موسوعة الإمام الخوئي - ج ١٢

الشيخ مرتضى البروجردي

وبعبارة أُخرى : الوصف مشعر بالعلية ، دون العلية المنحصرة التي هي مناط الدلالة على المفهوم الاصطلاحي كما في أداة الشرط.

وعليه فغاية ما يستفاد من التقييد بالفريضة في الصحيحة عدم اعتبار الاستقبال في الصلاة على إطلاقها ، وأن هذه الطبيعة أينما سرت ليست موضوعاً للحكم ، ويكفي في صدق ذلك عدم اعتباره في النافلة حال السير كما دلت عليه الأدلة الخاصة على ما سيجي‌ء إن شاء الله تعالى (١) وأن عدم ثبوت الحكم في حصة أُخرى من الطبيعة وهي النافلة حال الاستقرار الذي هو محل الكلام فليس ذلك مستفاداً من مفهوم الوصف كما عرفت.

ومن الغريب أن المحقق الهمداني قدس‌سره مع عدم التزامه بمفهوم الوصف رأساً كيف استدلّ بهذه الصحيحة في المقام.

ثانيها : ما رواه ابن إدريس في آخر السرائر نقلاً من كتاب الجامع للبزنطي صاحب الرضا عليه‌السلام قال : « سألته عن الرجل يلتفت في صلاته هل يقطع ذلك صلاته؟ قال : إذا كانت الفريضة والتفت إلى خلفه فقد قطع صلاته فيعيد ما صلى ولا يعتد به ، وإن كانت نافلة لا يقطع ذلك صلاته ولكن لا يعود » (٢) ورواه الحميري في قرب الإسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده علي ابن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما‌السلام (٣).

وهذه الرواية المروية بطريقين وإن كانت ضعيفة بالطريق الثاني ، لمكان عبد الله بن الحسن ، لكنها موثقة بالطريق الأول ، ولا يقدح (٤) فيه جهالة طريق ابن إدريس إلى كتاب الجامع ، لما هو المعلوم من مسلكه من إنكاره حجية الخبر الواحد وانه لا يعتمد الا على الخبر المتواتر أو ما في حكمه مما يورث‌

__________________

(١) في المقام الثاني.

(٢) الوسائل ٧ : ٢٤٦ / أبواب قواطع الصلاة ب ٣ ح ٨ ، السرائر ٣ : ٥٧٢.

(٣) قرب الإسناد : ٢١٠ / ٨٢٠.

(٤) ولكنّه قدس‌سره بنى أخيراً على القدح.

٢١

القطع بالصدور فيظهر أنّ الكتاب واصل اليه بالتواتر أو ما في حكمه. فالرواية صحيحة السند لكنها قاصرة الدلالة ، لعين ما مرّ في الصحيحة السابقة من المناقشة الاولى ، أعني ورودها في الالتفات في الأثناء إلى الخلف أو اليمين أو اليسار ، لا في اعتبار أصل الاستقبال الذي هو محل الكلام.

ثالثها : ما رواه العياشي في تفسيره عن زرارة قال « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الصلاة في السفر في السفينة والمحمل سواء؟ قال : النافلة كلّها سواء ، تومئ إيماءً أينما توجهت دابّتك إلى أن قال قلت : فأتوجه نحوها في كلّ تكبيرة؟ قال : أمّا النافلة فلا ، إنّما تكبّر على غير القبلة الله أكبر ، ثم قال : كلّ ذلك قبلة للمتنفّل ( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) » (١) فإن موردها وإن كان الصلاة في خصوص السفر ، إلا أنّه يستفاد من قوله عليه‌السلام في الذيل : « كل ذلك قبلة للمتنفل » مستشهداً بالآية المباركة الذي هو بمنزلة التعليل لما تقدمه إرادة تطبيق كبرى كلية على المقام من دون خصوصية للمورد ، وأن قبلة المتنفل على الإطلاق إنما هي حيث ما توجه ، والتنفّل في السفر من مصاديق تلك الكبرى ، وإلا فالحكم يعم المسافر والحاضر حال السير والاستقرار.

والإنصاف : أنّ الرواية قوية الدلالة ، فيصح الاستدلال بها لولا أنّها ضعيفة السند ، فانّ الروايات التي تضمنها تفسير العياشي بأجمعها مرسلة ، نشأ ذلك من حذف المستنسخ أسانيد الحديث روماً للاختصار ، زعماً منه أنّه خدمة ، غافلاً عما يترتب عليه من إسقاط تلك الروايات برمتها عن درجة الاعتبار ، سامحه الله وغفر له.

وقد تحصّل من جميع ما تقدم : أنّ الأقوى اعتبار الاستقبال في النافلة حال الاستقرار ، لتمامية المقتضي وعمدته صحيحة زرارة : « لا صلاة إلا إلى القبلة » (٢) وعدم وجود المانع كما عرفت.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٢٤ / أبواب القبلة ب ١٣ ح ١٧ ، تفسير العياشي ٢ : ٥٦ / ٨١.

(٢) الوسائل ٤ : ٣١٢ / أبواب القبلة ب ٩ ح ٢.

٢٢

لا في حال المشي والركوب (١).

______________________________________________________

(١) المقام الثاني : في اعتبار الاستقبال في النافلة حال السير وعدمه. والكلام يقع تارة في التنفل حال المشي ، وأُخرى حال الركوب ، وعلى التقديرين فقد يكون في السفر ، وأُخرى في الحضر ، فهنا مسائل أربع :

المسألة الاولى : في التنفل في السفر حال الركوب ، ولا خلاف في سقوط اعتبار الاستقبال حينئذ ، بل تسالم عليه الأصحاب ، وعن غير واحد دعوى الإجماع عليه.

وتدلّ عليه جملة وافرة من النصوص ، بل متواترة ، وفيها الصحاح وغيرها ولنقتصر على ذكر الصحاح.

فمنها : صحيحة محمد بن مسلم قال « قال لي أبو جعفر عليه‌السلام : صلّ صلاة الليل والوتر والركعتين في المحمل » (١).

ومنها : صحيحة الحلبي : « أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن صلاة النافلة على البعير والدابة ، فقال : نعم ، حيث كان متوجهاً ، وكذلك فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٢).

وروى الكليني عن محمد بن سنان مثله مع زيادة قوله « قلت : على البعير والدابة؟ قال : نعم حيث ما كنت متوجهاً ، قلت : أستقبل القبلة إذا أردت التكبير؟ قال : لا ، ولكن تكبّر حيث ما كنت متوجهاً ، وكذلك فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٣). لكن الطريق الثاني ضعيف بمحمد بن سنان ، فالعبرة إنما هو بالطريق الأول الذي رواه الشيخ عن الحلبي ، ومحمد بن سنان وإن كان مذكوراً في هذا الطريق أيضاً لكن الراوي جماعة هو أحدهم ، والعبرة بغيره فلاحظ.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٢٩ / أبواب القبلة ب ١٥ ح ٥.

(٢) الوسائل ٤ : ٣٢٩ / أبواب القبلة ب ١٥ ح ٦ ، التهذيب ٣ : ٢٢٨ / ٥٨١.

(٣) الوسائل ٤ : ٣٣٠ / أبواب القبلة ب ١٥ ح ٧ ، الكافي ٣ : ٤٤٠ / ٥.

٢٣

ومنها : موثقة سماعة قال : « سألته عن الصلاة في السفر إلى أن قال : وليتطوّع بالليل ما شاء إن كان نازلاً ، وإن كان راكباً فليصلّ على دابته وهو راكب ، ولتكن صلاته إيماءً ، وليكن رأسه حيث يريد السجود أخفض من ركوعه » (١).

ومنها : صحيحة يعقوب بن شعيب قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يصلي على راحلته ، قال : يومئ إيماءً ، يجعل السجود أخفض من الركوع » الحديث (٢).

ومنها : صحيحة حماد بن عيسى قال : « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى تبوك فكان يصلّي على راحلته صلاة الليل حيث توجهت به ويومئ إيماءً » (٣) إلى غير ذلك من الأخبار ، وهي كما ترى تدلّ على عدم اعتبار الاستقبال إما صريحاً ، أو أنّ ذلك مفهوم منها فانّ تجويز الصلاة على المحمل أو الدابة أو الراحلة مع جريان العادة بانحرافها عن القبلة بل استدبارها يقضي بعدم الاعتبار كما لا يخفى.

ثم إن مقتضى الإطلاق في هذه الأخبار عدم اعتبار الاستقبال في أيّ جزء من أجزاء الصلاة حتى التكبيرة. لكن قد يظهر من بعضها اعتباره في خصوص هذا الجزء ، وهي صحيحة عبد الرحمن بن أبي نجران قال : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الصلاة بالليل في السفر في المحمل ، قال : إذا كنت على غير القبلة فاستقبل القبلة ، ثم كبر وصلّ حيث ذهب بك بعيرك ، قلت : جعلت فداك في أول الليل؟ فقال : إذا خفت الفوت في آخره » (٤).

وهي وإن كانت معارضة في موردها بما رواه الكليني عن محمد بن سنان‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٣١ / أبواب القبلة ب ١٥ ح ١٤.

(٢) الوسائل ٤ : ٣٣٢ / أبواب القبلة ب ١٥ ح ١٥.

(٣) الوسائل ٤ : ٣٣٣ / أبواب القبلة ب ١٥ ح ٢٠.

(٤) الوسائل ٤ : ٣٣١ / أبواب القبلة ب ١٥ ح ١٣.

٢٤

المتضمن لعدم اعتبار الاستقبال حتى في التكبير ، المتقدم نقله آنفاً ، لكن هذه ضعيفة السند بمحمد بن سنان كما عرفت فلا تصلح لمعارضة الصحيحة. وقد عرفت أنّ الرواية بعينها نقلها الشيخ عن الحلبي خالية عن هذه الزيادة.

وعليه مقتضى القاعدة لزوم الأخذ بهذه الصحيحة السليمة عن المعارض وتقييد المطلقات بها ، عملاً بصناعة الإطلاق والتقييد.

لكنّا مع ذلك لا نلتزم بذلك ، ونحمل الصحيحة على الأفضلية.

أما أوّلاً : فلخلوّ هاتيك الأخبار على كثرتها وهي في مقام البيان عن التعرض لهذا القيد ، سيما وفي بعضها حكاية فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فلو كان الاستقبال معتبراً حال التكبير لزم التنبيه عليه كما لا يخفى ، وليجعل هذا تأييداً للمطلوب. والعمدة هو الوجه الثاني.

وثانياً : أنّ قانون حمل المطلق على المقيد مختص بالواجبات ولا يشمل المستحبات كما تقرر في الأُصول (١). ولعله لهذا كانت المسألة متسالماً عليها ، ولم يقل أحد باعتبار الاستقبال حال التكبير.

المسألة الثانية : في التنفّل في السفر حال المشي ، وهنا أيضاً لا خلاف في عدم اعتبار الاستقبال ، وقد ادعي عليه الإجماع ، وتشهد له طائفة من الأخبار.

عمدتها صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : لا بأس بأن يصلّي الرجل صلاة الليل في السفر وهو يمشي ، ولا بأس إن فاتته صلاة الليل أن يقضيها بالنهار وهو يمشي ، يتوجه إلى القبلة ثم يمشي ويقرأ ، فإذا أراد أن يركع حوّل وجهه إلى القبلة وركع وسجد ثم مشى » (٢).

ونحوها صحيحة يعقوب بن شعيب قال : « سالت أبا عبد الله ( عليه‌السلام )

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٥ : ٣٨١.

(٢) الوسائل ٤ : ٣٣٤ / أبواب القبلة ب ١٦ ح ١.

٢٥

عن الصلاة في السفر وأنا أمشي ، قال : أوم إيماءً واجعل السجود أخفض من الركوع » (١).

وصحيحته الأُخرى ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يصلّي على راحلته إلى أن قال قلت : يصلّي وهو يمشي؟ قال : نعم ، يومئ إيماءً ، وليجعل السجود أخفض من الركوع » (٢) فانّ تجويز الصلاة في السفر حال المشي مع استلزامه الانحراف عن القبلة عادة يقضي بعدم اعتبار الاستقبال في هذا الحال ، ومن الواضح أنّ إطلاق الصحيحة الأخيرة شامل لحال السفر ، بل هو المتيقّن منه كما لا يخفى.

نعم ، مقتضى صحيحة ابن عمار لزوم الإتيان بالركوع والسجود مراعياً للقبلة ، لكنّها محمولة على الأفضلية ، بقرينة الصحيحتين الأخيرتين الصريحتين في عدم وجوب الركوع والسجود وكفاية الإيماء إليهما بعد حمل الأمر به فيهما لمكان وقوعه موقع توهم الحظر على الجواز. فيستفاد من مجموع ذلك جواز ترك الركوع والسجود والاقتصار على الإيماء حال المشي ، وإن كان الأفضل أن يقف فيركع ويسجد مع مراعاة الاستقبال حينئذ لكونه في حال الاستقرار.

بقي شي‌ء : وهو أنّك قد عرفت في المسألة السابقة سقوط الاستقبال في السفر حال الركوب بالأدلّة الخاصة ، وهل مقتضاها سقوط الاستقبال رأساً فيجوز التنفل إلى أي جهة شاء ، ولو إلى يمين الدابة أو يسارها أو خلفها كما لو ركبها مقلوباً أو على أحد جانبيها ، أو يجب استقبال الجهة التي تتوجه إليها الدابة فتكون القبلة في حقّه حينئذ رأس الدابة ، ولا يجوز الاتجاه نحو سائر الأطراف؟

المعروف بين المتأخرين هو الأول ، لعدم الدليل على الثاني ، والأدلة الخاصة لا تقتضيه ، بل مفادها إلغاء اعتبار الاستقبال في هذا الحال على الإطلاق ، ومع الشك فالأصل البراءة.

__________________

(١) ، (٢) الوسائل ٤ : ٣٣٥ / أبواب القبلة ب ١٦ ح ٣ ، ٤.

٢٦

لكن الظاهر هو الثاني ، لظهور قوله عليه‌السلام في تلك الأخبار : « حيث ذهب بعيرك » (١) و« حيث كان متوجهاً » (٢) ونحو ذلك في وجوب استقبال الجهة التي تتوجه إليها الدابة (٣) وعدم جواز الانحراف عنها ، فكأن ما تتوجه إليه الدابة هي القبلة الثانوية في حقه ، ولا موجب لرفع اليد عن هذا الظهور ، مضافاً إلى التصريح به في صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : « في الرجل يصلّي النوافل في السفينة ، قال : يصلي نحو رأسها » (٤) ، وعليه فلا مجال للرجوع إلى أصالة البراءة كما لا يخفى.

المسألة الثالثة والرابعة : في التنفّل في الحضر راكباً أو ماشياً. والمشهور هو سقوط الاستقبال حينئذ ، خلافاً للمحكي عن ابن ابي عقيل فذهب إلى اعتباره في الحضر مطلقاً ، أي في حالتي السير وعدمه (٥) وتبعه جماعة.

والأقوى ما عليه المشهور لجملة من النصوص :

منها : صحيحة حماد بن عثمان عن أبي الحسن الأول عليه‌السلام : « في الرجل يصلّي النافلة وهو على دابته في الأمصار ، فقال : لا بأس » (٦) فانّ الظاهر منها أنّ النظر في السؤال إنّما هو من حيث الاستقبال لا أصل الصلاة على الدابة ، فكأنّه سأل عن أنّ الصلاة على الدابة إلى غير القبلة التي هي مشروعة في السفر هل هي كذلك في المصر والحضر فأجاب عليه‌السلام باشتراكهما في الحكم ، سيما بعد ملاحظة تعذر الاستقبال في الحضر حال السير غالباً ، لاشتمال البلد على الأزقّة والطرق الضيقة فتنحرف الدابة عن القبلة لا محالة.

ومنها : صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج : « أنه سأل أبا عبد الله ( عليه‌السلام )

__________________

(١) في صحيحة عبد الرحمن بن أبي نجران المتقدمة في ص ٢٤.

(٢) في صحيحة الحلبي المتقدمة في ص ٢٣.

(٣) لا يبعد القول بأنّ الأمر واقع موقع توهّم الحظر ، ومثله لا يدلّ على الوجوب.

(٤) الوسائل ٤ : ٣٢٠ / أبواب القبلة ب ١٣ ح ٢.

(٥) حكاه عنه في المختلف ٢ : ٩٠.

(٦) الوسائل ٤ : ٣٣٠ / أبواب القبلة ب ١٥ ح ١٠.

٢٧

عن الرجل يصلي النوافل في الأمصار وهو على دابته حيث ما توجهت به ، قال : لا بأس » (١).

وصحيحته الأُخرى عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : « سألته عن صلاة النافلة في الحضر على ظهر الدابة إذا خرجت قريباً من أبيات الكوفة أو كنت مستعجلاً بالكوفة ، فقال : إن كنت مستعجلاً لا تقدر على النزول وتخوفت فوت ذلك إن تركته وأنت راكب فنعم ، وإلا فانّ صلاتك على الأرض أحب إليّ » (٢). وهي كسابقتها صريحة في الجواز ، وإن دلت الأخيرة على أنّ النزول أفضل ، هذا.

مضافاً إلى الإطلاق في جملة من الأخبار التي تقدمت في المسألة الاولى (٣) من حيث السفر والحضر ، فان الركوب على الدابة أو البعير في الحضر لمكان المرض أو الوجاهة أو جهات أُخر أمر شائع متعارف فيشمله الإطلاق ، وإن كان ذلك في السفر أكثر ، هذا كلّه في التنفّل راكباً حال الحضر.

وأمّا ماشياً فلم يرد فيه نص في الحضر بالخصوص ، لكن يكفي فيه الإطلاق في صحيح يعقوب بن شعيب ، الوارد في من يصلّي على الراحلة ، قال « قلت : يصلّي وهو يمشي؟ قال : نعم ، يومئ إيماءً وليجعل السجود أخفض من الركوع » (٤) فإنه يشمل حالتي السفر والحضر كما لا يخفى.

وبالجملة : فبمقتضى هذه النصوص يحكم بثبوت الحكم في السفر والحضر مع الركوب والمشي.

فما عن ابن أبي عقيل من اعتبار الاستقبال حال الحضر مطلقاً لا نعرف له وجهاً عدا التقييد بالسفر في بعض النصوص المتقدمة ، وما ورد في عدة من الروايات الواردة في تفسير قوله تعالى ( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) من أنّها‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٢٨ / أبواب القبلة ب ١٥ ح ١.

(٢) الوسائل ٤ : ٣٣١ / أبواب القبلة ب ١٥ ح ١٢.

(٣) في ص ٢٣.

(٤) الوسائل ٤ : ٣٣٥ / أبواب القبلة ب ١٦ ح ٤.

٢٨

ولا يجب فيها الاستقرار والاستقبال وإن صارت واجبة بالعرض بنذر ونحوه (١).

______________________________________________________

نزلت في النافلة في السفر خاصة (١).

وكلاهما ليسا بشي‌ء أمّا الأول فلعدم دلالة الوصف على المفهوم ، سيما في القيد الجاري مجرى الغالب كما في المقام ، فإنّ الحاجة إلى التنفل راكباً أو ماشياً لا يتفق غالباً إلا في السفر كما لا يخفى.

وأما الثاني فلأنّ تلك الروايات تعرّضت لبيان مورد نزول الآية لا لتخصيص الحكم به ، فلا مانع من التمسك بإطلاقه ، لعدم كون المورد مخصصاً. على أنها ليست بروايات كثيرة ، وإنّما هي ثلاث أو أربع ذكرها العياشي في تفسيره (٢) والطبرسي في مجمع البيان (٣) والشيخ في النهاية (٤) وكلها مراسيل ، فلا يمكن الاعتماد عليها في قبال الصحاح المتقدمة.

(١) قد عرفت اعتبار الاستقبال في الفرائض ، فهل يختص ذلك بما كانت فريضة في الأصل وبحسب الجعل الأوّلى أو يعم ما لو صارت فريضة ولو لعارض وبعنوان ثانوي بنذر ونحوه ، فلو نذر الإتيان بصلاة الليل مثلاً صحيحة من دون التقييد بالاستقرار أو بحال السفر راكباً أو ماشياً وإلا فيتبع قصد الناذر وهو خارج عن محل الكلام كما لا يخفى فهل يجوز الإتيان بها في السفر ماشياً أو راكباً بلا رعاية الاستقبال ، نظراً إلى كونها نافلة في الأصل وإن عرضها الوجوب ، فيشملها إطلاق ما دلّ على سقوط الاستقبال في النافلة في هذا الحال ، أو يجب أن يصليها مع الاستقرار والاستقبال باعتبار وجوبها بالفعل فتندرج في عنوان الفرائض المعتبر فيها ذلك؟ فيه خلاف بين الأعلام.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٣٢ / أبواب القبلة ب ١٥ ح ١٨ ، ١٩ ، ٢٣.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٥٦ / ٨٠.

(٣) مجمع البيان ١ : ٤٢١.

(٤) النهاية : ٦٤.

٢٩

والأقوى هو الأوّل ، لانصراف ما دلّ على اعتبار الاستقبال في الفريضة إلى الفرائض الأصلية ، أي ما فرضه الله تعالى على العباد بحسب التشريع الأوّلي لا ما فرضه المكلّف على نفسه بنذر ونحوه ، فانّ ذلك خارج عن منصرف تلك الأدلّة وما ينسبق منها إلى الذهن كما لا يخفى.

وعليه فلا تصل النوبة إلى المعارضة بين تلك الأدلّة وبين ما دلّ على سقوط الاستقبال في النوافل التي تكون النسبة بينهما العموم من وجه ، لشمول الاولى للفرائض الذاتية والعرضية والثانية للنافلة المنذورة وغيرها حتى يرجع في مادة الاجتماع وهي النافلة المنذورة بعد تساقط الدليلين بالمعارضة إلى العام الفوق وهو قوله عليه‌السلام : « لا صلاة إلا إلى القبلة » (١) فيحكم فيها بوجوب الاستقبال لما عرفت من عدم الإطلاق في أدلة الفرائض ، فيرجع إلى إطلاق أدلة النوافل السليمة عن المعارض.

ويؤكد ذلك ما ورد في بعض الروايات المتقدمة من إتيان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بصلاة الليل وهو على راحلته مع أنها واجبة عليه بالخصوص.

نعم ، مع الغض عما ذكرناه من الانصراف وتسليم الإطلاق في أدلّة الفرائض كالنوافل واستقرار المعارضة بينهما تعين الرجوع حينئذ إلى عموم قوله عليه‌السلام : « لا صلاة إلا إلى القبلة » لعدم المخرج عنه في المقام عدا ما يتوهم من خبر علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : « سألته عن رجل جعل لله عليه أن يصلّي كذا وكذا هل يجزئه أن يصلّي ذلك على دابته وهو مسافر؟ قال : نعم » (٢).

لكن الخبر ضعيف السند ، لاشتماله على محمد بن أحمد العلوي ولم يوثق ، فلا يمكن الاعتماد عليه في الخروج عن العام المزبور.

وقد حاول جمع من الأفاضل وعمدتهم الوحيد البهبهاني في حاشية‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣١٢ / أبواب القبلة ب ٩ ح ٢.

(٢) الوسائل ٤ : ٣٢٦ / أبواب القبلة ب ١٤ ح ٦.

٣٠

المدارك (١) لتوثيق الرجل بذكر وجوه كلها مزيّفة :

الأوّل : رواية جملة من الأجلاء عنه ، فلولا وثاقته بنظرهم لم يكن مجال لروايتهم عنه.

وهذا واضح الفساد ، فإنّ رواية الأجلاء عن أحد لا تدلّ على توثيقه بوجه كما تقدم في مطاوي هذا الشرح غير مرة. وهذا الكليني وهو من أعاظم الأجلاء يروي في الكافي عن الضعفاء كثيراً ، ونحوه غيره. والسرّ أنّ شأن الراوي ليس إلا نقل الحديث عن كل من سمعه ثقة كان أم غيره ، ولا فرق في ذلك بين الأجلاء وغيرهم ، إذ هم في مقام الرواية ليسوا إلا كأحد الرواة ينقلون كلّ ما وصل إليهم من الأخبار.

الثاني : أنّ العلامة قد صحح الحديث المشتمل سنده على هذا الرجل في المختلف والمنتهى.

وفيه أولاً : أنّه لا عبرة بتوثيقات العلامة ، لابتنائها على الاجتهاد والحدس دون الحس.

وثانياً : أنّ تصحيح السند من مثله لا يدلّ على توثيق رجاله ، لما هو المعلوم من مسلكه قدس‌سره من الاعتماد على رواية كلّ شيعي إمامي لم يرد فيه قدح ، عملاً بأصالة العدالة في كلّ أحد ما لم يثبت فسقه ، ولا يرى ثبوت وثاقة الراوي شرطاً في الصحة.

وبالجملة : مجرد كون الرواية حجة عند أحد لصحة السند في نظره لا يدلّ على التوثيق ما لم يعلم مسلكه في التصحيح ، وإلا لزم العمل بكل ما يرويه الصدوق في الفقيه ، لما التزم به في صدر الكتاب من عدم روايته فيه إلا ما يكون حجة بينه وبين ربه مع ما نراه فيه من روايته عن غير واحد من الضعاف.

الثالث : أنّ القميين تبعاً لشيخهم محمد بن الحسن بن الوليد لم يستثنوا من‌

__________________

(١) هامش المدارك : ١٣٣.

٣١

روايات محمد بن أحمد بن يحيى في كتاب نوادر الحكمة ما يرويه عن هذا الرجل ، فيكشف ذلك عن وثاقته لديهم ، وإلا لاستثنوه كما استثنوا روايته عن غيره من الضعاف.

وفيه : ما عرفت آنفاً ، فان عدم الاستثناء لا يدل على التوثيق ، بل غايته التصحيح ، ومن الجائز أن يكون مسلكهم فيه كمسلك العلامة مبنياً على أصالة العدالة.

وبالجملة : فهذه الوجوه التي ذكرها البهبهاني لتوثيق الرجل لا يرجع بشي‌ء منها إلى محصّل.

وقد يذكر لتصحيح الرواية وجهان آخران :

الأوّل : أنّ الرجل موثّق ، لوصف الصدوق إياه في الباب الثاني والعشرين من كتاب إكمال الدين (١) عند التعرض له وذكر نسبه إلى علي بن أبي طالب عليه‌السلام بقوله : حدثنا الشريف الديّن الصدوق أبو علي محمد بن أحمد بن زيادة بن عبد الله ، وذكر نسبه إلى الإمام عليه‌السلام. وفي بعض النسخ : حدثنا شريف الدين الصدوق ... إلخ ، بجعل شريف الدين لقباً له لا وصفاً. وعلى التقديرين فقد وصفه بالصدوق ، الذي لا ينطبق إلا على الثقة كما لا يخفى.

وغير خفي أنّ هذا الاستدلال من غرائب الكلام ، فانّ الوصف المزبور وإن وقع الكلام بين الأعلام في دلالته على التوثيق وعدمها مع أنه لا ينبغي الالتفات إليه فإنّه من أقوى أنحاء الدلالات عليه ، بل هو يتضمن التعديل فضلاً عن التوثيق بناءً على النسخة الأُولى كما لا يخفى لعدم انطباق هذه الصفات على غير العدل.

إلا أنّه أجنبي عن الرجل المزبور أعني محمد بن أحمد العلوي لعدم احتمال أن يكون هذا هو المراد من قول الصدوق : حدثنا الشريف الديّن الصدوق أبو علي محمد بن أحمد بن زيادة ... إلخ ، لعدم إمكان رواية الصدوق عنه بعد‌

__________________

(١) كمال الدين : ٢٣٩ / ب ٢٢ ح ٢٣٩.

٣٢

ملاحظة ما بينهما من اختلاف الطبقة ، فانّ الكليني يروي عن أحمد بن محمد بن يحيى ، وهو يروي عن محمد بن علي بن محبوب ، وهو يروي عن محمد بن أحمد العلوي ، فطبقة الرجل متقدمة على الكليني بثلاث مراتب ، فإنّه شيخ شيخ شيخ الكليني ، فكيف يمكن أن يروي عنه الصدوق بلا واسطة كما هو ظاهر قوله حدثنا ، مع أنّ طبقته متأخرة عن الكليني أيضاً ، فإنّه توفي سنة ٣٢٩ والصدوق ورد بغداد سنة ٣٥٩ وهو بعد شابّ حدث السن وتوفي سنة ٣٨١ فمن هذا نجزم بأنّ المراد بالمسمى بهذا الاسم محمد بن أحمد شخص آخر غير العلوي.

والذي يدلّ صريحاً على ما ذكرناه من التعدد إنّ العلوي المزبور جده إسماعيل كما نص عليه النجاشي (١) فهو محمد بن أحمد بن إسماعيل ، مع أن من وصفه الصدوق بما ذكر هو محمد بن أحمد بن زيادة كما عرفت. فهما رجلان يقيناً.

الوجه الثاني : ما ذكره في الجواهر (٢) من أنّ الرواية لو سلّم ضعفها بهذا الطريق المشتمل على العلوي فهي مروية بطريق آخر وهو ما رواه الشيخ عن كتاب علي بن جعفر وطريقه اليه صحيح.

ولا يخفى أنّ هذا لو ثبت لصحت الرواية وتم الاستدلال بها ، لكنه لم يثبت وهذا سهو من قلمه الشريف ، ولعله التبس عليه الأمر لدى الكتابة فرأى رواية أُخرى عن كتاب علي بن جعفر فتخيّل أنّها هذه الرواية ، وإلا فالرواية لم تنقل إلا بالطريق الأوّل المشتمل على العلوي وأما الطريق الثاني فلم يوجد قط في شي‌ء من الكتب بعد التتبع التام ، فإنّ أرباب المجامع كالوسائل والوافي والحدائق (٣) وغيرها لم ينقلوا هذه الرواية عن الشيخ بهذا الطريق ، بل اقتصروا على الطريق الأول ، والشيخ بنفسه لم ينقله عن علي بن جعفر في كتابيه التهذيب‌

__________________

(١) رجال النجاشي : ٣٠٣ / ٨٢٨ [ صرح بذلك في ترجمة العمركي ].

(٢) الجواهر ٧ : ٤٢٢.

(٣) الوافي ١١ : ٥٣١ / ١١٢٦٠ ، الحدائق ٦ : ٤١٠.

٣٣

[١٢٤٦] مسألة ١ : كيفية الاستقبال في الصلاة قائماً أن يكون وجهه ومقاديم بدنه إلى القبلة حتى أصابع رجليه (١) على الأحوط (*) ، والمدار على الصدق العرفي ، وفي الصلاة جالساً أن يكون رأس ركبتيه إليها (**) مع وجهه وصدره وبطنه ، وإن جلس على قدميه لا بد أن يكون وضعهما على وجه يعد مقابلاً لها (***) ، وإن صلى مضطجعاً يجب أن يكون كهيئة المدفون ، وإن صلى مستلقياً فكهيئة المحتضر.

الثاني : في حال الاحتضار وقد مر كيفيته. الثالث : حال الصلاة على الميت يجب أن يجعل على وجه (****) يكون رأسه إلى المغرب ورجلاه إلى المشرق. الرابع : وضعه حال الدفن على كيفية مرت. الخامس : الذبح والنحر بأن يكون المذبح والمنحر ومقاديم بدن الحيوان إلى القبلة والأحوط (*****) كون الذابح ايضاً مستقبلاً وإن كان الأقوى عدم وجوبه.

[١٢٤٧] مسألة ٢ : يحرم الاستقبال حال التخلي بالبول أو الغائط ، والأحوط تركه حال الاستبراء والاستنجاء كما مر.

______________________________________________________

والاستبصار ، وكتاب علي بن جعفر أيضاً خال عن هذه الرواية فلاحظ.

(١) امّا اعتبار الاستقبال حال القيام بالوجه ومقاديم البدن أي الصدر والبطن وما يتبعهما فلا إشكال فيه ، لتقوّم الاستقبال بذلك كما هو واضح. وأمّا اعتباره في أصابع الرجلين فلا دليل عليه بعد كونه على خلاف طبيعة الإنسان حال الوقوف ، فانّ الغالب انحراف الأصابع حينئذ إلى اليمين واليسار إلا بتعمّد‌

__________________

(*) والأظهر عدم وجوب الاستقبال بها.

(**) لا يعتبر ذلك على الأظهر.

(***) لا تعتبر كيفية خاصة في وضع القدمين.

(****) بل على وجه يكون رأس الميت الى يمين المصلي ورجله إلى يساره كما تقدم ، وما في المتن يختص بالأماكن التي تكون القبلة فيها في طرف الجنوب.

(*****) لا يترك الاحتياط بكون الذابح أيضاً مستقبلاً.

٣٤

[١٢٤٨] مسألة ٣ : يستحب الاستقبال في مواضع : حال الدعاء ، وحال قراءة القرآن ، وحال الذكر ، وحال التعقيب ، وحال المرافعة عند الحاكم ، وحال سجدة الشكر ، وسجدة التلاوة ، بل حال الجلوس مطلقاً.

[١٢٤٩] مسألة ٤ : يكره الاستقبال حال الجماع ، وحال لبس السراويل ، بل كل حالة تنافي التعظيم.

______________________________________________________

ومشقة أو قسر قاسر كما في العسكر حال النظام ، بل لو أراد المكلف رعاية الاحتياط وبذل جهده في تحصيل ذلك في ابتداء الصلاة فهو يغفل عنه في الأثناء غالباً ، وليس ذلك إلا لكونه على خلاف طبع البشر حال القيام كما عرفت ، فلو كان واجباً والحال هذه لزم التنبيه عليه في الأخبار لكونه مما يغفل عنه عامة الناس ، مع أنّه لم ترد بذلك ولا رواية واحدة فيكشف ذلك عن عدم الوجوب قطعاً وإلا لبيّن ، ولا مجال للإيكال إلى العرف بعد قصورهم عن إدراكه كما هو ظاهر.

وأوضح منه إشكالاً اعتبار الاستقبال بالركبتين حال الجلوس أو في الصلاة جالساً ، فان الانحراف فيهما إلى اليمين واليسار أظهر ، سواء جلس على قدميه أو متوركاً أو متربعاً ، بل الأمر في الأخيرين أفحش ، لكونهما حينئذ إلى المغرب والمشرق تقريباً كما لا يخفى.

وبالجملة : فالتحديد المذكور في المتن على النحو المزبور لا يساعده العرف ولا شاهد عليه في النصّ.

ثم إنّه قد تعرّض في المتن لعدّة موارد مما يجب فيه الاستقبال كالميت في حالات الاحتضار والصلاة عليه والدفن ، أو يحرم كحال التخلّي مستقبلاً أو مستدبراً ، أو يستحب كحال الدعاء والقراءة ونحوهما ، أو يكره كحال الجماع ونحوه ، فهو محكوم بالأحكام الأربعة.

٣٥

أمّا الأخيران فتدلّ عليهما جملة من النصوص (١) كما لا يخفى على المراجع.

وأمّا الأوّلان فقد تقدّم الكلام فيهما مفصّلاً في محالّهما (٢) فلا حاجة إلى الإعادة.

نعم ، ذكر في المقام من جملة ما يجب فيه الاستقبال حال الذبح والنحر ، ولم يسبق الكلام فيه فنقول :

أمّا اعتباره في نفس الذبيحة بأن يكون المذبح والمنحر ومقاديم بدن الحيوان إلى القبلة فلا إشكال فيه. ويدلّ عليه بعد الإجماع بقسميه كما في الجواهر (٣) نصوص مستفيضة منها صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « سألته عن الذبيحة فقال : استقبل بذبيحتك القبلة ... » الحديث (٤) وهذه الرواية صحيحة لا حسنة ، نعم لمحمد بن مسلم رواية أُخرى تشتمل على هذا المضمون (٥) ، وهي أما صحيحة أو حسنة ، لمكان إبراهيم بن هاشم فلاحظ.

وأمّا اعتباره في الذابح فقد جعله في المتن أحوط ، لكن الأقوى وجوبه (٦) فيه أيضاً ، لا للصحيح المتقدم لابتنائه على كون الباء في قوله عليه‌السلام « استقبل بذبيحتك القبلة » للمصاحبة ، أي استقبل مع ذبيحتك القبلة ، مع أن الظاهر كونه للتعدية ، نظير قوله تعالى ( ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ ) (٧) أي أذهب نورهم. فالمعنى اجعل ذبيحتك نحو القبلة ، لا ما ذكر ، ولا أقل من الإجمال فيسقط عن الاستدلال.

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٣٤١ / أبواب كيفية زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ب ٦ ح ١ ، ٢ وغيرهما ، الوسائل ٢٠ : ١٣٧ / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب ٦٩ [ ولم نعثر على ما يدل على استحبابه حال القراءة ].

(٢) شرح العروة ٨ : ٢٦٨ ، ٩ : ٢٥٦ ، ٢٩٥ ، ٤ : ٣٣٣.

(٣) الجواهر ٣٦ : ١١٠.

(٤) الوسائل ٢٤ : ٢٧ / أبواب الذبائح ب ١٤ ح ١ ، ٢.

(٥) الوسائل ٢٤ : ٢٧ / أبواب الذبائح ب ١٤ ح ١ ، ٢.

(٦) وقد أفتى ( دام ظله ) في المنهاج ٢ : ٣٣٨ المسألة ١٦٥١ بعدم الوجوب.

(٧) البقرة ٢ : ١٧.

٣٦

بل لصحيحة علي بن جعفر في كتابه عن أخيه عليه‌السلام قال : « سألته عن الرجل يذبح على غير قبلة ، قال : لا بأس إذا لم يتعمّد ... » إلخ (١) الدالة بمفهومها على ثبوت البأس مع تعمد الذبح إلى غير القبلة ، وحيث إن الذبح بنفسه فعل من الأفعال كالأكل والجلوس والقيام ونحوها ولا معنى لاعتبار الاستقبال في الفعل نفسه ، لعدم كونه جسماً شاغلاً لحيّز كي يراعى فيه الاتجاه نحو القبلة ، فلا بدّ وأن يكون الاستقبال معتبراً فيما يقوم به الفعل كالآكل والجالس والقائم ونحوها ، بل هذا هو الحال في الصلاة أيضاً ، فإنّ الاستقبال غير معتبر فيها بما هي لما ذكر ، بل في المصلي الذي تقوم به الصلاة.

وعليه فمرجع اعتبار الاستقبال في الذبح إلى اعتباره في من يقوم به هذا العمل ، وبما أنّ هذا الفعل له خصوصيّة بها يمتاز عن الأمثلة المتقدمة وهي قيامه بالطرفين الذابح والذبيحة دون مثل الصلاة والجلوس ونحوهما فيستفاد من إطلاق ما دلّ على اعتبار الاستقبال فيه كهذه الصحيحة اعتباره في كلا الطرفين.

فالمتحصّل من مفهوم الصحيحة بعد ملاحظة ما ذكرناه اعتبار الاستقبال في الذابح والذبيحة معاً ، فتدبر جيداً.

__________________

(١) الوسائل ٢٤ : ٢٨ / أبواب الذبائح ب ١٤ ح ٥ ، مسائل علي بن جعفر ١٤٢ / ١٦٤.

٣٧

فصل

في أحكام الخلل في القبلة‌

[١٢٥٠] مسألة ١ : لو أخلّ بالاستقبال عالماً عامداً بطلت صلاته مطلقاً ، وإن أخلّ بها جاهلاً (*) أو ناسياً أو غافلاً أو مخطئاً في اعتقاده أو في ضيق الوقت فان كان منحرفاً عنها إلى ما بين اليمين واليسار صحت صلاته (١).

______________________________________________________

(١) الإخلال بالاستقبال في الصلاة قد يكون عن علم وعمد ، واخرى عن جهل بالحكم أو بالموضوع عن تقصير أو قصور ، وثالثة عن نسيان أو غفلة ورابعة عن خطأ في الاعتقاد أو في الاجتهاد ، ولعل عبارة المتن تشملهما وخامسة عن ضيق الوقت عن التحري كما لو كانت وظيفته الصلاة إلى الجهات الأربع ولم يسع الوقت لغير الواحد منها. فهنا صور لا بدّ من التكلّم في كلّ منها.

أما مع العلم والعمد فلا إشكال في البطلان ، لانتفاء المشروط بانتفاء الشرط ، فإنّه القدر المتيقن من دليل الاشتراط من الكتاب والسنة كما تقدم التي منها صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : « أنّه قال له : استقبل القبلة بوجهك ، ولا تقلب بوجهك عن القبلة فتفسد صلاتك ، فانّ الله ( عز وجل ) يقول لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في الفريضة ( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) » (١) فإنها وإن وردت في‌

__________________

(*) لا يبعد وجوب الإعادة فيما إذا كان الإخلال من جهة الجهل بالحكم ، ولا سيما إذا كان عن تقصير.

(١) الوسائل ٤ : ٣١٢ / أبواب القبلة ب ٩ ح ٣.

٣٨

قاطعية الالتفات في الأثناء كما تقدم سابقاً (١) إلا أنّها تدلّ على اعتبار الاستقبال فيما كان الالتفات قاطعاً كالفريضة بلا إشكال ، ونحوها غيرها مما لا يخفى.

وأما غير فرض العلم والعمد من بقية الصور فقد أطلق في المتن القول بالصحة في جميعها إذا كان الانحراف إلى ما بين اليمين واليسار تبعاً للمشهور.

والظاهر أنّ المستند في ذلك صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : لا صلاة إلا إلى القبلة ، قال قلت : أين حدّ القبلة؟ قال : ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه » (٢). دلّت على أنّ القبلة المعتبرة في الصلاة إنّما هي ما بين المشرق والمغرب على الإطلاق ، خرج عنها صورة العلم والعمد ، لاعتبار استقبال الكعبة حينئذ بالإجماع والنص فيبقى الباقي تحت الإطلاق.

لكن الصحيحة غير صالحة للاستدلال ، لمعارضتها بصحيحة زرارة الأُخرى المتقدمة آنفاً (٣) الدالة على لزوم استقبال المسجد الحرام ، الشاملة بإطلاقها لصورتي العلم والجهل وغيرهما ، بل يبعد اختصاصها بصورة العلم والعمد في حدّ نفسه ، إذ مع فرض العلم لا حاجة إلى الأمر باستقبال القبلة بالوجه وعدم تقليب الوجه عنها والحكم بالفساد المستلزم للإعادة ، لوضوح أنّ العالم لا يتعمد ذلك ، وأنّه لو تعمد فالإعادة واجبة عليه ، فلا حاجة إلى التنبيه ، وإنّما يصح ذلك لو كان الإمام عليه‌السلام بصدد اعتبار الاستقبال على الإطلاق والإرشاد إلى اشتراط الصلاة به ، فينبّه عليه‌السلام حينئذ إلى البطلان في فرض الإخلال وإن كان عن جهل ونحوه.

وكيف كان ، فالصحيحتان ساقطتان بالمعارضة لو لم نقل بأنّ الترجيح مع الثانية الدالّة على اعتبار استقبال المسجد الحرام لموافقتها مع الكتاب كما لا يخفى ، فتدلّ على خلاف المطلوب. وعلى أي حال فالصحيحة الاولى لا تصلح‌

__________________

(١) في ص ١٩.

(٢) الوسائل ٤ : ٣١٤ / أبواب القبلة ب ١٠ ح ٢.

(٣) في ص ٣٨.

٣٩

للاستدلال ، فلا بدّ في إثبات الحكم في كلّ مورد من التماس الدليل بالخصوص فنقول :

أما في فرض الجهل بالحكم فلا دليل على الصحة وإن كان الانحراف إلى ما بين اليمين واليسار ، بل مقتضى صحيحة زرارة الموافقة للكتاب هو البطلان عند عدم استقبال المسجد الحرام ، وقد عرفت أنّ صحيحته الاولى قد سقطت بالمعارضة ، بل الكتاب أيضاً بنفسه يقتضي البطلان كما لا يخفى. وحديث لا تعاد (١) وإن كان شاملاً للجهل لكن القبلة مما استثني فيه.

وأما صحيحة معاوية بن عمار : « أنه سأل الصادق عليه‌السلام عن الرجل يقوم في الصلاة ثم ينظر بعد ما فرغ فيرى أنّه قد انحرف عن القبلة يميناً أو شمالاً ، فقال له : قد مضت صلاته ، وما بين المشرق والمغرب قبلة » (٢) وموثقة الحسين بن علوان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي عليه‌السلام : « أنّه كان يقول : من صلّى على غير القبلة وهو يرى أنّه على القبلة ثم عرف بعد ذلك فلا إعادة عليه إذا كان ما بين المشرق والمغرب » (٣) فلا يصح التمسك بهما في المقام أعني صورة الجهل بالحكم لظهورهما ولا سيما الموثقة في أنّ المصلّي كان عالماً بأصل اعتبار الاستقبال في الصلاة ، غايته أنّه أخطأ فتخيل أنّها في جهة خاصة ثم تبيّن الانحراف عنها بعد الصلاة ، فلا تشملان صورة الجهل بالحكم كما لعله ظاهر.

وعليه فالأقوى هو البطلان ووجوب الإعادة ، عملاً بإطلاقات أدلّة الاستقبال السليمة عن المقيد ، من غير فرق بين الجاهل القاصر والمقصر ، نعم هو معذور مع القصور ، لكن المعذورية لا تنافي الفساد كما هو واضح.

ويلحق به ناسي الحكم ، فإنّه هو الجاهل بعينه ، ولا فرق بينهما إلا من حيث‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣١٢ / أبواب القبلة ب ٩ ح ١.

(٢) الوسائل ٤ : ٣١٤ / أبواب القبلة ب ١٠ ح ١.

(٣) الوسائل ٤ : ٣١٥ / أبواب القبلة ب ١٠ ح ٥.

٤٠