موسوعة الإمام الخوئي - ج ١٢

الشيخ مرتضى البروجردي

لكنّا ذكرنا غير مرّة خروج هذه الموارد ونحوها من صور تعذّر المركّبات عن باب التزاحم واندراجها في باب التعارض ، لعدم تعقّل المزاحمة بين أجزاء المركّب وشرائطه وموانعه ، إذ التزاحم لا يكون إلا بين تكليفين نفسيين مستقلّين يشتمل كلّ منهما على ملاك في نفسه ، وأمّا في باب المركّبات فليس في موردها إلا تكليف وحداني متعلّق بالمركّب ، وأمّا الأوامر الغيريّة فكلّها إرشاد إلى الجزئية أو الشرطية أو المانعية بمقتضى الارتباطية الملحوظة بينها ، فليس هناك إلاّ ملاك واحد قائم بالمجموع.

وعليه فمقتضى القاعدة الأوّلية عند تعذّر جزء أو شرط أو مانع سقوط الأمر المتعلّق بالمركّب رأساً من جهة العجز ، فانّ المقيّد متعذّر بتعذّر قيده ، إلاّ أنّه في خصوص باب الصلاة علمنا من الخارج بدليل الإجماع والضرورة أنّ الصلاة لا تسقط بحال ، فبعد سقوط الأمر الأوّل نستكشف من هذا الدليل تعلّق أمر جديد بالباقي من الأجزاء والشرائط والموانع الممكن إتيانها ، لكن متعلّق هذا الأمر مردّد بين ما تركّب من هذا القيد أو من ذاك.

ففي المقام يتردد الواجب بين أن يكون هي الصلاة عارياً مومئاً ، أو ساتراً مع الركوع والسجود وإن وقعت فيما لا يؤكل ، فالشك إنّما هو في المجعول الشرعي والوظيفة المقرّرة في هذا الظرف ، وأنّ الشارع هل ألغى شرطية الستر حينئذ أو ألغى المانعية لما لا يؤكل ، فالترديد في مقام الجعل وما اعتبره الشارع من رعاية الشرطية أو المانعية لا في مرحلة الامتثال من جهة العجز. وواضح أنّ مثله داخل في باب التعارض ، فتقع المعارضة حينئذ بين إطلاق دليل الشرطية وإطلاق دليل المانعية ، فلا بدّ من إعمال قواعد باب التعارض ورعاية مرجّحاته ، دون الرجوع إلى مرجّحات باب التزاحم من ملاحظة الأهمّية ونحوها.

وقد ذكرنا في محلّه أنّ الإطلاقين المتعارضين إن كانا على نحو يقدّم أحدهما على الآخر عرفاً ، بحيث صلح أن يكون بياناً ، كما لو ثبت أحدهما بدليل لفظي‌

٣٨١

والآخر بدليل لبّي قدّم ما حقّه التقديم (١) ، ومن هنا ذكرنا أنّه لو دار الأمر بين ترك القيام أو ترك الطمأنينة تعيّن الصلاة قائماً ، لأنّ الأوّل ثبت بدليل لفظي وهو قوله عليه‌السلام : « إذا قوي فليقم » (٢) والثاني بدليل الإجماع ، والمتيقّن منه غير صورة الدوران.

وإذا تكافأ الإطلاقان من غير ترجيح في البين سقطا بالمعارضة لا محالة. وحينئذ فان علمنا إجمالاً بلزوم رعاية إحدى الخصوصيتين المفروض تعذّر الجمع بينهما كالستر وعدم الوقوع فيما لا يؤكل مثلاً لزم التكرار ، عملاً بقاعدة الاشتغال ، فيصلّي عارياً مومئاً تارة ، وفيما لا يؤكل اخرى. وأمّا إذا لم يعلم بذلك كما هو الغالب ، فانّ فرض العلم الإجمالي نادر جدّاً كما لا يخفى فتنتهي النوبة إلى الأصل العملي ، ومقتضاه الرجوع إلى البراءة عن كلّ من الخصوصيتين ، فانّ تعيّن اعتبار خصوص الستر كاعتبار خصوص المانعية في هذه الحالة مشكوك يدفع بأصالة البراءة ، ونتيجته التخيير بين الأمرين ، فلا يجب الجمع بينهما لفرض التعذّر ، ولا يجوز تركهما لعدم الاضطرار ، والضرورات تقدّر بقدرها ، فيتخيّر في الأخذ بأحدهما وترك الآخر ، هذا حكم كبرى المسألة.

وأمّا التطبيق على المقام ، أعني الدوران بين الصلاة عارياً مومئاً وبين إيقاعها فيما لا يؤكل ، فلا ريب في تعيّن الأوّل ، لتقدّم دليل المانعية على دليل شرطية الستر ودليل جزئية الركوع والسجود.

أمّا الأوّل : فلأنّ دليل المانعية ناظر إلى دليل الساتر ومقيّد لإطلاقه ومحدّد لموضوعه ، فهو شارح للمراد منه ، وأنّه يعتبر فيه أن لا يكون مما لا يؤكل فغير المأكول وجوده كعدمه في عدم تحقّق الستر الصلاتي به.

ومنه يظهر وجه تقدّمه على الثاني ، إذ الركوع والسجود وظيفة من يتمكّن‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ٣٦٤.

(٢) الوسائل ٥ : ٤٩٥ / أبواب القيام ب ٦ ح ٣.

٣٨٢

[١٣٠٧] مسألة ٣٩ : إذا اضطر إلى لبس أحد الممنوعات من النجس وغير المأكول ، والحرير ، والذهب ، والميتة ، والمغصوب ، قدم النجس على الجميع ، ثمّ غير المأكول ، ثم الذهب والحرير ويتخيّر بينهما ، ثم الميتة (*) فيتأخّر المغصوب عن الجميع (١).

______________________________________________________

من الساتر ، وإلا فالعاري وظيفته الإيماء إليهما. وعليه فدليل المانعية رافع لموضوع وجوب الركوع والسجود ، إذ يتحقّق به عدم التمكّن من الستر المعتبر في الصلاة ، فلا موضوع لهما.

وإن شئنا عبّرنا بحكومة دليل مانعية الصلاة فيما لا يؤكل على دليل وجوب الركوع والسجود ، لارتفاع موضوعهما به ، بل وعلى دليل وجوب الستر ، لنظره وكونه شارحاً للمراد منه كما مرّ.

فتحصّل : أنّ المتعيّن في هذه الصورة تقديم دليل المانعية ، فيصلّي عارياً مومئاً.

ومما ذكرنا يظهر الحال في الصورة الثالثة ، أعني ما لو دار الأمر بين الصلاة عارياً وبين إيقاعها في مانع مع حرمته نفساً أيضاً من دون استتباع بينهما ، كما لو انحصر ثوبه في الحرير ، فانّ هذه الصورة هي مجمع للصورتين المتقدّمتين ، ولا تزيد عليهما بشي‌ء ، فإنّها من حيث الحرمة النفسية ملحقة بالصورة الأُولى ومن حيث الوضعية ملحقة بالثانية ، فهي ملحقة بباب التزاحم من جهة وبباب التعارض من جهة أُخرى ، وحيث حكمنا في الصورتين بتعيّن الصلاة عارياً مومئاً وإن كان ذلك بملاكين كما عرفت مفصّلاً ، ففي المقام أيضاً كذلك ، بل بطريق أولى كما لا يخفى.

(١) تقدّم الكلام فيما إذا انحصر اللباس في ثوب يحرم لبسه في الصلاة‌

__________________

(*) الظاهر تقديم الميتة وغير المأكول على الذهب والحرير ويتخير بينهما إذا كانت الميتة ميتة مأكول اللحم ، وإلا قدم غير المأكول.

٣٨٣

تكليفاً ، أو وضعاً ، أو هما معاً من دون اضطرار إلى أصل اللبس ، بأن تمكّن من الصلاة عارياً.

وأمّا إذا لم يتمكّن فاضطرّ إلى لبس أحد الممنوعات في الصلاة فقد ذكر في المتن أنّه يقدّم النجس أولاً ، ثم غير المأكول ، ثم الحرير والذهب مخيّراً بينهما ، ثم الميتة ثم المغصوب.

أقول : أمّا تقدّم النجس على الجميع فظاهر بناءً على ما عرفت من جواز الصلاة فيه حتى مع عدم الاضطرار إلى اللبس والتمكّن من الصلاة عارياً ، فمع الاضطرار بطريق أولى. وأمّا على المبنى الآخر فحكمه حكم الميتة وغير المأكول الذي ستعرفه.

وأمّا بقية المذكورات فصور الدوران بينها ثلاثة.

الاولى : أن يدور الأمر بين ارتكاب أحد مانعين من دون حرمة نفسيّة في شي‌ء منهما ، كما لو دار الأمر بين الصلاة في غير المأكول أو في الميتة بناءً على جواز الانتفاع بها في غير البيع كما هو الصحيح.

الثانية : أن يدور الأمر بين ارتكاب مانع وبين حرام نفسي من دون تضمّنه للمانعية ، أو لو كانت فهي تابعة للحرمة النفسية كما لو دار الأمر بين غير المأكول أو الميتة وبين المغصوب.

الثالثة : أن يدور بين محرّم نفساً ووضعاً وبين الحرام النفسي مع حرمته وضعاً أيضاً مستقلا ، كما في الدوران بين الذهب والحرير ، أو تبعاً كما لو دار بين أحدهما وبين المغصوب ، أو مع عدم الحرمة الوضعية أصلاً كما في المثال لو قلنا بعدم السراية.

أمّا الصورة الأُولى : فقد عرفت اندراجها في باب التعارض ، وأنّه بعد سقوط الأمر المتعلّق بالمركّب لمكان التعذّر واستكشاف أمر جديد متعلّق بالباقي بدليل عدم سقوط الصلاة بحال يتردّد المجعول في هذه الحالة بين أن‌

٣٨٤

يكون هو اعتبار المانعية لخصوص الميتة أو لخصوص غير المأكول ، وحيث لا علم إجمالي غالباً بإحدى الخصوصيتين كي يستلزم التكرار فالمرجع أصالة البراءة عن كلّ منهما ، فيتخيّر في الصلاة في أيّ منهما شاء.

وبالجملة : فالمقام كغيره من سائر المركّبات التي يتعذّر الجمع بين جميع خصوصياتها ، خارج عن باب المزاحمة رأساً كما مرّ توضيحه في المسألة السابقة. فلا وجه لملاحظة الأهمّية ، بل هي من صغريات باب التعارض فلا بدّ من إعمال قواعد هذا الباب ، ومقتضاها التخيير في المقام كما عرفت.

ومنه يظهر أنّه لا وجه لتأخير الميتة عن غير المأكول فضلاً عن الذهب والحرير كما صنعه في المتن بل هي وغير المأكول في عرض واحد.

ومن الغريب أنّه قدس‌سره مع اعترافه بجواز الانتفاع بالميتة ، وعدم حرمتها إلا وضعاً لا تكليفاً كغير المأكول كيف أخّرها عنه مع تساويهما من جميع الجهات ، وحديث الأهمّية قد عرفت أنّه لا موضوع لها في أمثال المقام.

وأمّا الصورة الثانية : أعني الدوران بين غير المأكول أو الميتة وبين المغصوب ، فلا ريب في اندراجها في باب التزاحم ، لعدم التنافي في مقام الجعل بين النهي عن الغصب وبين اعتبار المانعية لأحدهما في الصلاة ، غايته أنّ المكلّف غير قادر على الجمع بينهما في مقام الامتثال ، لفرض الاضطرار إلى أحد اللبسين ، فلا بدّ من رعاية مرجّحات هذا الباب.

وحيث أنّ القدرة المعتبرة في الغصب عقلية ، وفي المانعية المعتبرة لأحدهما في الصلاة شرعية كما أُشير إليه سابقاً (١) ، بل إن كافة القيود المعتبرة في الصلاة من الوجودية والعدمية الراجعة إلى الأجزاء والشرائط والموانع كلّها مما اعتبرت فيها القدرة شرعاً ، كما يقتضيه دليل جعل البدل لها بأسرها بمراتبه النازلة ، الكاشف عن تقيّد المبدل عنه شرعاً بفرض التمكّن ، وقد تقرّر في‌

__________________

(١) في ص ٣٧٩.

٣٨٥

محلّه (١) أنّ ما اعتبرت فيه القدرة عقلاً مقدّم على ما اعتبرت فيه شرعاً في المتزاحمين ، لارتفاع موضوع الثاني بالأوّل ، وكونه بمثابة الدليل الحاكم كما أشرنا إليه قريباً كان اللازم في المقام تعيّن الصلاة في الميتة أو في غير المأكول وعدم جوازها في المغصوب.

وأمّا الصورة الثالثة : فيظهر الحال فيها ممّا مرّ ، فإنّها مجمع للصورتين المتقدّمتين ، فاذا دار الأمر بين الذهب والحرير فمن حيث المانعية ملحقة بالصورة الأُولى ، فهي مندرجة في باب التعارض وحكمه التخيير ، دفعاً لاحتمال المانعية لخصوص كلّ منهما بأصل البراءة كما عرفت. ومن حيث الحرمة النفسية ملحقة بباب التزاحم ، وحيث لا ترجيح فالحكم أيضاً هو التخيير. كما أنّ نسبة الحرمة النفسية من كلّ منهما إلى الوضعية في الأُخرى على حدٍ سواء ، فلا ترجيح بوجه من الوجوه.

وإذا دار بين أحدهما وبين المغصوب فمن حيث المانعية في الغصب على القول بها ، وإن كانت تابعة تقع المعارضة بينها وبين المانعية في أحدهما ، فمن هذه الجهة الحكم هو التخيير ، وأمّا من حيث الحرمة النفسية فهما من باب المتزاحمين ، والقدرة المعتبرة فيهما عقلية كما لا يخفى ، فتصل النوبة إلى الترجيح بالأهمّية ، وحيث إن حرمة الغصب أهم من حرمة لبس الذهب أو الحرير ، إذ ليس في موردهما إلاّ حقّ الله تعالى فقط ، وأمّا الغصب فارتكابه يتضمّن تضييع حقّ الناس زائداً على حقّه تعالى ، فالمتعيّن تركه والصلاة في أحدهما.

وبعبارة اخرى : حرمة الغصب نفساً تتزاحم مع كلّ من التحريمين الثابتين للذهب والحرير النفسي والوضعي ، وتقدّم عليهما بملاكين ، فإنّها تتقدّم على حرمتهما النفسية بملاك الأهمية ، وعلى حرمتهما الوضعية بملاك تقدّم القدرة العقلية على الشرعية كما ظهر وجهه ممّا بيّناه.

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ٣٥٨.

٣٨٦

[١٣٠٨] مسألة ٤٠ : لا بأس بلبس الصبي الحرير (١) فلا يحرم على الولي إلباسه إيّاه ، وتصحّ صلاته فيه (*) بناء على المختار من كون عباداته شرعية.

______________________________________________________

فتحصّل من جميع ما ذكرناه : أنّ النجس مقدّم على الجميع ، من جهة النصّ المسوّغ للصلاة فيه عند الانحصار حتى مع عدم الاضطرار كما تعرّضنا له في محلّه (١) وبعده غير المأكول والميتة مخيّراً بينهما ، ثم الذهب والحرير مخيّراً بينهما أيضاً ، ثم المغصوب.

(١) لقصور المقتضي للمنع ، فإنّ الأخبار الناهية عن اللبس خاصّة بالرجال ، مضافاً إلى حديث رفع القلم عن الصبي (٢). وعليه فلا يحرم إلباسه إياه على الولي كما هو ظاهر.

وأمّا صلاته فيه بناءً على شرعيّة عباداته فقد حكم في المتن بالصحة. لكنّه مشكل جدّاً بعد إطلاق قوله عليه‌السلام : « لا تحلّ الصلاة في حرير محض » (٣) الشامل للبالغ وغيره. ومن الظاهر أنّ الحلّية في الرواية يراد بها الوضعية ، دون التكليفية كي تختصّ بالأوّل.

وواضح أيضاً أن لا تلازم بين المانعية والحرمة في الحرير وكذا الذهب بعد ثبوت كلّ منهما بدليل مستقل ، وعدم تبعية أحدهما للآخر كما في الغصب فارتفاع الإثم بدليل خاص كما في المقام لا يقتضي ارتفاع المانعية بعد إطلاق دليلها كما عرفت.

ودعوى انصراف المانعية إلى خصوص اللبس المحرّم في نفسه المفقود في‌

__________________

(*) فيه منع ، وقد مرّ أن الجواز التكليفي لا يلازم الصحة.

(١) شرح العروة ٣ : ٣٦١.

(٢) الوسائل ١ : ٤٥ / أبواب مقدمة العبادات ب ٤ ح ١١ ، ١٢ ، ٢٩ : ٩٠ / أبواب القصاص في النفس ب ٣٦ ح ٢.

(٣) المتقدم في ص ٣٢٧.

٣٨٧

[١٣٠٩] مسألة ٤١ : يجب تحصيل الساتر للصلاة ولو بإجارة أو شراء (١). ولو كان بأزيد من عوض المثل ما لم يجحف بماله ولم يضر بحاله ، ويجب قبول الهبة أو العارية ما لم يكن فيه حرج ، بل يجب الاستعارة والاستيهاب كذلك.

[١٣١٠] مسألة ٤٢ : يحرم لبس لباس الشهرة (*) بأن يلبس خلاف زيّه من حيث جنس اللباس ، أو من حيث لونه ، أو من حيث وضعه وتفصيله وخياطته كأن يلبس العالم لباس الجندي ، أو بالعكس مثلاً (٢).

______________________________________________________

المقام كما في النساء وكما في الحرب أو الضرورة غير مسموعة كما مرّ سابقاً (١) فلاحظ.

(١) لوجوب تحصيل مقدّمات الواجب المطلق عقلاً ولو استلزم صرف المال ما لم يبلغ حدّ الإجحاف والإضرار بالحال ، كما لو أُريد بأضعاف قيمته ، فيرتفع حينئذ بدليل نفي الحرج والضرر. فلو اهدي الساتر وجب القبول ما لم يتضمّن المنّة ، بل وجبت الاستعارة والاستيهاب ما لم تكن فيه ذلّة ، وإلا فمع المهانة أو الامتنان اللذين يشقّ تحملهما عادة يرتفع الوجوب بدليل نفي الحرج كما هو ظاهر.

(٢) فسّر قدس‌سره لباس الشهرة بلبس الإنسان ما هو خلاف زيّه من حيث الجنس أو اللون أو سائر الخصوصيات ، ومثّل له بلبس العالم لباس الجندي أو العكس. وكأنّه استند في تحريمه إلى النهي الوارد في جملة من النصوص المذكورة في الوسائل. كمصحّح أبي أيّوب الخزّاز عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إنّ الله تعالى يبغض شهرة اللباس » (٢).

ومرسل ابن مسكان عنه عليه‌السلام قال : « كفى بالمرء خزياً أن يلبس‌

__________________

(*) على الأحوط في غير ما إذا انطبق عليه عنوان الهتك ونحوه.

(١) في ص ٣٤٢.

(٢) الوسائل ٥ : ٢٤ / أبواب أحكام الملابس ب ١٢ ح ١.

٣٨٨

ثوباً يشهره ، أو يركب دابّة تشهره » (١).

ومرسل عثمان بن عيسى عنه عليه‌السلام قال : « الشهرة خيرها وشرّها في النار » (٢).

وخبر أبي سعيد عن الحسين عليه‌السلام قال : « من لبس ثوباً يشهره كساه الله يوم القيامة ثوباً من النار » (٣).

وخبر ابن القداح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : نهاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن لبس ثياب الشهرة ... » إلخ. وهذا الأخير مذكور في باب ١٧ من أحكام الملابس الحديث ٥ الوسائل (٤).

لكن هذه الأخبار مضافاً إلى ضعف أسانيد ما عدا الأوّل منها إمّا من جهة الإرسال ، أو وجود سهل بن زياد في الطريق كما في الأخير ، أو محمد بن سنان كما فيما قبله. تتطرّق المناقشة في دلالتها على النهي عن لباس الشهرة بالمعنى الذي فسّره الماتن ، فانّ الظاهر من هذه الأخبار كون الممنوع لبس ما يوجب اشتهار لابسه بين الناس ، بحيث يعرف به ويكون مميّزا له عمّا عداه ، كأن يلبس الإنسان عمامة حمراء أو ذات حنكين أو الفروة مقلوبة ونحو ذلك ممّا يكون معرّفاً للشخص ويشار إليه بالبنان ، فيوجب اشتهاره بين الناس لامتيازه عنهم.

ومن الواضح أنّ مجرّد لبس ما هو خلاف الزي لا يقتضي ذلك ، فلو لبس العالم لباس الجندي أو بالعكس ودخل في بلدة غريبة لا يشتهر بذلك ، لمساواته في اللبس مع أهل ذاك اللباس ، بخلاف لبس مثل العمامة الحمراء الموجب للاشتهار حيثما كان ، لاختصاصه به وعدم اشتراك غيره معه.

وبالجملة : الخروج عن الزي شي‌ء والاشتهار باللباس شي‌ء آخر ، والنسبة‌

__________________

(١) ، (٢) ، (٣) الوسائل ٥ : ٢٤ / أبواب أحكام الملابس ب ١٢ ح ٢ ، ٣ ، ٤.

(٤) الوسائل ٥ : ٣٠ / أبواب أحكام الملابس ب ١٧ ح ٥.

٣٨٩

بينهما عموم من وجه ، والأخبار إنّما تشير إلى المعنى الثاني دون الأوّل والموضوع فيها مطلق ما يوجب الاشتهار من اللباس أو الدابة وغيرهما كما يقتضيه الإطلاق في بعض تلك الأخبار ، ولا يختص بالثياب ، ولذا عنون الباب في الكافي بباب كراهة الاشتهار بين الناس.

ويؤيّد ما ذكرناه في تفسير هذه الأخبار صحيح حماد بن عثمان قال : « كنت حاضراً لأبي (١) عبد الله عليه‌السلام إذ قال له رجل : أصلحك الله ذكرت أنّ علي بن أبي طالب عليه‌السلام كان يلبس الخشن ، يلبس القميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك ، ونرى عليك اللباس الجيّد ، قال فقال له : إنّ علي بن أبي طالب عليه‌السلام كان يلبس ذلك في زمان لا ينكر ، ولو لبس مثل ذلك اليوم لشهر به ، فخير لباس كلّ زمان لباس أهله .. » (٢).

حيث يظهر منه أنّ المذموم ليس مجرّد الخروج عن الزي ، بأن يلبس العالم لباس الجندي أو بالعكس ولو في داره مدّة قليلة دون أن يطّلع عليه أحد ، بحيث يكون حكمه حكم لبس الرجل الذهب أو الحرير ، بل العبرة أن يشهر به بين الناس ويكون من أوصافه ونعوته التي يعرف بها كالأمثلة المتقدّمة ، فيقال مثلاً : الرجل الذي عمامته حمراء وهكذا.

ثم إنّ لباس الشهرة بالمعنى الأوّل الذي فسّره في المتن لا دليل على حرمته بل ولا قائل به فيما نعلم ، وأمّا المعنى الثاني الذي تضمّنته هذه الأخبار فلا يمكن الالتزام بحرمته أيضاً ، فإنّ الصحيحة الأخيرة المتقدّمة آنفاً لا يظهر منها أكثر من الكراهة كما لا يخفى ، وما عداها من الروايات السابقة كلّها ضعيفة السند ما عدا الاولى منها كما عرفت. والرواية الاولى وإن كانت صحيحة وبحسب الدلالة ظاهرة ، لظهور كلمة يبغض في الحرمة ، إلا أنّه لأجل عدم ذهاب الأصحاب إلى التحريم ، بل لم يعهد القول به صريحاً من أحد ، لا يمكن الالتزام‌

__________________

(١) [ في الكافي ٦ : ٤٤٤ / ١٥ عند أبي عبد الله بدل لأبي عبد الله ].

(٢) الوسائل ٥ : ١٧ / أبواب أحكام الملابس ب ٧ ح ٧.

٣٩٠

وكذا يحرم على الأحوط لبس الرجال ما يختصّ بالنساء (١) أو بالعكس (*).

______________________________________________________

به ، فإنّ الحرمة لو كانت ثابتة لكانت ظاهرة ، بل لم يقع الخلاف فيها في مثل هذه المسألة.

وعليه فالأقوى هي الكراهة ، استناداً إلى هذه الرواية أو غيرها من الأخبار على وجه.

(١) على الأشهر كما قيل ويستدلّ له بعدة من الأخبار المذكورة في الوسائل في باب ١٣ من أحكام الملابس.

منها : ما رواه الطبرسي في مكارم الأخلاق عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله عليه‌السلام وأبي الحسن عليه‌السلام : في الرجل يجرّ ثيابه ، قال : « إنّي لأكره أن يتشبّه بالنساء » (١).

لكن الرواية ضعيفة السند ، إذ الطبرسي لا يروي عن سماعة بلا واسطة كما هو ظاهر ، فقد سقط ما بينهما فتكون مرسلة.

نعم ، رواها في الكافي بعين هذا المتن بسند صحيح (٢) لكن الدلالة قاصرة فانّ الكراهة في لسان الأخبار وإن لم تكن بالمعنى المصطلح لكنّها غير ظاهرة في التحريم أيضاً ، فغايتها الدلالة على مطلق المرجوحية الصالح لكلّ منهما ، فلا تدلّ على الحرمة من دون القرينة المفقودة في المقام كما لا يخفى.

ومنها : ما رواه عنه أيضاً عن أبي عبد الله عن آبائه عليهم‌السلام قال : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يزجر الرجل أن يتشبّه بالنساء ، وينهى‌

__________________

(*) على الأحوط فيما إذا تزيى أحدهما بزي الآخر ، وأما إذا كان اللبس لغاية أُخرى فلا حرمة ، ولا سيما إذا كانت المدة قصيرة.

(١) الوسائل ٥ : ٢٥ / أبواب أحكام الملابس ب ١٣ ح ١ ، مكارم الأخلاق ١ : ٢٥٦ / ٧٦٧.

(٢) الكافي ٦ : ٤٥٨ / ١٢ [ ولعله يريد كون السند معتبراً لا صحيحاً بالاصطلاح ، لأن في السند عثمان بن عيسى ، وهو واقفي ، لم يثبت رجوعه عن الوقف كما ذكره في معجم رجال الحديث ١٢ : ١٣٢ ].

٣٩١

المرأة أن تتشبّه بالرجال في لباسها » (١) وهي أيضاً ضعيفة بما عرفت.

ومنها : ما رواه عنه أيضاً عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « خير شبابكم من تشبّه بكهولكم ، وشرّ كهولكم من تشبّه بشبابكم » (٢). وهي مضافاً إلى ضعف السند بما مرّ أجنبية عن المقام رأساً كما لا يخفى.

وربما يستدلّ للحرمة بما رواه في الكافي عن عمرو بن شمر ، عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث : لعن الله المحلّل والمحلّل له ، ومن تولّى غير مواليه ، ومن ادعى نسباً لا يعرف والمتشبّهين من الرجال بالنساء ، والمتشبّهات من النساء بالرجال ... » إلخ (٣).

ونوقش فيه بعدم إرادة الإطلاق من التشبّه ، بل في خصوص التذكّر والتأنّث ، كأن يكون الشخص مخنّثاً كما يشهد له ما رواه في العلل بسنده عن زيد بن علي عن آبائه عن علي عليه‌السلام : « أنّه رأى رجلاً به تأنيث في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له : اخرج عن مسجد رسول الله يا من لعنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قال علي عليه‌السلام : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : لعن الله المتشبّهين من الرجال بالنساء والمتشبّهات من النساء بالرجال » (٤).

وفيه : أنّه لا موجب لرفع اليد عن الإطلاق بمثل هذه الرواية الضعيفة بحسب السند من جهة حسين بن علوان وغيره الواقع في الطريق ، البعيدة بحسب المضمون ، فانّ من به تأنيث يجب إجراء الحدّ عليه وهو القتل ، لا مجرّد الإخراج عن مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فإطلاق رواية جابر الشامل لمثل اللبس محكّم.

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٢٥ / أبواب أحكام الملابس ب ١٣ ح ٢ ، مكارم الأخلاق ١ : ٢٥٦ / ٧٦٨.

(٢) الوسائل ٥ : ٢٥ / أبواب أحكام الملابس ب ١٣ ح ٣ ، مكارم الأخلاق ١ : ٢٥٧ / ٧٦٩.

(٣) الوسائل ١٧ : ٢٨٤ / أبواب ما يكتسب به ب ٨٧ ح ١ ، الكافي ٨ : ٦٩ / ٢٧.

(٤) الوسائل ١٧ : ٢٨٤ / أبواب ما يكتسب به ب ٨٧ ح ٢ ، علل الشرائع : ٦٠٢ / ٦٣.

٣٩٢

والأحوط ترك الصلاة فيهما وإن كان الأقوى عدم البطلان (*) (١).

______________________________________________________

نعم ، الظاهر منها أن يكون ذلك بقصد التشبّه ، فلو لبس أحدهما ما يختصّ بالآخر من دون القصد المزبور ، بل لغرض آخر عقلائي ، سيما إذا كانت المدة يسيرة كما لو لبس الرجل حذاء زوجته في البيت لغرض التطهير أو بالعكس أو لبس أحدهما ثوب الآخر لدفع البرد ونحوه من سائر الدواعي فالرواية منصرفة عن مثل ذلك كما لا يخفى.

على أنّ الرواية في نفسها ضعيفة السند أيضاً بعمرو بن شمر ، فلا يمكن الاستدلال بها للتحريم حتى مع قصد التشبه. فالأقوى أنّ الحكم مبني على الكراهة استناداً إلى موثّقة سماعة المتقدّمة.

(١) بناءً على حرمة اللبس في الفرعين المتقدّمين أعني لباس الشهرة والتشبّه فهل تثبت المانعية له أيضاً فتبطل الصلاة فيه؟

ذهب كاشف الغطاء قدس‌سره إلى ذلك ، بدعوى الملازمة بين الحرمة النفسية والمانعية (١). وهي كما ترى ، لعدم الملازمة بين الأمرين ، إذ مجرّد النهي عن أمر خارج عن حقيقة الصلاة كما في المقام لا يقتضي الفساد كما هو ظاهر.

والصحيح في المقام أن يقال : إنّه إذا كان معه ساتر بالفعل غير ذاك اللباس المحرّم ، بحيث تحقّق ستر عورته فعلاً بستر مباح فلا ينبغي الارتياب في الصحة ، لتحقّق الشرط وهو الستر بحده. ومجرّد لبس ما هو محرّم الذي هو كالنظر إلى الأجنبية في الخروج عن حقيقة الصلاة لا يوجب البطلان ، لعدم الاتحاد بينه وبين شي‌ء من أجزاء العبادة كما هو واضح.

وأمّا إذا كان الساتر الفعلي هو اللباس المحرّم ، بحيث كان هو بنفسه مصداقاً‌

__________________

(*) لا يبعد البطلان في الساتر بالفعل المحرم لبسه.

(١) كشف الغطاء : ٢٠١ السطر ٢١.

٣٩٣

[١٣١١] مسألة ٤٣ : إذا لم يجد المصلّي ساتراً حتى ورق الأشجار والحشيش فان وجد الطين (*) أو الوحل ، أو الماء الكدر ، أو حفرة يلج فيها ويتسترّ بها أو نحو ذلك ممّا يحصل به ستر العورة صلّى صلاة المختار (**) قائماً مع الركوع والسجود ، وإن لم يجد ما يستر به العورة أصلاً ، فإن أمن من الناظر بأن لم يكن هناك ناظر أصلاً ، أو كان وكان أعمى ، أو في ظلمة ، أو علم بعدم نظره أصلاً ، أو كان ممّن لا يحرم نظره اليه كزوجته أو أمته ، فالأحوط تكرار الصلاة (***) بأن يصلّي صلاة المختار تارة ومومئاً للركوع والسجود أُخرى قائماً ، وإن لم يأمن من الناظر المحترم صلّى جالساً (١).

______________________________________________________

للشرط وهو الستر ، فبناءً على ما اخترناه سابقاً من سراية حرمة الشرط إلى المشروط اتّجه البطلان ، إذ عليه يتعلّق النهي بنفس العبادة فيوجب فسادها.

وأمّا بناءً على ما اخترناه أخيراً من عدم السراية ، إذ لا مقتضي لها ، فإنّ قضية الاشتراط ليست إلا كون المأمور به الحصّة الخاصّة من الطبيعي وهي الصلاة المقارنة للستر مثلاً فكون مصداق الستر حراماً لا يستوجب عدم تحقّق تلك الحصّة الخاصّة ، فالأقوى حينئذ الصحّة وإن كان آثماً ، إلا فيما إذا كان الشرط عباديا كالطهارات الثلاث ، فانّ فسادها يقتضي فساد العبادة ، فلا يتحقّق الشرط فتبطل الصلاة للإخلال بالشرط. ولا يقاس المقام بالساتر المغصوب ، لوضوح الفرق فتدبّر جيداً.

(١) قد ذكرنا في بحث الستر والساتر أنّ الستر الصلاتي يفرق عن الستر الواجب في نفسه عن الناظر المحترم ، فإنّ الثاني يتحقّق بكلّ ما يحصل معه ستر‌

__________________

(*) مرّ أنه في عرض الحشيش ونحوه.

(**) الأظهر أن المتستّر بدخول الوحل أو الماء الكدر أو الحفرة يصلي مع الإيماء ، والأحوط الجمع بينها وبين صلاة المختار.

(***) لا بأس بالاكتفاء بالصلاة مع الإيماء قائماً.

٣٩٤

البشرة ، ويمنع عن بدوّ العورة وإن كان بالارتماس في الماء ، أو الدخول في الحفيرة ، أو يطلي بالطين ونحوه مما تتحفّظ معه سوأته عن وقوع النظر إليها. وهذا بخلاف الأوّل ، فإنّه يعتبر فيه ساتر خاص لدى الاختيار ، وهو ما يصدق عليه عنوان الثوب ، فلا يجزئ غيره اختياراً حتى القطن قبل صنعه ثوباً فضلاً عن ورق الأشجار والحشيش ونحوهما ، وقد استفيد ذلك من الأدلّة كما تقدّم في محلّه (١).

نعم ، مع العجز عن الثوب ينتقل إلى بدله وهو ورق الأشجار والحشيش فإنها المرتبة النازلة من الساتر كما تدلّ عليه صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : « سألته عن الرجل قطع عليه أو غرق متاعه فيبقى عرياناً وحضرت الصلاة كيف يصلّي؟ قال : إن أصاب حشيشاً يستر به عورته أتمّ صلاته بالركوع والسجود ، وإن لم يصب شيئاً يستر عورته أومأ وهو قائم » (٢).

وأمّا الدخول في الحفرة ، أو الماء الكدر ، أو الطلي بالطين ونحوه ممّا ذكر في المتن فلا عبرة بشي‌ء منها ، لعدم الدليل على حصول الستر الصلاتي بها ، فمع العجز عن الثوب وعن الحشيش وظيفته الصلاة عارياً التي ستعرف كيفيتها وإن تمكّن من هذه الأُمور ، فإنّها كالعدم.

وممّا ذكرنا تعرف أنّ ورق الأشجار والحشيش في طول الثوب وبدل عنه فلا تجوز الصلاة فيها اختياراً مع التمكّن من الثوب ، فما يظهر من المتن من كونهما في عرض واحد في غير محلّه.

وكيف كان ، فيقع الكلام في كيفيّة صلاة العاري. وقد اختلفت فيها كلماتهم بعد الاتّفاق على عدم سقوط الصلاة عنه.

فالمشهور أنّه مع الأمن من الناظر المحترم يصلّي قائماً مومئاً للركوع‌

__________________

(١) في ص ١٢٥ فما بعدها.

(٢) الوسائل ٤ : ٤٤٨ / أبواب لباس المصلي ب ٥٠ ح ١.

٣٩٥

والسجود ، ومع عدم الأمن يصلّي جالساً مومئاً. وقد اختاره في المتن مع احتياطه في الشق الأوّل من التفصيل بتكرار الصلاة مع الركوع والسجود تارة وبالإيماء إليهما اخرى.

وبإزاء هذا التفصيل أقوال :

منها : التخيير بين الأمرين من غير فرق بين الأمن من المطّلع وعدمه اختاره المحقق قدس‌سره في المعتبر (١).

ومنها : وجوب القيام مطلقاً ، اختاره ابن إدريس (٢).

ومنها : وجوب الجلوس مطلقاً ، نسب إلى السيد المرتضى قدس‌سره (٣) وغيره ، فمجموع الأقوال أربعة :

والأقوى ما عليه المشهور ، ومنشأ الاختلاف اختلاف الأخبار كما ستعرف.

وتوضيح الحال يستدعي التكلّم في مقامين :

أحدهما : في وظيفة العاري من حيث القيام والجلوس.

ثانيهما : في وظيفته من حيث الركوع والسجود أو الإيماء إليهما ، هذا لو صلّى قائماً ، وأمّا مع الجلوس فهما ساقطان عنه بلا إشكال كما ستعرف.

أمّا المقام الأوّل : فالروايات الواردة في المقام على طوائف ثلاث :

إحداها : ما دلّت على وجوب القيام مطلقاً كصحيحة علي بن جعفر المتقدّمة ، ونحوها موثّقة سماعة قال : « سألته عن رجل يكون في فلاة من الأرض فأجنب وليس عليه إلا ثوب واحد فأجنب فيه وليس يجد الماء ، قال : يتيمّم ويصلّي عرياناً قائماً ، يومئ إيماء » (٤) على رواية التهذيب (٥).

__________________

(١) المعتبر ٢ : ١٠٥.

(٢) السرائر ١ : ٢٦٠.

(٣) جمل العلم والعمل ( رسائل الشريف المرتضى ٣ ) : ٤٩.

(٤) الوسائل ٣ : ٤٨٦ / أبواب النجاسات ب ٤٦ ح ١ ، ٣.

(٥) التهذيب ١ : ٤٠٥ / ١٢٧١.

٣٩٦

لكن الكافي رواها بعين السند والمتن ، غير أنّ المذكور فيه قاعداً (١) بدل قائماً. فهي مضطربة المتن ، للعلم الإجمالي بصدور إحدى النسختين والاشتباه في الأُخرى. وأضبطيّة الكافي لدى الدوران لا تجري في المقام ، لأن الشيخ رواها في الاستبصار عن الكافي بلفظ قاعداً (٢) فهو ملتفت إلى اختلاف النسخ وفي مثله لا تجري الأضبطيّة كما لا يخفى. فلا عبرة بالموثّقة. وهناك أخبار أُخر ضعيفة ، والعمدة هي صحيحة علي بن جعفر كما عرفت.

ثانيها : ما دلّت على تعيّن الجلوس مطلقاً كصحيحة زرارة قال « قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : رجل خرج من سفينة عرياناً أو سلب ثيابه ولم يجد شيئاً يصلّي فيه ، قال : يصلّي إيماءً وإن كانت امرأة جعلت يدها على فرجها ، وإن كان رجلاً وضع يده على سوأته ثم يجلسان فيومئان إيماءً ولا يسجدان ولا يركعان فيبدو ما خلفهما ، تكون صلاتهما إيماءً برؤوسهما ... » إلخ (٣) ونحوها غيرها. لكنّها ضعيفة السند ، والعمدة هي هذه الصحيحة.

وكأنّ المحقّق قدس‌سره لأجل تعارض الطائفتين وعدم ترجيح في البين حكم بالتخيير ، كما أنّ من حكم بوجوب القيام مطلقاً قدّم الطائفة الأُولى ومن أوجب الجلوس مطلقاً قدّم الثانية.

ثالثها : ما تضمّن التفصيل بين وجود الناظر المحترم فجالساً وإلا فقائماً كمرسلة ابن مسكان عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « في الرجل يخرج عرياناً فتدركه الصلاة ، قال : يصلّي عرياناً قائماً إن لم يره أحد ، فإن رآه أحد صلّى جالساً » (٤) ومرسلة الصدوق التي هي بعين هذا المتن (٥) ، وصحيحة عبد الله بن مسكان عن أبي جعفر عليه‌السلام : « في رجل عريان ليس عليه ثوب ، قال :

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٩٦ / ١٥.

(٢) الاستبصار ١ : ١٦٩ / ذيل ح ٥٨٣.

(٣) ، (٤) الوسائل ٤ : ٤٤٩ / أبواب لباس المصلي ب ٥٠ ح ٦ ، ٣.

(٥) الوسائل ٤ : ٤٤٩ / أبواب لباس المصلي ب ٥٠ ح ٥ ، الفقيه ١ : ١٦٨ / ٧٩٣.

٣٩٧

إذا كان حيث لا يراه أحد فليصلّ قائماً » (١). وبذلك يجمع بين الطائفتين المتقدّمتين بحمل الاولى على صورة الأمن من المطّلع ، والثانية على عدم الأمن وتكون هذه الأخبار شاهدة للجمع ، لأنّ النسبة بينها وبين كلّ منهما نسبة الخاص إلى العام ، فتتجّه فتوى المشهور المنصور.

لكن العمدة من هذه الأخبار إنّما هي الصحيحة الأخيرة ، فإنّ مرسلة ابن مسكان لا عبرة بها وإن كان المرسل من أصحاب الإجماع ، لما تكرّر غير مرّة من أنّ الإجماع المدّعى على تصحيح ما يصحّ عن جماعة في عبارة الكشي (٢) لا يراد منه أكثر من دعوى الاتفاق على توثيقهم ، لا على قبول رواياتهم على الإطلاق ، بحيث لا ينظر إلى من بعدهم من الرواة كي تقبل وإن رووها مرسلاً أو عن ضعيف أو مجهول ، نعم لو قلنا بالمعنى الثاني أو بنينا على انجبار ضعف الخبر بالعمل كانت المرسلة معتبرة ، وشي‌ء منهما لا نقول به.

وأمّا مرسلة الصدوق فمضافاً إلى ضعفها في نفسها من جهة الإرسال يطمأنّ عادة بأنّها هي المرسلة الاولى بعينها ، لاتحادهما متناً كما عرفت.

فالعمدة هي صحيحة ابن مسكان ، لكنّه نوقش فيها بأنّها في حكم المرسل لأنّه من أصحاب الكاظم عليه‌السلام فلا يمكن روايته عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام بل قد حكى الكشي عن أبي النضر محمد بن مسعود العيّاشي عن محمد بن نصير عن محمد بن عيسى عن يونس أن عبد الله بن مسكان لم يرو عن الصادق عليه‌السلام إلا حديث « من أدرك المشعر فقد أدرك الحج » (٣). وقال النجاشي قيل : إنّه روى عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وليس بثبت (٤). فإذا لم تكن روايته عن الصادق عليه‌السلام ثابتة ، أو لم يرو إلا رواية واحدة‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٤٥٠ / أبواب لباس المصلي ب ٥٠ ح ٧.

(٢) رجال الكشي : ٣٧٥ / ٧٠٥.

(٣) رجال الكشي : ٣٨٢ / ٧١٦.

(٤) رجال النجاشي : ٢١٤ / ٥٥٩.

٣٩٨

فعدم روايته عن الباقر عليه‌السلام بطريق أولى.

أقول : أمّا حكاية الكشي فغير قابلة للاعتماد ، لأنّ محمد بن نصير الذي هو النميري غالٍ ملعون ، ادّعى النبوة ، ووردت فيه ذموم عن العسكري عليه‌السلام (١). نعم يمكن أن يراد به محمد بن نصير الكشي الذي هو شيخ الكشي لكنّه بعيد ، لكثرة رواية العيّاشي عن الأوّل. وكيف كان ، فلا أقل من احتماله فتسقط عن الاستدلال.

وأمّا ما ذكره النجاشي فهو غريب جدّاً ، فانّ روايات ابن مسكان عن الصادق عليه‌السلام كثيرة لا تحصى ، وكتاب الكافي مشحون به ، وقد استقصى الأردبيلي في جامع الرواة (٢) شطراً وافراً من رواياته عنه عليه‌السلام مستغرباً في ذيل كلامه دعوى من قال إنه لم يرو عنه عليه‌السلام إلا حديثاً واحداً.

ورواياته عنه عليه‌السلام أكثر ممّا ذكره بكثير كما لا يخفى على المتتبع وعليه فروايته عن الباقر عليه‌السلام ممكنة ولا استبعاد فيها بعد مساعدة الطبقة ، فإنّه مات في زمن الكاظم عليه‌السلام قبل الحادثة ، فيكون موته فيما بين سنة ١٤٨ التي توفي فيها الصادق عليه‌السلام وسنة ١٨٣ التي توفي فيها الكاظم ، وقد توفي الباقر عليه‌السلام سنة ١١٤ ، فمن الجائز أن يكون مدركاً له عليه‌السلام في زمن صالح لروايته عنه ، لعدم إباء الطبقة عن ذلك كما لا يخفى. وقد روى هذه الرواية ثقة عن ثقة عنه ، وهو موثّق ، بل من أصحاب الإجماع كما عرفت ، يروي عن الباقر عليه‌السلام على نحوٍ ظاهره الرواية عنه عليه‌السلام بلا واسطة ، فلما ذا تطرح الرواية بمجرّد الاستبعاد واحتمال الإرسال مع ما عرفت من عدم البعد فيه.

__________________

(١) كما ذكر في رجال الكشي : ٥٢٠ / ٩٩٩.

(٢) جامع الرواة ١ : ٥٠٧ ٥١٠.

٣٩٩

على أنّا قد عثرنا على رواية أُخرى له عن الباقر عليه‌السلام في باب النكاح بلفظ السماع ، قال : « سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول ... » إلخ (١) الظاهر بل الصريح في روايته عنه عليه‌السلام بلا واسطة.

وعثرنا أيضاً على رواية ثالثة عنه عليه‌السلام في باب الزكاة المذكورة في الصفحة السابعة من جلد الزكاة من كتاب من لا يحضره الفقيه الطبعة الجديدة (٢) ولعلّنا نظفر في فحصنا الأخير لتأليف الرجال على أكثر من ذلك.

وبالجملة : فلا محيص عن الالتزام بحجيّة هذه الرواية ، وأنّها مسندة فيؤخذ بها ، وبذلك يجمع بين الطائفتين المتقدّمتين ويثبت التفصيل الذي ذكره المشهور.

تنبيه : قد روى هذه الرواية أعني رواية ابن مسكان عن الباقر عليه‌السلام في الوسائل في المقام كما عرفت ، وفي الكافي عن المحاسن (٣) ، وفي نفس المحاسن (٤) وفي البحار (٥) وفي بقية الكتب الحديثية والاستدلالية حسبما لاحظناها ، ولكن رواها صاحب الوسائل في باب ٤٦ من أبواب النجاسات الحديث ٢ بعين السند والمتن عن الصادق عليه‌السلام (٦) والظاهر أنّه سهو إمّا من قلمه الشريف ، أو من النسّاخ ، لما عرفت. والصحيح ما أثبته في المقام.

بقي في المقام أمران :

الأوّل : الظاهر من كلمات الفقهاء ( قدس الله أسرارهم ) حيث عبّروا في مقام‌

__________________

(١) الوسائل ٢١ : ٥ / أبواب المتعة ب ١ ح ٢ ، الكافي ٥ : ٤٤٨ / ٢ ، التهذيب ٧ : ٢٥٠ / ١٠٨٠ [ لكن في الوسائل والكافي : عن ابن مسكان عن عبد الله بن سليمان قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول ... ].

(٢) الفقيه ٢ : ٧ / ٢٠.

(٣) [ لم نعثر عليه في المصدر المذكور ].

(٤) المحاسن ٢ : ١٢٢ / ١٣٣٨.

(٥) البحار ٨٠ : ٢١٢ / ٣.

(٦) الوسائل ٣ : ٤٨٦ / أبواب النجاسات ب ٤٦ ح ٢ [ ولكن المذكور في الطبعة الجديدة من الوسائل : عن أبي جعفر عليه‌السلام ].

٤٠٠