موسوعة الإمام الخوئي - ج ١٢

الشيخ مرتضى البروجردي

سبق العلم فيه دون الجاهل ، وهو غير فارق في المقام.

وأما فرض الخطأ في الاعتقاد أو الاجتهاد فلا ينبغي الإشكال في الحكم بالصحة إذا كان الانحراف ما بين اليمين واليسار ، للمعتبرتين المتقدمتين ، أعني صحيحة معاوية وموثقة الحسين بن علوان ، بل هذا هو المتيقن عندنا من الحكم المزبور ، وإن كان فيه خلاف كما ستعرف.

ويلحق به فرض ضيق الوقت لاندراجه تحت إطلاق المعتبرتين ، إذ غاية ما يستفاد منهما اعتبار أن يكون الدخول في صلاة مشروعة صحيحة ، الصادق على الفرض.

ودعوى أنّ هذا الفرض وإن كان مشمولاً لإطلاق الصحيحة لكن الموثقة غير شاملة له ، لاختصاصها بمن صلى على غير القبلة وهو يرى أنّه على القبلة ، ومن الواضح أنّ من يصلي إلى جانب عند ضيق الوقت عن التحري لا يرى أنّه على القبلة ، غايته أنّه يأتي بوظيفته الفعلية من دون أن يعتقد الاستقبال فالموثقة لمكان الاشتمال على هذا القيد الدالّ بمفهومه على البطلان مطلقاً لو لم ير أنّه على القبلة يختص موردها بفرض الخطأ في الاعتقاد أو الاجتهاد ، بل مقتضى صناعة الإطلاق والتقييد حمل الصحيحة على الموثقة وتقييد إطلاقها بمفهوم الموثقة المقتضي للبطلان في فاقد القيد كما عرفت ، جمعاً بينهما ، فلا يصح التمسك بها أيضاً بعد الحمل المزبور.

مدفوعة بأنّ المفهوم المدّعى في الموثق إن أُريد به مفهوم الشرط ففيه : أنّ القيد المزبور لم يؤخذ شرطاً في ترتب الحكم ، بل أُخذ قيداً في الموضوع ، وإنّما الشرط كون الانحراف ما بين المشرق والمغرب ، فمفهوم الجملة الشرطية حينئذ أنّ من صلى على غير القبلة وهو يرى أنّه على القبلة تجب عليه الإعادة إذا لم يكن الانحراف ما بين الشرق والغرب ، لا أنّه تجب الإعادة إذا لم يكن يرى أنه على القبلة ، لعدم ترتب الجزاء على هذا القيد كما هو واضح.

وإن أُريد به مفهوم الوصف فهو وجيه لو قلنا بثبوت المفهوم للوصف ، لكنّه‌

٤١

خلاف التحقيق ، وغاية ما التزمنا به في الأُصول (١) دلالة القيد على عدم كون الطبيعة المهملة أينما سرت موضوعاً للحكم ، وهو كذلك في المقام ، فانّ العالم العامد ، وكذا الجاهل بالحكم كما عرفت غير مشمول لهذا الحكم. وأمّا الدلالة على انتفاء الحكم عن الفاقد للقيد كي يدلّ على المفهوم الاصطلاحي كما في الجملة الشرطية فكلاّ ، فلا منافاة بينه وبين ما دلّ ولو بإطلاقه كصحيحة معاوية بن عمار على ثبوت الحكم في فاقد القيد حتى يجمع بينهما بحمل المطلق على المقيد ، ولعلّ التقييد في المقيد جارٍ مجرى الغالب ، إذ الغالب في من يدخل في الصلاة أنّه يرى نفسه على القبلة كما لا يخفى.

وكيف كان ، فلا قصور في شمول المعتبرتين للمقام ، أعني فرض ضيق الوقت ، هذا.

مع أنّ البحث عن دخول الفرض في المعتبرتين قليل الجدوى ، فانّ هذا الفرض في الحقيقة خارج عن محل الكلام أعني وجوب الإعادة في الوقت وعدمه إذ المفروض ضيق الوقت عن رعاية الاستقبال بحيث لم يتمكّن من الإعادة لو انكشف الخلاف ، وإلا لم يكن من الضيق ، فلا بدّ في مثله أن يكون الانكشاف خارج الوقت ، فالبحث لو كان إنّما هو في وجوب القضاء وعدمه دون الإعادة. وستعرف إن شاء الله تعالى (٢) أنّ مقتضى الأدلّة عدم وجوب القضاء حينئذ. فلا موضوع لهذا البحث في المقام.

وأما الغافل أي من يصلّي إلى جهة غافلا عن أنها ليست بقبلة فهو أيضاً مشمول لإطلاق صحيحة معاوية ، إذ لا مانع من الشمول عدا توهم تقييد الإطلاق بمفهوم موثق الحسين بن علوان ، المستتبع لعدم الانطباق حينئذ على الغافل ، لعدم كونه ممن يرى أنّه يصلي إلى القبلة المأخوذ في موضوع الموثق ، وقد عرفت الجواب عنه آنفاً من عدم ثبوت المفهوم للوصف ، ومفهوم‌

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٥ : ١٣٣.

(٢) في ص ٥٥.

٤٢

الشرط لا يقتضي ذلك.

وأما الجاهل بالقبلة المتردد الذي يصلّي إلى جهة ولو رجاءً بانياً على السؤال بعد ذلك فالظاهر وجوب الإعادة إذا تبين الانحراف وإن كان يسيراً لعدم اندراجه تحت إطلاق الصحيح ، فانّ وظيفته التحري بمقتضى النصوص المتقدمة سابقاً (١). فالصلاة المأتي بها من دون التحري ليست وظيفة له وغير محكومة بالصحة شرعاً. ولا ريب في انصراف الصحيح إلى من قام في الصلاة باعتقاد الصحة وأنها الوظيفة بانياً على كونها فرداً للمأمور به ، فلا تشمل الفرض.

وعليه فمقتضى إطلاق اعتبار استقبال المسجد الحرام (٢) السليم عن القيد في المقام وجوب الإعادة إلا إذا انكشف كونها إلى القبلة من دون انحراف فيجتزئ بها ، لاشتمالها على الشرط ، وعدم المقتضي للإعادة بعد صدورها على وجه قربي كما هو المفروض.

ويؤكّد ما ذكرناه من الإعادة صحيح الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « في الأعمى يؤم القوم وهو على غير القبلة ، قال : يعيد ولا يعيدون ، فإنّهم قد تحرّوا » (٣) فانّ الحكم بإعادة الأعمى دونهم معللاً بعدم التحري من دون التفصيل بين كون الانحراف ما بين اليمين واليسار أو أكثر شاهد على ما ذكرنا.

فتحصّل من جميع ما مرّ : أنّ الحكم بالصحة بمقتضى الصحيح والموثق يختص بفرض الخطأ في الاعتقاد أو الاجتهاد ، وبضيق الوقت على كلام في كونه داخلاً في محل الكلام كما مرّ وبالغافل ، ولا يعم الجاهل بالحكم ولا الناسي ولا المتردد.

ثمّ إنّ هاتين المعتبرتين صحيح معاوية وموثق الحسين وغيرهما لم يصرح فيهما بكون انكشاف الخلاف في الوقت أو في خارجه ، فمقتضى الإطلاق‌

__________________

(١) [ تقدمت صحيحة واحدة لزرارة في شرح العروة ١١ : ٤٥٠ ].

(٢) كما في صحيح زرارة المتقدم في ص ٣٨.

(٣) الوسائل ٨ : ٣٣٩ / أبواب صلاة الجماعة ب ٢١ ح ٦.

٤٣

عدم وجوب الإعادة سواء كان الانكشاف في الوقت أم في خارجه ، فتدل بالإطلاق على نفي الإعادة والقضاء ، لكن موضوعها مختص بما إذا كان الانحراف ما بين اليمين واليسار.

وبإزاء هذه طائفة أُخرى سيأتي التعرّض لها (١) دلّت على أنّ من صلّى لغير القبلة أعادها في الوقت لا في خارجه ، التي منها صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : إذا صليت وأنت على غير القبلة واستبان لك أنك صليت وأنت على غير القبلة وأنت في وقت فأعد ، وإن فاتك الوقت فلا تعد » (٢) والحكم بالإعادة في هذه وإن كان مختصاً بما إذا كان الانكشاف في الوقت لكن موضوعها أعني الانحراف عن القبلة أعم من أن يكون إلى اليمين واليسار أو بنحو الاستدبار.

وكما يمكن الجمع بحمل الانحراف في هذه الطائفة على استدبار القبلة بقرينة الطائفة السابقة الحاكمة بعدم قدح الانحراف إذا كان ما بين اليمين واليسار كما عليه المشهور ، يمكن الجمع بحمل عدم الإعادة في الطائفة الأُولى بما إذا كان الانكشاف خارج الوقت ، بقرينة هذه الطائفة القاضية بوجوب الإعادة إذا كان في الوقت.

وبالجملة : فكل من الطائفتين يتضمن الإطلاق من جهة والتقييد من جهة أُخرى ، فالنسبة بينهما عموم من وجه ، وكل من التقييدين صالح لأن يتقيّد به الإطلاق من الطرفين من دون ترجيح في البين ، فيتعارضان في مادة الاجتماع وهو الانحراف إلى ما بين اليمين واليسار مع كون الانكشاف في الوقت ، فلا تجب الإعادة بمقتضى الطائفة الأُولى ، وتجب بمقتضى الثانية ، وبعد التساقط يرجع إلى عموم اعتبار الاستقبال ، مضافاً إلى قاعدة الاشتغال.

هكذا أفاده صاحب الحدائق قدس‌سره في المقام (٣) ، وقد أصرّ عليه ومن‌

__________________

(١) في ص ٥٥.

(٢) الوسائل ٤ : ٣١٥ / أبواب القبلة ب ١١ ح ١.

(٣) الحدائق ٦ : ٤٣٧.

٤٤

أجله استشكل في إطلاق نفي الإعادة مع الانحراف اليسير كما عليه المشهور ، بل خصّه بما إذا كان الانكشاف خارج الوقت ، وأمّا في الوقت فتجب الإعادة سواء كان الانحراف إلى ما بين اليمين واليسار أم أكثر كما حكى القول بذلك عن ظاهر القدماء.

وربما يجاب عنه بلزوم تقديم الجمع الأول المتضمن للتصرف في الموضوع على الجمع الثاني الذي هو تصرف في متعلّق الحكم ، وذلك لأن المستفاد من الطائفة الأُولى كصحيح معاوية أن للانحراف ما بين الشرق والغرب خصوصية بها يمتاز عن غيره ، ولذا خصّه بالذكر.

وعليه فلو قدّمناها على الطائفة الثانية كصحيح عبد الرحمن القاضية بوجوب الإعادة في الوقت مع الانحراف على الإطلاق وقيّدناه بالانحراف الكثير البالغ حد الشرق والغرب فما زاد ، لم يلزم منه محذور عدا تقييد الإطلاق الذي هو هيّن وغير عزيز في الأخبار ، وهذا بخلاف ما لو قدّمنا الطائفة الثانية وقيّدنا بها إطلاق الأُولى ، فإنّ فيه محذرواً زائداً على أصل التقييد ، إذ المتحصّل بعد حمل الاولى على الثانية أنّ العبرة في نفي الإعادة إنما هو بخروج الوقت كما هو مفاد صحيح عبد الرحمن ، سواء كان الانحراف يسيراً أم كثيراً ، فلا يكون للانحراف إلى ما بين اليمين واليسار المأخوذ في موضوع الطائفة الأُولى خصوصية في نفي الإعادة ، فلازم ذلك إلغاء هذه الخصوصية ، مع أنّك عرفت أنّ المستفاد من صحيحة معاوية وغيرها أنّ لهذا القيد خصوصية بها تمتاز عن غيره ، فلا مناص من تقديم الجمع الأول تحفظاً على هذه الخصوصية كي لا يلزم إلغاؤها.

أقول : لا ريب أنّه كلّما دار الأمر في مقام الجمع بين الدليلين المتعارضين بالعموم من وجه بين ارتكاب تقييد مستلزم لطرح العنوان وإلغاء الخصوصية المأخوذة في لسان الدليل ، وبين ارتكاب تقييد غير مستلزم لذلك تعيّن الثاني تحفظاً على العنوان ، وحذراً من اللغويّة المترتبة على الأوّل ، وكم لهذه الكبرى مصاديق ونظائر ، تقدم غير واحد منها في مطاوي هذا الشرح.

٤٥

منها ما تقدم في بحث النجاسات (١) عند الجمع بين قوله عليه‌السلام كل طائر يطير بجناحيه فلا بأس ببوله وخرئه (٢) وبين قوله عليه‌السلام : « اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه » (٣) حيث ذكرنا أن النسبة بين الدليلين عموم من وجه ، فيتعارضان في مادة الاجتماع وهو الطائر الذي لا يؤكل لحمه كالباز والصقر ، فلا يجب الاجتناب عن بوله بمقتضى الدليل الأول ، ويجب بمقتضى الثاني ، لكن اللازم الأخذ بإطلاق الأول وتقييد الثاني بما لا يؤكل لحمه من غير الطيور ، إذ لا يترتب عليه أي محذور بخلاف العكس ، أعني التحفظ على إطلاق الثاني وتقييد الأول بالطائر المأكول اللحم ، إذ لازمه إلغاء خصوصية الطيران ، لبداهة عدم الفرق في طهارة بول مأكول اللحم بين الطائر وغيره.

وبالجملة : فهذه الكبرى مسلّمة لا غبار عليها ، لكنها غير منطبقة على المقام ، إلا بناءً على القول بعدم وجوب الإعادة إذا كان الانكشاف خارج الوقت وكان الانحراف كثيرا بالغاً حدّ المشرق والمغرب فما زاد.

وتوضيحه : أنّ النسبة بين صحيحتي معاوية وعبد الرحمن عموم من وجه ، ومادة الافتراق من الاولى الانحراف اليسير المنكشف خارج الوقت ، ومن الثانية الانحراف الكثير المنكشف في الوقت ، ولا معارضة بينهما في هذين الموردين ، لتطابقهما على عدم وجوب الإعادة في الأول ، ووجوبها في الثاني كما هو ظاهر. وإنّما المعارضة في مادة الاجتماع ، ولها موردان :

أحدهما : الانحراف اليسير المنكشف في الوقت ، حيث لا يجب فيه الإعادة بمقتضى إطلاق صحيح معاوية ، ويجب بمقتضى إطلاق صحيح عبد الرحمن.

ثانيهما : الانحراف الكثير البالغ حدّ المشرق والمغرب فما زاد المنكشف خارج الوقت ، فإنّه تجب فيه الإعادة بمقتضى ما يفهم من إطلاق صحيح معاوية ، حيث أُنيط الحكم فيه بالصحة بما إذا كان الانحراف ما بين المشرق‌

__________________

(١) شرح العروة ٢ : ٣٧٥.

(٢) الوسائل ٣ : ٤١٢ / أبواب النجاسات ب ١٠ ح ١ ، ( نقل بالمضمون ).

(٣) الوسائل ٣ : ٤٠٥ / أبواب النجاسات ب ٨ ح ٢.

٤٦

والمغرب ، ولا تجب بمقتضى إطلاق صحيح عبد الرحمن لكونه في خارج الوقت.

ثم إنّ هذه المسألة أعني الانحراف الكثير المنكشف خارج الوقت ذات قولين : فالمشهور عدم وجوب الإعادة ، واختاره المحقق في الشرائع (١) وغيره. وذهب جمع منهم الشيخان (٢) وغير واحد من الأعلام إلى وجوب الإعادة.

فعلى المشهور تنطبق الكبرى المزبورة على المقام ، إذ لو قدّمنا صحيح عبد الرحمن وقيّدنا عدم الإعادة في صحيح معاوية بما إذا كان الانكشاف خارج الوقت يلزم منه طرح العنوان وإلغاء خصوصية ما بين المشرق والمغرب المأخوذة في صحيح معاوية ، إذ المفروض عدم وجوب الإعادة في خارج الوقت وإن كان الانحراف كثيراً فضلاً عن اليسير ، فلا يبقى لهذا العنوان دخل في نفي الإعادة فتلزم اللغوية كما أُفيد.

وأما بناءً على القول الآخر أعني وجوب الإعادة حينئذ الذي ذهب إليه جمع كثير كما عرفت فلا تلزم اللغوية للتحفظ حينئذ على عنوان ما بين المشرق والمغرب ، إذ المفروض اختصاص عدم الإعادة به دون الانحراف الكثير ، فيتعارض الإطلاقان من دون ترجيح في البين ، لعدم الموجب لتقييد أحدهما دون الآخر ، وبعد التساقط يرجع في كلا موردي مادة الاجتماع إلى عمومات الفوق القاضية باعتبار الاستقبال كما لا يخفى.

والصحيح في الجواب عن صاحب الحدائق أن يقال :

أمّا أوّلاً : فبأن الطائفة الأُولى كصحيح معاوية لا إطلاق لها بحيث يشمل الانحراف المنكشف في الوقت وخارجه حتى تقع المعارضة بينها وبين الطائفة الثانية بالعموم من وجه ، بل هي ظاهرة في خصوص الأول ، فإنّ المتراءى من قوله في الصحيح : « عن الرجل يقوم في الصلاة ثم ينظر بعد ما فرغ فيرى ... » إلخ (٣) أن الانكشاف إنّما هو بعد الفراغ عن الصلاة ، الظاهر في بقاء‌

__________________

(١) الشرائع ١ : ٨٠.

(٢) لاحظ المقنعة : ٩٧ ، النهاية : ٦٤ ، المبسوط ١ : ٨٠.

(٣) تقدمت في ص ٤٠.

٤٧

الوقت بعدُ ، لانصرافه إلى التبيّن الحادث عقيب الفراغ بلا فصل معتد به ، فلا يشمل ما إذا كان الفراغ من الصلاة مساوقاً لخروج الوقت الذي هو فرض نادر كما لا يخفى.

وأظهر منه موثقة عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « في رجل صلّى على غير القبلة فيعلم وهو في الصلاة قبل أن يفرغ من صلاته ، قال : إن كان متوجّهاً فيما بين المشرق والمغرب فليحوّل وجهه إلى القبلة ساعة يعلم ، وإن كان متوجهاً إلى دبر القبلة فليقطع الصلاة ثم يحوّل وجهه إلى القبلة ثم يفتتح الصلاة » (١).

فانّ الانكشاف أثناء الصلاة كالصريح في كونه قبل خروج الوقت ، فحملها على ما لو اتفق خروج الوقت في الأثناء كي يكون الانكشاف بعده الذي هو فرض نادر جدّاً في غاية البعد. ومن الضروري عدم الفرق في الحكم المزبور بين أبعاض الصلاة وجملتها ، لاشتراط الاستقبال في تمام الأجزاء.

وبالجملة : فهذه النصوص ظاهرة في كون الانكشاف قبل خروج الوقت فلا تعارض بينها وبين الطائفة الثانية المفصّلة بين الوقت وخارجه إلا بالإطلاق والتقييد ، حيث إنّ هذه دلّت على وجوب الإعادة في الوقت مطلقاً فتحمل على الانحراف الكثير البالغ حدّ المشرق والمغرب فما زاد بقرينة الطائفة الأُولى النافية للإعادة مع كون الانحراف فيما بين المشرق والمغرب ، وأمّا بالإضافة إلى القضاء فلا تعارض أصلاً ، لتباين الموضوعين كما عرفت.

والحاصل : أنّ النسبة بين الدليلين عموم وخصوص مطلق ، لا من وجه حتى يتعارضان.

وأما ثانياً : وهو العمدة فبحكومة الطائفة الأُولى على الثانية فلم يرد النفي والإثبات على موضوع واحد بل موضوعين ، فلا تعارض في البين.

وذلك لأنّ المستفاد من قوله عليه‌السلام في صحيح معاوية : « قد مضت‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣١٥ / أبواب القبلة ب ١٠ ح ٤.

٤٨

صلاته ، وما بين المشرق والمغرب قبلة » (١) أنّ الوجه في المضي وعدم الإعادة مع الانحراف اليسير ليس هو التعبد المحض والاجتزاء بغير الواجب عن الواجب في مقام الامتثال ، بل لأجل أنّه قد أتى بالواجب على ما هو عليه لمكان الاتساع في أمر القبلة ، وأنّها عبارة عما بين المشرق والمغرب ، فلا مقتضي للإعادة لأنّه صلى إلى القبلة نفسها بعد الاتساع في موضوعها فيكون ذلك شارحاً للمراد من القبلة في الطائفة الثانية الواقعة في كلام الإمام عليه‌السلام نفسه في بعض تلك الأخبار كصحيح عبد الرحمن وغيره (٢) وأنّ المراد بقوله عليه‌السلام في الصحيح : « إذا صليت وأنت على غير القبلة .. » إلخ هو على غير القبلة المتسعة الشاملة لما بين المشرق والمغرب ، المفسّرة بذلك في تلك الأخبار ، بأن صلى إلى نفس نقطتي الشرق والغرب أو مستدبراً ، فالموضوعان في الطائفتين متباينان ، إذ الأُولى دلّت على نفي الإعادة لأنّه صلّى إلى القبلة والثانية تضمنت وجوب الإعادة لمن صلّى إلى غير القبلة ، فأي تعارض بينهما بعد تعدد الموضوع.

وبالجملة : فالمتحصّل من الطائفتين أنّ من صلى إلى ما بين المشرق والمغرب مخطئاً أو غافلاً على تفصيل مر (٣) فلا مقتضي للإعادة لا في الوقت ولا في خارجه ، لأنّه صلّى إلى القبلة المتسعة نفسها. وأمّا لو صلّى مستدبراً أو إلى نفس النقطتين فتجب عليه الإعادة في الوقت دون خارجه. فالأقوى ما عليه المشهور.

بقي شي‌ء : وهو أن مقتضى النصوص المتقدمة بأجمعها نفي القضاء كما عرفت لكن قد يحكى عن بعض وجوبه استناداً إلى خبر معمر بن يحيى قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل صلى على غير القبلة ثم تبينت القبلة وقد‌

__________________

(١) تقدم ذكره ص ٤٠.

(٢) الوسائل ٤ : ٣١٥ / أبواب القبلة ب ١١ ح ١ ، ٣.

(٣) في ص ٣٩ فما بعد.

٤٩

دخل وقت صلاة أُخرى ، قال : يعيدها قبل أن يصلي هذه التي قد دخل وقتها » (١).

وفيه أوّلاً : أنّ الخبر ضعيف ، فانّ الرجال المذكورين في السند وإن كانوا ثقات إلا أنّ طريق الشيخ إلى الطاطري ضعيف (٢) لاشتماله على علي بن محمد ابن الزبير القرشي ولم يوثق.

وثانياً : أنّ الوقت المذكور في الخبر إن كان المراد منه وقت الفضيلة في المترتبتين كالظهرين والعشاءين كما هو الظاهر لكون المتداول في الأزمنة السابقة توزيع الصلوات على الأوقات الخمسة ، فكان يعبّر عن حلول وقت فضيلة الصلاة بدخول وقتها ويعضده عدم التصريح في الخبر بخروج وقت الاولى ، وكذا قوله : « قبل أن يصلّي هذه التي .. » إلخ المشعر بترتبها على السابقة. فالرواية حينئذ أجنبية عن القضاء رأساً ، بل هي متعرضة لحكم الإعادة عند الانحراف المنكشف في الوقت كما هو ظاهر ، فتكون موافقة للنصوص المتقدمة.

وإن كان المراد به وقت صلاة أُخرى غير مترتبة على الاولى كالمغرب بالإضافة إلى الظهرين وإن كان ذلك بعيداً عن ظاهر الخبر كما عرفت فلا مناص من حمل الإعادة على الاستحباب (٣) جمعاً بينها وبين النصوص المتقدمة وفيها الصحاح المصرحة بنفي القضاء ، لعدم مقاومة هذه مع تلك النصوص‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣١٣ / أبواب القبلة ب ٩ ح ٥.

(٢) التهذيب ١٠ ( المشيخة ) : ٧٦.

(٣) ولا ينافي ذلك ما تكرّر منه « دام ظله » من استقرار المعارضة بين قوله « يعيد » و« لا يعيد » الوارد في دليلين وامتناع الجمع بالحمل على الاستحباب ، من جهة أن الأمر بالإعادة إرشاد إلى فساد العمل وبقاء الأمر الأول ، ولا معنى لاستحباب الفساد ، وذلك لأنّ ما ذكر إنما هو فيما إذا كان الأمر بالإعادة في الوقت دون خارجه كما في المقام ، للقطع حينئذ بسقوط الأمر المتوجه في الوقت على أي حال كما لا يخفى ، ومعه لا مجال لدعوى الإرشاد إلى بقاء الأمر المستتبع لفساد العمل.

وعليه فقوله « يعيد » كقوله صلّ ، يتضمن الأمر المولوي القابل للحمل على الاستحباب كما أفاده ( دام ظله ) بعد الدرس.

٥٠

ولو كان في الأثناء مضى ما تقدم واستقام في الباقي (١) من غير فرق بين بقاء الوقت وعدمه ، لكن الأحوط الإعادة في غير المخطئ في اجتهاده مطلقاً.

______________________________________________________

المستفيضة. فالقول بوجوب القضاء ساقط جدّاً.

(١) على المشهور ، بل لا خلاف كما نص عليه جماعة ، فلا فرق في الحكم المزبور بين أبعاض الصلاة وجملتها.

ويشهد له صريحاً موثق عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « في رجل صلّى على غير القبلة فيعلم وهو في الصلاة قبل أن يفرغ من صلاته ، قال : إن كان متوجهاً فيما بين المشرق والمغرب فليحوّل وجهه إلى القبلة ساعة يعلم وإن كان متوجهاً إلى دبر القبلة فليقطع الصلاة ثم يحوّل وجهه إلى القبلة ثم يفتتح الصلاة » (١) ودلالته على انسحاب الحكم المزبور إلى الأثناء ظاهرة.

نعم ، قد يتوهم منافاته لخبر القاسم بن الوليد قال : « سألته عن رجل تبيّن له وهو في الصلاة أنّه على غير القبلة ، قال : يستقبلها إذا ثبت ذلك ، وإن كان فرغ منها فلا يعيدها » (٢) حيث دلّ بإطلاقه على البطلان واستقبال الصلاة عند الانحراف.

وفيه : مضافاً إلى ضعف سنده بقاسم بن الوليد ، فإنّه مهمل في كتب الرجال ، أنّ المنافاة مبنيّة على إرجاع الضمير في « يستقبلها » إلى الصلاة ، أي يستفتح الصلاة إلى القبلة ويستأنفها فيدل حينئذ على البطلان ، لكنّه خلاف الظاهر ، بل مقتضى عود الضمير إلى الأقرب إرجاعه إلى القبلة ، أي يتوجه حينئذ إلى القبلة ويتم الصلاة ، فيوافق الموثق حينئذ ، غايته تقييد الإطلاق بما إذا كان الانحراف ما بين المشرق والمغرب بقرينة التصريح به في الموثق. فالخبر لولا ضعف سنده معاضد للموثق لا معارض له كما لا يخفى.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣١٥ / أبواب القبلة ب ١٠ ح ٤.

(٢) الوسائل ٤ : ٣١٤ / أبواب القبلة ب ١٠ ح ٣.

٥١

ثم إنّه لو التفت في الأثناء إلى استدباره أو انحرافه إلى نقطتي المشرق والمغرب لا إشكال حينئذ في البطلان ولزوم استئناف الصلاة بمقتضى الموثق المتقدم مع سعة الوقت لذلك ، وأما لو لم يسع للإعادة كما لو التفت إلى استدباره وهو في التشهد الأخير من صلاة العصر مثلاً ، وكان الوقت ضيقاً بحيث لو أراد الاستئناف لم يدرك الوقت حتى بمقدار ركعة فهل الصلاة حينئذ محكومة بالصحة فيتمها مستقبلاً ، أو أنها باطلة فيقضيها خارج الوقت؟ وجهان بل قولان ، اختار أولهما المحقق الهمداني قدس‌سره (١) وجماعة ، بل ذكر قدس‌سره أنّه لو لم يتمكن من الاستقامة ورعاية الاستقبال في بقية الصلاة لمانع خارجي فاضطر إلى إيقاع الصلاة بتمامها مستدبراً صحت ، وسقط اشتراط الاستقبال ، فضلاً عن مثل المقام الذي يتمكن فيه من رعايته في بقية الأجزاء فيستعدل ويتم مستقبلاً.

وأفاد قدس‌سره في وجهه أنّ الأمر حينئذ دائر بين رعاية الوقت أو الاستقبال ، ولا ريب أنّ الأول أولى ، لما ثبت أنّ الصلاة لا تسقط بحال ، فيتعين عليه إتمام الصلاة تحفّظاً على الوقت ، ولا يسوغ له القطع والقضاء خارجه لإدراك القبلة ، لتقدم الأول على الثاني لدى المزاحمة.

وبالجملة : اشتراط الاستقبال مختص بحال التمكن ، فما صدر منه قبل استبانة الخطأ قد وقع صحيحاً ، لكونه معذوراً حال الفعل من رعاية الاستقبال عذراً مستوعباً لتمام الوقت ، لأجل عدم تمكنه من إعادته أداءً على الفرض ، وأمّا بعد الاستبانة فتجب الاستقامة مع التمكن وتصحّ الصلاة ، لعدم الإخلال بالشرط حينئذ في شي‌ء من الأجزاء.

وأمّا موثّق عمّار المتضمّن لإطلاق الأمر بالقطع فهو منصرف أو مصروف عن مثل الفرض ، جمعاً بين الأدلّة.

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الصلاة ) : ١١٤ السطر ٢٩.

٥٢

لكن الظاهر هو الوجه الثاني فيحكم بالبطلان ووجوب القضاء ، ولا يتم شي‌ء مما أُفيد ، فانّ موثق عمار المتضمن للأمر بالقطع الراجع إلى فساد الأجزاء السابقة وعدم صلاحيتها لانضمام اللاحقة بها غير قاصر الشمول للفرض ، ولا نعرف وجهاً للانصراف أو الصرف ، فإنّه قد تضمّن حكمين (١) : وجوب القطع ولزوم التوجه إلى القبلة وافتتاح الصلاة. والحكم الثاني وإن سلّم انصرافه عن مثل المقام ، لكن لا مقتضي لرفع اليد عن إطلاق الأول كما لا يخفى. وبمقتضاه يحكم بالفساد كما عرفت.

واشتراط الاستقبال وإن كان مختصاً بحال التمكن كما ذكر لكنّه متمكن منه عند الشروع في الصلاة على الفرض ، غايته أنّه غفل أو أخطأ فاستدبر بزعم القبلة ، ولا دليل على تحقق العذر المسقط للتكليف بمثل ذلك ما لم يستوعب الوقت ، أي تستمر هذه الحالة إلى آخر الوقت بحيث يكون الانكشاف خارجه ، فانّ هذا هو الذي يسقط معه الاشتراط بمقتضى الأخبار (٢) وهو منفي في مفروض البحث لكون الانكشاف قبل خروج الوقت.

وعليه فما صدر عنه قبل استبانة الخطأ غير محكوم بالصحة واقعا ، ولا يجزئ عن الواجب بعد ما عرفت من بقاء الأمر بالاستقبال وعدم عروض المسقط له.

__________________

(١) لعل المنساق من الموثقة انّ الحكمين مترابطان فلا يحكم بالقطع إلا في مورد محكوم فيه بالافتتاح ، وبما أنّ الظاهر من افتتاح الصلاة بقاء الوقت وافتتاحها أداءً المتعذر في المقام حسب الفرض فلا جرم كانت الموثقة منصرفة عنه.

(٢) الوارد في تلك الأخبار التي منها صحيحة عبد الرحمن الآتية في التعليق الآتي هكذا « وأنت في وقت فأعد وإن فاتك الوقت فلا تعد » وظاهر المقابلة أنّ المراد بفوات الوقت ما يقابل بقاءه الذي حكم فيه بالإعادة ، وبما أنّ المراد بالبقاء وجود وقت قابل للإعادة وصالح للأمر بها فيه فلا جرم يراد بالفوات فوات وقت الإعادة لا لزوم كون الانكشاف خارج الوقت ، وعليه فلا قصور في شمولها للمقام.

٥٣

وإن كان منحرفاً إلى اليمين واليسار أو إلى الاستدبار فان كان مجتهداً مخطئاً أعاد في الوقت دون خارجه ، وإن كان الأحوط الإعادة مطلقاً ، لا سيما في صورة الاستدبار ، بل لا ينبغي أن يترك في هذه الصورة (*) ، وكذا إن كان في الأثناء ، وإن كان جاهلاً أو ناسياً أو غافلاً فالظاهر وجوب الإعادة في الوقت وخارجه (**) (١).

______________________________________________________

وحديث عدم سقوط الصلاة بحال لا يجدي في تصحيحه ، فإنه أجنبي عن المقام ، إذ ليس شأنه إلا إثبات الأمر بالصلاة الفاقدة للشرط لدى المزاحمة بينه وبين الوقت ، فهو لا يتكفّل إلا لإحداث الأمر بالفاقد وإيجاده في هذا الظرف ، لا لتصحيح العمل السابق الصادر حينما وقع سليماً عن المزاحمة وكان فقده للشرط لأجل الغفلة أو الخطأ ونحوهما كما لا يخفى ، هذا.

ومع الغض عما ذكر وتسليم انصراف الموثق عن المقام فالمرجع حينئذ عموم قوله عليه‌السلام : « لا صلاة إلا إلى القبلة » (١) المقتضي لفساد الصلاة في الفرض ولزوم إعادتها مستقبلاً ، إذ الخارج عن العموم في الانحراف الكثير الذي هو محل البحث ما إذا كان الانكشاف خارج الوقت بمقتضى النصوص (٢) النافية للقضاء فيما إذا استبان في غير الوقت ، ولا ريب في عدم شمول ذلك لمثل الفرض ، لكون الانكشاف في الوقت على الفرض ، فالمرجع هو العموم المزبور المقتضي للبطلان.

(١) أمّا وجوب الإعادة في الوقت في الانحراف الكثير سواء كان إلى اليمين واليسار أو الاستدبار فلا إشكال فيه ، لجملة وافرة من النصوص التي تقدم‌

__________________

(*) لا بأس بتركه.

(**) لا يبعد عدم وجوب القضاء في غير الجاهل بالحكم.

(١) الوسائل ٤ : ٣١٢ / أبواب القبلة ب ٩ ح ٢.

(٢) الآتية بعد قليل.

٥٤

بعضها (١) ، وأمّا عدم وجوب القضاء فهو المشهور المنصور ، لتلك النصوص المفصّلة بين الوقت وخارجه في الإعادة وعدمها ، وسنذكر بعضها ، ولا يخفى الباقي على المراجع.

إنّما الكلام في أنّ هذا الحكم هل يختص بالمجتهد المخطئ كما ذكره في المتن أو يعمه والغافل ، وكذا الجاهل بالموضوع أو ناسية؟ وأمّا الجاهل بالحكم أو ناسية أو المتردد فقد سبق (٢) خروجه عن منصرف النصوص.

الظاهر هو الثاني ، إذ لا مقتضي للتخصيص بعد إطلاق الأخبار التي منها صحيحة عبد الرحمن عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : إذا صليت وأنت على غير القبلة واستبان لك أنّك صليت وأنت على غير القبلة وأنت في وقت فأعد وإن فاتك الوقت فلا تعد » (٣) فإنّها بإطلاقها تعم المجتهد وغيره.

ونحوها صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : إذا صليت على غير القبلة فاستبان لك قبل أن تصبح أنّك صليت على غير القبلة فأعد صلاتك » (٤) فان عدم الإعادة بعد الإصباح وخروج وقت العشاءين المستفاد من المفهوم مطلق يعم المجتهد وغيره.

ولا نعرف وجهاً للتخصيص الذي ذكره في المتن عدا التقييد بالاجتهاد أو التحري في روايتين :

إحداهما : صحيحة سليمان بن خالد قال « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يكون في قفر من الأرض في يوم غيّم فيصلي لغير القبلة ، ثم يضحي فيعلم أنّه صلى لغير القبلة كيف يصنع؟ قال : إن كان في وقت فليعد صلاته ، وإن كان مضى الوقت فحسبه اجتهاده » (٥).

__________________

(١) في ص ٤٠ ، ٤٤ وغيرهما.

(٢) في ص ٤٠ ٤٣.

(٣) الوسائل ٤ : ٣١٥ / أبواب القبلة ب ١١ ح ١.

(٤) الوسائل ٤ : ٣١٦ / أبواب القبلة ب ١١ ح ٣.

(٥) الوسائل ٤ : ٣١٧ / أبواب القبلة ب ١١ ح ٦.

٥٥

وفيه : أنّ ذكر الاجتهاد ليس لخصوصية فيه ، بل لأجل أنّ المفروض في السؤال أنّ الرجل في قفر من الأرض واليوم غيّم ، وبطبيعة الحال يتحرى المتصدي للصلاة ويفحص عن القبلة في مثل هذا الظرف ، فتخصيص الاجتهاد بالذكر لكونه جارياً مجرى الغالب ، فلا يدلّ على المفهوم حتى يتقيد به الإطلاق المزبور لو قلنا بثبوت المفهوم الاصطلاحي للقيد.

الثانية : صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « في الأعمى يؤم القوم وهو على غير القبلة ، قال : يعيد ولا يعيدون ، فإنّهم قد تحروا » (١) فانّ تعليل إعادته دونهم بتحرّيهم دونه يدلّ على دوران الصحة مدار التحري والاجتهاد ، فبدونه تجب الإعادة ، ومقتضى الإطلاق عدم الفرق بين الوقت وخارجه.

وفيه : أنّ ظاهر الصحيح أنّ الانكشاف للأعمى إنّما كان في الوقت وبعد الفراغ من الصلاة ، من جهة أخبار المأمومين إيّاه الذين قد تحروا فلا يشمل خارج الوقت.

ويعضده التصريح بالتفصيل بين الوقت وخارجه في صحيحة أبي بصير الواردة في الأعمى عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « الأعمى إذا صلّى لغير القبلة فإن كان في وقت فليعد ، وإن كان قد مضى الوقت فلا يعيد » (٢).

وبالجملة : فالصحيحة أجنبية عن القضاء الذي هو محلّ الكلام ، بل هي خاصة بالإعادة في الوقت فتحمل على الانحراف الكثير ، للنصوص المتقدمة النافية للإعادة في الوقت مع الانحراف اليسير وإن لم يتحرّ كأن كان غافلاً ونحوه كما مرّ (٣) ، إذ لا يحتمل اختصاص الأعمى بحكم دون غيره.

وكيف كان ، فالإطلاق المتقدم محكّم بعد سلامته عما يصلح للتقييد ، ولأجله يحكم بشمول الحكم للمجتهد وغيره كما عرفت.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣١٧ / أبواب القبلة ب ١١ ح ٧.

(٢) الوسائل ٤ : ٣١٨ / أبواب القبلة ب ١١ ح ٩.

(٣) في ص ٣٩ فما بعد.

٥٦

[١٢٥١] مسألة ٢ : إذا ذبح أو نحر إلى غير القبلة عالماً عامداً حرم المذبوح والمنحور ، وإن كان ناسياً أو جاهلاً أو لم يعرف جهة القبلة لا يكون حراماً (١).

______________________________________________________

(١) قد عرفت فيما سبق اعتبار الاستقبال في الذبيحة (١) بل عرفت أن الأقوى اعتباره في الذابح أيضاً (٢) ، للنص الصحيح الدال عليه كما مرّ.

وكيف كان ، فهل يختص هذا الحكم بصورة العلم والعمد ، فلا يعتبر الاستقبال مع الخطأ في الاجتهاد أو الاعتقاد أو الجهل أو النسيان ، أو يعم جميع الصور؟

المشهور بل المتسالم عليه بين الأصحاب هو الأول. إنما الكلام في مستنده فنقول :

لا ينبغي الإشكال في حلّية الذبيحة إذا ذبحها إلى غير القبلة ناسياً أو مخطئاً للتصريح في النصوص بعدم البأس إذا لم يتعمّد ، التي منها صحيحة علي بن جعفر قال : « سألته عن الرجل يذبح على غير القبلة ، قال : لا بأس إذا لم يتعمد » (٣) ونحوها غيرها كما لا ينبغي الإشكال في الحلية إذا ذبح ولم يتمكن من معرفة جهة القبلة فكان جاهلاً بالموضوع ، لعدم صدق التعمد حينئذ كسابقه.

إنما الإشكال فيما إذا ذبح لغير القبلة جاهلاً بالحكم ، فانّ في إلحاقه بالجاهل بالموضوع تأملاً ، لقصور النصوص المتقدمة عن شموله ، فانّ الجاهل بالحكم عامد في الموضوع ، أي يصدر عنه الذبح إلى غير القبلة عن قصد واختيار ، فهو يعلم أنّه يذبح إلى جهة المشرق مثلاً أو دبر القبلة مثلاً ، وإن كان منشؤه الجهل بالحكم ، فلا يكون مندرجاً في تلك النصوص النافية للبأس إذا لم يتعمد ، هذا.

وقد استدل في الجواهر (٤) للإلحاق بوجهين :

__________________

(١) في ص ٣٦.

(٢) في ص ٣٦.

(٣) الوسائل ٢٤ : ٢٨ / أبواب الذبائح ب ١٤ ح ٥.

(٤) الجواهر ٣٦ : ١١١.

٥٧

أحدهما : رواية دعائم الإسلام : « في من ذبح لغير القبلة : إن كان خطأً أو نسي أو جهل فلا شي‌ء عليه ، وتؤكل ذبيحته ، وإن تعمّد ذلك فقد أساء ، ولا نحبّ أن تؤكل ذبيحته تلك إذا تعمّد » (١).

والمذكور في الجواهر « يجب » بدل « نحب » وهو غلط ، والصحيح هو الثاني كما أثبته المحدث النوري في المستدرك.

وكيف كان ، فقد ذكر قدس‌سره أنّ الجهل المذكور في الخبر مطلق يشمل الحكم والموضوع.

وفيه أوّلاً : أنّ الخبر ضعيف السند بالإرسال ، ولم يعلم استناد فتوى المشهور إليه كي ينجبر به الضعف لو سلّم كبرى الانجبار ، لاحتمال استنادهم إلى الوجه الآتي.

وثانياً : مع الغض عما ذكر لا مناص من اختصاص الجهل بالموضوع ، بقرينة المقابلة بينه وبين التعمد المذكور في ذيل الخبر ، إذ الجاهل بالحكم أيضاً عامد كما عرفت آنفاً ، فلا إطلاق للجهل بالنسبة إلى الحكم وإلا لما صحّ التقابل كما لا يخفى.

ثانيهما : صحيحة محمد بن مسلم : « عن رجل ذبح ذبيحة فجهل أن يوجهها إلى القبلة ، فقال عليه‌السلام : كُلْ منها ، فقلت له : فإنّه لم يوجهها ، فقال عليه‌السلام : فلا تأكل منها » (٢).

فذكر قدس‌سره أنّها تحتمل وجهين :

الأول : أنّ الجامع بين السؤالين هو الذبح جاهلاً بالقبلة ، وافتراقهما أنّ السؤال الأوّل عما لو صادف القبلة اتفاقاً فحكم عليه‌السلام بجواز الأكل حينئذ ، والسؤال الثاني عما لو لم يصادف فأجاب عليه‌السلام بالمنع. فقوله :

__________________

(١) المستدرك ١٦ : ١٣٨ / أبواب الذبائح ب ١٢ ح ٢ ، دعائم الإسلام ٢ : ١٧٤ / ٦٢٦.

(٢) الوسائل ٢٤ : ٢٧ / أبواب الذبائح ب ١٤ ح ٢.

٥٨

« فإنّه لم يوجهها » أي لم يتحقق الاستقبال ، قبال الفرض الأوّل الذي تحقق فيه صدفة. وعليه فالصحيحة تدلّ على خلاف المطلوب ، لدلالتها حينئذ على المنع عن الأكل لو ذبح لغير القبلة جهلاً.

الثاني : أنّ الجامع بينهما هو الذبح لغير القبلة ، والمقابلة بينهما باعتبار أنّ السؤال الأول عما لو صدر الذبح عن جهل فحكم عليه‌السلام بالجواز والثاني عما لو صدر عن علم وعمد فحكم بالمنع ، فقوله : « فإنّه لم يوجهها » أي تعمّد الذبح لغير القبلة عالماً. وعلى هذا تدل الصحيحة على المطلوب ، لدلالتها على حلية ما ذبح لغير القبلة جاهلاً.

ثم رجّح قدس‌سره الاحتمال الثاني ، لموافقته لفتوى المشهور.

وليت شعري بعد فرض تساوي الاحتمالين وتكافئهما فهل يقدّم أحدهما لمجرد المطابقة مع فتوى المشهور. نعم ، لو علم استنادهم إليها وأنّهم استظهروا منها الاحتمال الثاني بما أنّهم من أهل العرف صح الترجيح ، لكشفه حينئذ عن ظهور الصحيحة في ذلك ، لكن الاستناد غير ثابت.

والصحيح أن يقال : إنّ الصحيحة في حدّ نفسها ظاهرة في الاحتمال الثاني لضعف الأوّل غايته ، إذ من المستبعد جدّاً أنّ محمد بن مسلم على جلالته يجهل حلّية ما ذبح إلى القبلة وإن كان عن جهل ، بحيث يحتاج إلى السؤال عمّا لو ذبح الجاهل وصادف القبلة ، أفهل ترى أنّه يحتمل اعتبار العلم في الحكم بالحلّية مع أنّه غير معتبر حتى في العبادات المفتقرة إلى نية التقرب فضلاً عن مثل الذبح الذي هو عمل توصّلي ، فإن من صلّى متستراً متطهراً في غير الحرير يحكم بصحة صلاته وإن كان جاهلاً باعتبار هذه الأُمور ونحوها في الصلاة بلا إشكال.

وبالجملة : فالنصوص المتقدمة وإن كانت قاصرة الشمول للجاهل بالحكم لكن هذه الصحيحة تدل بظاهرها على انسحاب الحكم بالنسبة إليه أيضاً ، فهي المستند في التعميم.

٥٩

وكذا لو تعذّر استقباله كأن يكون عاصياً أو واقعاً في بئرٍ أو نحو ذلك مما لا يمكن استقباله ، فإنّه يذبحه وإن كان إلى غير القبلة (١).

______________________________________________________

(١) بلا خلاف فيه ، لجملة من النصوص التي منها صحيح الحلبي قال « قال أبو عبد الله عليه‌السلام : في ثور تعاصى فابتدره قوم بأسيافهم وسمّوا فأتوا علياً عليه‌السلام فقال : هذه ذكاة وحيّة ( أي سريعة ) ولحمه حلال » (١).

ورواية زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « سألته عن بعير تردّى في بئر فذبح من قبل ذنبه ، فقال : لا بأس إذا ذكر اسم الله عليه » (٢) وغيرهما.

فانّ هذه الروايات وإن سيقت لبيان عدم اعتبار وقوع الذبح والنحر في المذبح والمنحر وأنّه يجوز القتل كيف ما اتفق فيما إذا استعصى الحيوان وعرضه الجنون أو وقع في بئر بحيث امتنع ذبحه ونحره من الموضع المعيّن ، لكن يستفاد منها بالالتزام عدم اعتبار الاستقبال أيضاً ، لعدم التمكّن عادة من رعايته في هاتين الحالتين ، فالحكم بالجواز مطلقاً يكشف عن عدم اعتباره أيضاً كما هو ظاهر.

بل يمكن أن يقال : إنّ النصوص السابقة التي أُنيط فيها التحريم بتعمد ترك الاستقبال بنفسها قاصرة الشمول للمقام ، لعدم صدق العمد مع استعصاء الحيوان أو وقوعه في البئر ، إذ التعمد نحو الفعل عبارة عن صدوره عن قصد واختيار ، فلا بدّ وأن يكون كلا الطرفين الفعل والترك مقدوراً للمكلّف كي يصدر أحدهما عن اختياره ، والمفروض عدم التمكّن من استقبال الحيوان عند جنونه أو وقوعه في البئر ، فهو مضطر في ترك الاستقبال ، فلا يصدر ذلك عن الاختيار الذي هو الموضوع للحرمة في الأخبار.

وبالجملة : فالمقتضي للحرمة قاصر في حدّ نفسه ، مضافاً إلى وجود المانع وهي هذه النصوص كما عرفت.

__________________

(١) الوسائل ٢٤ : ١٩ / أبواب الذبائح ب ١٠ ح ١.

(٢) الوسائل ٢٤ : ٢١ / أبواب الذبائح ب ١٠ ح ٦.

٦٠