موسوعة الإمام الخوئي - ج ١٢

الشيخ مرتضى البروجردي

وإن بنينا هناك على الجواز وضعاً ، أخذاً بموثقة الحلبي كما عرفت فالظاهر جواز اللبس نفساً أيضاً ، إذ نفي البأس عن الصلاة فيما لا تتم كما تضمّنه الموثّق يدلّ بالدلالة الالتزامية العرفية على الترخيص في اللبس في حدّ نفسه إذ حمله على مجرد الجواز الوضعي مع المنع النفسي خلاف المتفاهم العرفي من موثّق الحلبي كما لا يخفى ، فكما يقيّد به إطلاق دليل المانعية يقيّد إطلاق دليل الحرمة بملاك واحد.

الجهة الثالثة : أنّه يستثني من حرمة اللبس مضافاً إلى حال الحرب كما مرّ حال الضرورة من برد أو مرض أو خوف ونحوها.

واستدلّ له في الوسائل تارة بحديث الرفع بالنسبة إلى الاضطرار ، وهو وجيه. وأُخرى بقولهم عليهم‌السلام : « ليس شي‌ء ممّا حرّم الله إلا وقد أحلّه لمن اضطرّ إليه » المذكور في باب اليمين ، وهو ايضاً متين. وثالثة بقولهم عليهم‌السلام : « كلّ ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر » (١) ، وقد تبعه في هذا الاستدلال غيره.

لكنّه في غير محلّه ، لخروجه عن محلّ الكلام ، إذ المراد بالاضطرار المبحوث عنه في المقام ما لم يبلغ حدّا يسلب معه الاختيار ويخرج الفعل عن القدرة ، وإلا فلا حاجة إلى الاستدلال حتّى بمثل حديث الرفع ، لاستقلال العقل حينئذ بقبح خطاب العاجز ، وامتناع التكليف بما لا يطاق.

فمحلّ الكلام ما إذا كان لبس الحرير مع كونه مقدوراً ومتعلّقاً للاختيار فعلاً وتركاً مضطراً إليه لضرورة دعته إليه ، من برد أو مرض ونحوهما في قبال الإكراه. ولا ريب أنّ الرواية ناظرة إلى الفرض السابق ، أعني الخروج عن القدرة والاختيار ، وأنّ الشي‌ء مغلوب لإرادة الله تعالى ، وقدرة العبد مقهورة لقدرته ، كما في صاحب السلس الخارج منه البول بلا إرادة منه ، الذي هو مورد‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٧٣ / أبواب لباس المصلي ب ١٢ ح ٦ ، ٧ ، ٨.

٣٤١

الرواية. فالرواية أجنبية عن محلّ البحث ، والعمدة في الاستدلال هما الوجهان الأوّلان.

الجهة الرابعة : قد عرفت الاستثناء في حالتي الحرب والضرورة ، فهل هذا استثناء عن خصوص الحرمة النفسية فتبطل الصلاة في الحرير حالتهما أو عنها وعن الوضعية فتصح؟

أمّا في حال الضرورة فربما يستدلّ للجواز بما يستفاد من الأخبار من أنّ الصلاة لا تسقط بحال.

وهذا ينبغي أن يعدّ من الغرائب ، إذ ليس الكلام في العذر المستوعب لتمام الوقت ، وإلا فمع الاستيعاب لا ريب في الصحة قطعاً ، وأنّ المانعية ساقطة حينئذ بالضرورة كما هو الحال في سائر الموانع ، بل الأجزاء والشرائط المتعذّرة في مجموع الوقت ، الذي لا يشك في وجوب الاقتصار على الباقي وعدم سقوط الصلاة رأساً.

وإنّما الذي وقع فيه الكلام في المقام بين الأعلام نفياً وإثباتاً هو العذر غير المستوعب وغير المؤدّي لسقوط الصلاة ، للتمكّن من الإتيان بها في غير الحرير في الجزء الآخر من الوقت. فالاستدلال المزبور في غير محلّه جزماً.

وكيف كان ، فقد ذهب جمع منهم المحقق الهمداني قدس‌سره إلى الجواز مستدلاً عليه بقصور المقتضي ، لانصراف دليل المانعية إلى ما كان اللبس حراماً في نفسه. فحال الترخيص وجواز اللبس غير مشمول لدليل المنع (١).

والجواب : أنّ كلا من المانعية والحرمة قد ثبتت بدليل يختصّ بها ، ولم يثبتا بدليل واحد كي يدّعى الانصراف المزبور ، ولا ريب في عدم الملازمة بين المانعية والحرمة كما في لبس ما لا يؤكل والنجس والميتة ، حيث إنّها تمنع عن صحة الصلاة مع جواز لبسها تكليفاً بلا إشكال ، إلا في الميتة على القول بحرمة الانتفاع بها مطلقاً ، الذي هو خلاف التحقيق.

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الصلاة ) : ١٣٧ السطر ٣١ ، ٢٢.

٣٤٢

فالإنصاف : أنّه لا مقيّد للإطلاق بالنسبة إلى دليل المانعية ، وغاية ما ثبت بدليل الاضطرار جواز اللبس في هذه الحال تكليفاً ، فيقيّد به الإطلاق في دليل الحرمة. وأمّا الإطلاق في دليل المنع فهو سليم عن التقييد ، فيتمسك به ومقتضاه بطلان الصلاة الواقعة في الحرير عند الضرورة وإن جاز اللبس حينئذ.

وأمّا في حال الحرب فقد يستدلّ لصحة الصلاة حينئذ بالانصراف الذي عرفت تقريره مع جوابه.

واستدلّ لها في الجواهر (١) بما حاصله : أنّ الجواز حال الحرب قد ثبت بالنصّ الخاص ، دون الأدلّة العامّة كما في الضرورة من حديث الرفع ونحوه كما عرفت. ومقتضى إطلاق النصّ شمول الجواز لحالتي الصلاة وغيرها ، فيعمّ الجواز التكليفي والوضعي.

والنسبة بينه وبين دليل المانعية كقوله في صحيح ابن عبد الجبار المتقدّم (٢) : « لا تحلّ الصلاة في الحرير المحض » وإن كانت هي العموم من وجه ، لافتراق الأوّل في المحارب غير المصلّي ، وافتراق الثاني في المصلّي غير المحارب ، ويتعارضان في مادّة الاجتماع وهي الصلاة في الحرير حال الحرب ، لكن الترجيح مع الأوّل ، لفهم الأصحاب ومناسبة التخفيف الذي هو الحكمة في الرخصة.

وفيه : أنّ نصّ الجواز حال الحرب خاص بالحكم التكليفي ، ولا نظر فيه إلى الجواز الوضعي بوجه ، فهو وإن كان بإطلاقه شاملاً لحالتي الصلاة وغيرها لكن النظر فيه مقصور على الحلّية التكليفية قبال الحرمة النفسية ، وأنّ لبس الحرير لا يكون حراماً على المحارب في الحالتين. وأمّا الجواز الوضعي وأنّه لا يكون مانعاً عن صحة الصلاة فلا نظر في النصّ إليه بوجه حتى يعارض به‌

__________________

(١) الجواهر ٨ : ١١٩.

(٢) في ص ٣٢٧.

٣٤٣

وإن كان الأحوط أن يجعل ساتره من غير الحرير (١).

______________________________________________________

إطلاق دليل المانعية. فالمتبع هو هذا الإطلاق السليم عن المعارض ، ولأجله يحكم بالبطلان.

نعم ، لو وصلت النوبة إلى المعارضة ، بأن كان النصّ في المقام شاملاً لكلا الجوازين اتجه الحكم بالصحة حينئذ ، من دون حاجة إلى ترجيح دليل الجواز على المنع بما أفاده قدس‌سره من الوجهين ، بل مجرّد عدم الترجيح في دليل المنع كافٍ في الحكم بالجواز ، لتساقط الدليلين حينئذ بعد التعارض ، فيرجع إلى أصالة البراءة عن تقيد الصلاة في هذه الحالة أعني حال الحرب بعدم وقوعها في الحرير ، إذ لا دليل على المانعية حينئذ بعد سقوطه بالمعارضة كما هو ظاهر.

(١) لم نعرف وجهاً لتخصيص الاحتياط بالساتر ، إذ لو بنينا على جواز الصلاة في الحرير حال الحرب ، لاستفادة الجواز التكليفي والوضعي من النصّ الوارد في المحارب كان مقتضاه عدم الفرق بين الساتر وغيره ، لإطلاق النص.

وإن بنينا على عدم الجواز ، لاختصاص النصّ المزبور بالحكم التكليفي فكان المرجع إطلاق دليل المنع كما هو الصحيح على ما عرفت كان مقتضاه أيضاً عدم الفرق بين الساتر وغيره.

نعم ، لو ذكر الاحتياط على سبيل الإطلاق كان له وجه وجيه كما لا يخفى ، وأمّا تخصيصه بالساتر فوجهه غير ظاهر.

ولا يبعد أن يكون نظره قدس‌سره إلى ما في الجواهر (١) من أنّ غاية ما ثبت بدليل الجواز رفع الحكم التكليفي والوضعي ، فيرتكب التقييد في إطلاق دليلي الحرمة والمانعية ، ولا يقتضي ذلك ارتكاب التقييد فيما دلّ على اشتراط الساتر بعدم كونه من الحرير ، فيتمسّك بإطلاقه الشامل للمقام.

__________________

(١) الجواهر ٨ : ١١٧.

٣٤٤

ولا بأس به للنساء ، بل تجوز صلاتهنّ فيه أيضاً على الأقوى (١).

______________________________________________________

والحاصل : أنّ الحرير كما أنّه مانع عن صحة الصلاة كذلك عدمه شرط في الساتر المشروط به الصلاة ، إذ يعتبر فيه أن لا يكون منه. وأقصى ما يقتضيه دليل الترخيص رفع المانعية والحرمة الوضعية لتقييده دليلها ، وأمّا التقييد في دليل الشرط كي يحصل معه الستر فكلا ، فاذا كان الساتر حريراً كان وجوده كعدمه ، لعدم حصول شرطه ، ومعه تبطل الصلاة لا لوجود المانع ، بل لفقد الشرط وهو الساتر الخاص. وعليه فاللازم ضمّ ساتر آخر معه فوق الحرير أو تحته.

والجواب عنه أوّلاً : ما أسلفناك في بحث اللباس المشكوك من استحالة جعل المانعية لأحد الضدين ، والشرطية للضد الآخر. فلا يعقل أن يكون الحرير مانعاً عن الصلاة ، وعدمه شرطاً في الساتر المشروط به الصلاة ، وقد مرّ توضيحه هناك مفصلاً فراجع (١) ولاحظ.

وثانياً : على تقدير الإمكان فلا دليل عليه في المقام ، إذ الثابت بحسب الأدلّة إنّما هو مانعية الحرير كما يقتضيه قوله عليه‌السلام في صحيحة محمد بن عبد الجبار المتقدمة : « لا تحلّ الصلاة في الحرير المحض » وأمّا شرطية عدمه في الساتر فلم يدلّ عليه دليل عدا التوقيع المروي في الاحتجاج عنه ( عجل الله تعالى فرجه ) : « لا تجوز الصلاة إلا في ثوب سداه أو لحمته قطن أو كتّان » (٢) لكنّه لضعفه لا يمكن الاستدلال به كما تعرّضنا له في بحث الساتر (٣).

(١) أمّا جواز اللبس لهنّ فلا خلاف فيه ولا إشكال ، لإجماع الأصحاب عليه وتسالمهم ، بل هو مورد لاتفاق المسلمين عامّة من الخاصة والعامّة من‌

__________________

(١) ص ٢١٢ فما بعدها.

(٢) الوسائل ٤ : ٣٧٥ / أبواب لباس المصلي ب ١٣ ح ٨ ، الاحتجاج ٢ : ٥٨٩.

(٣) في ص ١٨٧.

٣٤٥

غير نكير ، وقد قامت سيرة المتشرعة على ذلك خلفاً عن سلف ، المتّصلة بزمن المعصومين المستكشف رضاهم وإمضاؤهم لها. وهذا هو العمدة ، وإلا فالأخبار الخاصة الواردة في المقام كلّها ضعيفة السند لا تصلح إلا للتأييد فلاحظ.

وأمّا جواز الصلاة فيه فهو المعروف المشهور بين الأصحاب ، بل نسب إلى فتوى الأصحاب تارة وإلى عمل الناس في الأعصار والأمصار اخرى.

خلافاً للصدوق في الفقيه فذهب إلى المنع (١) ومال إليه البهائي في الحبل المتين (٢) وغيره ، وتوقّف فيه جماعة ، وممّن تبع الصدوق صريحاً صاحب الحدائق (٣) وإن لم يوافقه في دليله.

وكيف كان ، فقد استدل في الفقيه على المنع بما نصّه على ما حكاه عنه في الحدائق ـ : قد وردت الأخبار بالنهي عن لبس الديباج والحرير والإبريسم المحض والصلاة فيه للرجال ، ووردت الرخصة في لبس ذلك للنساء. ولم ترد بجواز صلاتهنّ فيه ، فالنهي عن الصلاة في الإبريسم المحض على العموم للرجال والنساء حتى يخصّهن خبر بالإطلاق لهنّ في الصلاة فيه كما خصّهن بلبسه. انتهى.

وحاصله : أنّ إطلاق الأخبار المانعة كقوله عليه‌السلام : « لا تحلّ الصلاة في الحرير المحض » الوارد في صحيحتي محمد بن عبد الجبّار المتقدمتين (٤) اللتين لم يبعد اتحادهما كما مرّ (٥) شامل للرجل والمرأة ، غاية الأمر قد ثبت من الخارج جواز اللبس لهنّ ، وأمّا المانعية فلم يثبت نفيها عنهنّ ليتمسّك بالإطلاق.

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٧١ / ذيل ح ٨٠٧.

(٢) حبل المتين : ١٨٥ السطر ٢٢.

(٣) الحدائق ٧ : ٩٥ ٩٦.

(٤) في ص ٣٢٧.

(٥) في ص ٣٣٨.

٣٤٦

واعترض عليه في الحدائق بمنع الإطلاق في الأخبار ، فإنّ أكثرها إنّما اشتملت على السؤال عن الرجل ، فموردها الرجال خاصة. وليس في البين ما يتوهّم منه الإطلاق عدا الصحيحتين ، لكن يوهنه ابتناؤهما على سبب خاص وهي القلنسوة التي هي من الألبسة المختصة بالرجال ، فالإطلاق نزّل عليهم بتلك القرينة.

أقول : أمّا منعه قدس‌سره عن الإطلاق فيما عدا الصحيحتين ففي محلّه للتصريح بالرجل كما أفاده المانع عن التعدّي إلى المرأة. ولا مجال لقاعدة الاشتراك في المقام ، إذ مدركها الإجماع ومورده عدم احتمال دخل الخصوصية المأخوذة موضوعاً للحكم وهي الرجولية فيما نحن فيه ، ولا ريب أنّ الاحتمال موجود في المقام ، إذ بعد ملاحظة الفرق بينهما في الحكم التكليفي يتطرّق احتمال الفرق في الحكم الوضعي أيضاً من غير رافع. فعدم احتمال الخصوصية مفقود ، والإجماع منتفٍ بالضرورة.

وأمّا ما أفاده قدس‌سره في وجه منع الإطلاق في الصحيحتين فيتوجّه عليه :

أوّلاً : أنّ العبرة في الإطلاق والتقييد بكلام الإمام عليه‌السلام دون السائل. وجوابه عليه‌السلام مطلق ، فلا يتقيّد بالرجال من أجل القلنسوة المذكورة في السؤال ، فإنّ المورد لا يكون مخصصاً.

وثانياً : أنّ الصحيحة الثانية لمحمد بن عبد الجبار مشتملة على التكّة ، وهي من الألبسة المشتركة بين الرجل والمرأة. فذكر القلنسوة المختصّة بهم لا يوجب التقييد بعد اشتمال السؤال على ما هو مشترك بينهما أيضاً كما هو ظاهر.

نعم ، يمكن أن يقال في منع الإطلاق : إنّ المستفاد من ذكر القلنسوة والتكّة في السؤال أنّ نظر السائل مقصور على استعلام حكم ما لا تتم فيه الصلاة من الحرير ، وأنّه هل يفرق في المانعية بينه وبين ما تتم فيه الصلاة كما في النجس ، أو لا ، بعد الفراغ عن أصل المانعية على ما هي عليه من التخصيص بالرجال أو‌

٣٤٧

التعميم لهم وللنساء ، وإلا فلو كان السؤال عن أصل مانعية الحرير لم يكن وجه لتخصيص المثالين بالذكر ، بل سئل عن مطلق الصلاة في الحرير.

وعليه فلا إطلاق في الجواب ، بل هو منزّل على ما سيق السؤال لأجله من عدم الفرق في المانعية بين ما يتم وغيره ، وأنّ مانعية الحرير في موطنها لا يفرّق فيها بين الصورتين ، ولا نظر فيه إلى التخصيص والتعميم بالنسبة إلى الرجل والمرأة.

وبعبارة اخرى : يعتبر في انعقاد الإطلاق أن يكون المتكلّم في مقام البيان من الجهة التي يراد إثبات الإطلاق من تلك الجهة ، فما لم يحرز ذلك لا يثبت الإطلاق ، وفي المقام ليس الإمام عليه‌السلام إلا بصدد بيان حكم ما لا تتم فيه الصلاة من الحرير الذي هو محطّ نظر السائل ، وأنّه لا فرق في المانعية بينه وبين ما تتم ، وليس في مقام البيان من حيث الاختصاص بالرجل أو التعميم له وللمرأة كي ينعقد الإطلاق من هذه الجهة ، بل إنّ مجرّد الشك كافٍ في ذلك ، لما عرفت من لزوم إحراز البيان في إثبات الإطلاق. فهذا هو الوجه في منع الإطلاق لا ما أفاده في الحدائق.

وعليه فيتوجّه على الصدوق قدس‌سره قلب الدعوى ، وأنّ مقتضى الإطلاقات جواز التستّر في الصلاة بكلّ ساتر ، وقد ثبت مانعية الحرير لخصوص الرجال ، وأمّا النساء فهنّ على الترخيص بمقتضى إطلاقات الفوق حتى يخصّهنّ النهي كما خصّ الرجال.

ثمّ إنّه قد استدلّ في الحدائق لما ذهب اليه من المنع تبعاً للصدوق بعد تضعيف مستنده كما عرفت بوجوه أُخر.

منها : خبر جابر الجعفي قال : « سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : ليس على النساء أذان إلى أن قال : ويجوز للمرأة لبس الديباج والحرير في غير صلاة وإحرام ... » إلخ (١).

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٨٠ / أبواب لباس المصلي ب ١٦ ح ٦.

٣٤٨

وفيه : أنّ الدلالة وإن كانت صريحة لكن السند قاصر ، لضعف كلّ من وقع فيه أي لم تثبت وثاقته عدا محمد بن زكريا البصري ، حيث مدحه النجاشي (١). وأمّا أحمد بن الحسن القطان الذي يروي عنه الصدوق هذه الرواية فهو وإن كان من مشايخ الإجازة ، لكن مجرّد ذلك لا يقتضي الوثاقة كما مر غير مرة ، بل إنّ بعض مشايخ الصدوق كان ناصبياً بحيث كان يصلّي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله منفرداً (٢).

ومنها : خبر زرارة قال : « سمعت أبا جعفر عليه‌السلام ينهى عن لباس الحرير للرجال والنساء إلا ما كان من حرير مخلوط بخز لحمته أو سداه خزّ أو كتان أو قطن ، وإنّما يكره الحرير المحض للرجال والنساء » (٣) فانّ لبس الحرير للنساء في غير حال الصلاة مما لا ريب في جوازه ، فلا بدّ من حمل النهي على إرادة اللبس حال الصلاة ، فيدل على المانعية للرجال والنساء.

وفيه أوّلاً : أنّ الخبر ضعيف السند بموسى بن بكر ، فالتعبير عنه بالصحيح كما في الجواهر (٤) في غير محلّه.

وثانياً : أنّ ظاهره المنع عن اللبس تكليفاً ، فحمله على المانعية وإرادة الحرمة الوضعية المختصة بحال الصلاة من المؤوّل الذي ليس بحجّة عندنا ، فلا وجه للعدول عن ظاهره وارتكاب التأويل ثم الاستدلال به ، فإنّه ليس بأولى من الأخذ بظاهره وحمل النهي على مطلق المرجوحية وإرادة الحرمة بالنسبة إلى الرجال والكراهة للنساء ، بقرينة ما ثبت من الخارج من جواز اللبس لهنّ ، كما قد يشعر به التعبير بالكراهة في ذيل الخبر ، فإنّها وإن لم تكن في لسان الأخبار بمعنى الكراهة المصطلحة لكنّها تدلّ على المرجوحية المطلقة المجامعة لها‌

__________________

(١) رجال النجاشي : ٣٤٦ / ٩٣٦.

(٢) [ وهو أحمد بن الحسين الضبي كما ذكره في عيون أخبار الرضا ٢ : ٢٧٩ / ٣ ].

(٣) الوسائل ٤ : ٣٧٤ / أبواب لباس المصلي ب ١٣ ح ٥.

(٤) الجواهر ٨ : ١٢١.

٣٤٩

وللحرمة ، فتصح قرينة لصرف النهي في صدر الخبر عن الظهور في التحريم خاصة.

ومنها : ما دلّ من النصّ والفتوى على أنّ كلّ ما تجوز الصلاة فيه يجوز الإحرام فيه ، بضميمة ما دلّ من الأخبار على عدم جواز إحرام المرأة في الحرير. قال قدس‌سره : إنّ الأخبار في ذلك وإن كانت متعارضة لكن الترجيح مع الأخبار المانعة كما يأتي في كتاب الحج إن شاء الله تعالى.

واعترض عليه بتوقّفه على حجّية القضية في عكس النقيض ، أعني كلّ ما لا يجوز الإحرام فيه لا تجوز الصلاة فيه. وهو غير ظاهر كما حرر في الأُصول.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّه لو ثبتت الملازمة بين جواز الصلاة في الشي‌ء وجواز الإحرام فيه على سبيل الكلّية كما هو المفروض وأنّ الثاني لازم والأوّل ملزوم ، فحيث إنّ اللازم لا بدّ وأن يكون مساوياً أو أعم ، إذ لو كان أخص لم تكن الملازمة كلّية ، وهو خلف ، فنفيه يستلزم نفي الملزوم بالضرورة. فقولنا : كلّ شي‌ء كان إنساناً كان حيواناً أو كان ضاحكاً يدلّ على أنّ كلّ ما لا يكون ضاحكاً أو لا يكون حيواناً لا يكون إنساناً قطعاً. فالقضية الكلّية حجّة في عكس النقيض جزماً ، ولازمه في المقام عدم جواز الصلاة فيما لا يجوز فيه الإحرام.

نعم ، يتوجّه عليه أوّلاً : توقّفه على المنع من جواز إحرامها في الحرير ، وهو محلّ تأمل أو منع. وسيجي‌ء البحث حوله في كتاب الحج إن شاء الله تعالى (١). فهو أوّل الكلام.

وثانياً : بابتنائه على كون الملازمة الكلّية المزبورة شخصية لا نوعية ، أي تكون منحلّة إلى أشخاص المكلّفين ، بمعنى أنّ كلّ فرد من آحاد المكلّفين جازت صلاته في شي‌ء جاز إحرامه فيه ، كي تدلّ بعكس النقيض على عدم‌

__________________

(١) لاحظ شرح العروة ٢٨ / ٢٧١.

٣٥٠

جواز الصلاة فيما لا يجوز الإحرام فيه ، كما في قوله : كلّما قصّرت أفطرت. وهو في حيّز المنع.

أوّلاً : للنقض بما إذا اضطر المكلّف ولو لبرد ونحوه إلى الصلاة في النجس من فروة ونحوها ، فإنّه لا يجوز له الإحرام فيه مع وجود ثوبيه ، إذ لا ضرورة في عدم الإحرام فيهما ، وإن كان مضطراً في لبس الفروة المتنجّسة.

وثانياً : أنّ هذا المعنى خلاف الظاهر مما دلّ على الملازمة المزبورة وهو صحيح حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كلّ ثوب يصلى فيه فلا بأس أن تحرم فيه » (١) فانّ الظاهر منه والمتراءى من هذا الكلام أنّ كلّ ثوب يصلّى فيه في حدّ ذاته وبحسب نوع المكلّفين جاز الإحرام فيه للجميع ، فيدلّ بعكس النقيض على أنّ كلّ ثوب لا يجوز الإحرام فيه فهو لا تجوز الصلاة فيه في حدّ ذاته وبالإضافة إلى عامّة المكلّفين ، ولو بلحاظ نوعهم الأغلب ، أعني الرجال الذين هم العمدة منهم ، فلا ينافي صدق هذه الملازمة النوعية جواز الصلاة فيه كالحرير لخصوص النساء كما لا يخفى.

نعم ، لو كان لفظ الرواية ( تصلّي فيه ) بدل ( يصلّى فيه ) أمكن استفادة الملازمة الشخصية ، لكونه خطاباً إلى كلّ مكلّف بالخصوص ، نظير قوله : كلّما قصّرت أفطرت. لكنّه ليس كذلك ، فانّ الموجود في الكافي (٢) والتهذيب (٣) والفقيه (٤) والوافي (٥) ضبطه بصيغة المبني للمجهول.

نعم ، في الوسائل ضبطه بصيغة الخطاب ( تصلّي فيه ) ولعلّه سهو من قلم النسّاخ ، مع أنّ ذلك أيضاً لا يقدح فيما ذكرناه ، لأنّ الخطاب مع حريز الذي هو‌

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٣٥٩ / أبواب الإحرام ب ٢٧ ح ١.

(٢) الكافي ٤ : ٣٣٩ / ٣.

(٣) لاحظ التهذيب ٥ : ٦٦ / ٢١٢.

(٤) الفقيه ٢ : ٢١٥ / ٩٧٦ [ لكن المذكور فيه : تصلي فيه ].

(٥) الوافي ١٢ : ٥٦٤ / ١٢٥٦٧.

٣٥١

من الرجال ، فلا يدلّ إلا على الملازمة الشخصية فيهم ، لا في كلّ مكلّف حتى يعمّ النساء ، فيكون ذلك مساوقاً مع الملازمة النوعية التي عرفتها.

فظهر من جميع ما مرّ بطلان ما استند اليه في الحدائق لشمول المانعية للنساء ، وقد عرفت أيضاً الجواب عن إطلاق أدلّة المانعية الذي استند اليه الصدوق قدس‌سره.

وقد يجاب عن الإطلاق بمعارضته بإطلاق ما دل على جواز لبسهنّ للحرير الشامل للصلاة بالعموم من وجه ، والترجيح مع الثاني بفهم الأصحاب ، إذ لم يخالف في الجواز حال الصلاة عدا الصدوق وبعض من تبعه ، مع أنّه لو سلّم التكافؤ والتساقط فالمرجع أصالة البراءة عن المانعية ، بناءً على ما هو الصحيح من الرجوع إليها في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

ويندفع : بما عرفت سابقاً (١) من أنّ دليل الجواز لا يستفاد منه أكثر من الجواز التكليفي دون الوضعي ، فشموله لحال الصلاة لا ينافي المانعية ، فلا تعارض بين الدليلين أصلاً. فحاله حال ما دلّ على جواز لبس النجس والميتة وما لا يؤكل الذي لا ينافي ما دلّ على مانعية هذه الأُمور في الصلاة.

والمتحصّل : من جميع ما قدّمناه : أن المقتضي للمانعية بالإضافة إلى النساء قاصر في حدّ نفسه ، لعدم ثبوت الإطلاق.

ثم إنّه لو سلّم الإطلاق وتمامية المقتضي فهل هناك ما يمنع عن الأخذ به ويوجب رفع اليد عنه؟

قد يستند في ذلك إلى مرسل ابن بكير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « النساء يلبسن الحرير والديباج إلا في الإحرام » (٢) فانّ الاقتصار في الاستثناء على الإحرام يكشف عن جواز اللبس حال الصلاة وعدم مانعيته لها ، وإلا كان أحرى بالذكر ، للابتلاء بها في كلّ يوم خمس مرات على الأقل ، فهي أولى‌

__________________

(١) في ص ٣٤٣.

(٢) الوسائل ٤ : ٣٧٩ / أبواب لباس المصلي ب ١٦ ح ٣.

٣٥٢

بالتعرّض من الإحرام غير الواجب في العمر إلا مرة على المستطيع ، ومن الواضح أنّ استثناء مثل الإحرام المعتبر فيه ثوب مخصوص قرينة ظاهرة على إرادة الأعم من التكليف والوضع في المستثنى منه.

والإنصاف : أنّ دلالة الرواية ظاهرة ، بل صريحة ، لكن الشأن في سندها [ فإنّه ] ضعيف من جهة الإرسال.

وقد يتصدى لتصحيحه تارة بالانجبار بالعمل وأُخرى بأنّ المرسل وهو ابن بكير من أصحاب الإجماع ، وثالثة بأنّ في السند أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري الذي لا يروي إلا عن الثقة.

والكلّ كما ترى ، أمّا الأوّل فظاهر من مسلكنا ، وأمّا الثاني فلما أشرنا إليه غير مرّة في مطاوي هذا الشرح من أنّ الإجماع الذي ادّعاه الكشي على تصحيح ما يصحّ عن جماعة (١) لا يراد به تلقّي روايات هؤلاء بالقبول ، على نحو لا ينظر في من وقع بعدهم في السند ، بحيث مهما بلغ السند إليهم وصحّ عنهم يعامل معه إرسال المسلّم ، وكأنهم رووه عن المعصوم عليه‌السلام بلا واسطة ، فإنّ هذا لا يكاد يستفاد من عبارة الكشي بوجه.

بل الظاهر منها دعوى الاتفاق على قبول رواية هؤلاء من حيث إنّهم رواة وتصديقهم فيما يخبرون ، كما عبّر بعين هذا اللفظ أعني التصديق فلا يغمز في السند من أجلهم ، لما هم عليه من الجلالة والفقاهة والوثاقة ، إذ الغمز والطعن إمّا من جهة الاشتباه وعدم التفطّن للمراد وهو منافٍ لفقاهتهم ، أو لأجل الكذب وهو منافٍ لوثاقتهم.

وبالجملة : فلا يظهر من العبارة المزبورة أكثر من دعوى الإجماع على توثيق الجماعة ، لا حجية كلّ سند وقع أحدهم فيه ولو رواه مرسلاً أو عمّن لم تثبت وثاقته لدينا كما لا يخفى على من لاحظها.

__________________

(١) رجال الكشي : ٣٧٥ / ٧٠٥.

٣٥٣

وأمّا الثالث : فهو من غرائب الكلام ، ضرورة أنّ غاية ما ثبت هو أنّ أحمد ابن محمد بن عيسى لا يروي بنفسه إلاّ عن الثقة وإن كنّا عثرنا على روايته عن الضعيف أيضاً أحياناً ومن هنا أخرج أحمد بن محمد بن خالد البرقي عن قم ، لروايته عن الضعفاء كثيراً وإن ندم على ما صنع فأرجعه بل ومشى في جنازته حافياً. وكيف كان ، فغاية ما هناك أنّه بنفسه لا يروي بلا واسطة إلا عن الثقة كما في المقام لا أنّه يقتصر على الرواية المعتبرة الخالية عن كلّ خلل حتى الإرسال أو الضعف في غير من يروي عنه ممّن يقع في سلسلة السند ، فانّ هذا لا شاهد عليه ، بل ولا قائل به كما لا يخفى.

وقد يستند في ذلك أيضاً إلى موثّق سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لا ينبغي للمرأة أن تلبس الحرير المحض وهي محرمة ، فأمّا في الحر والبرد فلا بأس » (١).

وهذه الموثقة يستدلّ بها تارة لعدم المانعية ، من جهة تخصيص المنع بحال الإحرام بالتقريب المتقدّم في المرسلة. وأُخرى للمانعية ، من جهة تخصيص نفي البأس بحال الحر والبرد ، الدالّ بالمفهوم على ثبوته في غير الحالتين وإن كانت في الصلاة ، ولعلّ الأول أقرب.

لكن الأولى أن يقال : إنّ الموثقة أجنبية عن المانعية والحرمة الوضعية التي هي محلّ البحث ، بل هي ناظرة إلى الحرمة التكليفية ، لظهور قوله عليه‌السلام : « وهي محرمة » في المنع عن اللبس وهي متّصفة بكونها في حالة الإحرام. ومن الواضح أنّ ارتكاب تروك الإحرام لا يقتضي البطلان فيما عدا الجماع ، بل غايته العصيان ، فلا يفسد الإحرام المفروض تحقّقه بذلك وإن أثم ، مع أنّه لا إثم أيضاً لدى الضرورة من حر أو برد كما أُشير إليه في ذيل الموثّق ، فلا وجه للاستشهاد بهذه الموثقة لشي‌ء من المانعية وعدمها.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٨٠ / أبواب لباس المصلي ب ١٦ ح ٤.

٣٥٤

وممّا ذكرنا يظهر الفرق بينها وبين المرسلة المتقدّمة ، حيث سلّمنا دلالتها على المانعية ، وذلك لمكان الاختلاف في التعبير ، حيث عبّر فيها بقوله : « وهي محرمة » وفي المرسلة بقوله : « إلا في الإحرام » فإنّ المنع عن اللبس في الإحرام كالمنع عنه في الصلاة ظاهر في المانعية ، وأنّه يشترط في ثوبي الإحرام كلباس المصلّي أن لا يكون من الحرير ، فمعه لا يتحقق الإحرام كما لا تتحقّق الصلاة. وهذا بخلاف النهي عن اللبس في حالة الإحرام وبعد الاتّصاف بها ، فإنّه غير ظاهر إلاّ في الحرمة التكليفية المحضة كما لا يخفى.

فتحصّل : أنّه لا يمكن الاستناد في رفع اليد عن الإطلاق إلى شي‌ء من المرسلة والموثّقة.

والصحيح الاستناد في ذلك بعد تسليم الإطلاق ، وإلا فهو ممنوع من أصله كما عرفت إلى السيرة الثابتة من المتشرّعة القائمة على عدم تحرّز النساء عن الحرير حتى في الصلاة ، بل عليه تسالم الأصحاب خلفاً عن سلف ، ولم يعهد الخلاف بينهم فيما قبل زمان الصدوق ، وهو أوّل من ذهب إلى المنع ، وتبعه فيه نفر يسير من المتأخّرين. فلو كانت المانعية ثابتة لظهرت وبانت ، ولم يقع الخلاف فيها في مثل هذه المسألة المهمّة الكثيرة الدوران ، التي تبتلي بها المرأة في صلاتها في كلّ يوم خمس مرات على الأقل ، بل لم يتعرض لها في شي‌ء من الأخبار ، ولم يسأل عن حكمها الرواة ، وإنّما خصّوا أسئلتهم بالرجال ، الكاشف عن وضوح حكم النساء لديهم وليس الواضح هو المنع قطعاً ، وإلا كنّ من الرجال أضيق حالاً ، مع ثبوت الجواز لهنّ في غير حال الصلاة دونهم بالضرورة. فلا بدّ وأن يكون هو الجواز.

على أنّ التنبيه على مثل هذا الحكم في الأخبار أولى من التعرّض لحكم ما لا يؤكل ، الذي ورد في غير واحد من الأخبار المنع عن الصلاة فيه ، فانّ الابتلاء بلبسه سيما الصلاة فيه قليل جدّاً بالإضافة إلى الحرير المتعارف لبسه غالباً كما لا يخفى.

٣٥٥

بل وكذا الخنثى المشكل (*) (١).

______________________________________________________

فظهر من جميع ما مرّ أنّ الأقوى جواز لبس الحرير للنساء تكليفاً ووضعاً أي في الصلاة وغيرها ، لقصور المقتضي أوّلاً ، ووجود المانع ثانياً كما عرفتهما مفصّلاً.

(١) يقع الكلام في الخنثى تارة مع قطع النظر عن العلم الإجمالي ، وأُخرى مع ملاحظته.

أمّا على الأوّل : فقد يقال بجواز لبسها في الصلاة وغيرها ، تمسكاً بأصالة البراءة عن الحرمة التكليفية والوضعية ، بناءً على ما هو الصحيح من الرجوع إليها في الأقل والأكثر الارتباطيين ، للشك في الرجولية التي هي الموضوع فيهما.

وقد يقال كما عن صاحب المستند بالتفصيل بين الصلاة وغيرها ، فيجوز في الثاني لأصالة البراءة كما مرّ ، ولا يجوز في الأوّل (١).

إمّا لأنّ المرجع في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين هو الاشتغال وإن كان على خلاف التحقيق.

أو لأجل التمسك بعموم ما دلّ على مانعية الحرير في الصلاة كقوله في صحيحة محمد بن عبد الجبّار المتقدّمة (٢) : « لا تحلّ الصلاة في حرير محض » فانّ الخارج منه بعد تسليم الإطلاق عنوان المرأة الذي هو أمر وجودي ، فيكون الباقي تحت العام بعد التخصيص كلّ مكلّف لا يكون امرأة ، ويمكن إحرازه في الخنثى بضم الوجدان إلى الأصل ، فإنّه مكلّف بالوجدان ويشك في اتصافه بهذا العنوان والأصل عدمه ، بناءً على ما هو الصحيح من جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية ، فإنّه قبل أن يخلق لم يكن موصوفاً بعنوان‌

__________________

(*) الأظهر أنه لا يجوز له لبس الحرير ولا الصلاة فيه.

(١) المستند ٤ : ٣٤٤.

(٢) في ص ٣٢٧.

٣٥٦

الأُنوثية والآن كما كان نظير استصحاب عدم الاتصاف بالقرشية فيثبت بذلك أنّها ليست بامرأة وإن لم يثبت كونها رجلاً ، فانّ موضوع الحكم هو الأوّل دون الثاني كما عرفت.

والصحيح في المقام بعد تسليم الإطلاق في صحيح ابن عبد الجبار هو التفصيل ، لما عرفت.

ومنه تعرف أنّه لا يتوقّف على التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية كما أفاده المحقق الهمداني قدس‌سره (١) إذ بعد البناء على جريان الاستصحاب في العدم الأزلي يتنقّح حال الموضوع ، ولا تكون شبهة في المصداق كما هو ظاهر. هذا كلّه مع قطع النظر عن العلم الإجمالي.

وأمّا مع ملاحظته فحيث إنّ الخنثى ليست طبيعة ثالثة ، بل هي إمّا رجل أو امرأة ، فهي تعلم إجمالاً بوجوب الإتيان بإحدى الوظيفتين المقررتين للرجال أو النساء ، ومعه لا مجال للرجوع إلى الأصل ، لسقوطه في أطراف العلم الإجمالي بالمعارضة.

واعترض عليه المحقّق الهمداني قدس‌سره (٢) بعدم صلاحية مثل هذا العلم للتنجيز ، لاشتراطه بدخول الأطراف في محلّ الابتلاء ، وليس كذلك ، فلا أثر لعلم الخنثى إجمالاً بوجوب الاجتناب عن الحرير في الصلاة أو بوجوب الاجتناب عن لبس العمامة التي هي من زي الرجال ، لعدم ابتلائها حين الصلاة بلبسها غالباً ، نعم لو اتفق الابتلاء بلبسها في مورد بالفعل نجّز العلم ووجب الاجتناب عنهما ، فلا ينجّز العلم إلا أحياناً لا دائماً. وعليه فلا مانع من الرجوع إلى الأصل في بعض الأطراف ، لسلامته عن المعارض.

ويرد عليه أوّلاً : أنّه لا يشترط في تنجّز العلم الإجمالي دخول تمام الأطراف في محلّ الابتلاء بالفعل ، بل الابتلاء فيما بعد أيضاً كافٍ في التنجيز. ومن هنا لا‌

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الصلاة ) : ١٣٩ السطر ٢٩.

(٢) مصباح الفقيه ( الصلاة ) : ١٣٩ السطر ٣١.

٣٥٧

وكذا لا بأس بالممتزج بغيره من قطن أو غيره (*) ممّا يخرجه عن صدق الخلوص والمحوضة.

______________________________________________________

يفرّق في تنجيزه بين الدفعيات والتدريجيات ، فالخنثى وإن لم تبتل بلبس العمامة حين القيام إلى الصلاة ، لكنّها تعلم في هذه الحال إجمالاً إمّا بحرمة لبس الحرير فعلاً أو بحرمة لبس العمامة ولو فيما بعد ، نعم لو علمت بعدم الابتلاء بها إلى الأبد تمّ ما ذكر.

وثانياً : مع التسليم فغايته خروج هذا المثال أعني لبس العمامة عن محلّ الابتلاء. ومن الواضح عدم انحصار الأحكام المختصّة بالنساء بذلك ، فلنا أن نقول : إنّ الخنثى تعلم إجمالاً حين القيام إلى الصلاة إمّا بوجوب الاجتناب عن الحرير لو كانت رجلاً أو بوجوب ستر جميع بدنها في صلاتها ما عدا الوجه والكفين لو كانت امرأة ، ولا ريب في ابتلائها بالفعل بكلا الحكمين ، فينجّز العلم الإجمالي ، ومعه لا مجال للرجوع إلى الأصل.

وعليه فالأقوى بلحاظ العلم الإجمالي ـ [ أن ] تجتنب الخنثى عن الحرير مطلقاً في الصلاة وغيرها ، لعلمها بإحدى الوظيفتين ، فلا بدّ من الجمع بينهما.

(١) فلا يجب الاجتناب عن الممتزج لا في الصلاة ولا في غيرها ، ويشهد له مضافاً إلى قصور المقتضي ، للتقييد في أخبار المنع بالمحوضة كما في صحيحة محمد بن عبد الجبار (١) وغيرها جملة من النصوص وفيها المعتبرة كصحيح البزنطي قال : « سأل الحسين بن قياما أبا الحسن عليه‌السلام عن الثوب الملحم بالقز والقطن ، والقز أكثر من النصف أيصلّى فيه؟ قال : لا بأس ، قد كان لأبي الحسن عليه‌السلام منه جبّات » (٢).

وموثّقة إسماعيل بن الفضل ( الهاشمي ) عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « في‌

__________________

(١) المتقدمة في ص ٣٢٧.

(٢) الوسائل ٤ : ٣٧٣ / أبواب لباس المصلي ب ١٣ ح ١.

٣٥٨

الثوب يكون فيه الحرير ، فقال : إن كان فيه خلط فلا بأس » (١) والتعبير عن الأخير بالخبر في بعض الكلمات المشعر بالضعف في غير محلّه كما لا يخفى.

ثم إنّه لا ينبغي الريب في عدم اعتبار خصوصية في المزيج ، بل مطلق الخلط بشي‌ء يخرج الحرير عن صدق الخلوص والمحوضة كافٍ في الجواز كما يقتضيه الإطلاق في موثّقة إسماعيل المتقدّمة. فلا فرق إذن بين كونه قطناً أو كتّاناً ، أو خزّاً أو صوفاً ، أو وبراً ممّا يؤكل لحمه ، أو غير ذلك ممّا تجوز فيه الصلاة ، بل ينبغي القطع بذلك وعدم الخلاف فيه. وما يتراءى في كلمات بعض الأصحاب من الاقتصار على بعض ما ذكر فهو من باب المثال ، لا إرادة الحصر والاختصاص كما لا يخفى.

وعليه يحمل بقرينة الموثّقة المتقدّمة ما في بعض الأخبار مما يوهم ذلك. فقد اقتصر على الأوّلين في خبر عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لا بأس بلباس القزّ إذا كان سداه أو لحمته من قطن أو كتّان » (٢) مضافاً إلى ضعف سنده بقاسم بن عروة. وكذا في التوقيع المروي في الاحتجاج عنه ( عجل الله تعالى فرجه ) : « لا تجوز الصلاة إلا في ثوب سداه أو لحمته قطن أو كتّان » (٣) مع أنّ روايات الاحتجاج لا يعتمد عليها من جهة الإرسال.

وعلى الثلاثة الأُوَل في خبر زرارة قال : « سمعت أبا جعفر عليه‌السلام ينهى عن لباس الحرير للرجال والنساء إلا ما كان من حرير مخلوط بخزّ لحمته أو سداه خزّ أو كتّان أو قطن ، وإنّما يكره الحرير المحض للرجال والنساء » (٤) وهذه الرواية مضافاً إلى ضعف سندها بموسى بن بكر تكاد تكون صريحة فيما ذكرناه من إرادة التمثيل ، وأنّ المقصود مما ذكر من الثلاثة ما يقابل الحرير المحض المذكور في ذيلها.

نعم ، لا بدّ من حمل الكراهة على مطلق المرجوحية الجامع بين الحرمة‌

__________________

(١) ، (٢) ، (٤) الوسائل ٤ : ٣٧٤ / أبواب لباس المصلي ب ١٣ ح ٤ ، ٢ ، ٥.

(٣) الوسائل ٤ : ٣٧٥ / أبواب لباس المصلي ب ١٣ ح ٨ ، الاحتجاج ٢ : ٥٨٩.

٣٥٩

وكذا لا بأس بالكفّ به (١).

______________________________________________________

والكراهة المصطلحة ، جمعاً بين هذه الرواية وما دلّ على جواز لبس الحرير المحض للنساء ، فتحمل على إرادة الكراهة لهنّ والحرمة للرجال.

وعلى الجملة : فلا ينهض بشي‌ء من هذه الروايات لرفع اليد عن الإطلاق في موثقة إسماعيل المقتضي لكفاية الخلط كيف ما اتفق.

كما أن مقتضى هذا الإطلاق عدم اعتبار كمية خاصة في مقدار الخليط ، بل كلّ ما يخرج معه الحرير عن الخلوص ولا يطلق عليه المحض ، بل يصدق عليه عنوان الخلط والمزج ، وإن كان المزيج واحداً في عشرين كفى في الجواز ما لم يستهلك فيه ، لما عرفت من إطلاق الدليل.

(١) تكليفاً ووضعاً كما عليه المشهور ، بل نسب إلى فتوى الأصحاب ، وإن زاد على أربع أصابع ما لم يخرج عن عنوان الكفّ ، خلافاً للقاضي (١) والسيد في بعض رسائله (٢) فذهبا إلى المنع ، ومال إليه الأردبيلي (٣) وكاشف اللثام (٤). وعن المدارك (٥) والكفاية (٦) والمفاتيح (٧) التردّد فيه. ومال صاحب الحدائق قدس‌سره إلى التفصيل بالمنع في الصلاة والجواز في غيرها ، وأخيراً توقّف فيه واحتاط (٨).

والذي ينبغي أن يقال في المقام : إنّ الروايات الناهية عن لبس الحرير أو عن‌

__________________

(١) المهذب في الفقه ١ : ٧٥.

(٢) نقل حكايته عنه في مستند الشيعة ٤ : ٣٥٢.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ٨٥.

(٤) كشف اللثام ٣ : ٢٢١.

(٥) المدارك ٣ : ١٨٠ ١٨١.

(٦) كفاية الأحكام : ١٦ السطر ١٥.

(٧) مفاتيح الشرائع ١ : ١١٠.

(٨) الحدائق ٧ : ٩٧ ٩٩.

٣٦٠