موسوعة الإمام الخوئي - ج ١٢

الشيخ مرتضى البروجردي

وجوده على سبيل القضية الحقيقية ، ولا يفرق الحال في ذلك بين كثرة الأفراد خارجاً وقلّتها ، بل حتى وإن لم يتحقق له فرد في الخارج أبداً ، لعدم تعرض الجعل لحال الوجود الخارجي بوجه ، ولذا قيل إنّ القضية الحقيقية مرجعها إلى قضية شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ترتب الحكم ، فمرجع قولنا : المستطيع يحج إلى قولنا : إذا وجد في الخارج مستطيع وجب عليه الحج. من دون نظر في ذلك إلى الوجود فعلاً وعدمه ، وإنّما يؤثر الوجود والعدم أو كثرة الأفراد وقلّتها في مقام الفعلية والانطباق ، فيتحقق الحكم الفعلي بتبع وجود موضوعه الخارجي ويتعدد بتعدده ، فمهما وجد فرد يتعلّق به بمقتضى الانحلالية الملحوظة في مقام الجعل حكم ويكون مراعى بوجود ذلك الفرد حدوثاً وبقاءً ، فيوجد بوجوده وينعدم بانعدامه.

وعليه فموت فرد من مصاديق العام في مثل قولنا : أكرم كلّ عالم ، لا يوجب إلا تقليل أفراده في مقام التطبيق وفعلية الحكم ، فكانوا مثلاً قبل ذلك مائة فصار عددهم بعد ذلك تسعة وتسعين ، من دون أن يؤثر تضيقاً في دائرة الجعل وتصرّفاً في نفس الحكم المجعول ، بل هو قبل الموت وبعده على حدّ سواء.

وهذا بخلاف التخصيص ، فإنّه من أجل كونه قرينة على المراد الجدي ناظر إلى مقام الجعل ، وكاشف عن تضيق دائرة الحكم المجعول ، وأنّ موضوعه لم يؤخذ على نحو الإطلاق والسريان ، وإن كان كذلك بحسب الإرادة الاستعمالية لكنّه بحسب الإرادة الجدية مقيّد بعنوان خاص وهو عدم كون العالم فاسقاً فيما إذا ورد التخصيص على العالم المزبور بمثل قوله : لا تكرم العالم الفاسق. فهو كاشف عن تعنون العالم وتقيده بعنوان عدمي ، لما عرفت (١) من عدم الواسطة بين الإطلاق والتقييد في مقام الثبوت ، واستحالة الإهمال في الواقعيات ، فاذا لم يكن الحكم مجعولاً على سبيل الإطلاق والسريان لمنافاته مع التخصيص بالضرورة فلا محالة يكون مقيداً بنقيض عنوان الخاص ، من دون فرق في‌

__________________

(١) في ص ٢٥٩.

٢٦١

ذلك بين كثرة الأفراد بحسب الوجود الخارجي وفي مقام الفعلية والانطباق وقلّتها.

ولعمري إنّ هذا واضح جدّاً لا يكاد يخفى. فالخلط بين المقامين وقياس التخصيص بالموت كما صدر منه قدس‌سره غريب جدّاً.

وأغرب منه استشهاده قدس‌سره لذلك بذهاب جمع من الأعلام إلى التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، بدعوى أنّ التخصيص لو كان موجباً للتضيّق كما هو الحال في التقييد بلا كلام لم يكن مجال للتمسك المزبور ، ولم تصدر هذه الدعوى من أحد ، كما لم يشك أحد في عدم جواز التمسك بالإطلاق في الشبهة المصداقية ، ومن ثمّ لم يعنونوا هذا البحث في ذلك الباب.

إذ فيه : أنّ عدم تعرّض أُولئك الجماعة للتمسك بالإطلاق في الشبهات المصداقية لا يكشف عن عدم تمسكهم به فيها ليكون مغايراً مع العام ، ضرورة أنّ كثيراً من المباحث المذكورة في باب العام والخاص لا يتكلّمون عليها في باب المطلق والمقيد لاستغنائهم عنها فيقتنعون بما باحثوا في ذلك الباب ، لوحدة المناط واتحاد الملاك ، وإليك بعضها :

فمنها : البحث عن حجية العام في الباقي بعد التخصيص بالمنفصل ، حيث أنكرها جماعة ، نظراً إلى أنّ العام يكون حينئذ مجازاً في الباقي ، وحيث إنّ مراتب المجازات مختلفة ولا قرينة على التعيين فلا جرم يسقط عن الحجية. وأُجيب عنه بما هو مذكور في محلّه (١) مع أنّهم قد اتفقوا ظاهراً على أنّ المطلق بعد ورود التقييد عليه يصبح مجازاً ، بل إنّ هذا قد استقر عليه رأيهم إلى زمان سلطان العلماء ، فكان أحرى بالتعرض ، فكيف أهملوه في هذا الباب.

ومنها : بحث جواز التمسك بالعام في الزائد على المقدار المتيقن من المخصص المنفصل الدائر بين الأقل والأكثر ، فانّ مناطه يجري في باب المطلق أيضاً وقد أهملوه.

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٥ : ١٦٤.

٢٦٢

ومنها : أنّ المرجع بعد التخصيص في زمان والشك في بقاء حكم المخصص هل هو عموم العام أو استصحاب حكم المخصص؟ فإنّهم لم يتعرضوا لذلك في الباب المزبور مع جريانه فيه ، إلى غير ذلك من المباحث الكثيرة ومنها المقام التي استغنوا عن تكرارها اتّكالاً على ما باحثوا حوله في باب العام والخاص لما يرونه من اتحاد المناط.

الجهة الرابعة : لا يخفى أنّ الموضوع المركّب من العرض ومحلّه لا بدّ فيه من أخذ العرض على سبيل الناعتية ، لأنّ وجوده في نفسه عين وجوده في غيره فلا يوجد إلا في موضوع ولا يتقوّم خارجاً إلا به ، هذا بالنسبة إلى وجود العرض.

وأمّا بالنسبة إلى عدمه أعني ما لو تركب الموضوع من ذات وعدم العرض له فقد يؤخذ العدم ناعتاً وقد يؤخذ محمولياً ، ويختلف ذلك باختلاف الموارد.

فربما يلاحظ العدم نعتاً للموضوع كما لو تركّب من زيد وعماه ، حيث إنّ العمى ليس هو مطلق عدم البصر ، ولذا لا يطلق على الحجر ، بل الاتصاف به المنوط بقابلية المحل ، ومن ثم كان التقابل بين الأعمى والبصير (١) من تقابل العدم والملكة. وحينئذ فلدى الشك فيه إن كانت له حالة سابقة كما لو احتملنا أنّه عالج عماه استصحب العمى ، وإلا فلا تثبت بمجرد استصحاب عدم البصر إلا على القول بالأُصول المثبتة.

وربما يلاحظ محمولياً من دون دخل لعنوان الاتصاف ، وحينئذ فلا مانع من إحرازه بالاستصحاب ، إذ قد كان زمان ولم يكن ثمّة ذات ولا عرض ، وقد علمنا بالانتقاض بالنسبة إلى الذات فاحرزنا وجودها بالوجدان ، أمّا العرض فلا علم بالانتقاض بالإضافة إليه فيستصحب ذلك العدم الأزلي فيلتئم‌

__________________

(١) [ لعل المناسب : « بين العمى والبصر » كما لا يخفى ].

٢٦٣

الموضوع. فلو كان موضوع الحكم زيد وعدم إبصاره لا عماه أمكن إحرازه بضم الوجدان إلى الأصل.

توضيح المقام : أنّ النعتية من لوازم وجود العرض ، ولا حاجة إلى عناية أكثر من ملاحظة ذاته بما هو عرض.

وأمّا عدم العرض فليس كذلك ، بداهة أنّ العدم لا يتقوّم بالموضوع كما يتقوّم به الوجود ، فلا يتصف به ، بل لا يقبل الاتصاف به إلا بعناية ، وهي الاتصاف بشي‌ء ملازم لذلك العدم ، فلا يتصف زيد بعدم البصر ، بل بملازمة وهو العمى. ولا بعدم العلم ، بل بلازمه وهو الجهل وهكذا ، ضرورة أنّ النسبة إنّما تكون بين وجودين كالجوهر والعرض ، ولا تكاد تكون بين وجود وعدم إذ العدم لا يحتاج إلى الربط ، فمن ثمّ كان محمولياً بحسب طبعه إلا أن يدلّ دليله على لحاظه على سبيل الناعتية بنحو من العناية حسبما سمعت.

وما اشتهر وتداول على الألسن من أنّ النسبة سلبية تارة وإيجابية اخرى فليس المراد من السلبية ربط السلب ، بل سلب الربط ، فانّ الموضوع والمحمول لمّا كانت بينهما نسبة كلامية فقد يحكي المتكلم ثبوت شي‌ء لشي‌ء ، وقد يحكي عدم الثبوت. وليس المراد من الحكاية الثانية ربط ذلك العدم ، ضرورة أنّ العدم عدم في نفسه ، ولا يحتاج إلى موضوع يقوم به. فالمراد من النسبة السلبية أنّ الهيئة الكلامية تدل على نفي شي‌ء عن شي‌ء.

وممّا يرشدك إلى ذلك أنّ القضية الحملية سلبية كانت أم إيجابية لا تختص بالأعراض ، بل تجري في غيرها أيضاً ، كما في حمل الوجود على الماهية أو سلبه عنها في قولك : الإنسان موجود أو غير موجود. مع أنّه لا ربط بين الوجود والماهية ، إذ الماهية في نفسها لا وجود لها ، بل تتحقق بالوجود ، فلا يكون عارضاً عليها خارجاً بمعنى وجود شي‌ء لشي‌ء.

وهكذا الحال في الذاتي في باب الكلّيات كقولنا : زيد إنسان ، أو الإنسان حيوان ناطق. فإنّ النسبة الكلامية وإن كانت موجودة إلا أنّ النسبة الربطية‌

٢٦٤

بمعنى أن يكون أحد الوجودين متقوّماً بالوجود الآخر غير متحقّقة ، إذ لا معنى للربط بهذا المعنى بين الشخص والنوع ، أو هو مع الجنس أو الفصل وهكذا كما لا يخفى.

وأوضح حالاً القضايا الذاتية في باب البرهان كقولنا : اجتماع النقيضين محال. إذ لا معنى للربط المزبور بين الاستحالة وبين اجتماع النقيضين وإن كانت النسبة الكلامية موجودة.

إذن فالوجود الرابط منحصر في العرض ومعروضه ، لما عرفت من [ أنّ ] وجوده في نفسه عين وجوده في محله. وأمّا عدم العرض فلا يتحقق ربط فيه ومن ثمّ لا يؤخذ وصفاً إلا بنحو من العناية ، فتكون القضية السالبة من المعدولة المحمول كما في قولنا : زيد أعمى (١).

وممّا ذكرنا يظهر الخلل في جملة من كلمات المحقق النائيني قدس‌سره التي منها ما ذكره من أنّه إذا تردد العدم بين أن يكون ناعتاً وأن يكون محمولياً فليس لدينا أصل يعيّن أحدهما (٢).

إذ فيه ما عرفت من أنّ العدم بحسب طبعه الأولي إنّما يؤخذ محمولاً وتحتاج النعتية إلى عناية زائدة ، فمن دون ثبوتها يحمل على المحمولية بطبيعة الحال ، فلا يستقر الشك لنحتاج إلى تأسيس الأصل.

وقد تلخّص من جميع ما ذكرناه : أنّ الموضوع المركّب من وجود العرض ومحلّه لا بدّ فيه من أخذ العرض ناعتاً ، وعليه فلا يجري استصحاب وجوده إلا إذا كانت الذات مع اتصافها بالعرض موجودة سابقاً فتستصحب ، فيقال : إنّ زيداً كان عالماً قبل الآن ، والآن كما كان. وأمّا استصحاب عدمه فيجري بلا إشكال ، فنستصحب عدم كرّية الماء لدى الشك فيها ، ضرورة أنّ كلّ عدم له تحقق سابقاً وإن أُخذ وجوده ناعتاً.

__________________

(١) [ لعل هذه الجملة لا تصلح مثالاً لما ذكره ].

(٢) رسالة الصلاة في المشكوك : ٤٢٣.

٢٦٥

وأمّا الموضوع المركّب من عدم العرض فقد يؤخذ العدم محمولياً فيجري استصحابه بعد إحراز الذات ، ويلتئم الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل ، وقد يؤخذ نعتياً كالعمى فلا يجري ، لأنّ عدم البصر وإن كانت له حالة سابقة إلا أنّ استصحابه لا يثبت الاتصاف ليحرز العمى إلا إذا كان بعنوانه محرزاً سابقاً فيستصحب. إذن فيفصّل بين ما لو أُخذ العدم نعتاً وبين ما لو أُخذ محمولاً هذا.

ولبعض الأعاظم تفصيل آخر في المقام ، وحاصله بتوضيح منّا : أنّ المركب من العرض ومحلّه على قسمين :

فتارة يكون التركيب في الجمل التقييدية الناقصة كقولنا : الإنسان العالم موجود. حيث قيّدت الماهية بقيد خاص ، وحكم بالوجود على حصة خاصة من الإنسان وهو العالم ، وكما يمكن حمل الوجود على تلك الحصة يمكن حمل العدم ، لقبولها في حدّ ذاتها لكلّ منهما ، فاذا شككنا في وجود تلك الحصة الخاصة كان مقتضى الاستصحاب عدمها ، من غير فرق بين لحاظ العرض محمولياً أو ناعتاً ، إذ لا شبهة في أنّ تلك الحصة كيف ما لوحظت فهي مسبوقة بالعدم ، ويشك في انقلابها إلى الوجود والأصل عدمه.

وأُخرى يكون في الجمل التصديقية التامة ، فيفرض الموضوع موجوداً ثم يقيّد بالعرض فيقال مثلاً : الإنسان الموجود عالم. حيث يكون ظرف وجود العرض هو ظرف وجود المعروض ، وبما أنّ العدم بديل للوجود فلا بدّ وأن يكون ظرف عدم العرض ومرتبته هو نفس مرتبة وجوده ، ففي قولنا : زيد الموجود أبيض. لمّا كان وجود البياض في مرتبة وجود زيد ، فلا جرم كان عدم البياض في تلك المرتبة أيضاً ، لاختصاص التقابل بين الوجود والعدم باتحاد المرتبة. وعليه فلا يجري استصحاب عدم البياض الثابت قبل وجود زيد ، ضرورة أنّ ذلك العدم عدم مستقل لا عدم بديل لهذا الوجود.

أضف إلى ذلك أنّ الذي يتصف بالوجود أو العدم إنّما هي الماهية المعرّاة عن‌

٢٦٦

الوجود ، وأمّا المقيّدة به فهي عينه. فكما لا يصح أن يقال إنّ الوجود معدوم فكذلك الماهية المقيدة به ، فإنّها أيضاً غير قابلة للاتصاف بالعدم ، من غير فرق بين أخذ العرض ناعتياً أو محمولياً.

هذا محصّل كلامه قدس‌سره مع نوع من التوضيح ، لعدم خلوّ عبارته عن شوب من الإجمال.

أقول : أمّا ما أفاده في الجمل التقييدية الناقصة من جريان استصحاب العدم لدى الشك في وجود العرض كالإنسان الأبيض لنفي الآثار المترتبة عليه فهو تام ، ولكنّه خارج عن محلّ الكلام ، بداهة أنّ انتفاء آثار الوجود باستصحاب العدم من أوضح الواضحات ، سواء أُخذ العرض نعتاً أم محمولاً. وإنّما الكلام في أنّ الأثر لو كان مترتباً على العدم فهل يثبت بذلك الاستصحاب أم لا. فلو استصحبنا عدم القرشية فهل يثبت الأثر المترتب على هذا العدم وهو أنّها تحيض إلى خمسين أو لا. وما ذكره لا يصلح لإثباته ، بل المتّجه حينئذ هو ما عرفت من التفصيل بين أخذ [ عدم ] العرض محمولياً فيجري الاستصحاب وبين أخذه نعتاً فلا ، لأن استصحاب العدم لا يصلح لإثبات اتصاف الموضوع به.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره في الجمل التصديقية التامة من أنّ نقيض الوجود في مرتبة هو العدم في تلك المرتبة فغير قابل للتصديق ، وإلا لارتفع النقيضان في غير تلك المرتبة ، فالقيام يوم الجمعة لو كان نقيضه عدم القيام المقيّد بيوم الجمعة لزمه ارتفاع النقيضين يوم الخميس ، وهو كما ترى.

بل الصواب أنّ نقيض الوجود الخاص هو عدم الخاص لا العدم الخاص. ومن ثمّ ذكروا أنّ نقيض الخاص أعم من نقيض العام ، فنقيض قيام زيد يوم الجمعة عدم ذلك القيام ولو لعدم يوم الجمعة لا خصوص العدم يوم الجمعة حتى يلزم ارتفاع النقيضين قبل تحقق يوم الجمعة.

وبالجملة : لا يتصف العدم بتلك الخصوصية ، فإنّ وجود النسبة وإن تقوّم‌

٢٦٧

بالطرفين لكن عدمها يتحقق ولو لعدمهما. إذن فلا يكون نقيض الوجود هو العدم في تلك المرتبة ، بل مطلقاً حتى السابق عليها. ولعمري إنّ هذا من الوضوح بمكان ، ولا حاجة معه إلى إقامة البرهان.

وأمّا ما ذكره من أنّ الماهية المقيّدة بالوجود غير قابلة للاتصاف بالعدم ، وإنّما المتصف به هو الماهية المعرّاة من كل من الوجود والعدم ، ففيه من الخلط ما لا يخفى.

فإنّه قدس‌سره إن أراد من الاتصاف اللحوق والعروض صحّ ما ذكره ، إذ من المعلوم أنّ الوجود لا يعرضه الوجود ، والشي‌ء لا يلحق نفسه ، كما لا يلحقه العدم ، لأنّه نقيضه ، والنقيض لا يلحق نقيضه ، فالماهية المقيّدة بالوجود لا يعرضها الوجود ولا العدم ، بل الماهية بنفسها تتصف بالوجود ، بمعنى عروضه عليها وكون الخارج ظرفاً لوجودها.

وإن أراد من الاتصاف ما ينتج الحمل وإن تجرّد عن العروض فلا يتم ما ذكره ، بداهة أنّ حمل الوجود على الوجود أوّلي ، وعلى الماهية تبعي ، فهو متصف بالموجودية اتصافاً ذاتياً ، كما في صفاته تعالى ، بمعنى تحقق نفسه في الأعيان وكون الخارج ظرفاً له. إذن فعدمه بعدم نفس الذات ، لا بعروض العدم له مع المحافظة على ذاته ليلزم اجتماع النقيضين.

وبالجملة : كما يتصف وجود زيد بالموجودية يتصف بالمعدومية أيضاً ، وإلا لكان كلّ وجود قديماً ، بل واجباً لذاته ، وهو كما ترى.

ومنه يظهر حال الماهيّة المقيّدة بالوجود ، فإنّها أيضاً تتصف بكلّ من الوجود والعدم بالمعنى الذي عرفت. ولعلّ الخلط بين نحوي الاتصاف أوجب الوقوع في الاشتباه.

فتحصّل : أنّ ما أفاده قدس‌سره لا يرجع إلى محصّل ، بل الصحيح ما عرفت من التفصيل بين أخذ [ عدم ] العرض محمولاً أو ناعتاً ، فيجري الاستصحاب على الأول دون الثاني.

إذا عرفت هذه المقدمات يتضح لك جلياً جريان الاستصحاب في الأعدام‌

٢٦٨

الأزلية ، فإنّ موضوع الحكم أو متعلّقه إذا كان مركّباً من جزأين متباينين بأن لم يكونا من العرض ومحلّه وقد أُحرز أحدهما وشك في الآخر بعد أن كان محرزاً سابقاً جرى استصحابه ، والتأم الجزءان بضم الأصل إلى الوجدان ، وهذا واضح.

وأمّا لو تركّب من العرض ومحلّه فان كان الأثر مترتباً على الوجود جرى استصحاب العدم لنفيه ، وأما إذا كان مترتباً على العدم فان كان ناعتاً لا يجري استصحاب العدم لإثبات النعتية والاتصاف ، لعدم حجية الأُصول المثبتة ، إلا إذا كان الاتصاف بنفسه ذا حالة سابقة فيستصحب.

وإن كان محمولياً كما لو دلّ دليل على إخراج الفاسق عن موضوع وجوب إكرام كلّ عالم ، أو إخراج القرشية عن عموم كلّ امرأة تحيض إلى خمسين حيث إن الباقي بعد التقييد هو العالم غير المتصف بالفسق ، أو المرأة غير القرشية ، لا المتصف بعدم الفسق أو المتصفة بعدم كونها قرشية ، ضرورة أنّ نتيجة التقييد المزبور ليس إلا اعتبار نفس العدم في الموضوع ، لا الاتصاف ورعاية النسبة بينه وبين الذات ، فإنّه يحتاج إلى عناية خاصة ومئونة زائدة لا يصار إليها من غير قرينة. فحينئذ لا مانع من جريان الأصل ، فإنّه بعد العلم بتحقق ذات المرأة والشك في تحقق الاتصاف بالقرشية كان مقتضى استصحاب العدم الأزلي عدم الاتصاف وعدم انتسابها إلى قريش ، وبعد ضمّه إلى وجود الذات المحرز بالوجدان يثبت الموضوع المركّب ويحكم عليها بعدم التحيّض.

وهكذا الحال في المقام ، فانّ الموضوع لجواز الصلاة بعد البناء على مانعية غير المأكول كما هو المستفاد من الأدلّة حسبما سبق (١) هو ما لم يؤخذ من غير المأكول ، لا المتصف بعدم كونه (٢) مأخوذاً من غير المأكول ، فيتمسك في إحراز هذا العدم المحمولي باستصحاب العدم الأزلي ويحكم بجواز الصلاة فيه.

__________________

(١) في ص ٢١٨.

(٢) [ الموجود في الأصل : بكونه. والصحيح ما أثبتناه ].

٢٦٩

نعم ، هذا مبني على القول بالمانعية الذي عرفت أنّه الصواب ، وأمّا بناءً على القول بالشرطية كما نسب إلى العلامة (١) وغيره فكلاّ ، إذ عليه يكون الاتصاف معتبراً بطبيعة الحال. ومن المعلوم أنّ الأصل المزبور لا يتكفّل بإثباته إلا على القول بحجية الأُصول المثبتة ، ولا نقول بها.

الوجه السادس : التمسك باستصحاب عدم كون المصلّي لابساً لغير المأكول الثابت قبل لبسه للمشكوك فيه.

وتفصيل الكلام في المقام : أنّا قد أشرنا في بعض الأُمور المتقدمة (٢) إلى الخلاف في مركز اعتبار المانعية لما لا يؤكل لحمه ، وأنّه اللباس ، أو الصلاة نفسها ، أو المصلي نفسه.

فعلى التقادير يمكن التمسك بالأصل الموضوعي ، بإجرائه في نفس الحيوان فيما إذا علم بعدم كونه محرّم الأكل في زمان ، أو في اللباس نفسه بناء على ما هو التحقيق من جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية ، فيحرز به الموضوع بضمّ الوجدان إلى الأصل ، ويحكم بجواز الصلاة لانتفاء المانع.

وأمّا لو شك في حال الحيوان من أوّل الأمر ، وأنكرنا جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية كما عليه المحقق النائيني قدس‌سره (٣) فان قلنا حينئذ بأنّ مركز الاعتبار هو نفس اللباس فحيث لا أصل يحرز به حال الموضوع فتنتهي النوبة حينئذ إلى التمسك بالأصل الحكمي من الرجوع إلى البراءة أو الاشتغال وسيجي‌ء البحث حوله إن شاء الله تعالى (٤).

وإن قلنا بأنّ مركزه الصلاة نفسها كما قد يتراءى من موثقة ابن بكير على ما مرّ فلا يمكن إحراز صحتها وعدم اقترانها بالمانع بالأصل الموضوعي‌

__________________

(١) المنتهي ٤ : ٢٣٦.

(٢) في ص ٢٣٢.

(٣) أجود التقريرات ١ : ٤٦٤.

(٤) في ص ٢٧٧.

٢٧٠

فيما إذا كانت من أوّل حدوثها مقرونة بما يشك في جزئيته لما لا يؤكل لحمه ، إذ الأصل غير جارٍ في اللباس على الفرض ، والصلاة بنفسها غير مسبوقة بالحالة السابقة ، لأنّها من أوّل وجودها إمّا واقعة فيما لا يؤكل أو في غيره ، فليس لنا متيقّن كي يتعبّد ببقائه في ظرف الشك كما هو ظاهر.

نعم ، فيما إذا طرأ لبس المشكوك أثناء الصلاة أمكن التمسك بالاستصحاب حينئذ فيقال : إنّ هذه الصلاة حينما وجدت لم تكن متّصفة بالوقوع في غير المأكول والآن كما كان. وهذا مبني على أنّ الصلاة وإن كانت مركّبة من أجزاء متباينة ، بل مقولات متضادّة لكنّها في نظر الشارع عمل وحداني تدريجي الحصول ، افتتاحه التكبير واختتامه التسليم ، وأنّ المستفاد من أدلة المانعية اعتبار عدمها في نفس العمل من المبدإ إلى المنتهي بما له من الآنات المتخلّلة بين الأجزاء كما هو التحقيق لا اعتبارها في كلّ جزء بخصوصه فحسب ، وإلا لزم عدم البطلان فيما إذا اقترنت تلك الآنات بالمانع ، بل ونفس الجزء أيضاً ، إذ غايته تدارك الجزء بإعادته نفسه لا استئناف الصلاة وإعادتها فيما إذا لم يكن التدارك موجباً للبطلان من جهة أُخرى ، وهو كما ترى.

وبالجملة : إذا منعنا الوحدة الاعتبارية التشريعية أو قلنا باعتبار عدم المانع في كلّ جزء بخصوصه من دون أن يتقيد ذات العمل بذلك لم يكن حينئذ مجال للاستصحاب المزبور ، لتعدد الموضوع وعدم العلم بالحالة السابقة ، فإنّ الأجزاء السابقة لم تكن مقترنة بالمانع جزماً على الفرض ، والجزء اللاحق المقارن لما يشك في جزئيته لما لا يؤكل يشك من أوّل وجوده في اقترانه بالمانع وعدمه ، فليست له حالة سابقة كي تستصحب.

وأمّا مع الاعتراف بالوحدة وبأنّ الاعتبار متعلق بنفس العمل لا بأجزائه كما هو الصحيح على ما عرفت صح التمسك حينئذ بالاستصحاب ، فيقال : إنّ هذا العمل الوحداني عند تحققه ولو بتحقق أوّل جزء منه كان متصفاً بعدم وقوعه في غير المأكول والآن كما كان ، كما هو الحال في إجراء الاستصحاب في‌

٢٧١

سائر الأُمور التدريجية التي يشك في بقائها أو في بقاء صفتها كالحركة نفسها أو سرعتها أو بطئها.

ومن هنا يتجه التفصيل في صحة الصلاة بين عروض المشكوك جزئيته لما لا يؤكل أثناء الصلاة وبين ما إذا كان مقارناً معها عند افتتاحها كما هو أحد الأقوال في المسألة فيحكم بالصحة في الأول تمسكاً باستصحاب عدم المانع ، وبالبطلان في الثاني ، لعدم جريان هذا الاستصحاب إلا بنحو التعليق. وسيجي‌ء البحث عنه (١).

وأمّا إذا قلنا بأنّ مركز الاعتبار هو المصلّي نفسه دون الصلاة ودون اللباس كما استظهرناه سابقاً من موثقة سماعة فراجع (٢) جرى الاستصحاب الموضوعي حينئذ ، وحكم بالصحة بضم الوجدان إلى الأصل ، حتى فيما إذا كانت الصلاة من أوّل وجودها مقرونة بما يشكّ في كونه من أجزاء ما لا يؤكل ، فيقال : إنّ المصلّي قبل لبسه لهذا المشكوك لم يكن لابساً أو مصاحباً لأجزاء ما لا يؤكل والآن كما كان ، فيحرز عدم المانع باستصحاب العدم النعتي ، لوجود الحالة السابقة كما هو ظاهر.

نعم ، لا يحرز بهذا الاستصحاب حال نفس المشكوك وأنّه من أجزاء ما لا يؤكل أو من غيره إلا على القول بالأصل المثبت ، لكنّا في غنى عن إحراز ذلك إذ لا حاجة إليه بعد أن لم يكن اللباس بنفسه مركزاً لاعتبار المانعية ، وإنما هو المصلّي نفسه كما هو المفروض. وهذا نظير ما لو خرج من المتطهر مائع مردد بين البول والمذي ، فانّ استصحاب الطهارة وعدم انتقاضها بالحدث جارٍ وإن لم يحرز بذلك حال المائع وأنّه طاهر أو نجس ، لترتّب الأثر على كونه متطهراً ، وقد ثبت بالاستصحاب.

ومرجع ذلك في المقام وفي المثال إلى عدم الفرق في جريان الاستصحاب بين‌

__________________

(١) في الوجه السابع‌

(٢) ص ٢٣٤.

٢٧٢

الشك في وجود المانع أو مانعية الموجود.

وقد تحصّل من جميع ما ذكرناه : جواز الصلاة فيما يشكّ في جزئيته لما لا يؤكل.

أوّلاً : لإجراء الأصل في نفس اللباس ، بناءً على ما هو الصحيح من جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية.

وثانياً : لإجرائه في المصلّي نفسه بنحو العدم النعتي بالتقريب المتقدّم.

الوجه السابع : التمسك بناءً على أن يكون مركز اعتبار المانعية هي الصلاة نفسها بالاستصحاب التعليقي فيقال : إنّ الصلاة لو كانت متحققة قبل لبس المصلّي للمشكوك فيه أو مصاحبته له لم تكن واقعة فيما لا يؤكل فالآن كما كانت ، فيحكم بصحتها حتى فيما إذا كانت من أول حدوثها مقترنة بما يشك في جزئيته لما لا يؤكل ، بضمّ الوجدان إلى الأصل.

واعترض عليه شيخنا الأُستاذ قدس‌سره (١) ، أولاً : بمنع جريان الاستصحاب التعليقي من أصله.

وثانياً : على تقدير التسليم فإنّما يجري مع بقاء الموضوع في ظرف الشك وانحفاظه في القضيتين المتيقّنة والمشكوكة وفي المقام ليس كذلك ، فانّ موضوع الصحة هي الصلاة ، وهي لم تكن موجودة سابقاً على الفرض ، وفي ظرف الشك وإن وجدت لكنّها من أول حدوثها يشكّ في صحتها وفسادها من جهة اقترانها بما يشكّ في جزئيته لما لا يؤكل ، من دون أن تكون لها حالة سابقة متيقّنة ، فلم يكن الموضوع موجوداً في زمان وقد ثبت له حكم تعليقي كي يستصحب ذلك الحكم لنفس الموضوع في ظرف الشك.

ولأجل ذلك لا يجري استصحاب الحرمة التعليقية أو هي مع النجاسة الثابتة للعنب في حال الزبيبيّة حتى مع تسليم أصل هذا الاستصحاب ، فإنّ الحرمة المتعلقة بالعنب إنّما تثبت في حال الغليان ، ولا ريب أنّ الصالح له إنّما هو‌

__________________

(١) كتاب الصلاة ١ : ٢٥٤.

٢٧٣

ماؤه لا نفسه من قشر ونحوه ، فيرجع بالأخرة إلى أنّ موضوع الحكم والركن الركين فيه إنّما هو العصير العنبي ، ولا شكّ في انعدام هذا الموضوع في حال الزبيبية ، فان الزبيب عنب جاف قد انعدم عصيره قطعاً ، وأمّا الماء الخارجي الملقى عليه عند الغليان فهو موضوع آخر مباين مع العصير العنبي ، يشكّ في حلّيته وحرمته من أوّل الأمر.

أقول : ما أفاده قدس‌سره من عدم جريان الاستصحاب التعليقي في حدّ نفسه وإنكاره من أصله فهو في محلّه كما تعرضنا له في الأُصول (١).

والوجه في ذلك على سبيل الإجمال : أنّ الحكم المجعول لا واقع له إلا في مرحلتين لا ثالث لهما : إحداهما مرحلة الجعل والتشريع ، والأُخرى مقام الفعلية والتطبيق.

ففي مرحلة الجعل يجعل الحكم على الموضوع المقدّر وجوده ، ولا نظر في ذلك إلى وجود الموضوع خارجاً وعدمه كما هو مقتضى جعل الأحكام على سبيل القضايا الحقيقية ، ومن هنا ذكرنا غير مرة أنّها راجعة إلى قضايا شرطية مقدّمها وجود الموضوع ، وتاليها ترتب الحكم. فمرجع قولنا : المستطيع يحج ، إلى قولنا : إذا وجد في الخارج مكلّف وكان مستطيعاً وجب عليه الحج.

وبالجملة : فبعد الجعل يتحقق الحكم في عالم التشريع حقيقة ، وجد له موضوع في الخارج أم لا. ولا رافع له إلا النسخ ، ولو شكّ في رفعه لاحتماله جرى استصحاب عدم النسخ بلا كلام.

وفي مرحلة الفعلية يخرج الحكم عن مقام الفرض والتقدير إلى مقام التحقق والتطبيق ، وذلك عند ما يتحقق الموضوع خارجاً بما له من القيود المأخوذة فيه فاذا وجد المستطيع خارجاً بما له من بقية الشرائط المعتبرة وجب الحج وصدق حقيقة أنّه ثبت حكم في الخارج بعد أن لم يكن. وارتفاع هذا الحكم إنّما هو بانعدام الموضوع إمّا بنفسه أو بفقد قيد من القيود المعتبرة فيه ، من دون‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ١٣٤.

٢٧٤

فرق في ذلك بين الأحكام التكليفية والوضعية ، فتزول الاستطاعة مثلاً بعد حدوثها أو تزول الزوجية بطلاق أو فسخ ونحوهما.

وبالجملة : لا نتعقل للحكم الشرعي واقعاً إلا في هاتين المرحلتين ، وله في كل مرحلة رافع خاص كما عرفت.

وعليه فلا معنى للاستصحاب التعليقي أصلاً ، لأنّ الحرمة المعلّقة على الغليان مثلاً الثابتة للعنب التي يراد استصحابها في حال الزبيبية إن أُريد بها الحرمة الثابتة في مرحلة الجعل فلا يحتمل ارتفاعها ، بل هي باقية جزماً ، لاختصاص رافعها حينئذ بالنسخ المنفي احتماله على الفرض ، نعم لو احتمل جرى استصحاب عدمه ، لكنه أجنبي عن المقام كما هو ظاهر.

وإن أُريد بها الحرمة الفعلية فلا يحتمل حدوثها ، لكونها منوطة بتحقق الموضوع بما له من القيود كما عرفت ، فلا يكون العصير العنبي حراماً بالفعل إلا مع الغليان كما مرّ ، والمفروض عدم تحققه سابقاً. فالحرمة الشأنية غير مرتفعة قطعاً ، والحرمة الفعلية غير متحققة قطعاً ، فماذا هو المستصحب بعد أن عرفت حصر الحكم الشرعي في هاتين المرحلتين.

نعم ، الملازمة بين عروض الغليان للعصير العنبي وحرمته متيقّنة سابقاً ومشكوكة لاحقاً ، بمعنى أنّا نعلم أنّ العصير في حال العنبية لو لحقه الغليان حرم ، ونشك في بقاء هذه الملازمة في حال الزبيبية ، إلا أنّ هذه الملازمة ليست بشرعية ، بل هي حكم عقلي ، بمعنى أنّ العقل يستقلّ بأنّ موضوع الحكم إذا كان مركّباً من جزأين كالعصير العنبي وغليانه بالإضافة إلى الحرمة ، أو هي مع النجاسة وقد تحقق أحدهما وهو العصير العنبي ، فإذا فرض تحقق الآخر وهو الغليان وانضمامه إلى الأوّل فهو يستلزم ترتّب الحكم لا محالة ، لتمامية جزأي الموضوع الذي هو بمنزلة العلّة لتعلق الحكم به ، ولا معنى لجريان الاستصحاب في هذا الحكم العقلي كما لا يخفى.

كما أنّ ما أفاده قدس‌سره من عدم جريان الاستصحاب التعليقي بعد‌

٢٧٥

تسليمه في نفسه في خصوص مثال العنب والزبيب فهو حقّ أيضاً لا محيص عنه ، لما عرفت من تعدد الموضوع في القضيتين وتباينه ، فانّ المتيقن السابق موضوعه العصير العنبي ، والمشكوك لاحقاً هو الماء الخارجي الملقى على الزبيب ، وهما متباينان عرفاً كما مرّ.

وأمّا ما أفاده قدس‌سره من قياس المقام بهذا المثال وأنّ الموضوع هنا أيضاً متعدد فلا يمكن المساعدة عليه ، ضرورة أنّ الموضوع في المقام هو طبيعي الصلاة ، واليقين والشك إنّما يلحظان بالإضافة إلى نفس الطبيعة ، وهي الموضوع للمستصحب ، فالمتيقّن السابق هو أنّ طبيعي الصلاة لو كانت متحقّقة في الخارج لكانت صحيحة أي غير واقعة فيما لا يؤكل ويشك بقاءً في ثبوت هذا الحكم التقديري لنفس تلك الطبيعة. فلو بنينا على صحة الاستصحاب التعليقي لم يكن مانع من جريانه من هذه الجهة.

نعم ، لو كان الموضوع هي الصلاة الخارجية دون الطبيعة لتمّ ما أُفيد ، لعدم تحققها سابقاً ، وعند وجودها في ظرف الشك يشكّ في حكمها من أول الأمر ، فلم يكن الموضوع باقياً ومحفوظاً في القضيتين. لكنّه بمراحل عن الواقع كما عرفت.

فالصحيح في الجواب أن يقال : إنّ الاستصحاب التعليقي على تقدير تسليمه فإنّما يجري فيما إذا كان التعليق راجعاً إلى الحكم الشرعي نفسه ، بأن كان الموضوع متحقّقاً بالفعل وقد ثبت له حكم تعليقي أو تنجيزي ، فيعمم الاستصحاب لكلا النوعين من الحكم.

وأمّا إذا كان التعليق راجعاً إلى نفس الموضوع أو المتعلّق فلا مجال لجريان الاستصحاب حينئذ أصلاً ، ضرورة أنّ الآثار إنّما تترتب على الموضوع المفروض وجوده بالفعل ، وعند تحققه الخارجي ، وأمّا الوجود التقديري المعلّق على شي‌ء لم يتحقق فلا أثر له ، فلا يكون قابلاً للتعبد.

كما أنّ الملازمة المتيقنة سابقاً وهي أن الموضوع لو كان موجوداً لترتّب عليه الأثر غير قابلة لورود التعبّد بها ، لعدم كونها بنفسها حكماً شرعياً ، ولا‌

٢٧٦

موضوعاً ذا أثر شرعي كما هو ظاهر. فاذا فرضنا مثلاً أنّ الطهارة مترتبة على تحقق الغسل بالماء خارجاً ، وقد كان الماء موجوداً في الحوض سابقاً وشككنا في بقائه لاحقاً ، وقد ألقينا الثوب النجس فيه فعلاً ، فهل يمكن الحكم بتحقق الغسل وحصول الطهارة بدعوى أنّ الثوب لو كان واقعاً في الحوض قبل ساعة مثلاً لتحقق الغسل فتستصحب الملازمة أو الوجود التقديري؟ كلاّ ، فإنّ الأثر يترتب على الغسل الخارجي ، وهو مشكوك الحدوث من أول الأمر ، للشك في بقاء الماء. واستصحاب الملازمة أو بقاء الماء لا يثبت عنوان الغسل الذي هو الموضوع للأثر كما هو واضح.

وبالجملة : موضوع الحكم هو فعلية الغسل ، لا الغسل التقديري ، ولا الملازمة بينه وبين الوقوع في الحوض. وإثبات الفعلية بإجراء الأصل في شي‌ء منهما مبني على القول بالأصل المثبت.

والمقام من هذا القبيل ، فانّ متعلّق التكليف أو فقل الموضوع للصحة هي الصلاة غير الواقعة خارجاً وبالفعل في غير المأكول ، لا الصلاة التي على تقدير وجودها لم تكن كذلك. فاستصحاب الصحة التقديرية المنتزعة من انطباق المأمور به على المأتي به خارجاً ، أو استصحاب منشأ الانتزاع وهو عدم اتصاف الصلاة بكونها في غير المأكول على تقدير وجودها الخارجي لا يثبت موضوع الصحة أعني أنّ الصلاة الخارجية كذلك إلا على القول بالأصل المثبت.

المبحث الثاني في الأُصول الحكمية : قد عرفت إمكان إثبات الصحة وجواز الصلاة في اللباس المشكوك بالأصل الموضوعي من التمسك باستصحاب العدم الأزلي وغيره ، ومعه لا تنتهي النوبة إلى الرجوع إلى الأصل الحكمي. فالرجوع إليه إنّما هو بعد تسليم عدم تمامية شي‌ء من الأُصول الموضوعية.

كما لا ريب أنّ مقتضى القاعدة ما لم تثبت الصحة وجواز الاقتصار في مقام‌

٢٧٧

الامتثال بالصلاة في المشكوك فيه هو الرجوع إلى قاعدة الاشتغال ، ولزوم إيقاع الصلاة فيما يقطع بعدم كونه من غير المأكول ، إذ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية بالضرورة ، فيجب إحراز الامتثال وتفريغ الذمة بالإتيان بالمأمور به جامعاً للشرائط وفاقداً للموانع ، فكما يجب إحراز الشرط يجب عقلاً إحراز عدم المانع ولو ببركة الأصل ، إذ لا فرق في لزوم إحراز المأمور به بقيوده بين القيود الوجودية والعدمية كما مرّ التنبيه عليه في بعض المباحث السابقة (١) هذا.

وقد استدلّ في المقام على الجواز استناداً إلى الأصل الحكمي من وجهين :

أحدهما : التمسك بأصالة الحلّ في نفس الصلاة كما عن صاحب الحدائق قدس‌سره (٢) بدعوى أنّ للصلاة باعتبار الوقوع في المأكول وفي غيره فردين : حلال وحرام ، ويشكّ في هذه الصلاة الشخصية الواقعة في اللباس المشكوك فيه أنّها من الفرد المحلّل أو المحرم ، فيشمله عموم قوله عليه‌السلام : « كلّ شي‌ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه » (٣) وغيرها من سائر الأخبار الدالّة على أصالتي الحلّ والإباحة.

وفيه : أنّه إن أُريد بالحرمة المحتملة الحرمة الذاتية فهي مقطوعة العدم ، إذ لا ريب أن مجرّد الصلاة فيما يقطع بكونه من غير المأكول فضلاً عمّا يشك ليس بنفسه من المحرمات الإلهية كما لو كان بقصد التعليم ونحوه.

وإن أُريد بها الحرمة التشريعية فلا ريب في عدم التشريع لو صلّى في المشكوك بقصد الرجاء لاحتمال الجواز ، أو لاحتمال عدم كونه من غير المأكول فيصلّي بانياً على تحقيق الحال بعد الفراغ والإعادة لو انكشف الخلاف ، فلا يحتمل الحرمة في مثل ذلك. نعم ، لا يجوز الاقتصار عليه في مقام الامتثال للزوم الخروج عن عهدة الاشتغال اليقيني بالبراءة اليقينية كما هو ظاهر.

__________________

(١) في ص ٢٠٩ ، الجهة الثالثة.

(٢) الحدائق ٧ : ٨٦.

(٣) الوسائل ١٧ : ٨٧ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ١.

٢٧٨

وأمّا لو صلّى فيه مضيفاً له إلى المولى وبنية جزمية لا رجاءً فهو حرام قطعاً ، لكونه من إدخال ما لم يعلم أنّه من الدين في الدين ، الذي هو تشريع محرم بالأدلّة الأربعة ، فلا يحتمل جوازه كي يكون مشكوك الحلّية فيرجع إلى أصالة الحل.

وبالجملة : ذات الصلاة من دون إضافة إلى المولى محلّل قطعاً ، وكذا مع إضافة رجائية ، وأمّا مع الإضافة الجزمية فهي محرّمة قطعاً. فعلى كل تقدير لا شكّ حتى يتمسك بأصل الحل.

نعم ، لو كان المراد بالحلّية في أخبار أصالة الحلّ ما يشمل الحلّية الوضعية المساوقة للصحة وجواز الاقتصار في مقام الامتثال لصحّ الاستدلال حينئذ كما لا يخفى. لكنّه بمراحل عن الواقع ، بل الحلّية تكليفيّة محضة. إذ المراد بها في روايات الباب الترخيص العملي ونفي البأس عن الفعل مع الشكّ في الحرمة ، لا الحكم بالنفوذ والمضيّ في مقام الامتثال ، وإلا لصحّ الاستدلال بها في جميع أبواب العبادات والمعاملات حتى بالمعنى الأعم عند الشك في تحقق شرط أو وجود مانع ما لم يقم دليل على خلافه من عموم ونحوه ، وهو كما ترى ، بل لازمه تأسيس فقه جديد كما لا يخفى.

الوجه الثاني : وهو العمدة في المقام التمسك بأصالة البراءة ، وتقريره يتوقف على تقديم أُمور :

الأوّل : لا ريب أنّ الشكّ إذا كان راجعاً إلى مقام الجعل وفي أصل ثبوت التكليف فهو مورد لأصالة البراءة الشرعية والعقلية ، وأمّا إذا رجع إلى مرحلة الامتثال والخروج عن عهدة التكليف الثابت بعد العلم بفعليّته ووجوده فهو مورد لقاعدة الاشتغال ، لاستقلال العقل بلزوم إحراز الفراغ عن التكليف المعلوم ، وأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.

الثاني : أنّ من الواضح أنّه لا يكفي في تنجيز التكليف مجرّد العلم بجعل الكبرى الكلّية في الشريعة المقدسة ما لم ينضم معه إحراز الصغرى ، فانّ العلم‌

٢٧٩

بالكبرى بمجرده غير صالح للبعث والتحريك بالضرورة ، فالعقاب على مخالفته قبل وصول الصغرى عقاب بلا بيان.

وعليه ففي موارد التكاليف الانحلالية كحرمة شرب الخمر ونحوه لا يكون التكليف منجّزاً ذا بعث أو زجر إلا بعد وصول الكبرى والصغرى معاً ، فلو وصلت إحداهما دون الأُخرى كأن علم بحرمة شرب الخمر ولم يعلم أنّ المائع الخارجي خمر ، أو علم بخمريته ولم يعلم بحرمته لم يتحقق التنجيز حينئذ ، لتقوّمه بكلا الأمرين كما عرفت ، ومعه يكون المورد مجرى لأصالة البراءة الشرعية والعقلية.

وبعبارة اخرى : التكليف المجعول في الكبرى الكلّية ينحلّ حسب تعدد وجود موضوعه في الخارج إلى تكاليف عديدة ، فعند الشك في الانطباق يشكّ في تعلّق التكليف بهذا الفرد المشكوك فيدفع بأصل البراءة عقلاً وشرعاً. والتفكيك بينهما بإجراء البراءة الشرعية دون العقلية بزعم تمامية البيان من قبل المولى كما عن بعض قد ظهر فساده مما مرّ ، بل إمّا أن يجريا معاً أو لا يجري شي‌ء منهما. وتمام الكلام في محلّه (١).

الثالث : أنّ في جريان البراءة وعدمه في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين وإن كان بحث عريض وكلام طويل الذيل إلا أنّ الأقوى هو الجريان ، لا لأجل انحلال العلم الإجمالي إلى متيقّن ومشكوك كما في الأقل والأكثر الاستقلاليين ، لاستحالة الانحلال الحقيقي في المقام ، بل لأجل الانحلال الحكمي.

وتوضيحه على سبيل الإجمال : أنّ انحلال العلم الإجمالي إنّما يتحقق فيما إذا رجع المعلوم بالإجمال لدى التأمل إلى معلوم تفصيلي ومشكوك بدوي ، كما هو الحال في موارد الدوران بين الأقل والأكثر الاستقلاليين ، حيث إنّ الأقل معلوم تفصيلاً والزائد عليه يشكّ في وجوبه من أول الأمر ، فيرجع فيه إلى البراءة‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٣٢٣ التنبيه الرابع.

٢٨٠