الأمر بين الأمرين

الأمر بين الأمرين

المؤلف:


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
الطبعة: ٠
ISBN: 964-319-036-6
الصفحات: ١٠٧
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المركز

الحمدُ لله ربِّ العالمين ، والصلاة والسلام على نبيّنا الأكرم المبعوث رحمةً للعالمين محمد المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين.

إنَّ من المسائل المهمة التي شغلت حَيزاً واسعاً في الفكر الإسلامي ولم تزل ، هي مسألة ( أفعال الإنسان ) ، وبيان نسبة الفعل الصادر عنه ؛ إليه تارةً ، وإلى الله عزّ وجل تارةً ، وإلى الله عزّ وجل والإنسان معاً تارةً اُخرى. والإنسان بحكم ما يمتلكه من عقلٍ وتفكير امتاز بهما عن سائر المخلوقات لا يخلو من أن يفكر ـ حال صدور الفعل عنه ـ في نسبته اليه أو إلى غيره.

تُرى ، هل هو الذي هيّأ مقدماتِ الفعل وأسبابه ووسائله وأدواته بتصميم معين وتصور محدد ، ثم أقدم عليه برغبةٍ وعزم واختيار ؟

أو أنه لم يكن قد خطط ولا أعدّ كل هذا ، وإنّما هكذا بلا أدنى سابقة أقْدَمَ على الفعل وتحقّق منه خارجاً ؟

أو أنَّ هناك نسبة بين هذا وذاك ؟

ومن هنا اختلف المسلمون في تلك المسألة فكانت لهم ثلاثة اتجاهات :

فاعتقد بعضهم أنَّ التفسير المناسب لأفعال الإنسان هو القول ( بالجبر ) وذلك لأجل التحفظ على أُمور في غاية الخطورة لاتصالها بعقيدة المسلم ،

٥

كقدرة الله المطلقة وسلطانه العظيم الواسع ، وكونه عزّ وجل الخالق لكلِّ شيء ولا خالق سواه. مستفيدين هذا بزعمهم من بعض الظواهر القرآنية كقوله تعالى ( واللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) وقوله تعالى : ( اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ ) وغيرها.

وعلى هذا الأساس فالجبرُ يعني نفي أية نسبة بين الإنسان وفعله ، لأنه يكون مسلوب الاختيار في أفعاله ، وإنّ أيّ فعل منه لا يُعدُّ انعكاساً لرغباته وميوله واتجاهاته وما يمتلكه من شخصيةٍ أو ملكات ، إذ ليس له أدنى تأثير في صدور الفعل عنه ، فهو آلة لا غير.

واعتقد آخرون بنقيض ذلك تماماً ، ورأوا أنَّ الحقّ في المسألة هو القول بالاختيار ، وذلك لأجل التحفظ على أمور أُخرى لا تقل خطورةً عن التي تحفّظ عليها الجبريون ، وهو العدل الالهي ، إذ ليس من العدل أن يُؤاخذ العبد على فعلٍ كان مجبوراً عليه ولا طاقة له في تركه.

فهم يرون أنَّ الله عزّ وجل خلقَ العباد وأوجد فيهم القدرة على الأفعال وفوّض إليهم الاختيار فيما يشاؤون أو يدعون من أفعال ، وهذا يعني استقلال العبد في إيجاد الفعل على وفق ما أودع فيه من قدرةٍ وإرادة ، وإنّه ليس لله سبحانه أي أثر في فعل العبد الصادر عنه ، إذ لولا استقلاله بالفعل على سبيل الاختيار لَبطُل التكليف ولكان الثواب والعقاب ظلماً. وقد حاول أصحاب هذا الاتجاه الاِفادة من ظواهر القرآن أيضاً كقوله تعالى : ( وقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى اللهُ عَمَلَكُم ورَسُولُهُ والمُؤمِنُونَ ) وقوله تعالى : ( فَمَن يَعملْ مِثقَالَ ذَرَّةٍ خَيراً يَرَهُ * وَمَن يَعمَلْ مِثقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ).

٦

وذهب اتّجاه ثالث إلى أنّ في آيات القرآن الكريم ما يُضاد القول بالجبر صراحةً ، كقوله تعالى : ( كُلُّ امرىءٍ بما كَسَبَ رَهِينٌ ) وقوله تعالى : ( إنّا هَدَيناهُ السَّبِيلَ إمَّا شَاكِراً وإمَّا كَفُوراً ) وقوله تعالى : ( إنّ هذهِ تَذكِرةٌ فَمَن شَآءَ اتَّخذَ إلى رَبّهِ سَبِيلاً ).

وفي آيات اُخرى ما يبطل الاختيار ، كقوله تعالى : ( فَهَزمُوهُم بإذْنِ اللهِ ) وقوله تعالى : ( وَمَا كانَ لِنفسٍ أن تُؤمِنَ إلاَّ بإذنِ اللهِ ).

ولهذا ، فقد اعتقد أصحاب هذا الاتجاه بقول ثالث وسط بين الجبر والاختيار ، وهو ما يعرف ـ أخذاً من كلمات أئمة أهل البيت عليهم‌السلام الذين هم الأصل فيه ـ ب‍ ( الأمر بين الأمرين ) ، وهو في الوقت نفسه لا يمس قضاء الله تعالى وقدره وسلطانه وعدله ، كما يحافظ أيضاً على نسبة الفعل الصادر عن الإنسان إلى الله تعالى وإلى الإنسان أيضاً ، وأفادوا من بعض الآيات الكريمة كقوله تعالى : ( ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِن اللهِ وَمَا أصَابَكَ مَنْ سَيّئةٍ فَمِنْ نَّفسِكَ ) ، فلو لم تكن هناك صلة بين الخالق وفعل العبد لما صح معنى نسبة الحسنة الصادرة من العبد إلى الله عزّ وجلّ.

وعن الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام : « إنّ الله أرحم بخلقه من أنْ يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم عليها ، والله أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون ».

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : « لا جبر ولا تفويض بل أمرٌ بين أمرين ».

وعن الإمام الرضا عليه‌السلام وقد سمع في مجلسه كلاماً حول الجبر والتفويض فقال : « إنّ الله عزّ وجل لم يطع بإكراه ، ولم يعصَ بغلبة ، ولم يُهمِل العباد في ملكه ، وهو المالك لما ملّكهم ، والقادر على ما أقدرهم عليه ،

٧

فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله عنها صادّاً ، ولا منها مانعاً ، وإن ائتمروا بمعصية فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل ، وإن لم يَحُل وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه ».

وهذا الكتاب الماثل بين يديك ـ عزيزي القارئ ـ يعالج هذه المسألة بعرض اتّجاهاتها الثلاثة ذاكراً أدلتها ، مناقشاً لها في ضوء النصوص القرآنية والسُنّة المطهّرة ودليل العقل ، ووفق منهج علمي حديث في الموازنة ، حتى ينتهي إلى نتائج علمية.

وإذ يُقدِّم مركز الرسالة هذا الكتاب إلى القرّاء الاعزاء يأمل أن يكون قد أسهم في تقديم الحل المناسب لهذه المسألة المعقدة.

والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم

مركز الرسالة

٨

مقدِّمة الكتاب :

منذ أن وعى الإنسان القدرة الخلاّقة التي أبدعت الكون بموجوداته المتنوعة ، ثم ارتبط بالمطلق ( الخالق الأحد ) بدأ يفكر ، وتقفز إلى ذهنه أسئلة متعددة : هل أني أستطيع التحرك والتصرف بعيداً عن سلطان ( الخالق ) ؟ وإلى أي حدٍّ أمتلك حريةً واختياراً فيما أفعل أو أدَعْ من الأشياء ؟ هل إني مسيّر مقهور لا أمتلك إرادة الفعل والترك ، أم أنَّ هناك هامشاً معيناً من حرية الإرادة والاختيار ؟

وإذا كنتُ أمتلكُ قدراً من تلك الحرية والاختيار ، فهل أنَّ ذلك على نحو الاستقلال ، بحيث أستطيع أن أقول : إنّه لا شأن للخالق القادر ولا دخلَ له بما أفعل أو أترك ؟

وإذا كان الأمر كذلك ، فكيف يستقيم ذلك مع الاعتقاد بهيمنة الخالق وسلطانه وقدرته وعلمه ؟

كانت هذه الأسئلة وأمثالها تثارُ من قبل الإنسان سواء كان معتنقاً لدين من الأديان أم لم يكن.

وعلى مرّ التاريخ الفكري للإنسان كانت هناك إجابات متنوعة :

فالفلاسفة حاولوا أن يَحلّوا هذه الاِشكاليات وفق مبانيهم ونظرياتهم الفلسفية.

٩

والنصوص الدينية قدّمت إجابات ، بعضها جاء محدداً واضحاً ( مُحكماً ) وبعضها جاء من قبيل ( المتشابه ) حثّاً للإنسان ؛ لكي يفكر ويتأمل ويحصل على قناعةٍ وجدانية ، شريطة أن لا تتعارض مع ما هو ( محكم ) لا يقبل التأويل.

وأدلى ( أهل الكلام ) والمهتمون بالعقائد بوجهات نظرهم ، فَبَعضُهم استند إلى ظواهر بعض النصوص ، وأفادَ من الدرس الفلسفي ومن المنطق الشكلي ، فذهب إلى القول بالجبر. فالإنسان ـ في نظره ـ كريشةٍ في مهب الريح ، ليس له إرادة ولا قدرة ولا اختيار في الفعل أو الترك ف‍ ( الله خالق كلّ شيء ).

وبعضهم حاول تلطيف هذه الفكرة وجعلها أكثر قبولاً بابتداع نظرية الكسب. فالإنسان يكسب الفعل ، والله هو الخالق ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) مع الاختلاف الشاسع في تفسير عملية الكسب !

وذهب قومٌ إلى حرية الإرادة والاختيار على نحوٍ يشبه الاستقلالية في الفعل أو الترك ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ).

وتميّزت مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام بالقول الوسط المعتدل بين هذه الآراء ـ التي اتّجهت إما إلى اقصى اليمين ( نظرية الجبر ) ، أو إلى أقصى اليسار ( الاختيار المطلق = التفويض ) ـ واشتهرت كلمتهم « لا جبرَ ولا تفويض بل أمرٌ بين أمرين » في هذه المسألة الشائكة.

وشرح أتباع مدرسة أهل البيت هذا الأثر ، وتوسعوا فيه وبرهنوا على صحته ، مستفيدين بذلك من النصوص الدينية قرآناً وسُنّة ، ومن تطور الدرس الفلسفي والمعطيات العلمية للحالة الإدراكية والشعورية للإنسان.

١٠

نعم ، إنّ الإنسان ليشعر شعوراً قوياً لا يعتريه ريبٌ بأنّه ليس مجرد آلة لا يملك زمامَ نفسه. وهذا الشعور يصاحبه إدراك لهذا المعنى لا يقلُّ في وضوحه وتجلّيه عن درجة الوضوح في ذلك الشعور ، ومع ذلك الشعور يمكن أن يُقال بأنه لا يملك الحرية المطلقة في تصميم مسيرته الحياتية ، سواء في المواقف التي يتخذها أم في إدارته لشؤونه العامة والخاصة ، إذ يدرك الإنسان بهذا القدر أو ذاك أنَّ كثيراً من الأمور تفلت من زمام قيادته ، أو تحدث بخلاف رغبته وإرادته.

وهذا الكتاب يتبنّى بسط وجهات النظر المتباينة في هذا الموضوع المثير ، ومناقشتها ، آخذاً بنظر الاعتبار تبسيط العبارة ، واختصار الطريق إلى تحصيل المعاني الواضحة ، مُعتمِداً أهم المصادر وأوثقها.

وقد تقسم البحث على فصول أربعة : تناول في أولها الحتمية التاريخية والحتمية الكونية.

وتناول في الثاني موقف القرآن الكريم من مسألة ( الحتمية ) و ( استقلال الإنسان ).

وفي الثالث تناول مذهب أهل البيت ( الأمر بين الامرين ) متعرضاً إلى جهات الصراع العقيدي في الموضوع.

وفي الرابع والأخير تناول دور أهل البيت عليهم‌السلام في موقع الدفاع عن التوحيد والعدل.

وانتهى الكتاب بخاتمة مناسبة.

ومنه تعالى نستمد العون والتوفيق

١١
١٢

الفصل الأول

الحتمية التاريخية والحتمية الكونية

في التاريخ العقلي الفلسفي نلتقي نظريتين تنطلقان من منطلق الحتمية.

إحداهما : تخص السلوك الانساني ، الفردي والاجتماعي خصوصاً.

والأخرى : تتعلّق بالنظام الكوني عموماً.

فتتجه النظرية الأولى إلى الإيمان بحتمية السلوك الانساني وتعطيل إرادة الإنسان ، وسلب أي دور لارادته في سلوكه.

وتتجه النظرية الثانية إلى تثبيت الحتمية في النظام الكوني بشكل عام ، وتذهب إلى أن الكون كلّه يتحرك ضمن نظام دقيق بموجب قانون العلّية. وهذا النظام يجري ضمن حلقات متسلسلة ، كلّ حلقة منها ترتبط بالحلقة السابقة واللاحقة. ضمن نظام حتمي لا يمكن أن يتغير ولا يمكن أن يتخلف ، ولا يمكن ان تتدخل إرادة أحد ـ مهما كان ـ في تغييره. ولو افترضنا أنّنا اطلعنا على رؤوس هذه الحلقات في النظام الكوني العام ، وأمكننا قراءة التسلسل النظامي لحلقات هذا النظام ، أمكننا التنبؤ بكل ما يجري في الكون من الأحداث إلى أن ينتهي أمد هذا الكون.

١٣

وهاتان النظريتان تجريان في كل من الاتجاهين الفكريين المعروفين ؛ الاتجاه الإلهي ، والاتجاه المادي على نحو سواء.

فإنّ طائفة من الذين يؤمنون بالحتمية في سلوك الإنسان وتاريخه يؤمنون بالله تعالى ، ويذهبون إلى أنّ مصدر هذه الحتمية هو الله تعالى. بينما يذهب آخرون من الاتجاه المعاكس ( الاتجاه المادي ) إلى نفس النتيجة من منطلق قانون العلّية أو النظام الفكري الديالكتيكي.

فيذهب كل من هذين الاتجاهين إلى الحتمية في سلوك الإنسان وتاريخه على نحو سواء.

وكذلك الحتمية الثانية ( الحتمية الكونية ) لا تختص بهذا الاتجاه أو بذلك الاتجاه. فمن الممكن أن يذهب إلى هذه الحتمية أصحاب الاتجاه المادي أو الإلهيون.

واليهود من ( الإلهيين ) الذين يذهبون إلى هذا الاتجاه في الحتمية الكونية. يقول تعالى : ( وقالت اليهود يَدُ الله مغلولة غُلَّت أيديهم ولُعِنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ) ( المائدة ٥ : ٦٤ ).

كما أنّ في المسلمين طائفة واسعة وكبيرة وهم ( الأشاعرة ) يذهبون إلى هذه الحتمية في سلوك الانسان.

والماركسيون من الاتجاه المادي يذهبون إلى هذه الحتمية في تاريخ الإنسان.

١٤

النتائج السلبية لهاتين الحتميتين :

هاتان الحتميتان تؤديان إلى نتائج سلبية في التاريخ العقلي للانسان ، كما تؤديان إلى نتائج سلبية في التاريخ السياسي للانسان. فإنّ النتيجة التي تؤدي إليها هاتان الحتميتان بالضرورة هي افتراض وجود نظام قاهر في الكون، يمتنع على كلّ تعديل وتغيير وتبديل ، وهو بمعنى تعطيل سلطان إرادة الله تعالى ، وعدم الاعتراف بنفوذ سلطانه تعالى على النظام الكوني. هذا في الحتمية الكونية.

والنتيجة الضرورية التي تؤدي إليها الحتمية السلوكية والتاريخية للانسان هي الإيمان بتعطيل ارادة الانسان.

وهاتان نتيجتان خطيرتان تترتبان بالضرورة على هاتين الحتميتين.

الاستغلال السياسي للحتمية التاريخية :

وقد وقع كل من هاتين الحتميتين في موضع الاستغلال السياسي من قبل الحكام والأنظمة بشكل واسع.

فإنّ الإيمان بالحتمية التاريخية والسلوكية يعطّل دور الإنسان الفاعل وإرادته في تغيير ظروفه المعيشية وتاريخه السياسي ، ويحولّه من عنصر فاعل ومؤثر في تغيير حركة التاريخ ، وتغيير ظروفه الاجتماعية والمعيشية إلى عنصر عائم في تيار التاريخ والحياة ، يجري حيث يجري التيار.

وهذا النوع من التفكير ينفع الأنظمة السياسية الاستبدادية عادة.

فلا تكاد تبرز معارضة ظاهرة للنظام السياسي ، في وسط اجتماعي

١٥

يؤمن بالتقدير والحتمية والجبر بهذه الصورة.

ولهذا السبب تلقى النظرية الحتمية في التاريخ تأييداً ودعماً من الأنظمة المعروفة بالاستبداد السياسي غالباً. ويشجع الحكام هذا التوجه الفكري في مسألة القضاء والقدر ليأمنوا من غضب الناس وثورتهم واعتراضهم.

فلا مجال للغضب والسخط والاعتراض لأحد ، إذا كان ما يجري من الظلم وسفك الدماء يجري بقضاء الله وقدره ، ولم يكن لأحد من الناس قدرة في تغييره وتعديله.

بنو أُميّة والحتمية السلوكية والتاريخية :

والمعروف أنّ بني أُميّة كانوا يتبنّون الاتجاه الجبري في تفسير التاريخ والسلوك ويوجهون مايمارسونه من ظلم وتعسف واضطهاد وسلب لبيت المال وحقوقه بأنّ ذلك من قضاء الله تعالى الذي لا رادَّ لقضائه ولا يحق لأحد أن يعترض عليه ، ولا يملك أحد أن يصد عنه.

وكان الحسن البصري يميل إلى مخالفة بني أُميّة في مسألة ( القدر ) ويرى أنّ الناس أحرار في تقرير مصيرهم ، وليس عليهم قضاء حتم من الله تعالى ، وكان يجاهر برأيه هذا أحياناً ، فخوّفه بعضهم بالسلطان.

روى ابن سعد في الطبقات عن أيوب قال : نازلت الحسن في القدر غير مرة ، حتى خوفته من السلطان ، فقال : لا أعود (١).

__________________

(١) طبقات ابن سعد ٧ : ١٦٧.

١٦

والسلطان الذي كان يحكم الناس في عهد الحسن البصري هو سلطان بني أُميّة. ومن هذه الرواية التاريخية يظهر أنّ بني أُميّة كانوا يتبنون مذهب الحتمية التاريخية والسلوكية إلى حدود الارهاب والتعسف.

ومن عجب أنّ أئمّة الشرك كانوا يوجّهون شركهم بالله وعبادتهم للأوثان ودعوتهم إليها بمثل هذه الحتمية.

يقول تعالى عن لسانهم : ( وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلاّ يخرصون ) ( الزخرف ٤٣ : ٢٠ ).

الاستغلال السياسي للحتمية الثانية :

وكما كان للسياسة دور في استغلال دور الحتمية الاُولى ، كذلك استغلت الحتمية الثانية استغلالاً واسعاً ... فإنّ الحتميّة الكونيّة تؤدي بشكل قهري إلى عزل سلطان الارادة الإلهية عن الكون. ولا ينافي ذلك الإيمان بأنّ الله تعالى هو خالق هذا الكون ، فقد كان اليهود يؤمنون بالله تعالى ويؤمنون بأن الله تعالى هو خالق هذا الكون. الا أنـّهم كانوا يعتقدون أنّ هذا الكون يجري ويتحرك بعد أن خلقه الله تعالى ضمن نظام قهري قائم على أساس الأسباب والمسببات ، دون أن يكون لله تعالى أيّ دور في تدبير وادارة الكون ، وبتعبير آخر كانوا يؤمنون بأن الله تعالى هو خالق هذا الكون دون أن يكون له دور في تدبير الكون ، ودون أن يكون مهيمناً عليه ، بينما يؤكد القرآن على صفة الخلق ، والهيمنة ، والتدبير لله تعالى جميعاً ، وفي وقت واحد.

وبقدر ما يضعف في نظر الانسان ، سلطان الله ونفوذه وتأثيره الفعلي

١٧

في الكون تضعف علاقته وارتباطه بالله.

وبقدر ما يضعف إيمان الإنسان بسلطان الله ونفوذه وتأثيره المباشر الفعلي في الكون ، تضعف علاقته بالله ، وبقدر ما تضعف علاقته وارتباطه بالله يضعف هو ، ويضعف حوله وقوته ومقاومته.

وبالعكس ، كلّما يزداد إيمانه بالله تعالى وبتأثيره وهيمنته وسلطانه الفعلي على الكون يزداد ارتباطه بالله وتتوثق علاقته به تعالى. وكلّما توثقت علاقته بالله يزداد قوة وحولاً ، حيث يتصل حوله وقوته بحول الله وقوته ، وتزداد مقاومته وأمله.

وهذا أمر يهم الحكام والأنظمة التي تحكم الناس بالارهاب والاستبداد بطبيعة الحال. هذا أوّلاً.

وثانياً : هذا التصور للحتمية الكونية يعمّق الاحساس بدور المادة والأسباب المادية في نفس الإنسان وعقله أكثر من قيمتها الحقيقية. ويُضعف دور الغيب في نفس الإنسان ووعيه ، ويسطّح الايمان بالغيب في نفس الإنسان دون قيمته الحقيقية ودوره الحقيقي ، بعكس ما يصنعه القرآن.

ففي القرآن نجد اهتماماً كبيراً بالإيمان بالغيب ومحاولة تعميق هذا الايمان وتثبيته وترسيخه في النفس ، في الوقت الذي لا ينتقص القرآن دور المادة وحجمها في الكون ، في طائفة واسعة من الآيات.

وللاِيمان بالغيب تأثير كبير في طريقة تفكير الانسان ، ومنهج حركته ، وفي طموحاته وآماله ، وبالتالي في تحركه وقدرته على تحمل ومواجهة

١٨

الصعاب والمتاعب والتحديات.

وإضعاف الإيمان بالغيب وتسطيحه وترسيخ الإيمان بالمادة وتعميقها بأكثر من قيمتها الحقيقية يضعف دور الإنسان وفاعليته وحركته ، ويؤثّر بصورة مباشرة على طريقة تفكيره.

ويحكي القرآن الكريم عن اليهود الايمان بالحتمية الكونية بهذه الصورة المطلقة ، وسلب كل نفوذ وسلطان لارادة الله تعالى في تغيير مسلسل الأحداث الكونية والتاريخية بالشكل الذي تفرضه الحلقات المتقدمة لهذا المسلسل. يقول تعالى : ( وقالت اليهود يد الله مغلولة غُلَّت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ) ( المائدة ٥ : ٦٤ ).

العلاقة بين الحتميتين :

وهاتان الحتميتان وإن كانتا مختلفتين في الشكل والمضمون إلا أنـّهما تلتقيان وتصبّان في تعطيل دور الإنسان التغييري والقيادي للنظام السياسي والاجتماعي.

فإنّ التغيير يعتمد على أمرين اثنين وهما :

١ ـ إيمان الإنسان بالله تعالى وحوله وقوته وسلطانه ، وتوكّله على الله تعالى ، وثقته به. فإنّ الإنسان إذا أوصل حبله بحبل الله ، وحوله بحول الله ، وقوته بقوة الله تعالى ، إستمد من الله تعالى حولاً وقوةً عظيمين ، واكتسب أملاً وثقة لاحدّ لهما.

ومن دون أن يصل الإنسان حبله بحبل الله لا يمكن أن يملك هذا

١٩

الأمل وهذه الثقة مهما كانت قوته وسلطانه وكفاءته. وإذا فقد الإنسان الأمل والثقة بالله سبحانه وانقطع حبله عن حبل الله ، ضعف إلى حد بعيد عن المواجهة ، ولن يملك في ساحة العمل والحركة ومواجهة التحديات إلاّ حوله وقوته ، وهو حول ضعيف وقوة محدودة.

والايمان بالحتمية الكونية وسلب سلطان الله تعالى في التأثير والنفوذ في مسلسل أحداث الكون ـ على الطريقة اليهودية ـ يفقد الإنسان هذا الارتباط النفسي بالله تعالى ، ويسلب الإنسان الثقة والأمل بالإمداد الغيبي من جانب الله تعالى في حركته وعمله.

٢ ـ إيمان الإنسان بحرية إرادته وقدرته على تغيير مسلسل ( التاريخ ) وتقرير مصيره ومصير التاريخ.

وهذا الايمان يمكّن الإنسان من التحرك والعمل والتغيير ، وبعكس ذلك يفقد الإنسان القدرة النفسية على التحرك والتغيير إذا فقد هذا الإيمان وآمن بأنّ تاريخه ومصيره قد كُتب من قبل بصورة حتمية ، ولا سبيل لتغييره وتبديله ، وإنّه عجلة ضمن جهاز كبير يتحرك ويعمل دون أن يملك من أمر حركته وعمله ومن أمر تاريخه ومصيره شيئاً.

وبهذا يتّضح أنّ الايمان بهاتين الحتميتين ، يحجب الإنسان عن الله تعالى وعن نفسه وإمكاناته ، ويسلبه ( الأمل ) و ( الحرية ) في الحركة والقرار.

وبذلك يتحول الإنسان إلى خشبة عائمة في مجرى الأحداث والتاريخ.

٢٠