موسوعة الإمام الخوئي - ج ١٢

الشيخ مرتضى البروجردي

السليمة عن المعارض.

وهذا غير متصوّر في الارتباطيين ، إذ التكليف حينئذ دائر بين تعلّقه بالأقل بشرط الانضمام إلى الجزء أو الشرط المشكوك فيه كما هو مقتضى الارتباطية وبين تعلّقه به لا بشرط الانضمام ، فالأقل مأخوذ إمّا بشرط شي‌ء أو لا بشرط ، فنعلم إجمالاً بالجامع بين هذين الأمرين ، وفي مثله لا يكاد يكون الأقل معلوماً بالتفصيل كي يتحقق معه الانحلال الحقيقي.

لأنه إن أُريد بالأقل المعلوم كذلك الأقل بشرط الانضمام فهو واضح الفساد.

وإن أُريد به الأقل لا بشرط الانضمام فهو بنفسه طرف للعلم الإجمالي لدوران المعلوم بالإجمال بين أخذ الأقل لا بشرط أو بشرط شي‌ء كما عرفت فكيف يكون متعلّقاً للعلم التفصيلي.

وإن أُريد به ذات الأقل لا بشرطٍ عن كلتا الخصوصيتين والجامع بينهما المعبّر عنه باللابشرط المقسمي فهو نفس المعلوم بالإجمال ، إذ لا نعني به سوى تعلّق العلم بالجامع بين الخصوصيتين والشكّ في أنفسهما ، فليس ذلك شيئاً وراء نفس العلم الإجمالي. فمرجع الانحلال حينئذ إلى انحلال العلم الإجمالي بنفسه ، وهو غير معقول. فالانحلال الحقيقي غير متصوّر في المقام.

نعم ، نتيجة الانحلال وهي الرجوع إلى البراءة عن الأكثر من دون معارض المعبّر عنه بالانحلال الحكمي ثابتة في المقام ، ومعه يسقط العلم الإجمالي عن التنجيز.

وذلك لأن المانع عن جريان الأُصول في الأطراف ليس هو نفس العلم بدعوى أنّ إجراء الأصل مغيّا في الأدلة بعدم حصول العلم بالخلاف ، والمراد به الأعم من الإجمالي والتفصيلي. إذ فيه : أنّ الغاية ظاهرة في العلم التفصيلي خاصة ، كما يفصح عنه قوله عليه‌السلام : « حتى تعلم الحرام منه بعينه فتدعه » (١).

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٨٧ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ١.

٢٨١

بل المانع إنّما هي المعارضة ، ولا تعارض في المقام ، لعدم جريان الأصل في ناحية الأقل ، إذ الذي يكون طرفاً للعلم الإجمالي هو الأقل لا بشرط كما عرفت وهو يتضمّن التوسعة والإطلاق من حيث الانضمام مع الأكثر وعدمه ورفع مثله مخالف للامتنان ، فلا يكون مشمولاً لحديث الرفع المبني على الامتنان. كما لا يكون مشمولاً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لتماميّة البيان بالنسبة إليه كما هو واضح.

وأمّا وجوب الأكثر فحيث إنّه يتضمن الضيق وفيه كلفة زائدة ، ولم يتم البيان بالنسبة إليه فهو مجرى لأصل البراءة الشرعية والعقلية من دون معارض.

الرابع : قد عرفت أنّ الشك إن كان راجعاً إلى مقام الجعل وفي أصل ثبوت التكليف فهو مورد لأصل البراءة ، كما أنّه إن رجع إلى مقام الامتثال فهو مورد لقاعدة الاشتغال.

وأمّا إذا رجع إلى مقام الانطباق فشكّ في صدق عنوان المأمور به على الموجود الخارجي فهل هو مجرى للبراءة أو الاشتغال؟ لم أرَ من تعرض للمسألة مستقصى.

وتوضيح الحال أن يقال : إنّ صور المسألة ست ، فانّ الفعل الاختياري الذي تعلّق به التكليف إمّا أن يكون له متعلق كذات الخمر بالإضافة إلى شربه المحرّم ، وكذات العقد بالنسبة إلى الوفاء به ، ويعبّر عنه بالموضوع أو بمتعلّق المتعلّق. وإمّا أن لا يكون له تعلّق بشي‌ء آخر كالتكلم أو الذكر أو الدعاء أو القراءة ونحوها مما لا تضاف إلى شي‌ء آخر ، وقد تعلق بها أحكام إلزامية. وعلى الثاني : فامّا أن يكون التكليف وجوبياً أو تحريماً. وعلى الأول : فامّا أن يكون الموضوع أمراً جزئياً شخصياً أو يكون كلّياً. والطبيعة الكلّية إما أن تؤخذ بنحو صرف الوجود وعلى سبيل البدل ، أو بنحو الطبيعة السارية. والسريان إمّا أن يكون بنحو العموم الاستغراقي أو المجموعي. فهذه أقسام ستة.

٢٨٢

أمّا القسم الأوّل : أعني ما إذا لم يكن للمتعلّق متعلّق ، وكان التكليف إيجابياً كوجوب الذكر أو الدعاء أو التكلّم بالعربية مثلاً ، وشكّ في انطباق ذلك على الوجود الخارجي كأن شكّ أنّ ما تفوّه به مصداق للذكر أو الدعاء أو الكلام العربي أو لا ، فلا ريب أنّ المرجع حينئذ قاعدة الاشتغال ، لفعليّة التكليف وتنجّزه والقدرة على امتثاله ، ولا بد في الخروج عن عهدة التكليف الواصل من الاعتماد على اليقين ، فانّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية ، فلا يجوز في نظر العقل الاقتصار على الفرد المشكوك. هذا فيما إذا كان المطلوب بنحو صرف الوجود كما هو الغالب في مثل هذا القسم ، بل لا يكاد يوجد في الأحكام الشرعية على غير هذا النحو.

وأمّا إذا فرضنا أنّ المطلوب هي الطبيعة السارية بنحو العموم الاستغراقي أو المجموعي وإن كان ذلك مجرد فرض لا مصداق له خارجاً إلا بمثل نذر وشبهه ، كأن ينذر أن يقرأ في يوم الجمعة مثلاً كل ما كان مصداقاً للدعاء وشكّ في انطباق الطبيعة على الموجود الخارجي زائداً على المقدار المعلوم من أفرادها فحينئذ اندرج المقام في باب الدوران بين الأقل والأكثر الاستقلاليين على الأوّل أعني ما كان من قبيل العموم الاستغراقي والارتباطيين على الثاني. والأوّل مجرى لأصالة البراءة بلا إشكال ، وكذلك الثاني على المختار ، بل المشهور حسبما هو موضح في الأُصول (١) ، للشك في تعلّق التكليف زائداً على الأفراد المعلومة ، أو في جزئيّة شي‌ء زائداً على الأجزاء المتيقّنة ، ومقتضى الأصل البراءة عنها.

ومنه تعرف أنّ ما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره (٢) من الرجوع إلى أصالة الاشتغال لدى الشك في الانطباق على سبيل الإطلاق لا يمكن المساعدة عليه ، بل الصواب اختصاصه بما كان على نحو صرف الوجود ، ولا يشمل ما‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٤٢٦.

(٢) كتاب الصلاة ١ : ١٨٠ ، ١٨٤ ، ١٨٧.

٢٨٣

لوحظ على سبيل الطبيعة السارية وإن كان الفرض في نفسه نادراً كما عرفت.

وأمّا القسم الثاني : وهو نفس الفرض مع كون التكليف تحريمياً كالنهي عن الكذب ، أو عن الذكر حال الجنابة أو الحيض ، فالمرجع لدى الشك في الانطباق هو أصالة البراءة ، على العكس من القسم الأول ، لوضوح افتراق النهي عن الأمر في انبعاثه عن مفسدة متحقّقة في الطبيعة ولا بدّ في الاجتناب عنها من الارتداع عن تمام الأفراد على سبيل الشمول والاستيعاب ، إمّا بنحو العموم الاستغراقي كما هو الغالب أو المجموعي ، فلا يتحقق الامتثال بالاجتناب عنها بنحو صرف الوجود على خلاف الأمر ، حيث إنّه لما كان ناشئاً عن مصلحة قائمة بالطبيعة فلا جرم يتحقق امتثالها بأوّل فرد تنطبق الطبيعة عليه.

وعليه فلا مناص من انحلاله إلى نواهي عديدة ، إمّا استقلالية لو كان السريان على سبيل العموم الاستغراقي ، أو ضمنية لو كان بنحو العموم المجموعي فيما لو كان هناك مفسدة واحدة قائمة بالمجموع فيرجع في الفرد أو الجزء المشكوك إلى أصالة البراءة في الأول بلا إشكال ، وفي الثاني على المختار حسبما تقدم.

وقد يتوهّم أنّ مقتضى ذلك جواز الإخبار عمّا يشك في كونه مصداقاً للكذب ، نظراً إلى الشكّ في تعلق النهي به زائداً على الأفراد المتيقنة فيرجع إلى أصالة البراءة.

ولكنه كما ترى ، أمّا أوّلاً : فللعلم الإجمالي بحرمة الإخبار به أو بنقيضه ، لأن أحدهما مصداق للكذب يقيناً ، فلا بدّ من التجنب والتثبت رعاية لتنجّز العلم الإجمالي.

وأمّا ثانياً : فللأدلّة الخاصة الناهية عن القول بغير علم من الكتاب والسنّة كقوله تعالى ( آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ ) (١) وقوله عليه‌السلام :

__________________

(١) يونس ١٠ : ٥٩.

٢٨٤

« رجل قضى بالحق وهو لا يعلم » (١) وقوله تعالى ( وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ .. ) إلخ (٢) والأخير مطلق يشمل الأحكام الشرعية وغيرها.

وبالجملة : فلا يقاس الإخبار بغيرها من المحرمات المشكوكة ، لوجود الدليل الحاكم على أصالة البراءة ، ولولاه لكانت هي المرجع ، لعدم قصور في شمولها للمقام كغيره من سائر الموارد.

هذا كلّه مع الشك في الانطباق ، وأمّا مع العلم به والشك في الامتثال فلا شبهة في أنّ المرجع حينئذ قاعدة الاشتغال ، فلو علمنا أنّ فرداً مصداق للذكر الواجب أو الكذب المحرم تعيّن إحراز امتثاله بفعل الأول وترك الثاني.

ومثله ما لو شككنا في خروج المني بالملاعبة ليصدق عليه الاستمناء المحرّم ، فان انطباق العنوان لدى الخروج لمّا كان محرزاً لزم الاجتناب عن الاقتحام ، للشك معه في تحقق الامتثال اللازم إحرازه بحكم العقل ، فلا تجوز الملاعبة المزبورة ، نعم في هذا المثال للمتعلّق متعلّق فيخرج عن محل الكلام.

والمثال المنطبق على المقام ما لو حرم عليه النوم ، واحتمل أنّ الاضطجاع يستوجب غلبة النوم فإنّه يحرم عليه.

وبالجملة : ففي أمثال هذه الموارد لا بدّ من إحراز ترك المنهي عنه بمقتضى قاعدة الاشتغال ، إلا أن يكون هناك أصل موضوعي حاكم يحرز معه الامتثال كأصالة عدم تحقق النوم بالضجعة ، أو عدم خروج المني باللعبة بناءً على ما هو الأصح من جريان الاستصحاب في الأُمور الاستقبالية كالحالية بعد وضوح عدم الفرق في إحراز الامتثال بين ما كان بعلم وجداني أو تعبّدي متحصّل من أمارة أو أصل عملي كما في المقام.

ثم إنّ الشبهة الوجوبية وإن شاركت التحريمية في الرجوع إلى أصالة البراءة‌

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٢٢ / أبواب صفات القاضي ب ٤ ح ٦.

(٢) النور ٢٤ : ١٥.

٢٨٥

فيما لو كان العموم مجموعياً حسبما عرفت إلا أنّهما يفترقان في مورد إعمال هذا الأصل.

ففي الوجوبية لو أمر المولى بإكرام جماعة من العلماء مثلاً بطلب واحد متعلق بالمجموع منبعث عن مصلحة واحدة قائمة بهذه الهيئة ، وشككنا في شمولها لزيد العالم وعدمه فاللازم حينئذ إكرام من عداه ، لأنّه المتيقّن من الجعل المردد بين كونه بالإضافة إلى زيد لا بشرط أو بشرط شي‌ء ، ويرجع في جزئيته لهذا المجموع واشتراط الواجب بانضمامه إليهم إلى أصالة البراءة ، كما هو الشأن في سائر موارد الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، فيكون مورد الأصل هو ذاك الفرد المشكوك.

وأمّا في الشبهة التحريمية مثل ما لو ورد النهي عن مجالسة الأشرار بنهي واحد متعلق بهم أجمع ، وشككنا في كون زيد منهم فالأمر حينئذ بالعكس ، فلا تحرم مجالسة من عداه ، كما لا تحرم مجالسته وحده ، للشك في تعلّق النهي بشي‌ء منهما منعزلاً عن الآخر ، وإنّما المتيقن من مورد النهي مجالستهم بأجمعهم فإنّه المعلوم حرمته ، فيرجع في غير هذه الصورة إلى أصالة البراءة ، إلا إذا فرضنا رجوع التكليف التحريمي إلى الوجوبي ، بأن لم تكن ثمة مفسدة كامنة في مجموع الأفعال ، بل مصلحة قائمة بمجموع التروك ، فإنّه يجري حينئذ ما عرفته في الشبهة الوجوبية من لزوم الامتثال في الأفراد المتيقنة من التروك ، والرجوع فيما عداها إلى أصالة البراءة ، فلا تجوز في المثال مجالسة من علم كونه من الأشرار وتجوز في الفرد المشكوك ، هذا في الشبهة الموضوعية.

وكذلك الحال في الشبهة الحكمية كما لو بنينا على حرمة تصوير ذوات الأرواح وشككنا في اختصاصه بالبدن الكامل ، أو شموله للناقص ، بعد وضوح أنّ الحرمة لو ثبتت للكلّ فهي حرمة واحدة ، لا أنّ لكل عضو حرمة مستقلّة مغايرة للعضو الآخر ، فانّ المرجع حينئذ أصالة البراءة عن حرمة تصوير البعض ، إذ لا علم لنا بها إلا لدى تصوير تمام الأجزاء بالأسر.

٢٨٦

وأما القسم الثالث : وهو ما إذا كان للمتعلّق متعلّق يعبّر عنه بالموضوع وكان جزئياً شخصياً كالقبلة في وجوب الصلاة إليها ، أو حرمة استقبالها أو استدبارها لدى التخلّي ، وكعرفات في حرمة الإفاضة عنها قبل الغروب من يوم عرفة ، فمع الشك في الانطباق إن كان الحكم إيجابياً وعلى سبيل صرف الوجود كالصلاة إلى القبلة لا بدّ فيه من الإحراز بقاعدة الاشتغال ، وإن كان انحلالياً جمعاً أو جميعاً وجوباً أو تحريماً فالمرجع أصالة البراءة ، إلا أن يكون ثمّة أصل موضوعي حاكم كأصالة بقاء النهار في مثال الإفاضة ، أو علم إجمالي غير دائر بين الأقل والأكثر كما في مثال التخلّي عند اشتباه القبلة ، حيث يعلم إجمالاً بوجودها في أحد الأطراف ، فإنّ اللازم حينئذ هو الاحتياط أيضاً كما اتضح مما تقدم.

وأمّا القسم الرابع : وهو ما لو كان للمتعلّق متعلّق كلّي ملحوظ على سبيل صرف الوجود فلا مصداق لهذه الكبرى في التكليف التحريمي ، لوضوح أنّ المفسدة لما كانت قائمة بالطبيعة فلا جرم تسري إلى جميع أفرادها أو مجموعها ولا يعقل قيامها بفرد ما كما لا يخفى.

وإنّما يتّجه ذلك في التكليف الوجوبي كما في أمر المولى بإكرام العالم في قوله : أكرم عالماً ، حيث يكون وجود طبيعي الموضوع في الجملة موجباً لحدوث مصلحة في الفعل المتعلّق به ، وهو الإكرام في المثال ، من غير فرق بين تعدد وجود الموضوع خارجاً ووحدته ، إلا من حيث التوسعة على المكلف في مقام الامتثال وضيقه.

وعليه فيتوقف وجوب الامتثال على وجود العالم خارجاً قلّ عدده أم كثر فلو شكّ بعد العلم بوجوده في تحقق الإكرام كان المرجع قاعدة الاشتغال.

أمّا لو شك في أصل الوجود لأجل الشك في انطباقه على فرد فحيث إنّه مشروط بوجوده اشتراط الحكم بوجود موضوعه ، والشك في الشرط شك في المشروط ، فلا جرم يشك في تعلّق التكليف فيرجع إلى أصالة البراءة ، ولا يجب الفحص عنه كما هو ظاهر.

٢٨٧

وهذا بحسب الكبرى مسلّم لا غبار عليه ، وإنّما الإشكال في انطباقها على الشك في وجود الماء للوضوء ، حيث إنّ الماء بنحو صرف الوجود موضوع لوجوب التوضي به ، فلا وجوب بدونه ، وحينئذ فمع العلم بوجوده لا يجوز التوضي بمائع يشك في مائيته ، لقاعدة الاشتغال كما هو واضح.

وأمّا مع الشك في أصل الوجود فقد ذهب المحقق النائيني قدس‌سره (١) إلى أصالة البراءة عن وجوب الوضوء ، للشك في وجود موضوعه ، تعويلاً على الكبرى المزبورة وتطبيقاً لها على المثال ، ومن ثمّ جعل النصّ الوارد في المقام المتضمن لوجوب الفحص غلوة سهم أو سهمين (٢) حكماً تعبدياً مخالفاً لمقتضى القاعدة.

ولكنّه كما ترى ، إذ لا يثبت بالأصل المزبور كون المكلّف فاقدا للماء لينتقل إلى التيمم ، بداهة أنّ وجدان الماء كما أنّه شرط لوجوب الوضوء فكذلك فقدانه شرط لوجوب التيمم ، فكيف تجري البراءة عن أحدهما لإثبات الآخر ، بل هو يعلم إجمالاً بأحد التكليفين ولزوم تحصيل إحدى الطهارتين. ومقتضى العلم الإجمالي الفحص حتى يحصل اليأس ويحرز العجز ، أو يرتفع وجوبه بدليل نفي الضرر أو الحرج لينتقل إلى التيمم.

ومنه تعرف أنّ النصّ المزبور موافق للقاعدة من حيث أصل الفحص ، وإن كان مخالفاً لها من حيث التحديد بالغلوة والغلوتين ، وأنّه لولاه لزم الفحص إلى أن يحصل العجز حسبما عرفت.

وأمّا القسم الخامس : وهو الذي يكون الموضوع فيه ملحوظاً على سبيل السريان والاستغراق ، بأن يكون لكلّ فرد من أفراد الطبيعة حكم مستقل وجوبي أو تحريمي مغاير للفرد الآخر ، كما في قولنا : أكرم كلّ عالم ، أو لا تشرب الخمر ، حيث لوحظ كلّ فرد من العالم أو من الخمر موضوعاً مستقلا لحكم‌

__________________

(١) رسالة الصلاة في المشكوك : ٢٢٦ ، ٢٢٧.

(٢) الوسائل ٣ : ٣٤١ / أبواب التيمم ب ١ ح ٢.

٢٨٨

منعزل عن الآخر وإن أُنشئ الكلّ بلسان واحد ، فحينئذ لو شككنا في فرديّة فرد للطبيعة وانطباقها عليه فلا شبهة أنّ المرجع أصالة البراءة ، وذلك لما تكرّر غير مرة من إناطة فعليّة التكليف وتنجّزه بوصوله كبرى وصغرى ، فلا يكفي مجرد وصول الكبرى ما لم يحرز انطباقها على الصغرى. فالشك في الانطباق مساوق للشك في تعلّق التكليف.

وبعبارة اخرى : لا بدّ من انطباق عنوان متعلّق التكليف وتحققه في مرتبة سابقة على الحكم به. إذن فالشك في عالميّة زيد مثلاً شك في مصداقية إكرامه (١) لطبيعي إكرام العالم ، ومعه يشك طبعاً في تعلّق الوجوب فيرجع إلى أصالة البراءة ، هذا.

ولكنّ المحقق النائيني قدس‌سره (٢) علّل جريان البراءة بوجه آخر ، وهو ما أشار إليه في غير مورد من اشتراط فعليّة التكليف بوجود موضوعه خارجاً على ما هو الشأن في كافة القضايا الحقيقية ، فإنّ مرجع قولنا مثلاً لا تشرب الخمر ، إلى قضية شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت الحرمة له ، فكأنّه قيل : إذا وجد شي‌ء في الخارج وصدق عليه الخمر فلا تشربه.

وعليه فالشك في وجود الموضوع شك في وجود شرط فعليّة التكليف ، وبما أنّ الشك في الشرط شك في المشروط فهو مساوق للشك في أصل التكليف فيرجع إلى البراءة.

وما أفاده قدس‌سره وإن كان وجيهاً في الجملة ، ولكنّه لا يستقيم على إطلاقه ، وتوضيحه : أنّ متعلّق المتعلّق الذي نعبّر عنه بالموضوع تارة يكون خارجاً عن اختيار المكلف كالزوال بالنسبة إلى صلاة النهار ، والهلال بالإضافة إلى صيام رمضان ، وهكذا ، وفي مثله لا مناص من أخذ الموضوع مفروض الوجود ، لامتناع تعلق التكليف بإيجاده أو إعدامه بعد خروجه عن حيّز‌

__________________

(١) [ الموجود في الأصل : مصداقيته. ولعل الصحيح ما أثبتناه ].

(٢) رسالة الصلاة في المشكوك : ١٩٧ ١٩٨.

٢٨٩

الاختيار ، وإنّما المعقول توجيه الطلب نحو العمل على تقدير وجوده ، فلا جرم يكون شرطاً في تعلّق الحكم ، فاذا شك في وجوده فقد شك في أصل التكليف المشروط به ، فتجري البراءة عنه ، وهذا واضح.

وأُخرى يكون تحت اختياره كالعقد المأخوذ موضوعاً لوجوب الوفاء به والخمر المجعول موضوعاً لحرمة شربه ، وهذا على قسمين :

إذ تارة يكون ذلك الفعل الاختياري دخيلاً في اتصاف الفعل بكونه ذا مصلحة أو ذا مفسدة بحيث لولاه لم يكن مقتض للصلاح ولا للفساد ، ونظيره في التكوينيات العطش بالنسبة إلى شرب الماء ، أو المرض بالنسبة إلى شرب الدواء أو استعمال الحامض ، فإنّه لولا العطش لم يكن أي مقتضٍ لشرب الماء كما أنّه لولا المرض لم تكن مصلحة في شرب الدواء ولا مفسدة في تناول الحامض. وفي التشريعيات العقود على الإطلاق بالنسبة إلى وجوب الوفاء والتزويج بالنسبة إلى وجوب الإنفاق ، والسفر بالنسبة إلى القصر ، والاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحج ، وهكذا.

وتارة اخرى يكون دخيلاً في تحقق المصلحة والمفسدة لا في الاتصاف بهما نظير اشتراط شرب الدواء بوقوعه بعد الأكل ، حيث يكون ذلك شرطاً في تأثير المصلحة وتحققها بعد ثبوت أصل الاتصاف.

أمّا القسم الأوّل : فهو ملحق بالقسم السابق في لزوم كونه مفروض الوجود لدى تعلّق الحكم ، من غير أن يتوجّه طلب إليه بوجه ، فلا يلزم إيقاع العقد ولا التزويج ولا السفر ولا تحصيل الاستطاعة ، وإنّما المصلحة في ترتيب الآثار على تقدير تحقق هذه الأُمور ، من غير أيّ مقتضٍ للبعث نحوها. إذن فمع الشك في تحققها يرجع إلى أصالة البراءة عن ترتيب آثارها ، كما كان كذلك في القسم السابق.

وأمّا القسم الثاني : فلم يؤخذ الموضوع هنا مفروض الوجود ، إذ لا مقتضي له بعد عدم الدخل في الاتصاف بالصلاح أو الفساد ، وبذلك يفترق هذا القسم‌

٢٩٠

عن القسمين المتقدمين.

وحينئذ فان كان التكليف وجوبياً كالصلاة المقيّدة بالساتر فكما أنّ المولى يأمر بإيجاد الفعل ينبغي له أن يأمر بإيجاد موضوعه أيضاً بمناط واحد ، وهو الدخل في تحصيل المصلحة ، فكما أنّ وجودها في الصلاة يدعوه للأمر بها فكذلك تأثير الساتر في تحقيقها يدعوه للأمر به أيضاً بتوجيه الأمر إلى القيد والمقيّد ، فيجب على المكلّف تحصيله ولو بالنسج بعد كونه قادراً على إيجاد الواجب بذاته وقيده كما هو المفروض.

وإن كان تحريمياً والمفروض دخل الموضوع في فعليّة المفسدة وتحققها لا في اتصاف الفعل بها فلا محالة يكون النهي فعلياً حتى قبل وجود الموضوع ويكون امتثاله إمّا بعدم إيجاده في الخارج أو بعدم استعماله على تقدير الإيجاد فانّ مفسدة شرب الخمر مثلاً لا تتوقف على وجوده خارجاً ، بل هو متّصف بها قبل الوجود أيضاً ، ومنهيّ عنه باعتبار القدرة على شربه بالقدرة على مقدمته وهي صنعه.

ومن ثمّ لو علم المكلّف من حاله أنّه لو صنعه لغاية من الغايات لشربه حرم عليه صنعه ، لا لأجل الدليل الخاص ، بل لنفس دليل حرمة الشرب ، لما عرفت من فعليّة النهي. فلا تكون فعلية الحكم في هذا القسم منوطاً بفعلية الموضوع.

وبالجملة : اشتمال شرب الخمر على المفسدة الفعلية المستتبعة للنهي الفعلي يستوجب الانزجار عنه من غير إناطة بوجود الموضوع ، وهو يحصل بأحد النحوين ، إمّا بعدم صنعة أو بعدم شربه بعد صنعه كما عرفت ، فلا مانع من فعليّة الحكم قبل وجود الموضوع في هذا القسم ، وبذلك يفصل بينه وبين القسمين السابقين. إذن فلا يستقيم ما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره على إطلاقه.

فتحصّل : أنّ الكبرى التي أفادها قدس‌سره من أنّ الشك في وجود الموضوع يرجع إلى الشك في تحقق شرط التكليف ، ومن ثمّ يرجع إلى البراءة لا‌

٢٩١

أساس لها بنطاقها العام ، بل ينبغي التفصيل على النهج الذي سبق من اختصاصها بموضوع دخيل في اتصاف الفعل بالمصلحة أو المفسدة ، ولا تعمّ ما يكون من مبادئ تحقق ما هو متصف بأحدهما حسبما عرفت ، وأنّ الوجه الصحيح للرجوع إلى البراءة هو ما ذكرناه فلاحظ.

وأمّا القسم السادس : وهو ما إذا كان العموم المفروض في جانب الموضوع مجموعياً ، فقد ظهر مما سبق أنّه لدى الشك في الانطباق يندرج المقام في كبرى الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، للشك في جزئية الفرد المشكوك للمأمور به أو للمنهي عنه ، وحينئذ فان كان التكليف إيجابياً يقتصر على الأفراد المتيقّن دخلها في المجموع ، ويرجع في الفرد المشكوك إلى أصالة البراءة.

وإن كان تحريمياً فلا جزم بالحرمة إلا لدى اجتماع تمام ما يحتمل دخله في الهيئة الاجتماعية ، فيرجع فيما عدا الفرد المشكوك فضلاً عنه بنفسه منعزلاً عن غيره إلى أصالة البراءة ، للشك في ثبوت النهي في كلّ من الصورتين ، إلا إذا رجع النهي المزبور إلى الأمر بالتروك ، بحيث كان التكليف منبعثاً عن مصلحة في اجتماع التروك ، لا عن مفسدة في انضمام الأفعال ، فإنّه يجري حينئذ ما عرفته في التكليف الإيجابي من الاقتصار على المقدار المتيقّن من التروك ويرجع فيما عداه إلى أصالة البراءة.

ثم إنّ الأقسام الستة المزبورة للشبهات الموضوعية كما أنّها تجري في الأحكام النفسية تجري في الأحكام الضمنية أيضاً بمناط واحد ، فاذا شك في جزء أو شرط مأخوذ على سبيل صرف الوجود لا بدّ من إحرازه بقاعدة الاشتغال ، وإذا كان ملحوظاً على سبيل العموم الاستغراقي أو المجموعي في الحكم الوجوبي أو التحريمي كان من الأقل والأكثر الاستقلالي أو الارتباطي ومعه لا بدّ من إحراز انطباق المتعلّق في الحكم بفعلية (١) التكليف ، ومع الشك فيه يرجع إلى أصالة البراءة حسب التفصيل الذي عرفت ، فلاحظ ولا نعيد.

__________________

(١) [ لعل المناسب : بتنجز ].

٢٩٢

إذا عرفت هذه الأُمور فنقول : لا شبهة أنّ الموضوع في مسألتنا هذه لم يكن شخصياً ، وإنّما هو كلّي ، وهو عدم كون اللباس من أجزاء ما لا يؤكل لحمه ، كما لا شبهة في عدم كونه ملحوظاً على سبيل صرف الوجود ، لعدم تصوّره في الأحكام التحريمية كما عرفت ، فيدور الأمر بين كونه ملحوظاً على سبيل الانحلال والاستغراق أو على سبيل العموم المجموعي لتمام الأفراد ، وحيث لا يحتمل الثاني في المقام ، إذ مضافاً إلى امتناع إحصائها تبطل الصلاة في بعضها بالضرورة ، فلا جرم يتعيّن الأوّل ، فلكلّ فرد من أفراد ما لا يؤكل نهي يخصه. إذن فكلّ ما أُحرز فيه الصدق وأنّه مما لا يؤكل فهو منهيّ عنه ، وكلّ ما شك في الصدق فقد شك في تعلّق النهي به فيرجع إلى أصالة البراءة حسبما سبق.

هذا إذا أُخذ بظاهر النهي وقلنا بأنّ المستفاد منه الزجر عن لبس ما لا يؤكل ، وأمّا لو أنكرنا ذلك ، نظراً إلى أنّه لا مقتضي للزجر الحقيقي والنهي المولوي ، إذ لا يحتمل أن تكون الصلاة فيما لا يؤكل ذات مفسدة في نفسها تستتبع التحريم النفسي إلا بعنوان التشريع وهو أمر آخر خارج عن نطاق البحث ، وما نحن بصدده فلا جرم يكون النهي في أمثال هذه المقامات من المركّبات الاعتبارية إرشاداً إلى الفساد والمانعية ، كما أنّ الأمر إرشاد إلى الجزئية أو الشرطية.

ونتيجة ذلك تقيّد الصلاة بعدم الوقوع في شي‌ء من أفراد ما لا يؤكل فكانت مقيّدة بهذه الأعدام الخاصة ، كما أنّها مقيّدة بوجودات كذلك ، والكلّ متعلّق للتكليف الغيري الضمني ، إذن فكلّ فرد أُحرز أنّه مما لا يؤكل فقد علمنا بتقيّد الصلاة بعدم الوقوع فيه ، وكلّ ما شك فيه فقد شك في تقييد زائد مدفوع بأصالة البراءة على ما هو الشأن من الرجوع إليها في الأقل والأكثر الارتباطيين.

ولكن هذا كلّه مبني على ما هو الصواب من اعتبار نفس هذه الإعدام في الصلاة ، أعني القول بالمانعية.

٢٩٣

وأمّا بناء على القول بأنّ المعتبر هو عنوان وجودي ملازم لعدم لبس ما لا يؤكل أو منتزع منه ، وأنّ النهي إرشاد إلى اعتبار ذلك العنوان كما يقتضيه القول بالشرطية ، فالمرجع حينئذ قاعدة الاشتغال ، للشك في حصول ذاك العنوان المنوط به الامتثال ، والأصل عدمه. وإن شئت فقل : يندرج المقام حينئذ في كبرى الشك في المحصّل التي هي مورد لقاعدة الاشتغال بلا إشكال.

ولكنّك عرفت ضعف المبنى عند التكلم حول موثقة ابن بكير (١) وأنّه لا يستفاد منها ولا من غيرها من نصوص الباب ما عدا المانعية دون الشرطية ، فلاحظ ولا نعيد ، هذا.

ومما يؤكد القول بالمانعية تسالم الأصحاب على أنّ من اضطر إلى لبس ما لا يؤكل أو الحرير أو النجس وما شاكلها مما ورد النهي عنه في الصلاة لا يجوز له الاقتحام إلا بمقدار الاضطرار ، فلا يسوغ له لبس الأكثر من القدر المضطر إليه ، وهذا خير دليل على أنّ مورد الاعتبار الشرعي هو نفس هذه الأعدام ، فيرتفع الاعتبار بمقدار الاضطرار بعد فرض الانحلال ، فانّ الضرورات تقدّر بقدرها.

وهذا بخلاف ما إذا كان مورد الاعتبار هو العنوان الوجودي الملازم لهذه الأعدام ، إذ هو عنوان بسيط ملازم لجميع تلك الأعدام لا لبعضها ، فاذا سقط عن الشرطية بالاضطرار امتنع تحصيله ، ومعه لا مقتضي للاقتصار على مورد الاضطرار ، إذ لا يتفاوت الحال بينه وبين ما لو زاد عليه في مناط الحكم. فكيف ينسجم ذلك مع فتوى المشهور بلزوم الاقتصار حسبما عرفت.

إلا أن يقال : إنّ العنوان الوجودي ملازم للإعدام الممكنة وللأفراد التي يجب تركها وهي المقدورة منها ، فان كانت بأجمعها مقدورة كان ملازماً لها أجمع وإن تعذّر بعضها لاضطرار ونحوه كان ملازماً للبعض الآخر المقدور ، فيجب تركه تحصيلاً للعنوان الملازم له.

__________________

(١) في ص ٢١٨.

٢٩٤

أو يقال : إنّ العنوان المزبور له مراتب بعضها عالية ويحصل بترك الجميع وبعضها دانية يحصل بترك البعض ، فيتنزّل عند تعذّر العالية إلى المرتبة النازلة كما في الطهارة المائية والترابية.

ولكنّك خبير بأنّ هذا كلّه فرض في فرض ومجرد دعاوي فارغة غير بينة ولا مبينة ، فإنّ أصل اعتبار العنوان الوجودي لا دليل عليه ، وعلى تقديره لا دليل على كونه بأحد النحوين ، بل الصحيح الذي يساعده الدليل هو اعتبار الإعدام في أنفسها وعلى سبيل المانعية ، فيرجع فيما يشك في تقيّد الصلاة بعدمه إلى أصالة البراءة حسبما عرفته مستوفى ، من غير فرق بين الساتر والمحمول وبين ما كان مع المصلّي في مفتتح صلاته وغيره ، وبين ما علم اتخاذه من الحيوان وبين ما احتمل أخذه من غيره كالقطن أو الاسفنج ، لاتحاد المناط في الجميع.

وأمّا ما ذكره العلامة (١) من اعتبار الوقوع فيما أحلّ الله أكله لا عدم الوقوع في غير المأكول ، استناداً إلى استفادة الشرطية من قوله عليه‌السلام في ذيل موثقة ابن بكير : « لا تقبل تلك الصلاة حتى يصلّى في غيره مما أحلّ الله أكله .. » إلخ (٢) ومعه لا مجال للبراءة في إثبات ما علم تعلّق التكليف به ، بل لا بدّ من إحراز الامتثال بقاعدة الاشتغال.

فقد سبق التعرّض لجوابه (٣) وعرفت أنّ المشار إليه في قوله : « تلك الصلاة ... » إلخ ليس هو شخصها ، لامتناع تصحيحها بعد وقوعها في غير المأكول ، بل كلّي الصلاة التي تقع في أجزاء الحيوان ، وحيث إنّ له قسمين غير مأكول ومأكولاً وقد حكم في الصدر بالبطلان في القسم الأول الذي استفيد منه المانعية ، فلا جرم تكون الصحة منوطة بالوقوع في القسم الثاني ، فالذيل بيان لمفهوم الصدر ، ولا يتكفّل حكماً آخر ليدلّ على الشرطية.

__________________

(١) المنتهي ٤ : ٢٣٦.

(٢) الوسائل ٤ : ٣٤٥ / أبواب لباس المصلي ب ٢ ح ١.

(٣) في ص ٢٢١.

٢٩٥

بل قد عرفت فيما سبق (١) إمكان التصحيح حتى على القول بالشرطية استناداً إلى الأصل الموضوعي الحاكم على أصالة الاشتغال ، وهو استصحاب عدم تعلّق الحرمة بالحيوان المتخذ منه هذا اللباس بعد ما عرفت من تدريجية التشريع.

ولكنّه يختص بما إذا علم الاتخاذ من الحيوان ، لا ما تردد بين الأخذ من غير المأكول أو من غير الحيوان كالقطن ، إذ لا أثر للأصل المزبور حينئذ كما لا يخفى.

وقد تحصّل من جميع ما قدمناه : أنّه بناءً على القول بالشرطية فالمرجع قاعدة الاشتغال إلا مع وجود الأصل الموضوعي الحاكم.

وأمّا بناءً على القول بالمانعية كما هو الصحيح وعليه المشهور فالأقوى جواز الصلاة في اللباس المشكوك ، أولاً لأجل التمسك باستصحاب العدم الأزلي.

ومع الغض عنه فالتمسك باستصحاب العدم النعتي ، إمّا مطلقاً بناءً على أنّ مركز الاعتبار هو المصلي كما هو المختار ، أو في خصوص ما إذا لبسه في الأثناء لو كان المركز هو الصلاة.

ومع الغض عنه أيضاً فالتمسك بأصالة البراءة ، من غير فرق بين جميع الصور كما تقدّم تفصيله بنطاق واسع.

هذا تمام الكلام في مسألة جواز الصلاة في اللباس المشكوك ، والحمد لله ربّ العالمين.

__________________

(١) في الوجه الرابع ص ٢٤٥.

٢٩٦

[١٢٨٧] مسألة ١٩ : إذا صلّى في غير المأكول جاهلاً أو ناسياً فالأقوى صحة صلاته (١).

______________________________________________________

(١) إذا بنينا على جواز الصلاة في اللباس المشكوك فيه فلا ريب أنّ هذا الجواز حكم ظاهري مقرّر في ظرف الجهل بالموضوع ، فلو صلّى فيه استناداً إلى دليل الجواز فانكشف الخلاف بعدئذ ، أو صلّى غافلاً أو ناسياً أو معتقداً بعدم كونه من غير المأكول ثم انكشف الخلاف ، فالمشهور المعروف حينئذ التفصيل بين صورتي الجهل والنسيان فيحكم بالصحة في فرض الجهل مطلقاً بسيطاً كان أم مركّباً ، وبالبطلان في فرض النسيان. واختار السيد الماتن قدس‌سره الصحة في كلتا الصورتين.

وقد وجّه التفصيل شيخنا الأُستاذ قدس‌سره (١) بعد اختياره بما حاصله بتوضيح منّا : أنّ الحكم بالصحة في صورة الجهل مستند إلى النصّ الخاص وهي صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يصلّي وفي ثوبه عذرة من إنسان أو سنور أو كلب أيعيد صلاته؟ قال عليه‌السلام : إن كان لم يعلم فلا يعيد » (٢). فيظهر منها أنّ المانعية ذكرية لا واقعية.

وأمّا البطلان عند النسيان فلقوله عليه‌السلام في موثق ابن بكير : « لا يقبل الله تلك الصلاة حتى يصليها في غيره مما أحلّ الله أكله » (٣) فانّ هذه الفقرة ظاهرة في التأسيس ، وناظرة إلى الجعل الثانوي بالإضافة إلى مرحلة الامتثال وليست تأكيداً للفقرة السابقة أعني قوله عليه‌السلام : « فالصلاة في وبره‌

__________________

(١) في كتاب الصلاة ١ : ١٦٨ ١٦٩.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٧٥ / أبواب النجاسات ب ٤٠ ح ٥.

(٣) الوسائل ٤ : ٣٤٥ / أبواب لباس المصلي ب ٢ ح ١.

٢٩٧

وشعره إلى قوله : وكلّ شي‌ء منه فاسدة » المتكفّلة لبيان المانعية بحسب الجعل الأوّلى ، فإنّ الحمل على التأكيد على خلاف الأصل. فالمتحصّل من مجموع الموثقة حكمان تأسيسيان :

أحدهما : جعل المانعية لما لا يؤكل بحسب أصل الشرع وبالعنوان الأوّلي وقد دلّت على ذلك الفقرة السابقة.

الثاني : أنّه لو صلّى فيما لا يؤكل لجهة من الجهات من غفلة أو جهل أو نسيان فإنّه لا يجتزئ بتلك الصلاة حتى يصلّيها في غيره مما أحلّ الله أكله. وهذا هو المستفاد من الفقرة اللاحقة أعني قوله عليه‌السلام : « لا يقبل الله تلك الصلاة ... » إلخ التي هي في قوة الأمر بالإعادة.

وعليه فتقع المعارضة بين الموثقة في هذه الفقرة وبين حديث لا تعاد بالعموم من وجه ، لأعميّة الأُولى بالنسبة إلى صورتي الجهل والنسيان واختصاصها بما إذا كان الخلل من حيث الوقوع فيما لا يؤكل ، كما أنّ الحديث عام بالإضافة إلى هذا الخلل وغيره وخاص بالنسيان لعدم شموله للجاهل بناءً على مختاره قدس‌سره من الاختصاص بالناسي ومورد المعارضة هي الصلاة الواقعة فيما لا يؤكل نسياناً ، فتجب الإعادة بمقتضى الموثّق ، ولا تجب بمقتضى الحديث.

إلا أنّ صورة الجهل خارجة عن الموثّق بمقتضى صحيحة عبد الرحمن المتقدّمة النافية للإعادة فيما لو صلّى وهو لا يعلم ، فيختصّ الموثّق بالناسي فتنقلب النسبة حينئذ بينه وبين الحديث إلى العموم والخصوص المطلق ، إذ الموثّق يكون حينئذ أخصّ من الحديث كما لا يخفى ، فيخصّص الحديث به ونتيجة ذلك الحكم بالبطلان ووجوب الإعادة في صورة النسيان. فاتّجه التفصيل حينئذ في المقام بين الجهل والنسيان ، فيحكم بالصحة في الأوّل لصحيحة عبد الرحمن ، وبالبطلان في الثاني للموثق كما عليه المشهور.

أقول : الذي ينبغي أن يقال في المقام : أمّا بالنظر إلى الصحيحة فهي غير شاملة لجميع فروض الجهل ، فانّ موردها عذرة الإنسان أو السنّور أو الكلب‌

٢٩٨

فيحكم بالعفو عنها من حيث النجاسة ومن حيث كونها جزءاً لما لا يؤكل وبالأولوية القطعية يتعدّى إلى غيرها من سائر أجزاء ما لا يؤكل الطاهرة كشعر السنّور مثلاً. وأمّا التعدّي إلى غيرها من سائر الأجزاء النجسة كالمني والبول والدم فهو قياس محض بعد فقد الأولوية كما لا يخفى.

على أنّ موردها المحمول ، فالتعدّي إلى الملبوس قياس قطعاً ، مضافاً إلى أنّ موردها الثلاثة فكيف يتعدّى إلى غيرها من سائر الحيوانات. ومن الواضح أنّ اللازم في الحكم المخالف للقاعدة هو الاقتصار على المقدار المتيقن ، دون التعدي إلى غيره مما لم يساعده الدليل. فالصحيحة غير عامة لجميع مصاديق الجهل.

ومنه يظهر عدم انقلاب النسبة بين الموثّق وحديث لا تعاد حتى بعد تخصيصه بالصحيحة ، لعدم خروج فروض الجهل عن الموثّق بأجمعها كما عرفت.

وأمّا بالنظر إلى الموثّق فان بنينا على ظهور الفقرة الثانية في التأكيد كما هو الصحيح ولا أقل من عدم الظهور في التأسيس ، حيث إنّه عليه‌السلام بعد ما حكم بمانعيّة ما لا يؤكل بمقتضى الفقرة السابقة فلازمه عقلاً وعرفاً لزوم الإعادة لو صلّى فيه ، وعدم قبوليّة تلك الصلاة إلا بأن يصلّيها ثانياً فيما أحلّه الله ، فلو القي هذا الكلام على العرف لم يفهم منه حكماً جديداً ، بل رأى أنّ ذلك من توابع الحكم الأوّل ومستتبعاته ومن شؤونه ولوازمه ، والتأكيد وإن كان على خلاف الأصل لكنّه في الكلام الذي يكون قابلاً للحمل على التأسيس بحسب الفهم العرفي ، بحيث دار الأمر بينهما ، دون ما لا يقبل كما في المقام فلا ظهور للفقرة الثانية في إنشاء حكم ثانوي مجعول للمصلّي فيما لا يؤكل ناسياً أو جاهلاً ، بل هي ظاهرة في أصل جعل المانعية تأكيداً للفقرة الأُولى كما عرفت.

فعليه لا ريب في حكومة حديث لا تعاد على الموثّق ، كغيره من سائر الأدلّة المتكفّلة للأحكام الأوّلية التي هي محكومة بالنسبة إلى الحديث ، وحينئذ فتتبع الحكومة مقدار دلالة الحديث سعة وضيقاً.

٢٩٩

فان قلنا بشموله للجاهل كالناسي كما هو الصحيح لزم الحكم بصحة الصلاة في كلتا الصورتين كما عليه الماتن قدس‌سره وكانت الصحيحة أعني صحيحة عبد الرحمن المتقدمة مؤكّدة للصحة في الجاهل بالإضافة إلى بعض فروضه كما عرفت ، وإلا فمستند الحكم على سبيل الإطلاق إنّما هو الحديث.

وإن قلنا باختصاصه بالناسي اختصت الصحّة به دون الجاهل إلا في بعض فروضه المندرجة تحت الصحيحة المتقدمة كما مرّ. فيفصّل حينئذ بين صورتي الجهل والنسيان ، ويحكم بالصحة في الثاني دون الأوّل على عكس التفصيل المنسوب إلى المشهور.

وإن بنينا على ظهور الفقرة الثانية في التأسيس كما عليه شيخنا الأُستاذ قدس‌سره وأنّها متعرّضة لبيان حكم جديد ، وهو لزوم الإعادة لو صلّى فيما لا يؤكل وقعت المعارضة حينئذ بين الموثّق وحديث لا تعاد بالعموم من وجه ، حتى بعد تخصيص الموثّق بالصحيحة المتقدّمة ، لا لمجرد اختصاص الصحيحة ببعض فروض الجهل كما أشرنا إليه ، بل لو أغضينا النظر عن ذلك وسلمنا شمولها لتلك الفروض وغيرها كانت النسبة أيضاً كذلك.

والوجه فيه : أنّ الصحيحة خاصة بالشبهات الموضوعية ، ولا تعمّ الشبهة الحكمية كما هو ظاهر ، فالجاهل بالحكم باق تحت الموثّق حتى بعد تخصيصه بالصحيحة ، وهو غير مشمول لحديث لا تعاد ، فانّا وإن عممنا الحديث للجاهل لكنّه يختص بما إذا كان الجهل عذراً كالجهل بالموضوع أو بالحكم إذا كان عن قصور ، دون الجاهل بالحكم عن تقصير الذي هو الغالب الشائع من مصاديق الجهل ، وإلا لزم حمل أدلّة الأحكام الأوّلية كقوله عليه‌السلام : من تكلّم أو من أحدث في صلاته فعليه الإعادة ، ونحو ذلك على العالم المتعمّد أو الجاهل بالموضوع أو بالحكم عن قصور التي هي أقلّ قليل بالإضافة إلى الجاهل بالحكم عن تقصير ، بل هي من الأفراد النادرة كما لا يخفى ، فيلزم حمل‌

٣٠٠