : ٢٣ ـ ٢٤ ).

الطائفة التاسعة : تعليق الأعمال والخصال والأحوال جميعاً على مشيئة الله تعالى.

١٧ ـ ( ستجدني إن شاء الله من الصالحين ) ( القصص ٢٨ : ٢٧ ).

١٨ ـ ( ستجدني إن شاء الله من الصابرين ) ( الصافات ٣٧ : ١٠٢ ).

١٩ ـ ( لتدخُلُنَّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلّقين رؤوسكم ) ( الفتح ٤٨ : ٢٧ ).

هذه تسع طوائف من آيات كتاب الله تدل بصورة واضحة على نفي التفويض واستقلال الإنسان في أفعاله وإرادته ، وهي واضحة وصريحة في ذلك كما كانت المجموعة الأولى من الآيات واضحة في نفي الحتمية والجبر في سلوك الفرد.

فإن الناس في كل شؤونهم فقراء إلى الله ، ومن يكون فقيراً في كل شأن من شؤونه وفي كل حال من أحواله كيف يستقل عن الله تعالى في فعاله أو خصاله وهو خاضع لسلطان الله تعالى ، إن شاء أخذه ، وإن شاء مسخه ، وإن شاء ذهب بسمعه وبصره ، وإن شاء طمس على عينيه ، ولا يملك الإنسان من دونه تعالى لنفسه ضراً ولا نفعاً ، فكيف يتأتّى له أن يستقل عن الله مع هذا السلطان الإلهي الواسع على حياته وأعماله وجوارحه وجوانحه ؟!

ولا يؤمن أحدٌ إلاّ بإذن الله ..

٤٨

ولا يضر أحدٌ أحداً إلاّ بإذن الله ..

ولا يقاتل أحدٌ أحداً إلاّ بإذن الله ..

ولا ينتصر المنتصر إلاّ بإذن الله ..

ولا يهزم أحدٌ أحداً إلاّ بإذن الله ..

بل ولا يشاء أحدٌ شيئاً إلاّ بمشيئة الله ..

ولا يصح منّا أن نعزم على شيء إلاّ بمشيئة الله وإذنه ، ولا يصبر الصابرون ، ولا يفلح المفلحون ، ولا يصلح الصالحون إلاّ بإذن الله بصريح القرآن ومحكمه.

ومع هذا التأكيد العجيب في القرآن على ارتباط الإنسان بالله تعالى في كل شيء وفي كل حال فكيف يصح دعوى استقلال الإنسان عن الله ؟ ودعوى تفويض الأمر إليه والقول بأنّ الله تعالى خلق الإنسان ماشاء ، ومنحه من المواهب ، ثمّ أوكل أمره إليه ، وفوّض إليه أموره بشكل مطلق ؟

إنّ من يقرأ ما تقدّم من آيات القرآن الكريم يقطع بأنّ القرآن لا يقرّ للانسان بهذه الاستقلالية والتفويض.

٤٩
٥٠

الفصل الثالث

مذهب أهل البيت عليهم‌السلام : ( الأمر بين الأمرين )

لا نحتاج إلى كثير من التفكير والتأمل لنقول إنّ المذهب القرآني في هذه المسألة الحساسة والخطيرة في حياة الإنسان لا هو بالمذهب الأول ولا هو بالمذهب الثاني ، وفيما استعرضنا من آيات القرآن قبل قليل ما يكفي لاثبات هذه الحقيقة.

إذن ، المذهب الذي يختاره القرآن هو مذهب ثالث بين المذهبين المعروفين.

وهذا المذهب الثالث هو الذي تبنّاه أهل البيت عليهم‌السلام ونسبوه إلى القرآن وعُرف عنهم ب‍ ( الأمر بين الأمرين ).

أي المذهب الوسط الذي يقع بين المذهبين.

وهو مذهب ثالث حقاً يقع وسطاً بين المذهبين المتطرفين المتصارعين في التاريخ العقلي الإسلامي. وأهل البيت هم روّاد هذا المذهب القرآني وأوّل من كشف للناس هذا المذهب الفكري للقرآن.

٥١

تفسير الأمر بين الأمرين :

ومن العجب أن هذا التفسير الوسط لمذهب القرآن في مسألة أفعال الإنسان وسلوكه على وضوحه ، ظل مختفياً في العصور الإسلامية الأولى عن الحوار العقلي الذي كان يجري بين علماء المسلمين في مذهب القرآن من هذه المسألة.

وحتى بعد أن أعلن أهل البيت عليهم‌السلام هذا الرأي واشتهر عنهم ، ظل هذا الرأي مجهولاً غير معروف في الحوار العقلي الذي كان يجري يوم ذاك في العصر العباسي وما بعده ، وهو أمر مثير للسؤال فعلاً. كيف انشطر علماء المسلمين من غير مدرسة أهل البيت إلى هذين المذهبين رغم صراحة القرآن ووضوحه في نفي كل منهما.

السبب الذي صرف العلماء عن ( الأمر بين الأمرين ) :

إنّ السبب في ذلك ـ كما يبدو ـ أنّ المعتزلة أرادوا بمسألة استقلالية الإنسان في الاختيار والإرادة التخلص من تبعة إلقاء مسؤولية الظلم الذي يرتكبه العباد على الله تعالى وتنزيه الله تعالى من كل ظلم يرتكبه الناس. وهذا هو السبب الذي دعى المعتزلة إلى أن يختلفوا مع الأشاعرة وينسبوا الفعل إلى الإنسان نفسه ، ولا ينسبوه إلى الله تعالى ، ولنفس السبب أصرّوا على استقلال الإنسان في الاختيار ونفوا أن تكون لله تعالى إرادة واختيار وسلطان على الإنسان في اختياره وفعله ، إلاّ أنّه تعالى خلقه ومنحه المواهب التي تمكنه من الاختيار ثمّ أوكله إلى نفسه في الإرادة والاختيار.

ولا ينافي الخلق والابداع استقلال الإنسان في الاختيار فإنّ حاجة

٥٢

الممكن إلى الواجب ( حسب هذه النظرية ) في مرحلة الحدوث فقط ، فإذا حدث، استقلّ عن الواجب وكان مستقلاً في كل فعله واختياره عن الله تعالى ، ويعتقدون أنـّنا إذا سلبنا الاستقلال من الإنسان في الاختيار وجعلنا اختيار الإنسان في طول اختيار الله وجعلنا إرادة الإنسان في طول إرادة الله وجعلنا لله تعالى سلطاناً على فعل الإنسان واختياره ، وقعنا في نفس المشكلة التي وقع فيها الأشاعرة من قبل وهي نسبة الظلم والسيئات إلى الله تعالى.

أمّا حينما يكون الإنسان مستقلاً في إرادته وفعله عن الله تعالى فلا ينسب شيء من فعله إلى الله تعالى.

وبهذه الطريقة يحاول المعتزلة أن يحافظوا على ( العدل الإلهي ) إلاّ أنّهم يسلبون من حيث يعلمون أو لا يعلمون سلطان الله تعالى الدائم على عباده ، ومشيئته المستمرة في خلقه وهي نقاط حساسة تمسّ التوحيد بالذات.

وإذا كان المذهب الذي يذهب إليه الأشاعرة يمسّ ( عدل الله ) فإنّ المذهب الذي يذهب إليه ( المعتزلة ) يمسّ ( توحيد الله ) بشكل واضح وصريح ، وقد وجدنا في ما سبق أنّ تأكيد القرآن على سلطان الله الدائم على خلقه ونفي استقلال الإنسان في شأن من شؤونه ، لا يقل عن تأكيد القرآن على حرية الإنسان في الاختيار.

وهذه العقدة ـ كما يبدو ـ هي التي ألجأت علماء المسلمين من غير مدرسة أهل البيت إلى الالتزام بأحد المحذورين ، ولولا ذلك لا نجد توجيهاً للغفلة عن كل هذه الآيات التي ذكرناها آنفاً من كتاب الله بمالها من

٥٣

دلالة واضحة وصريحة على نفي الجبر والتفويض ونفي استقلال الإنسان في إرادته وفعله.

الاختيار ليس مساوقاً للاستقلال :

ولابدّ أن نشير قبل أن ننتقل إلى البحث عن المنهاج الذي تخلّص به علماء مدرسة أهل البيت من نسبة الظلم إلى الله تعالى في الوقت الذي لم يفرّطوا في القول باتصال سلطان الله تعالى ونفوذه المستمر على فعل الإنسان واختياره ... قبل الدخول في هذا البحث ننبّه إلى أنّ الاختيار لا يساوق الاستقلال ، وليس السبب في انصراف علماء المسلمين من غير مدرسة أهل البيت عن الأمر بين الأمرين تصوّر أنّ الاختيار بمعنى الاستقلال وأنّ مذهب ( الأمر بين الأمرين ) يسلب الإنسان الاستقلال في الاختيار ، وبالتالي يسلبه الاختيار ، ومرّة أُخرى يؤدي بنا ( الأمر بين الأمرين ) إلى مذهب الحتمية الذي حاولنا أن نتخلّص من تبعاته ... نقول : هذه الشبهة لا تستحق إطالة الكلام ، فليس من شروط الاختيار أن تكون القدرة مطلقة غير معلّقة على اختيار آخر أو فعل آخر ، وليس من بأس أن يكون عمل واحد تحت اختيار طرفين لكل منهما اختيار وفعل ، ولا يتم لأي منهما الاختيار والفعل إلاّ مع اختيار وفعل الطرف الآخر. أو يكون اختيار الثاني معلّقاً على اختيار الأول وفعله دون العكس وهذا واضح ، ولذلك فلا نحتاج إلى توقف كثير عند هذه النقطة لنثبت أنّ ( الاختيار ) ليس بمعنى ( الاستقلال ).

فلنعد إلى أصل المسألة.

٥٤

تفسير علماء مدرسة أهل البيت ل‍ ( الأمر بين الأمرين ) :

والآن نحاول أن نعرف كيف تخلّص علماء مدرسة أهل البيت من هذه المشكلة وجمعوا بين الأخذ بما ورد في القرآن بالصراحة من اتصال سلطان الله ونفوذه على اختيار عباده وأفعالهم ، وبين تنزيه الله سبحانه من كل ظلم وسوء ، وكلاهما صرّح به القرآن ، وقد رأينا من قبل أنّ الأشاعرة أخذوا بالأولى وفرطوا بالثانية ، والمعتزلة أخذوا بالثانية وفرطوا بالأولى.

التنظير الفلسفي لارتباط الانسان بالله تعالى حدوثاً وبقاءً :

فيما سبق تحدّثنا عن المذهب القرآني في ارتباط الإنسان بالله واستمرار هذا الاتصال والحاجة والفقر إلى الله حدوثاً وبقاءً. وقد رأينا أنّ القرآن يزيل في ذلك كل غشاوة ويثبت بما لا مزيد عليه ، أنّ الإنسان يبقى فقيراً إلى الله تعالى في كل شؤونه وحاجاته وفي كل مراحله ، ولا ينقطع سلطان الله وإرادته وهيمنته وتدبيره عن الإنسان واختياره وفعله في لحظة من اللحظات ... والآن نشير إلى التنظير الفلسفي لهذه المسألة :

١ ـ إستمرار حاجة المعلول إلى العلة في مرحلتي الحدوث والبقاء :

إنّ المفوّضة يبنون رأيهم في استقلال الإنسان عن الله تعالى في الاختيار والفعل على أساس رأي فلسفي في استغناء المعلول عن العلة في مرحلة البقاء ، واقتصار الحاجة إلى العلة في مرحلة الحدوث فقط.

وهذا رأي يذهب إليه بعض المتكلّمين ، ويعتمد هذا الرأي بعض المشاهدات غير العلمية كاستمرار الحركة في الجسم المتحرك بعد انفصال القوّة المحركة عنه ، وبقاء الحرارة في الجسم الذي امتص الحرارة

٥٥

من مصدرها بعد انفصال مصدر الحرارة عنه ، وبقاء البناء بعد أن يكمله البنّاء وذهابه لشأنه ، وما يشبه ذلك.

وإلى هذا الرأى يشير الشيخ ابن سينا في الاشارات : ( وقد يقولون : إنّه إذا وجد فقد زالت الحاجة إلى الفاعل حتى إنّه لو فقد الفاعل جاز أن يبقى المفعول موجوداً كما يشاهدونه من فقدان البنّاء وقوام البناء ، وحتى أنّ كثيراً منهم لا يتحاشا أن يقول : لو جاز على الباري تعالى العدم لما ضرَّ عدمه وجود العالم ، لأنّ العالم عندهم إنّما احتاج إلى الباري تعالى في أن أوجده ، حتى كان بذلك فاعلاً ، فإذا جُعل وحصل له الوجود من العدم فكيف يخرج بعد ذلك الوجود إلى العدم حتى يحتاج إلى الفاعل ) (١) والمفوضة ، بناء على هذا التنظير الفلسفي يذهبون إلى أنّ الانسان يستقل عن الله تعالى بعد أن يخلقه ، ولذلك فهو مستقل في اختياره وفعله عن الله تعالى تماماً.

وهذا رأي باطل لا يقاوم الأدلّة العقلية القطعية التي تقرر بأنّ حاجة المعلول إلى العلة ليس في مرحلة الحدوث فقط بل في الحدوث والبقاء على نحو سواء ، وإذا زالت العلّة زال المعلول تماماً ، فإنّ المعلول قائم بالعلّة وبزوال العلّة يرتفع المعلول إذ ليس للمعلول وجود مستقل غير ما تفيض العلّة على المعلول ( وهو علاقة العلّة بالمعلول ) ومتى انقطعت هذه العلاقة وانتهت هذه الافاضة ينتهي المعلول بطبيعة الحال.

وما يتراءى لنا من النظرة الساذجة الأولى من استمرار وجود المعلول

__________________

(١) البيان في تفسير القرآن ـ المدخل إلى التفسير ، لآية الله السيد أبو القاسم الخوئي : ١٠٢.

٥٦

رغم انفصال العلّة وزوالها مشاهد ابتدائية ساذجة ، لا علاقة لها بحديث العلّة والمعلول وقانون العلّية.

ولا نتوقف هنا أكثر من ذلك في تقرير هذه المسألة ومن يطلب المزيد فيها ففي الاَبحاث الفلسفية إفاضة وسعة في تناول هذه المسألة من الناحية العقلية.

مناهج علماء مدرسة أهل البيت لتفسير ( الأمر بين الأمرين ) :

في ضوء ما سبق لا مجال للتردد في سقوط نظرية التفويض المعتزلية من الناحية القرآنية والناحية العقلية على نحو سواء.

والآن كيف السبيل إلى تقرير نظرية ( الأمر بين الأمرين ) التي تنفي الحتمية في سلوك الإنسان في الوقت الذي تنفي فيه استقلال الإنسان وتفويض أموره إليه ؟

فإنّ نفي استقلال الإنسان ونفي التفويض كما ذكرنا يؤدي بنا ـ بعد التمحيص والتدقيق ـ إلى الالتزام بنسبة المظالم والسيئات إلى الله تعالى ، وهو ما حاول المعتزلة أن يتخلصوا منه.

وليس الاعتراف ب‍ ( الأمر بين الأمرين ) مع إصرار القرآن عليه ممّا يشق على هؤلاء العلماء ، ولكن الذي يشق عليهم هو أنّ يجدوا من خلال هذه النظرية القرآنية التي أعلنها وكشف عنها أهل البيت عليهم‌السلام طريقاً يسلمون فيه من نسبة الظلم إلى الله تعالى كما سلموا من نسبة الشرك.

وهذا ما حاول علماء مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام أن يهتدوا إليه من خلال

٥٧

النصوص الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام في تفسير وتوجيه وتقرير هذه النظرية.

ولدينا مجموعة من المناهج لكنّنا نأخذ من هذه المناهج أشهرها وأوضحها وإليكم شرحاً لهذا المنهج.

تقرير وشرح لنظرية ( الأمر بين الأمرين ) :

التفسير الشهير عند علماء مدرسة أهل البيت يعتمد الأصل الذي شرحنا في ارتباط الوجود كله بالله تعالى بصورة متصلة ومستمرة ، والانسان في هذا الكون ، يرتبط بالله تعالى بالفقر والحاجة ويرتبط به تعالى بالإفاضة والإيجاد. وهذه الإفاضة متصلة ومستمرة ولو أنّها انقطعت لحظة واحدة عن الإنسان لانتهى الإنسان وما بيده وماله ، وإرادة الإنسان ومشيئته وفعله من ذلك. فلولا هذه الإفاضة المتصلة لم يكن للانسان أن يكون أو يريد شيئاً أو يفعل شيئاً ولكن الإنسان هو الذي يريد ويختار. ولولا ذلك لم يفرض عليه الله عملاً. بلى لو أنّ الله قطع عنه فيض الوجود وإمداد القوة والعزم والعقل والوعي والبصيرة والمشيئة والاختيار لم يكن له أن يختار أو يفعل شيئاً ، إلاّ أنّه على كل حال هو الذي يريد ويختار ويفعل وليس يصّح لذلك أن ينسب فعله إلى غيره فهو المسؤول عن فعله.

( ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم ) ( البقرة ٢ : ٢٠ ).

( ولو شاء الله ما فعلوه ) ( الأنعام ٦ : ١٣٧ ).

أرأيت لو أنّ المهندس المسؤول عن مركز انتاج الطاقة الكهربائية فتح

٥٨

التيار الكهربائي على بيت وأبقاه مفتوحاً ليستخدمه فيما ينفعه ... فلو أنّ صاحب البيت أساء استعمال الطاقة الكهربائية وانتحر أو قتل بالتيار الكهربائي شخصاً أو أضرّ به فلا ينسب الفعل إلاّ إليه ، وإن كان هو لا يقدر على شيء من ذلك لو أنّ المهندس المسؤول عن مركز الطاقة الكهربائية قطع التّيار عنه ، أو لم يبقه مفتوحاً على بيته ، إلاّ أنـّه يبقى هو وحده الّذي ينسب إليه الفعل وهو المسؤول عن فعله ، فلا يقال إنّ المهندس المسؤول هو الّذي قتل صاحب البيت ( إذا انتحر ) ولا يكون المهندس المسؤول عن المركز مسؤولاً عن انتحاره. ولعل من أفضل الأمثلة الّتي تذكر في هذا المجال من حيث الدقة العلمية هو المثل الّذي ضربه آية الله المحقّق السيد الخوئي رحمه‌الله.

المثال الّذي استعان به المحقّق السيد الخوئي لتوضيح الأمر :

لنفرض إنساناً كانت يده شلاّء لا يستطيع تحريكها بنفسه ، وقد استطاع الطبيب أن يوجد فيها حركة إرادية وقتية بواسطة قوّة الكهرباء ، بحيث أصبح الرجل يستطيع تحريك يده بنفسه متى وصلها الطبيب بسلك الكهرباء ، وإذا انفصلت عن مصدر القوّة لم يمكنه تحريكها أصلاً ، فإذا وصل الطبيب هذه اليد المريضة بالسلك للتجربة مثلاً ، وابتدأ ذلك الرجل المريض بتحريك يده ، ومباشرة الأعمال بها ، والطبيب يمده بالقوّة في كل آن ، فلا شبهة في أنّ تحريك الرجل ليده في هذه الحال من الأمر بين الأمرين ، فلا يستند إلى الرجل مستقلاً ، لأنه موقوف إلى إيصال القوّة إلى يده ، وقد فرضنا أنّها بفعل الطبيب ولا يستند إلى الطبيب مستقلاً ، لأنّ التحريك قد أصدره الرجل بإرادته ، فالفاعل لم يجبر على فعله لأنه مريد ،

٥٩

ولم يفوّض إليه الفعل بجميع مبادئه ، لأنّ المدد من غيره ، والأفعال الصادرة من الفاعلين المختارين كلّها من هذا النوع.

فالفعل صادر بمشيئة العبد ولا يشاء العبد شيئاً إلاّ بمشيئة الله. والآيات القرآنية كلّها تشير إلى هذا الغرض ، فهي تبطل الجبر ـ الّذي يقول به أكثر أهل السُنّة ـ لأنّها تثبت الاختيار ، وتبطل التفويض المحض ـ الّذي يقول به بعضهم ـ لأنّها تسند الفعل إلى الله.

( وسنتعرّض إن شاء الله تعالى للبحث تفصيلاً ، ولإبطال هذين القولين حين تتعرّض الآيات لذلك ).

وهذا الّذي ذكرناه مأخوذ عن إرشادات أهل البيت عليهم‌السلام (١).

رأي الشيخ المفيد :

ورأي الشيخ المفيد أبي عبد الله محمّد بن محمد بن النعمان رحمه‌الله يقع في هذا الاتجاه من الرأي في تفسير ( الأمر بين الأمرين ).

ويمكننا أن نلّخص رأي الشيخ رحمه‌الله ضمن نقطتين أساسيتين هما ركنا مسألة الأمر بين الأمرين وهما :

١ ـ رفض نسبة أفعال الناس إلى الله :

النقطة الأولى : إنّ أفعال الناس ترجع إلى الناس أنفسهم وليست هذه

__________________

(١) شرح عقائد الصدوق أو ( تصحيح الاعتقاد ) بتعاليق : السيد هبة الدين الشهرستاني : ١٩٧ ـ ٢٠٠ ( المطبعة الحيدرية النجف ١٣٩٣ ه‍ ).

٦٠