موسوعة الإمام الخوئي - ج ١٢

الشيخ مرتضى البروجردي

[١٢٥٢] مسألة ٣ : لو ترك استقبال الميت وجب نبشه ما لم يتلاش ولم يوجب هتك حرمته ، سواء كان عن عمد أو جهل أو نسيان كما مرّ سابقاً (١).

______________________________________________________

(١) تقدّم في محلّه وجوب الاستقبال بالميت في قبره (١) ومقتضى الإطلاق عدم الفرق بين دفنه وعدمه ، وعليه فمع الدفن جهلاً أو نسياناً أو عصياناً يجب النبش مقدمة للاستقبال الواجب ولا يعارضه دليل حرمة النبش ، فإنّه لبّي وهو الإجماع المستند إلى الهتك والمتيقّن منه غير المقام ، فإطلاق الدليل الأول محكّم ، على أنّه لا هتك في مثل هذا النبش كما لا يخفى.

نعم ، يستثني من ذلك موردان :

أحدهما : ما لو تلاشى الميت فإنّه لا مقتضي حينئذ للنبش ليستقبل به ، لعدم صدق عنوان الميت الذي هو موضوع للحكم ، وإنّما هي عظام مجتمعة ، على أنّه مع التلاشي يتعذر استقباله.

الثاني : ما لو استلزم النبش هتك حرمته الذي هو حرام بلا إشكال ، فإنّ حرمة المؤمن ميتاً كحرمته حياً ، وقد دلّت النصوص الكثيرة على حرمة إيذاء المؤمن وهتكه (٢) فتقع المزاحمة حينئذ بين وجوب الاستقبال به وحرمة هتكه ، ولا شك أنّ الثاني أهم ، لا أقلّ من كونه محتمل الأهمية فيقدّم ، والله سبحانه أعلم.

__________________

(١) شرح العروة ٩ : ٢٩٥.

(٢) الوسائل ١٢ : ٢٦٤ / أبواب أحكام العشرة ب ١٤٥ ١٤٨ وغيرها.

٦١

فصل

في الستر والساتر

اعلم أن الستر قسمان : ستر يلزم في نفسه ، وستر مخصوص بحالة الصلاة.

فالأوّل : يجب ستر العورتين (١) القبل والدبر على كلّ مكلّف من الرجل والمرأة عن كلّ أحد من ذكر أو أنثى ولو كان مماثلاً ، محرماً أو غير محرم ويحرم على كلّ منهما أيضاً النظر إلى عورة الآخر ، ولا يستثني من الحكمين إلا الزوج والزوجة ، والسيد والأمة إذا لم تكن مزوجة ولا محلّلة (*) ، بل يجب الستر عن الطفل المميز خصوصاً المراهق ، كما أنّه يحرم النظر إلى عورة الطفل المراهق ، بل الأحوط ترك النظر إلى عورة المميّز ، ويجب ستر المرأة تمام بدنها عمن عدا الزوج والمحارم (٢) إلا الوجه والكفين مع عدم التلذذ والريبة ، وأمّا معهما فيجب الستر ويحرم النظر حتى بالنسبة إلى المحارم وبالنسبة إلى الوجه والكفين.

______________________________________________________

(١) تقدّم الكلام حول وجوب ستر العورتين على كل مكلف من كلّ ناظر وكذا حرمة النظر إليهما في أحكام الخلوة فلاحظ (١).

(٢) ينبغي التكلّم في جهات :

الاولى : لا إشكال في وجوب ستر المرأة تمام بدنها مع قطع النظر عن الوجه والكفين عمن عدا الزوج والمحارم إجماعاً ، بل وضرورة. ويدلّ عليه من الكتاب قوله تعالى : ( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ

__________________

(*) بل ولا ذات عدة.

(١) شرح العروة ٤ : ٣١٦ فما بعد.

٦٢

إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ ... ) (١) ، وقوله تعالى (٢) ( وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ ) (٣).

أمّا الأُولى فدلالتها ظاهرة ، وقد ورد في صحيح الفضيل تفسيرها بأنّ ما دون الخمار وما دون السوار من الزينة (٤) ، وكذا الثانية ، فان نفي الجناح عن القواعد خاصة يقتضي ثبوته لغيرهن ، بل المراد بالثياب خصوص الخمار والجلباب كما ورد في تفسيرها في صحيح الحلبي وغيره (٥) ، فلا يجوز وضع غيرهما للقواعد أيضاً.

ومن السنّة جملة وافرة من النصوص الواردة في الموارد المتفرقة كما لا تخفى على المراجع ، التي منها صحيح البزنطي عن الرضا عليه‌السلام قال : « سألته عن الرجل يحلّ له أن ينظر إلى شعر أُخت امرأته؟ فقال : لا ، إلا أن تكون من القواعد ، قلت له : أُخت امرأته والغريبة سواء؟ قال : نعم ... » إلخ (٦).

الجهة الثانية : يستثني عمّن يجب تستر المرأة عنه الزوج والمحارم ، بلا خلاف ولا إشكال كما صرح به في الآية الأُولى. نعم ، لم يذكر في الآية الأعمام والأخوال والأصهار مع أنّهم من المحارم بلا إشكال. لكن يدلّ عليه مضافاً إلى السيرة القطعية أنّه يمكن استفادة حكم الأوّلين من نفس الآية المباركة لاستثناء ابني الأخ والأُخت فيها المقتضي لاستثناء العم والخال أيضاً ، لوحدة النسبة من الطرفين ، فإنّ المرأة إذا لم يجب تستّرها عن ابن أخيها وابن أُختها‌

__________________

(١) النور ٢٤ : ٣١.

(٢) لعلّ التعبير بـ ( لا يَرْجُونَ ) بدل لا يرغبن إشارة إلى أنّ القواعد لا زلن راغبات في النكاح ولا يكرهنه قط. نعم ، ربما يئسن من أن يرغب فيهن أحد ، فهنّ لا يرجون النكاح حينئذٍ لا أنّه لا يرغبن فيه.

(٣) النور ٢٤ : ٦٠.

(٤) الوسائل ٢٠ : ٢٠٠ / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب ١٠٩ ح ١.

(٥) الوسائل ٢٠ : ٢٠٢ / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب ١١٠ ح ٢ وغيره.

(٦) الوسائل ٢٠ : ١٩٩ / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب ١٠٧ ح ١.

٦٣

وهي عمة له أو خالة لم يجب تستّرها عن عمها وخالها أيضاً ، لوحدة النسبة بعينها ، وإنّما التبدل في طرفيها فكأنّه استغني عن ذكر الأخيرين في الآية المباركة اعتماداً على الأوّلين.

وأمّا الصهر فيمكن استفادة الحكم بالنسبة إليه أعني عدم وجوب تستر المرأة عن زوج ابنتها مضافاً إلى ما عرفت من السيرة القطعية المتصلة بزمن المعصومين عليهم‌السلام من الأخبار الكثيرة المتضمنة أنّ المرأة الميتة يغسّلها محارمها (١) فإنّها تدلّ على جواز نظر المحارم إلى المرأة المستلزم لعدم وجوب تسترها منهم ، ولا شك أنّ الصهر من المحارم كما يشهد به قوله تعالى ( وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ ) (٢) بل يمكن الاستدلال بهذا الوجه بالنسبة إلى الأعمام والأخوال كما هو ظاهر.

الجهة الثالثة : لا إشكال في عدم جواز النظر إلى كلّ امرأة حتى المحارم ما عدا الزوجة والمملوكة أي إلى جزء من بدنها حتى الوجه والكفين إذا كان عن شهوة وريبة ، بل بلا خلاف في ذلك على ما ذكره شيخنا الأنصاري في كتاب النكاح (٣) ، بل لعلّه من ضروريات الفقه. وتشهد له جملة من النصوص.

منها : موثقة علي بن عقبة عن أبيه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سمعته يقول : النظرة سهم من سهام إبليس مسموم ... » إلخ (٤) رواها الكليني بسنده إلى عقبة والسند صحيح ، ورواها الصدوق أيضاً بإسناده عن هشام بن سالم عن عقبة (٥) وطريقه إلى هشام صحيح (٦). إنّما الكلام في عقبة بنفسه ، فإنّه‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٥١٦ / أبواب غسل الميت ب ٢٠ ، ٢١ ، ٢٢.

(٢) النساء ٤ : ٢٣.

(٣) كتاب النكاح : ٥٣.

(٤) الوسائل ٢٠ : ١٩٠ / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب ١٠٤ ح ١ ، الكافي ٥ : ٥٥٩ / ١٢.

(٥) الوسائل ٢٠ : ١٩٢ / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب ١٠٤ ح ٥ ، الفقيه ٤ : ١١ / ٢.

(٦) الفقيه ٤ ( المشيخة ) : ٨.

٦٤

لم يوثق لكنه مذكور في سند كامل الزيارات فالرواية موثقة (١).

كما أنّ الدلالة أيضاً ظاهرة ، فانّ المراد بالنظرة الموصوفة بالسهم هي الصادرة عن شهوة والتذاذ وريبة وافتتان التي ربما تؤدي إلى الوقوع فيما هو أعظم ، فهي سهم مسموم لكونها معرضاً للفتنة ، فانّ خوف الفتنة المأخوذ في كلمات الأصحاب ملازم للريبة والشهوة ، فإنّها التي توقع الإنسان في خطر الافتتان دون غيرها ، وإن كانت الشهوة أعم ، فقد ينظر إلى المرأة الشخيصة أو العفيفة بشهوة مع الأمن عن الوقوع في الزنا ، لعدم القدرة عليه.

وبالجملة : الافتتان ملازم للالتذاذ [ والريبة ] المذكورين في كلماتهم. فالنظرة عن الشهوة المستفاد حرمتها من الصحيحة تقتضي تحريم ما يخاف منه الفتنة أيضاً كما هو ظاهر.

ويؤيده الروايات الكثيرة وإن لم تصح أسانيدها الدالة على أنّ زنا العين النظر ، التي منها المرسل : « ما من أحد إلا وهو يصيب حظّا من الزنا ، فزنا العينين النظر ، وزنا الفم القبلة ، وزنا اليدين اللمس ... » إلخ (٢) فانّ التعبير عنه بالزنا لمكان شهوته ، فكأن النظر مرتبة نازلة من الزنا.

ومنها : صحيحة علي بن سويد قال « قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : إنّي مبتلى بالنظر إلى المرأة الجميلة فيعجبني النظر إليها ، فقال : يا علي لا بأس إذا عرف الله من نيّتك الصدق ، وإيّاك والزنا فإنّه يمحق البركة ويهلك الدين » (٣) دلّت على حرمة النظر إذا لم تكن نيته الصدق بأن كان عن شهوة وريبة.

وقد احتمل الشيخ (٤) ونعم الاحتمال أنّ المراد بالابتلاء توقف شغله وكسبه على النظر إلى النساء كمن يبيع حاجيات النسوان مثل البزاز ونحوه‌

__________________

(١) حسب النظر السابق المعدول عنه.

(٢) الوسائل ٢٠ : ١٩١ / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب ١٠٤ ح ٢.

(٣) الوسائل ٢٠ : ٣٠٨ / أبواب النكاح المحرم وما يناسبه ب ١ ح ٣.

(٤) في كتاب النكاح : ٥٤.

٦٥

وقوله : « يعجبني » أي بحسب الطبع البشري ، فإنّ الإنسان يسرّه بالطبع النظر إلى كل شي‌ء جميل ، سواء كان إنساناً أم حيواناً أم جماداً كالوردة أو المجسمة البديعة أو التصوير الجميل ، فأجابه عليه‌السلام بعدم البأس إذا لم يكن بقصد الريبة والشهوة المنبعثة عن الغريزة الجنسية.

وكيف كان ، فالصحيحة دالّة على حرمة النظر مع عدم كون النية صادقة كما عرفت ، هذا مع أنّ الحرمة في هذا الفرض من مسلّمات الفقه وضرورياته كما مرّ ، فلا إشكال في ذلك.

الجهة الرابعة : في حرمة النظر إلى بدن الأجنبية ما عدا الوجه والكفين وإن لم يكن بقصد الريبة إلا في الموارد الخاصة المنصوصة من العلاج وغيره.

ويدلّ عليه مضافاً إلى الإجماع ، بل الضرورة كما ذكره شيخنا الأنصاري (١) أُمور :

الأول : قوله تعالى ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ) (٢) فانّ المراد بالزينة مواضعها كما مرّ (٣) ، ولا شك أنّ الإبداء في نفسه ولو من غير ناظر لا حرمة فيه ، بل هي خاصة بوجود الناظر ، وإذا حرم تحريم الإبداء حينئذ حرم النظر أيضاً لا محالة للملازمة بينهما. نعم ، تحريم النظر لا يدل على تحريم الإبداء ، فيمكن أن يكون النظر حراماً ولم يكن التستّر واجباً على المنظور إليه ، فإنّ نظر المرأة إلى بدن الرجل حرام ولم يجب تستره منها ، كما أنّ نظر الرجل إلى الأمرد عن شهوة حرام ولم يجب تستره منه ، إذ كل منهما يعمل على وظيفته ، لكن وجوب التستر وحرمة الإبداء يلازم حرمة النظر ، وإلا فلو جاز لم يكن مقتضٍ لوجوب الستر.

الثاني : قوله تعالى ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ... ) إلخ (٤) فإنّ‌

__________________

(١) كتاب النكاح : ٤٤.

(٢) النور ٢٤ : ٣١.

(٣) في ص ٦٣.

(٤) النور ٢٤ : ٣٠.

٦٦

الآية المباركة في حدّ نفسها ولا سيما بملاحظة شأن نزولها من قصة الشاب الأنصاري المروية في حديث سعد الإسكاف عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « استقبل شاب من الأنصار امرأة بالمدينة وكان النساء يتقنّعن خلف آذانهن فنظر إليها وهي مقبلة ، فلما جازت نظر إليها ودخل في زقاق قد سماه ببني فلان فجعل ينظر خلفها ، واعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشقّ وجهه ، فلما مضت المرأة نظر فاذا الدماء تسيل على ثوبه وصدره ، فقال : والله لآتينّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولأُخبرنّه ، فأتاه ، فلما رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ما هذا؟ فأخبره ، فهبط جبرئيل بهذه الآية ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا ... ) إلخ » (١) ظاهرة في المطلوب كما لا يخفى.

الثالث : قوله تعالى ( وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً .. ) إلخ (٢) فانّ التخصيص بالقواعد يدلّ على ثبوت البأس لغير القواعد ، فيجب عليهن التستر ، وقد تقدم أنّ وجوب التستر يلازم حرمة النظر وإن لم يكن الأمر بالعكس.

وتدلّ عليه أيضاً الروايات الكثيرة الواردة في تفسير الآية المباركة (٣).

الرابع : صحيح البزنطي المانع من النظر إلى شعر أُخت الزوجة ، وقد تضمّن أنّها والغريبة سواء (٤) فانّ مقتضى الإطلاق فيها كالآيات المتقدمة عدم الفرق بين قصد التلذذ وعدمه.

الخامس : موثقة عباد بن صهيب قال : « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : لا بأس بالنظر إلى رؤوس أهل تهامة والأعراب وأهل السواد والعلوج ، لأنهم إذا نهوا لا ينتهون ... » إلخ (٥) كذا ذكره في الوسائل.

__________________

(١) الوسائل ٢٠ : ١٩٢ / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب ١٠٤ ح ٤.

(٢) النور ٢٤ : ٦٠.

(٣) الوسائل ٢٠ : ٢٠٢ / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب ١١٠.

(٤) الوسائل ٢٠ : ١٩٩ / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب ١٠٧ ح ١.

(٥) الوسائل ٢٠ : ٢٠٦ / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب ١١٣ ح ١.

٦٧

والصحيح : لأنّهن إذا نهين لا ينتهين كما في الوافي (١).

وكيف كان ، فمقتضى التعليل حرمة النظر إلى رؤوس غير من ذكر في الخبر ممن تنتهي إذا نهيت ، فكأنه يستفاد منها أنّ حرمة النظر لأجل أنّ المؤمنة لها حق على المؤمن وهو أن لا ينظر إليها فيهتك حرمتها ، فأما إذا ألقت المرأة جلبابها وألغت احترامها وأسقطت حقها بحيث كلّما نهيت لا تنتهي فلا حرمة لها ، نظير إلغاء الإنسان احترام ماله ، فتدلّ على عدم جواز النظر إلى العفيفات اللاتي ينتهين إذا نهين.

الجهة الخامسة : في النظر إلى الوجه والكفين بدون قصد الريبة. أمّا معه فلا إشكال في الحرمة كما مرّ في الجهة الثالثة. والمشهور ذهبوا إلى الحرمة ، وأصرّ عليه في الجواهر (٢) ، وذهب شيخنا الأنصاري قدس‌سره (٣) وجماعة إلى الجواز ، وفصّل بعضهم بين النظرة الأُولى فتجوز دون الثانية جمعاً بين الأدلّة ، وأمّا الماتن فقد احتاط فيه وجوبيّاً في المقام وفي كتاب النكاح (٤).

وكيف كان ، فينبغي التعرض أوّلاً لما استدلّ به للمشهور ، فان تم وإلا فيحكم بالجواز أو يحتاط. وقد استدلّ لهم بوجوه من الأدلّة الأربعة :

الأول : قوله تعالى ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ .. ) إلخ (٥) فانّ وجوب الغض مطلق يشمل الوجه والكفين ، فلا يجوز النظر إلى أي جزء من بدن الأجنبية كما لا يجوز لها النظر إلى الأجنبي.

وفيه أولاً : أنّ الآية غير ظاهرة في تحريم النظر ، لعدم ظهور الغض في الغمض ، بل لا يبعد أن يكون المراد التجاوز عن المرأة وعدم القرب منها والإعراض عنها المعبّر عنه بالفارسية بـ ( چشم ‌پوشي ) وهذا استعمال دارج في‌

__________________

(١) لاحظ الوافي ٢٢ : ٨٢٩ / ٢٢٢٧٦ [ فإنه مطابق لما ذكر في الوسائل ].

(٢) الجواهر ٢٩ : ٧٧.

(٣) كتاب النكاح : ٤٦ ٤٩.

(٤) العروة الوثقى ٢ : ٥٨٢ المسألة ٣١ [٣٦٦٣].

(٥) النور ٢٤ : ٣٠.

٦٨

العربية وغيرها ، فيكون كناية عن الكف عن الزنا ، المساوق لقوله تعالى ( وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ) (١).

وبعبارة اخرى : بعد امتناع حمل الغض على معناه المطابقي وهو إطباق الجفنين وغمض العينين ، لعدم وجوب ذلك بالضرورة ، يدور ذلك الأمر بين كونه كناية عن أحد معنيين : إما المنع عن إيقاع النظر على المرأة ، بأن يصرف نظره عنها فينظر إلى الفوق أو التحت من السماء أو الأرض أو أحد الجانبين ، تحفظاً عن وقوع النظر عليها. وإما إرادة الإعراض عنها وعدم الدنو منها ، بأن لا يعقّبها ولا يتصدّى لمقدمات الوقوع في الحرام وهو الزنا ، فيكفّ بصره عنها بتاتاً كما عرفت ، وليس المعنى الأول الذي هو مبنى الاستدلال أولى من الثاني لو لم يكن الأمر بالعكس.

وثانياً : مع الغض عما ذكر وتسليم ظهور الآية المباركة في المنع عن النظر فلا ريب في عدم إمكان الأخذ بإطلاقه ، لجواز النظر إلى كثير من الموجودات من السماء والأرض والشجر والحجر والمدر وسائر الأجسام. وتخصيصها بها بحيث لا يبقى تحت الإطلاق إلا الأجنبية يوجب تخصيص الأكثر القبيح الذي هو من مستهجن الكلام جدّاً ، سيما في المقام الذي لا يبقى تحت العام إلا فرد واحد ، فانّ مثل هذا الكلام لا يكاد يصدر عن الفرد العادي فما ظنك بالقرآن المعجز ، فلا بد وأن يكون المراد بالآية المباركة غض البصر عما حرّمه الله ، فيتوقّف ذلك على إثبات الحرمة من الخارج ، والقدر الثابت ما عدا الوجه والكفين من الأجنبية فلا يمكن الاستدلال بالآية لتحريم النظر إليها منها.

وبالجملة : الأمر بالغض في الآية إرشاد إلى ترك النظر إلى ما ثبتت حرمته بدليله ، فهي مجملة بالإضافة إلى الوجه والكفين ، فلا يمكن الاستدلال بها للمقام كما هو ظاهر.

__________________

(١) النور ٢٤ : ٣٠.

٦٩

الثاني : قوله تعالى ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ .. ) إلخ (١) دلّت على حرمة الإبداء الملازم لعدم جواز النظر كما مرّ (٢) وإطلاقه يشمل الوجه والكفين.

وفيه : أنّه قد استثني في نفس الآية الزينة الظاهرة ، قال تعالى ( إِلاّ ما ظَهَرَ مِنْها ) ولا ينبغي الإشكال في عدم كون المراد من الزينة نفسها من الثياب ونحوها ، لعدم المانع من إظهارها في حد نفسها بالضرورة ، مضافاً إلى بعد هذا المعنى عن سياق الآية في حدّ نفسه ، بل المراد مواضعها أعني البدن نفسه كما فسرت بذلك في جملة من النصوص ، ومن الواضح أنّ الوجه والكفين من أظهر المصاديق لمواضع الزينة الظاهرة المستثناة في الآية.

مضافاً إلى التصريح به في جملة من النصوص المتضمنة أنّ الزينة الظاهرة ما دون الخمار وما دون السوارين (٣) ، وهي صحيحة الفضيل ، ونحوها موثّقة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن قول الله ( عز وجل ) ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ ما ظَهَرَ مِنْها ) قال : الخاتم والمسكة وهي القُلْب » (٤) أي السوار فانّ النظر إلى الخاتم لا ينفك عن النظر إلى الكف.

وسند الرواية صحيح ما عدا سعد بن مسلم (٥) فإنّه لم يذكر عنه شي‌ء في الرجال إلا أنّه قائد أبي بصير ، لكنّه مذكور في سند كامل الزيارات ، بل إنّ هذا السند بعينه مذكور هناك أي محمد بن يعقوب عن الحسين بن محمد عن أحمد ابن إسحاق عن سعد بن مسلم عن أبي بصير والمراد بالحسين بن محمد الحسين بن محمد بن عامر أو عمران الأشعري القمي ، وهو ثقة. وبالجملة‌

__________________

(١) النور ٢٤ : ٣١.

(٢) في الجهة الرابعة ، الأمر الأول.

(٣) الوسائل ٢٠ : ٢٠٠ / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب ١٠٩ ح ١.

(٤) الوسائل ٢٠ : ٢٠١ / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب ١٠٩ ح ٤.

(٥) [ في المصدر الكافي ٥ : ٥٢١ / ٤ سعدان بن مسلم ، وراجع معجم رجال الحديث : ٩ : ١٠٤ / ٥٠٩٩ ].

٧٠

فالرواية موثقة.

ونحوها موثقة مسعدة بن زياد ، قال : « سمعت جعفراً وسئل عما تظهر المرأة من زينتها ، قال : الوجه والكفين » (١).

وبالجملة : فالاستثناء عن ذلك يقتضي جواز النظر إلى الوجه والكفين لدخولهما في المستثنى دون المستثنى منه ، فالآية على خلاف المطلوب أدلّ كما لا يخفى.

الثالث : قوله تعالى ( وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً ) إلخ (٢) دلت على المنع عن وضع الثياب بالنسبة إلى غير القواعد فيجب التستر عليهن وذلك يدل بالملازمة على حرمة النظر كما مرّ (٣) وإطلاقه يشمل الوجه والكفين.

وفيه : أن المراد بالثياب الخمار والجلباب كما فسرت بذلك في غير واحد من الأخبار (٤) فيجوز النظر إلى شعورهن ورؤوسهن ، وأما غير القواعد فلا يجوز النظر الى مثل ذلك منهنّ. وأما الوجه والكفان فلا تعرّض لهما في الآية نفياً وإثباتاً.

وبالجملة : غاية ما يستفاد من الآية عدم جواز النظر إلى شعر غير القاعدة ورأسها الذي هو موضع للخمار والجلباب ، وأمّا الوجه والكفان فالآية ساكتة عن حكم النظر إليهما.

فتحصّل : أنّ الآيات التي استدلّ بها للقول بالحرمة كلّها قاصرة الدلالة.

الرابع : الإجماع الذي ادّعاه الفاضل المقداد ، حيث ذكر إطباق الفقهاء على أنّ المرأة بتمامها عورة فلا يجوز النظر إليها (٥).

وفيه : مضافاً إلى أنّه إجماع منقول ، أنّ دعواه موهونة في المقام إذا أراد به ما‌

__________________

(١) الوسائل ٢٠ : ٢٠٢ / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب ١٠٩ ح ٥.

(٢) النور ٢٤ : ٦٠.

(٣) في الجهة الرابعة ، الأمر الأول.

(٤) الوسائل ٢٠ : ٢٠٢ / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب ١١٠.

(٥) لاحظ التنقيح الرائع ٣ : ٢٢.

٧١

يعم الوجه والكفّين ، لذهاب جماعة من المحققين كالشيخ الطوسي (١) على ما نسب إليه والشيخ الأنصاري (٢) وغيرهما إلى الجواز ، ومعه كيف يمكن دعوى الإطباق والاتفاق. وإن أراد به دونهما فهو مسلّم ، لكنه لا ينفع للمقام وأجنبي عن محل الكلام. فهذه الدعوى على تقدير غير صحيحة وعلى التقدير الآخر غير مفيدة.

الخامس : قيام السيرة العملية من المتشرعة المتصلة بزمن المعصومين عليهم‌السلام على التستر عن الأجنبي الكاشف عن وجوبه الملازم لحرمة النظر كما مرّ.

وفيه أوّلاً : أنّ السيرة ممنوعة من أصلها ، سيما في مثل القرى والقصبات والبلدان أيضاً ، بل لعلّ السيرة في هذه الموارد قائمة على العكس كما لا يخفى نعم لا نضايق من تحققها بالإضافة إلى النساء المجلّلات في البلدان الكبار ، وأمّا على سبيل العموم فكلا ، فهي مختصة بطائفة من النساء في بعض البلاد.

على أنّه يمكن منع السيرة هنا أيضاً ، فإنّ المجللات إنّما يتسترن عن الأجانب المحض ، دون الأقارب وإن لم يكونوا محارم كزوج الأُخت أو أخي الزوج أو ابن العم ونحوهم ممن يسكنون في دار واحدة معها ، فإنهنّ لا يتسترن غالباً عن مثل هؤلاء الأقارب مع أنّهم أجانب شرعيين وإن لم يكونوا كذلك عرفاً. ومن المعلوم عدم الفرق في وجوب الستر عن الأجنبي بين العرفي والشرعي كما يفصح عنه الصحيح المتقدم (٣) الوارد في شعر أُخت المرأة المتضمّن أنّها والغريبة سواء. فيظهر أنّ السيرة في موردها إنّما هي لجهة أُخرى لا للمنع الشرعي ، وإلا كان مقتضاها عدم الفرق بين الموارد كما عرفت.

وثانياً : لو سلّم فلم يحرز الاتصال ، لاحتمال أن يكون المستند في ذلك فتوى المشهور بحيث لم تكن السيرة قبل صدور الفتوى منهم ، فلم تتصل إلى زمن‌

__________________

(١) المبسوط ٤ : ١٦٠.

(٢) كتاب النكاح : ٤٦ ٤٩.

(٣) في ص ٦٣.

٧٢

المعصومين عليهم‌السلام كي يحتج بها لأجل عدم ردعهم عليهم‌السلام عنها.

وثالثاً : على فرض الاتصال فسيرة المتدينين أعم من وجوب التستر ، فإنّ السيرة القائمة على فعل غايته الدلالة على عدم حرمته ، كما أنّ القائمة على الترك غايته الدلالة على عدم وجوبه ، لا الدلالة على الوجوب في الأول والتحريم في الثاني كما لا يخفى. ففي المقام غاية ما تدلّ عليه السيرة القائمة على التستر جوازه دون وجوبه كما ادّعي.

السادس : حكم العقل بذلك ، وتقريره : أنّ من الظاهر أنّ محاسن المرأة عمدتها في وجهها ، وبما أنّ النظر إليها يؤدي إلى الزنا غالباً ويوصل إلى مبغوض الشارع كثيراً ، لكونه معرضاً للافتتان فالعقل يحكم بعدم جواز النظر إلى الوجه على الإطلاق حسماً لمادة الفساد.

وفيه : أنّ هذا الوجه إنّما يحسن تقريره حكمة للتشريع ، التي لا يجب فيها الاطّراد بعد الفراغ عن ثبوت الحكم أعني حرمة النظر إلى الوجه على الإطلاق من الخارج ، فيحكم بعدم جواز النظر حتى بدون الريبة ، لعدم لزوم الاطّراد في الحكمة ، نظير حكم الشارع بالاعتداد لحكمة عدم اختلاط المياه غير المطّردة في جميع الموارد.

وأمّا استكشاف الحكم الشرعي من نفس هذا الوجه على الإطلاق فكلاّ ، لما مرّ غير مرة من عدم الطريق إلى كشف ملاكات الأحكام من غير ناحية الأمر أو النهي ، فلا سبيل للعقل لإدراك الملاك التام المستتبع لحرمة النظر ، وما ذكر وجه اعتباري لا يصلح أن يكون علة للحكم ، وإلا كان لازمه المنع عن النظر إلى بعض المحارم ، فانّ النظر إلى بعضهم وإن كان مأموناً عن الافتتان كالأُم والبنت والأُخت بحيث لا يكاد يتفق النظر إليهنّ عن شهوة لكن البعض الآخر ليس كذلك ، كالأُخت من الرضاعة وأُم الزوجة ونحوهما ممن يتطرّق احتمال اللالتذاذ في النظر إليهن وكذا بالنسبة إلى الأمرد ، فاللازم المنع عن النظر في جميع ذلك حسماً لمادة الفساد ، لكون النظر في هذه الموارد أيضاً‌

٧٣

معرضاً للافتتان غالباً كما ذكر ، وهو كما ترى.

وبالجملة : فلا يمكن الاستناد إلى هذا الوجه العقلي في الحكم بعدم جواز النظر إلى الأجنبية حتى مع الأمن عن الفتنة وعدم كونه بقصد الشهوة والريبة الذي هو محلّ الكلام كما لا يخفى.

السابع : الروايات المتضمنة لجواز النظر إلى المرأة لمن يريد تزويجها ، وأحسنها سنداً ودلالة للمقام صحيحة هشام وحمّاد وحفص كلّهم عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : لا بأس بأن ينظر إلى وجهها ومعاصمها إذا أراد أن يتزوجها » (١) ، حيث دلّت بالمفهوم على عدم جواز النظر إلى الوجه والمعاصم وهي الكفّان أو السواران المستلزم للنظر إلى الكفين إذا لم يكن من قصده التزويج.

وفيه أولاً : أنها أجنبية عما نحن فيه ، لأنّ النظر المحكوم فيها بالجواز هو النظر عن شهوة والتذاذ على ما يقتضيه طبع النظر بقصد الزواج ، فانّ الناظر حينئذ يفكّر في أمور ، لأنّه يشتريها بأغلى الثمن كما عبّر بذلك في بعض النصوص (٢) ، فيتأمل في محاسنها وجمالها نظر شهوة وتهييج كي تحصل له الرغبة في التزويج ، فمفهومها المنع عن مثل هذا النظر لو لم يكن لهذه الغاية. وأين ذلك من النظر الساذج العاري عن الشهوة والريبة الذي هو محلّ الكلام.

ويؤكّد ما ذكرناه ويؤيّده : رواية الحسن بن السريّ ، قال « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يريد أن يتزوج المرأة يتأملها وينظر إلى خلفها وإلى وجهها ، قال : نعم ، لا بأس أن ينظر الرجل إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها ينظر إلى خلفها وإلى وجهها » (٣) فانّ التعبير بالتأمّل غير المنفك عن التلذذ كالصريح فيما ذكرناه.

نعم ، لا يخلو سند الرواية عن الضعف ولذا ذكرناها بعنوان التأييد لمكان الحسن بن السري ، فإنّه لم تثبت وثاقته ، نعم وثقه العلامة في‌

__________________

(١) الوسائل ٢٠ : ٨٨ / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب ٣٦ ح ٢ ، ١ ، ٣.

(٢) الوسائل ٢٠ : ٨٨ / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب ٣٦ ح ٢ ، ١ ، ٣.

(٣) الوسائل ٢٠ : ٨٨ / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب ٣٦ ح ٢ ، ١ ، ٣.

٧٤

الخلاصة (١) وابن داود (٢) لكن من المعلوم أنّ المستند في توثيقهما هو النجاشي ، إلا أنّ توثيق النجاشي إيّاه غير معلوم ، فإنّه وإن ذكر الفاضل التفريشي عن بعض معاصريه أنّه وجد توثيقه في بعض نسخ النجاشي ، لكن التفريشي اعترف بنفسه بخلو نسخ أربع من النجاشي التي هي عنده عن هذا التوثيق (٣). والمجلسي أيضاً بنى على أنّ الصواب خلوّ نسخة النجاشي عن التوثيق (٤).

وبالجملة : فالأمر يدور بين زيادة التوثيق في نسخة النجاشي أو نقيصته ، ولا أصل ينقّح ذلك ، فلا اطمئنان بتوثيق النجاشي إيّاه ، فالرواية حسنة لولا الحسن.

وكيف كان ، فالصحيحة بنفسها ظاهرة في المطلوب كما عرفت.

وثانياً : لو سلّم دلالتها على المنع عن النظر ولو من غير شهوة فلا بدّ من حملها على الكراهة ، جمعاً بينها وبين آية الإبداء (٥) الصريحة في جواز النظر إلى الزينة الظاهرة بضميمة الأخبار المفسرة لها بالوجه والكفين كما تقدّم (٦).

وما يقال : من أنّ غاية ما يستفاد من الآية عدم وجوب التستر بالنسبة إلى الوجه والكفّين ، وهو لا يستلزم جواز النظر إليهما كي يحمل لأجله النهي المستفاد من مفهوم الصحيحة على الكراهة ، فإنّ عدم وجوب الستر أعم من جواز النظر ، كما في الرجل ، فإنّه لا يجب عليه التستر مع أنّه يحرم على المرأة النظر إلى بدنه ، وكما في الأمرد فإنّه يحرم النظر إليه بشهوة مع عدم وجوب التستر عليه.

مدفوع : بأنّ هذا إنما يتمّ لو تضمنت الآية عدم وجوب الستر ، وليس‌

__________________

(١) الخلاصة : ١٠٥ / ٢٤٤.

(٢) رجال ابن داود : ٧٣ / ٤١٨.

(٣) لاحظ نقد الرجال ٣ : ٢٦٣ / ٣٥٨١.

(٤) رجال المجلسي : ١٨٧ / ٤٧٨ [ ولعلّه من جهة عدم نقله التوثيق عن النجاشي ].

(٥) النور ٢٤ : ٣١.

(٦) في ص ٧٠ ٧١.

٧٥

كذلك ، بل إنها دلت على جواز الإبداء الذي هو بمعنى الإظهار والإراءة ، فانّ الظاهر أنّ مثل هذا التعبير يدل على جواز النظر كما لا يخفى ، وليس هو على حدّ التعبير بعدم وجوب الستر ، ولعل الفرق واضح.

الثامن : الأخبار الدالة على أنّ النظر سهم من سهام إبليس مسموم ، وأنّ زنا العينين النظر (١) فإنّها بإطلاقها تعمّ الوجه والكفين.

وفيه : أنّ هذه الروايات وإن كان بعضها صحيح السند لكنّها قاصرة الدلالة على ما نحن فيه ، فانّ التعبير بالسهم لا يناسب إلا النظر مع خوف الافتتان الذي هو من الشيطان ، كما أنّ تنزيله منزلة الزنا يقتضي وجود جامع بينهما وهو اللذة والشهوة كي يصدق أنّ النظر زنا العين ، فكأن الشارع وسّع في مفهوم الزنا ، فالحقيقي منه ما كان بتوسط الآلة المخصوصة ، والتنزيلي ما كان بواسطة اللمس أو الفم أو العين على اختلاف مراتبها التي يجمعها الالتذاذ والارتياب ، وهو خارج عن محلّ الكلام ، هذا.

مع أنّه لم يتعرض لذكر متعلّق النظر في هذه الأخبار. والأخذ بالإطلاق أينما سرى كما ترى ، للزومه تخصيص الأكثر المستهجن كما مرّ (٢) وحمله على خصوص الأجنبية بتمام بدنها لا شاهد عليه ، ولعل المراد خصوص العورتين من الرجل أو المرأة. وبالجملة : فالمتعلّق مجمل ولا قرينة على التعيين ، فلا يصح الاستدلال بها فتأمل.

التاسع : مكاتبة الصفار إلى أبي محمد عليه‌السلام في الشهادة على المرأة هل يجوز أن يشهد عليها من وراء الستر وهو يسمع كلامها إذا شهد عدلان بأنّها فلانة بنت فلان ، أو لا تجوز له الشهادة حتى تبرز من بيتها بعينها ، فوقّع عليه‌السلام : تتنقّب وتظهر للشهود (٣) فانّ ظاهر الأمر بالتنقب هو الوجوب.

__________________

(١) الوسائل ٢٠ : ١٩٠ / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب ١٠٤ ح ١ ، ٢ ، ٥.

(٢) في ص ٦٩.

(٣) الوسائل ٢٧ : ٤٠١ / أبواب الشهادات ب ٤٣ ح ٢ [ وقد سقطت هذه الرواية عن الوسائل ط طهران ].

٧٦

وفيه : أنّ النقاب لا يستر تمام الوجه بل بعضه أعني من الذقن إلى ما فوق الأنف فالعينان والحاجبان والجبهة مكشوفة ، ولا يحتمل الفرق في وجوب الستر وعدمه بين بعض الوجه وتمامه فيظهر من ذلك أنّ الأمر بالتنقب ليس لمكان الوجوب الشرعي ، بل هو حكم تأدبي أخلاقي دفعاً للحزازة العرفية حيث إنّ ظهور المرأة وحضورها مكشوفة الوجه في مجلس الرجال لا يخلو عن الاستهجان ، لمنافاته مع العفاف المرغوب فيه ، ولا سيما في المرأة الجليلة الشخيصة ، فانّ ذلك مهانة لها ويمسّ بكرامتها.

والمتحصّل من جميع ما ذكرناه لحدّ الآن : أنّ الوجوه التي استدلّ بها للمشهور لا يتم شي‌ء منها ، فهي ساقطة بأسرها ، للمناقشات التي قدمناها وأكثرها مقتبسة من كلام شيخنا الأنصاري في كتاب النكاح (١) على الاستدلال بكل من الأدلّة الأربعة أو فقل الوجوه التسعة كما عرفت بما لا مزيد عليه.

ثم إنّ شيخنا الأنصاري قدس‌سره (٢) بعد أن ناقش في أدلّة المشهور بمثل ما مرّ تصدى قدس‌سره للاستدلال على الجواز بوجوه :

منها : الأخبار الواردة في تفسير الزينة الظاهرة بالوجه والكفّين ، وفيها الصحاح وقد تقدمت (٣).

ومنها : ما ورد من نظر جابر إلى وجه الزهراء ( سلام الله عليها ) وهو أصفر من شدة الجوع ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فصار أحمر (٤).

وفيه : أنّ هذه الروايات بأجمعها ضعيفة السند كما لا يخفى ، بل لا يمكن الاستدلال بها حتى لو صحت أسانيدها ، إذ لا يمكننا التصديق بخروج الزهراء‌

__________________

(١) كتاب النكاح : ٤٦ فما بعد.

(٢) في كتاب النكاح : ٤٦.

(٣) في ص ٧٠ ٧١.

(٤) الوسائل ٢٠ : ٢١٥ / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب ١٢٠ ح ٣.

٧٧

( عليها‌السلام ) سافرة الوجه عند جابر ونحوه من الأجانب ، فإنّ مثل هذا لا يكاد يصدر عن امرأة عادية عفيفة فضلاً عن سيدة النساء بضعة سيد الأنبياء مصدر كلّ عفّة وحياء ، وقد ورد أنّ ابنتها زينب وهي الصديقة الصغرى عليها‌السلام لم تكن تخرج إلى قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلا ليلاً عند ما لم يكن أحد يرى شخصها بل ولا شبحها ، فاذا كانت هذه حالة ابنتها وهي الصديقة الصغرى فما ظنك بها نفسها وهي الصديقة الكبرى.

وبالجملة : لا يسعنا التصديق بخروجها مكشّفة الوجه عند جابر بتاتاً ، ولا نحتمل صدق الحديث بوجه مهما صح السند وقوي المستند ، كيف وقد عرفت ضعف الروايات بأجمعها. فهذا الاستدلال كغيره مما ذكره قدس‌سره من الروايات الضعاف ساقط ولا يعبأ بشي‌ء منها.

والعمدة فيما استدل به صحيح علي بن سويد المتقدّم سابقاً قال « قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : إني مبتلى بالنظر إلى المرأة الجميلة فيعجبني النظر إليها ، فقال : يا علي لا بأس إذا عرف الله من نيّتك الصدق ، وإيّاك والزنا ... » إلخ (١) فإنّه كالصريح في جواز النظر إذا كان صادقاً في نيّته ، أي لم يقصد به الشهوة والريبة بحيث يؤدي إلى الزنا. فعلى تقدير تمامية الأدلة السابقة على الحرمة يجمع بينها وبين هذا الصحيح بالحمل على الكراهة ، هذا.

وقد تعرّض في الجواهر (٢) لهذه الصحيحة وحمل الابتلاء فيها على الصدفة والاتفاق من دون تعمد وقصد ، وأنّ نية الصدق المذكورة في الجواب إشارة إلى نفي البأس إذا كان صادقاً فيما يدّعيه من الابتلاء بهذا المعنى.

وأنت خبير ببعد هذا الاحتمال عن سياق الرواية جدّاً ، لمنافاته لقوله : « فيعجبني النظر إليها » الظاهر في تحقق الإعجاب حال النظر غير المنفك حينئذ عن القصد فلا يلائم النظر الاتفاقي عن غير عمد. وحملها على إرادة الإعجاب‌

__________________

(١) الوسائل ٢٠ : ٣٠٨ / أبواب النكاح المحرم وما يناسبه ب ١ ح ٣.

(٢) الجواهر ٢٩ : ٧٩.

٧٨

بعد صرف النظر والحادث بعد التأمّل في النظر السابق كما ترى ، فإنّه خلاف المتراءى من إسناد الإعجاب إلى النظر الظاهر في تحققه في هذه الحال كما عرفت.

ونحوه في الضعف حمل الابتلاء على الاضطرار الرافع للتكليف ، وأنّ الوجه في السؤال ما يدخله من الإعجاب بعد النظر. فإنّ إطلاق الابتلاء على الاضطرار لم يعهد في المحاورات ، فهو استعمال غير مأنوس ، لكونه على خلاف المتفاهم العرفي من هذه الكلمة كما لا يخفى.

فيدور الأمر بين أحد معنيين آخرين :

أحدهما : حمل الابتلاء على الابتلاء النفساني من جهة غلبة النفس الأمّارة وقاهريّة القوة الشهوية فيجد نفسه مبتلى بالبخوع للميولات النفسانية.

وهذا أيضاً يتلو ما تقدّمه في الضعف ، فانّ الابتلاء بهذا المعنى من عمل الفساق والمنهمكين في الشهوات الذين يتتبعون آثار النساء ويقعدون لهن كلّ مرصد ، نجلّ ساحة ابن سويد وهو من ثقات أصحاب الرضا عليه‌السلام عن مثل ذلك. على أنّ الإمام عليه‌السلام كيف يقرّه على الفسق ، وأيّ معنى والحال هذه لعرفان الله من نيّته الصدق.

فيبقى الاحتمال الثاني الذي ذكره الشيخ قدس‌سره وهو أنّ ابتلاءه بالنظر إلى النساء من جهة اقتضاء شغله ذلك ، ككونه بزّازاً أو صائغاً ونحوهما ممن يتّجر في حاجيات النسوان فيبتلى بمواجهتهنّ في مقام البيع والشراء ، فسأل عما قد يتطرقه عند النظر من الإعجاب بهن والتمتع بجمالهن ، على ما هو مقتضى الطبع البشري من التذاذه من النظر إلى كل شي‌ء جميل ، سواء كان إنساناً أو حيواناً أو جماداً كمجسمة جميلة أو تصوير حسن ونحو ذلك ، فأجاب عليه‌السلام بعدم البأس إذا عرف الله من نيّته الصدق ، أي كان نظره نظراً ساذجاً والإعجاب الذي يدخله ناشئاً عن الفطرة البشرية المقتضية للالتذاذ بكلّ شي‌ء بديع دون الإعجاب والالتذاذ المنبعثين عن القوة الشهوية والمنبعثين عن الغريزة الجنسية التي هي من سنخ نظر الزوج إلى زوجته ، إذ من الواضح عدم‌

٧٩

الملازمة بين هذين النوعين من النظر ، فقد يلتذ الإنسان من النظر إلى وجه ولده الجميل من دون أن يخطر بباله انبعاث هذه اللذة عن الشهوة والغريزة الجنسية ، وكذا غير ولده من الأمثلة المتقدمة ، فهذا التفكيك متحقق حتى في النظر إلى المرأة الجميلة الأجنبية كما هو ظاهر. ففصّل الإمام عليه‌السلام في الجواب بين هذين النوعين ، وخصّ الجواز بالنوع الأوّل الذي عبّر عليه‌السلام عنه بقوله : « إذا عرف الله من نيتك الصدق ».

ويؤيّده قوله عليه‌السلام بعد ذلك : « وإيّاك والزنا » فانّ التحذير عن الوقوع في الزنا قرينة قطعية على أنّ المراد من النظر المنفي عنه البأس ما كان من النوع الأوّل المأمون عن الزنا ، دون الثاني الذي هو معرض للافتتان ويؤدي إلى الزنا غالباً.

وقد تحصّل من جميع ما تلوناه عليك لحدّ الآن أن مقتضى الصناعة بالنظر إلى أدلّة الباب نفسها بعد ضمّ بعضها إلى بعض والتدبّر فيما يقتضيه الجمع بين الأدلّة هو اختيار القول بالجواز ، كما ذهب اليه شيخنا الأنصاري قدس‌سره مصرّاً عليه.

لكن مع ذلك كلّه في النفس منه شي‌ء ، والجزم به مشكل جدّاً ، ولا مناص من الاحتياط الوجوبي في المقام كما فعله الماتن قدس‌سره ونعم ما صنع وذلك لما ثبت من تتبع الآثار واستقصاء الموارد المتفرقة من الأخبار اهتمام الشارع الأقدس بشأن الأعراض اهتماماً بليغاً ، بحيث يعلم من مذاقه التضييق فيما دون النظر فضلاً عنه ، والتشديد في ناموس المسلمين بالنهي عما يخالفه تحريماً أو تنزيهاً ، كما يفصح عنه نهيه عن خروجهنّ للجمعة والجماعات (١) على ما هي عليه من الفضل والمثوبات ، وكذا النهي عن حضورهن لتشييع الجنائز (٢) والمنع عن اختلاطهن مع الرجال في الأسواق ، الوارد في نهي علي ( عليه‌

__________________

(١) منها ما في الوسائل ٧ : ٣٤٠ / أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٢٢ ح ١ ، ٨ : ٣٣٤ / أبواب صلاة الجماعة ب ٢٠ ح ٤.

(٢) الوسائل ٣ : ٢٣٩ / أبواب الدفن ب ٦٩ ح ٣ ، ٤ ، ٥.

٨٠