موسوعة الإمام الخوئي - ج ١٢

الشيخ مرتضى البروجردي

مورداً للأثر يحكم بجريانه بلحاظ ما يستتبعه من الأثر العملي ، وهو الحكم بنجاسة الملاقي بالكسر وبذلك يخرج التعبّد الشرعي عن اللغوية.

ومقامنا من هذا القبيل ، فانّ الحكم بحلّية لحم الحيوان التالف أو الخارج عن محل الابتلاء وإن لم يكن بنفسه قابلاً للتعبد فلا يكون المجرى مورداً للأثر ، إلا أنّه بلحاظ تضمنه أثراً فعلياً عملياً داخلاً في محلّ الابتلاء وهو جواز الصلاة في الجزء المتخذ منه يصحّ التعبد ، فيشمله عموم دليل الأصل.

ثانيها : ما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره (١) من أنّه على تقدير تسليمه لا يجري فيما لو كان هناك حيوانان متميّزان في الخارج قد علمنا بحرمة لحم أحدهما بعينه وحلّية الآخر وشككنا في أنّ الصوف مثلاً مأخوذ من هذا أو ذاك ، فإنّه لا معنى حينئذ لجريان أصالة الحلّ في الحيوان ، إذ لم يكن شي‌ء من الحيوانين مشكوك اللحم على الفرض كي يجري فيه الأصل ، وإنّما الشك متمحض في أخذ الصوف من هذا أو من ذاك ، والأصل المزبور لا يجدي لدفع هذا النوع من الشك ، لعدم تعلّقه بالحيوان.

نعم ، العنوان الانتزاعي وهو ما أُخذ منه هذا الصوف يشك في حلّيته وحرمته ، إلا أنّه بنفسه لم يكن موضوعاً للأثر ، بل لا وجود له في الخارج ، وإنّما الموجود هذا أو ذاك معيناً ، والمفروض عدم الشك في شي‌ء منهما. فما هو المشكوك لا وجود له ، وما هو الموجود لم يكن مورداً للشك ليجري فيه الأصل.

ويندفع : بأنّ الميزان في جريان الأصل كون المجرى مشكوكاً فعلاً بأيّ عنوان كان مع تعلّق أثر شرعي به داخل في محلّ الابتلاء ، سواء كان معلوم الحكم بعنوانه الأوّلي أم لا ، إذ المدار في شمول أدلّة الأُصول صدق الشك الفعلي كيف ما كان. ومن الواضح أنّ عنوان ما أُخذ منه هذا الصوف الداخل في محلّ الابتلاء له معنون موجود في الخارج يشار إليه بهذا العنوان المشير ، ولا يضر‌

__________________

(١) رسالة الصلاة في المشكوك : ٣١٦.

٢٤١

بصدق الشك الفعلي معلومية حكم كلّ واحد من الحيوانين سابقاً بعنوان آخر.

فالمقام نظير ما لو كان هناك لحمان في الخارج أحدهما مقطوع الحرمة والآخر مقطوع الحلّية فوقعت قطعة من أحدهما في يد شخص وشك في أخذها من هذا أو ذاك ، فإنّه لا إشكال في جريان أصالة الحلّ في تلك القطعة مع أنّها كانت سابقاً معلومة الحكم من حيث الحلّية والحرمة على الفرض.

وكما لو فقد أحد اللحمين في المثال وبقي الآخر وشك في أنّ الباقي هل هو ما علم حلّيته أو حرمته ، فإنّ أصالة الحلّ تجري حينئذ في اللحم الموجود بلا إشكال ، مع أنّه في السابق كان معلوم الحكم.

والسرّ هو ما عرفت من أنّ العبرة بصدق الشك الفعلي كيف ما اتفق ، وبأيّ عنوان تحقق ، وهو حاصل في هذه الفروض.

ثالثها : ما ذكره هو قدس‌سره (١) أيضاً من أنّ الموضوع لعدم جواز الصلاة لو كان عنوان ما حرّم الله أكله بما هو كذلك اتجه التمسك بأصالة الحلّ وليس كذلك ، بل الموضوع ذوات الحيوانات من الأسد والأرنب والثعلب ونحوها ، فالمانع هو وقوع الصلاة في شي‌ء من أجزاء هذه الحيوانات ، والعنوان المزبور معرّف ومشير إلى هذه الذوات. ومن الواضح أنّ أصالة الحلّ لا يثبت بها كون الحيوان المتخذ منه هذا الجزء من النوع المحلّل ، أو عدم كونه من الأنواع المحرّمة ، لعدم تكفّل الأُصول ولا سيما غير المحرز منها كما في المقام لإثبات اللوازم غير الشرعية.

فما هو موضوع الحكم لا يثبت بأصالة الحلّ ، وما يثبت بها لم يكن موضوعاً للحكم.

وما أفاده قدس‌سره متين جدّاً بناءً على مسلكه من كون الموضوع ذوات الحيوانات ، وحمل العنوان المأخوذ في لسان الروايات على المعرفيّة‌

__________________

(١) رسالة الصلاة في المشكوك : ٣٢٥.

٢٤٢

والمشيرية. وأمّا بناءً على ما هو الصواب كما عرفته سابقاً (١) من كون الموضوع نفس العنوان ، نظراً إلى أنّ الحمل على المعرفية خلاف ظواهر الأدلّة لا يصار إليه من دون القرينة ، فلا تمكن المساعدة على ما ذكره قدس‌سره.

رابعها : ما ذكره هو قدس‌سره (٢) أيضاً من أنا لو سلّمنا كون العبرة بالحلية والحرمة لا بذوات الحيوانات إلا أنّه لا ينبغي الشك في أنّ المراد بهما ما كان كذلك ذاتاً وبحسب الطبع الأوّلي في أصل التشريع ، دون الحلّية والحرمة الفعليين ، لعدم دوران جواز الصلاة وعدمه مدارهما. ألا ترى أنّ الصوف المتخذ من ميتة الشاة تجوز فيه الصلاة وإن حرم لحمها لمكان الموت أو لاعتبارات أُخر ، حتى في المذكّى من غصب أو ضرر أو صوم وما شاكل ذلك من العناوين الثانوية الموجبة للحرمة الفعلية ، كما أنّه ربما لا تجوز الصلاة وإن حلّ الأكل فعلاً كالوبر المتخذ من أرنب حلّ أكل لحمه لاضطرار ونحوه.

وبالجملة : موضوع الحكم هو الشأني الطبعي منهما لا الفعلي. ومن البديهي أنّ أصالة الحلّ متكفّلة لإثبات الحلّية الفعلية ، ولا نظر فيها إلى الحلّية الطبيعية بوجه. ولا ملازمة بين الأمرين ، لجواز التفكيك من الطرفين ، إذ لا تنافي بين الحلّية الذاتية والحرمة الفعلية ، وكذا عكسها حسبما عرفت. فما هو موضوع الحكم لا يثبته الأصل ، وما يثبته لم يكن موضوعاً للحكم.

نعم ، ربما يكون التعبد الشرعي متعلقاً بالحلّيّة الشأنية كما لو شك في تبدّلها بحرمة مثلها بعروض الجلل أو صيرورتها موطوءة الإنسان بشبهة حكمية أو موضوعية ، أو في زواله بالاستبراء فنستصحب الحالة السابقة من الحلّية أو الحرمة الطبيعيتين ، إلا أنّ ذلك خارج عن نطاق البحث ، إذ الكلام في أصالة الحلّ التي ليس مفادها إلا الحلّية الفعلية حسبما عرفت.

وما أفاده قدس‌سره في غاية الجودة والمتانة ، وهو الوجه الصحيح الذي‌

__________________

(١) في ص ٢٢٨.

(٢) رسالة الصلاة في المشكوك : ٣٢٧.

٢٤٣

نعتمد عليه في المنع عن جريان أصالة الحلّ ، فانّ ما يترتب على هذا الأصل هو الحلية الفعلية ، والموضوع في المقام هو الحلية الذاتية ، فلا تصلح أصالة الحلّ لإثبات موضوع الجواز ، وهكذا في جانب الحرمة.

وعليه فلو عثرنا على حيوان شك في تذكيته من دون أي أمارة عليها فمقتضى أصالة عدم التذكية وإن كان هو عدم جواز أكل لحمه إلا أنّه لا يترتب عليها عدم جواز الصلاة في أجزائه ، إذ لا تثبت بالأصل المزبور الحرمة الطبعية الشأنية الّتي هي الموضوع لعدم الجواز ، إلاّ إذا كانت تلك الحرمة أو الحلية مجرى للأصل كما لو شك في الاستبراء من الجلل أو في أصل عروضه حسبما عرفت.

الوجه الثاني : التمسك بأصالة الطهارة بتقريب : أنّه لو تردد اللباس بين اتخاذه من حيوان طاهر مأكول اللحم كالغنم ، أو نجس غير مأكول كالكلب كان مقتضى أصالة الطهارة جواز الصلاة فيه ، فاذا جاز ثمّة جاز في بقية الشبهات بعدم القول بالفصل.

ويندفع : بأنّ أصالة الطهارة لا يترتب عليها إلا آثار الطهارة وأحكامها ومن البيّن أنّ جواز الصلاة لم يكن أثراً للطهارة بمجردها ، بل شريطة عدم كون اللباس مما لا يؤكل ، بشهادة عدم الجواز في وبر الأرانب مثلاً مع أنّه طاهر ، نعم طهارة اللباس في مفروض المثال ملازم لكونه مأخوذاً من المأكول ، إلا أنّ ذلك من اللوازم العقلية التي لا تكاد تثبت حتى بالأُصول المحرزة فضلاً عن غيرها كأصالة الطهارة.

على أنّا لو سلّمنا حجية الأُصول المثبتة فغايته جواز الصلاة في خصوص المثال ، لإحراز كونه من المأكول بالتعبد الشرعي ، فما هو الموجب للتعدي إلى ما لا تعبد فيه بعد ثبوت الفارق الظاهر المانع عن التمسك بعدم القول بالفصل كما لا يخفى.

الوجه الثالث : استصحاب الإباحة الثابتة قبل البلوغ ، بدعوى جواز أكل لحم كافة الحيوانات محلّلها ومحرّمها قبل وضع قلم التكليف ، وبعد البلوغ‌

٢٤٤

يشك في انقلاب الجواز إلى المنع بالنسبة إلى الحيوان الذي اتخذ منه هذا اللباس ، ومقتضى الأصل بقاؤه على ما كان ، فاذا ساغ أكله ببركة الاستصحاب جاز الصلاة أيضاً لإحراز موضوعه بالتعبد الشرعي.

ويندفع أولاً : بأنّ المقسم في الأحكام الخمسة على ما يشهد به حديث رفع القلم عن الصبي (١) هو من وضع عليه قلم التكليف ، وهو البالغ ، فالصبي خارج عن دائرة الحكم ، ونفي الحرمة عنه إنّما هو من باب السالبة بانتفاء الموضوع. إذن فاستصحاب الحلّ إلى ما بعد البلوغ إسراء للحكم من موضوع إلى موضوع آخر ، ولم يكن من الاستصحاب المصطلح في شي‌ء.

وثانياً : أنّ الإباحة الثابتة حال الصغر إباحة فعلية ، وقد عرفت (٢) أنّ الموضوع لجواز الصلاة هي الحلية الطبعية الشأنية ، فاستصحاب تلك الإباحة لا ينفع لإثبات موضوع الحكم ، إذ لا تنافي بين الحلّية الفعلية الناشئة من العوارض المانعة عن التنجّز من جنون أو صغر أو اضطرار ونحوها ، وبين الحرمة الشأنية.

الوجه الرابع : استصحاب عدم جعل الحرمة للحيوان الذي اتخذ منه هذا اللباس ، إذ لا ريب في أنّها حادث مسبوق بالعدم الثابت قبل الشرع فيستصحب ذاك العدم ، سواء أكانت الشبهة حكمية كالمتولّد من حيوانين محرّم الأكل ومحلّله ولم يشبه أحدهما كما هو واضح ، أم موضوعية كما لو تردّد الحيوان المتخذ منه اللباس بين الأرنب والشاة ، فإنّ الحرمة قد ثبتت للأرنب مثلاً على سبيل القضية الحقيقية المنحلّة بعدد الأفراد الخارجية ، فلكلّ فرد حكم يخصّه ، إذن فالشك في التطبيق شك في تعلّق فرد من الحرمة بالنسبة إلى المشكوك زائداً على الأفراد المتيقّنة ، ومقتضى الأصل عدمه ، هذا.

وقد أورد عليه المحقق النائيني قدس‌سره بوجوه :

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٥ / أبواب مقدمة العبادات ب ٤ ح ١١ ، ١٢. ٢٩ : ٩٠ / أبواب القصاص في النفس ب ٣٦ ح ٢.

(٢) في ص ٢٤٣.

٢٤٥

أحدها : أنّ عدم الحرمة الثابت قبل الشريعة يغاير في سنخه مع العدم الثابت بعدها ، فإنّ الأوّل عدم محمولي من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، حيث لا شرع ليحكم بها أو بعدمها ، ويكون التقابل بينه وبين جعل الحرمة من تقابل السلب والإيجاب.

وأمّا الثاني فهو عدم نعتي ، أي متّصف بالانتساب إلى الشارع الأقدس ويكون التقابل بينه وبين جعلها من تقابل العدم والملكة (١).

وإن شئت فقل : العدم الثابت سابقاً هو عدم الحكم بالحرمة ، والذي نروم إثباته لاحقاً هو الحكم بعدم الحرمة. ومن البيّن أنّ إثبات الثاني بالاستصحاب الجاري في الأوّل من أوضح أنحاء الأصل المثبت ، فانّ هذا نظير إثبات العمى باستصحاب عدم البصر الثابت قبل الخلقة ، حيث إنّ الثابت سابقاً عدم محمولي ، أي عدم الاتصاف بالرؤية ، فلا يثبت به العدم النعتي ، أي الاتصاف بعدم الرؤية الذي هو معنى العمى إلا على القول بحجيّة الأُصول المثبتة.

وفيه : أن الشريعة عبارة عن مجموعة أحكام منسوبة لصاحبها ومجعولة لمشرّعها. فان قلنا بأنّ الشارع هو الله سبحانه فلا شبهة في انتساب العدم إليه فهو نعتي حتى قبل بعث الرسول وأمره بنشر الأحكام ، فكان اللحم المزبور جائز الأكل آن ذاك ومتصفاً بأنّه لا حرمة له فيستصحب إلى ما بعد البعث.

وإن قلنا بأنّه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فكذلك ، بداهة أنّ الأحكام لم تجعل دفعة واحدة ، بل كان التشريع على سبيل التدريج ، وكانت تبلّغ شيئاً فشيئاً حسب المصالح الوقتية. إذن فلم تكن حرمة اللحم مجعولة في بدء الشريعة فكان العدم وقتئذ نعتياً بالضرورة فيستصحب.

ثانيها : أنّا نقطع بجعل حكم لذلك الحيوان في الشريعة المقدسة أما الحرمة أو الإباحة. إذن فاستصحاب عدم الحرمة معارض باستصحاب عدم الإباحة (٢).

__________________

(١) ذكره في موارد منها ما في أجود التقريرات ٢ : ١٩٠.

(٢) لم نعثر عليه.

٢٤٦

وفيه أولاً : ما عرفت آنفاً من أنّ الأحكام تدريجية الحصول ، فكانت الإباحة ثابتة في بادئ الأمر وقبل بيان التحريم كما يفصح عنه قوله تعالى ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً .. ) إلخ (١) فكان كل شي‌ء محكوماً بالترخيص حتى يرد فيه النهي. إذن فالإباحة النعتية سابقة على التحريم فتستصحب من غير معارض له في ظرفه.

وثانياً : أنّه لا تعارض بين الأصلين المزبورين ، لعدم كون الإباحة موضوعاً لجواز الصلاة ، وإنّما الحرمة أُخذت موضوعاً لعدم الجواز وبتبعه يسند الجواز إلى الإباحة تجوزاً في الإسناد وتوسعاً في الإطلاق ، من غير أن يكون أصيلاً في الجعل كما يتضح ذلك بملاحظة الأدلّة ، وعليه يحمل قوله عليه‌السلام في ذيل موثقة ابن بكير : « .. لا تقبل تلك الصلاة حتى يصلّي في غيره مما أحلّ الله أكله » حيث إنّه عليه‌السلام بعد أن حكم قبل ذلك بفساد الصلاة فيما حرم أكله فتفريعاً على ما سبق تقتضي طبيعة الحال إيقاع الصلاة في المحلّل حذراً عمّا يوجب الفساد وتجنباً عنه ، من غير أن تكون موضوعية للمحلل بما هو كذلك ، فلا شأن له عدا كونه وسيلة للاجتناب المزبور.

وعليه فاستصحاب عدم الإباحة لا أثر له ، وإنّما الأثر الوحيد مترتب على استصحاب عدم الحرمة فيجري من دون معارض.

ثالثها : أنّ للحكم مرحلتين : مرحلة الجعل ومرحلة المجعول ، فإذا شك في الأوّل وكان موضوعاً للأثر جرى فيه الاستصحاب وجوداً أو عدماً ، كما أنّ الثاني لو كان له أثر وكانت له حالة سابقة كان مجرى للاستصحاب أيضاً. وأمّا الأثر المترتب على مرحلة المجعول ومقام الفعلية كاتصاف الحيوان الخارجي في المقام بعدم الحرمة على تقدير الذبح الشرعي فلا يجري فيه الاستصحاب لا بلحاظ هذه المرحلة لعدم الحالة السابقة ، ولا بلحاظ مرحلة الجعل لأنّ‌

__________________

(١) الأنعام ٦ : ١٤٥.

٢٤٧

استصحاب عدم الجعل لإثبات العدم في مرحلة المجعول من الأصل المثبت الذي لا نقول به (١).

ويندفع : بأنّ تغاير مقام الجعل عن المجعول واختلاف سنخ الحكم بلحاظ المرحلتين وإن تكرر في كلمات شيخنا الأُستاذ قدس‌سره في موارد عديدة من أبحاثه الشريفة ، وفرّع عليه عدم إثبات أحدهما بالاستصحاب الجاري في الآخر مصرّاً عليه ، إلا أنّه لا يمكن المساعدة عليه بوجه ، فانّ الحكم الشرعي إنّما يجعل بجعل واحد مرة واحدة ، غاية الأمر أنّه مجعول للموضوع المقدر وجوده على سبيل القضية الحقيقية ، فاذا لم يوجد موضوعه خارجاً بقي مقصوراً على مقام الإنشاء ، ويعبّر عنه حينئذ بمرحلة الجعل ، وإذا وجد عبّر بمرحلة المجعول ، وأصبح الحكم فعلياً بنفس الجعل الأول لا بجعل آخر. فالفعلية تابعة للجعل ، والقضية قبل تحقق الموضوع فرضية تقديرية ، وبعده فعلية تحقيقية ، لا أنّ هناك سنخين من الحكم يمتاز أحدهما عن الآخر في هويّته وحقيقته ليكون إثبات أحدهما بالأصل الجاري في الآخر من الأصل المثبت.

ومن ثم يجري استصحاب عدم النسخ لدى الشك في زوال الجعل به ويحكم ببقائه وفعليته لدى تحقق موضوعه ، من غير أن تتطرق شبهة المثبتية مع أنّها لو تمت لعمّت ، لعدم الفرق في مناطها بين استصحاب الوجود أو العدم كما لا يخفى. فكما أنّ استصحاب الجعل يثبت الحكم الفعلي فكذا استصحاب عدمه ينفيه بمناط واحد.

وعليه فاذا شك في أنّ الحيوان الذي اتخذ منه هذا اللباس هل جعلت له الحرمة أم لا استصحب العدم ، وترتب عليه جواز الصلاة فيه فعلاً.

والمتحصّل من جميع ما تقدّم : أنّ التمسك بهذا الاستصحاب صحيح ولا إشكال فيه ، والنقود الواردة عليه كلّها مدفوعة بما عرفت.

أجل ، يبتني ذلك على ما هو الأصح كما سبق من أنّ المانع هو عنوان ما‌

__________________

(١) ذكره في موارد منها ما في أجود التقريرات ٢ : ٢٩٦ ، ٤٠٩.

٢٤٨

حرّم الله أكله ، لا ذوات الحيوانات من الأسد والأرنب ونحوهما وكون العنوان المزبور مشيراً إليها ، وإلا فالأصل المزبور لا يترتب عليه عدم كون الحيوان من تلك الذوات إلا على القول بالأُصول المثبتة.

نعم ، يمكن القول بأنّ هذا الأصل وإن لم ينفع إلا أنّ التشريع لما كان على سبيل التدريج ، من غير فرق بين الأحكام الاستقلالية النفسية وبين التبعية الضمنية كالشرطية والمانعية ، إذن فكان زمان في أول الشريعة ولم تجعل المانعية لذات هذا الحيوان المشكوك ، والآن كما كان ، فيستصحب عدم تقيد الصلاة بعدم وقوعها في اللباس المتخذ منه فينتج صحتها.

ثم إنّه بناءً على تمامية هذا الاستصحاب كما هو الصواب فلا يفرق الحال فيه بين القول بمانعية الصلاة فيما لا يؤكل أو شرطية الوقوع في المأكول ، إذ كما يثبت بالاستصحاب عدم التحريم يثبت به الحلّ أيضاً فيحرز الشرط ببركة الأصل. فالتفصيل بينهما كما تقدم سابقاً لا وجه له.

ثم لا يخفى أنّ هذا الاستصحاب إنّما يجري فيما إذا كان الحيوان المتخذ منه اللباس مردداً بين المأكول وغيره.

وأمّا إذا تردد بين غير المأكول وبين غير الحيوان كالقطن فلا مجال حينئذ للأصل المزبور ، فانّ عدم الحرمة في غير الحيوان سالبة بانتفاء الموضوع ، بل المرجع أصل آخر حاكم عليه وهو أصالة عدم اتخاذه من الحيوان ، لا عدم حرمته كما لا يخفى.

الوجه الخامس من الأُصول الموضوعية : التمسك باستصحاب عدم اتصاف المشكوك فيه بكونه جزءاً مما لا يؤكل ، الثابت قبل وجوده ، بتقريب : أنّ الموضوع للحكم أعني المانعية مؤلف من جزأين : كون الشي‌ء لباساً أو محمولاً ونحوهما من أجزاء الحيوان ، واتصافه بكونه جزءاً مما لا يؤكل ، وقد كنّا سابقاً قبل خلق الحيوان على يقين بعدم وجود شي‌ء من الجزأين ، وبعد‌

٢٤٩

وجود الحيوان وخلقه قد علمنا بانقلاب عدم الجزء الأول إلى الوجود ، وأمّا الجزء الثاني أعني الاتصاف المزبور فلا علم لنا بالانقلاب ، فيحكم ببقاء العدم على ما كان عليه أزلاً.

وقد اشتهر التعبير عن هذا الاستصحاب في كلماتهم باستصحاب العدم الأزلي ، باعتبار أنّ المستصحب هو العدم الثابت قبل وجود الموضوع غير المحدود بزمان معين ، فكأنّه كان ثابتاً من الأزل.

وكيف كان ، فقد وقع الخلاف في حجية هذا الاستصحاب ، فأثبته صاحب الكفاية مطلقاً (١) وأنكره شيخنا الأُستاذ قدس‌سره كذلك (٢) واختار بعض الأعاظم التفصيل في المقام كما ستعرف.

وحيث إنّ هذه المسألة مهمّة جليلة يترتب عليها فوائد كثيرة في الأبواب المتفرقة من الفقه ينبغي لنا التعرض لها ، والبحث عنها كبروياً تعميماً للفائدة وإن كان خارجاً عن نطاق المقام ، فنقول وبه نستعين : لا بدّ قبل الخوض في صميم البحث من تقديم جهات :

الجهة الاولى : أنّ الموضوع للحكم قد يكون بسيطاً ، وأُخرى مركّباً من جزأين فصاعداً. ونعني بالموضوع ما يعمّ المتعلّق ، وبالجزء مطلق القيد المأخوذ في موضوع الحكم أو متعلّقه ، لا خصوص الجزء الاصطلاحي المقابل للشرط.

أمّا لو كان بسيطاً فلا إشكال في جريان استصحاب الحالة السابقة من الوجود أو العدم ، فيترتب عليه الأثر نفياً أو إثباتاً ، وهذا ظاهر.

وأمّا لو كان مركّباً فلا ريب في ترتّب الأثر مع العلم بوجود الجزأين مثلاً فعلاً ، أو سابقاً مع الشك فعلاً فيحرز الموضوع بالاستصحاب. كما لا ريب في عدم الترتّب مع العلم بعدمهما سابقاً وإن شك فعلاً فيستصحب العدم. وأمّا إذا كان أحد الجزأين مقطوع الوجود سابقاً والآخر مقطوع العدم فانقلب العدم إلى‌

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٢٢٣.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٤٦٤.

٢٥٠

الوجود قطعاً وشك في بقاء الموجود ، كما لو كنّا على يقين من الطهارة سابقاً مع القطع بعدم الصلاة وعند ما تحققت الصلاة شككنا في بقاء الطهارة ، حيث إنّ الأثر أعني الوجوب متعلّق بمجموع الأمرين.

فالمشهور حينئذ جريان الاستصحاب في الجزء المشكوك فتستصحب الطهارة ، وبذلك يلتئم جزءا الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل فيحرز الامتثال ويقطع بالفراغ.

إلا أنّه ربما يناقش في ذلك بمعارضة هذا الاستصحاب باستصحاب عدم تحقق المجموع المركّب من الأمرين ، أعني الصلاة المقيدة بالطهارة التي هي الموضوع للأثر ، للشك في تحقق عنوان الاجتماع في الخارج وجداناً ، والأصل عدمه.

وقد أجاب عنه شيخنا الأُستاذ قدس‌سره بأنّ الشك الثاني مسبّب عن الأوّل ، إذ لا منشأ له سوى الشك في بقاء الطهارة على الفرض ، ولا ريب في حكومة الأصل السببي على المسببي فلا تعارض (١).

وفيه : أنّ السببية وإن كانت مسلّمة لكنّها تكوينية عقليّة ، وليست بشرعية بالضرورة ، فإنّ وجود المركّب عند وجود تمام الأجزاء كانتفائه عند انتفاء أحدها أمر تكويني لا مساس له بالشرع ، والأصل السببي إنّما يكون حاكماً فيما إذا كان التسبّب أيضاً شرعياً ، كما في الشك في طهارة الثوب المغسول بالماء المستصحب الطهارة ، فإنّ من آثار طهارة الماء شرعاً طهارة ما غسل به فالتفرع والتسبب شرعي لا محالة ، فمع الحكم بطهارة الماء بقاعدة الطهارة أو استصحابها لا يبقى مجال للشك في طهارة الثوب المغسول به. وليس المقام من هذا القبيل.

فالأولى في التفصّي أن يقال : إنّ الأثر إنّما يترتب على ذوات الأجزاء عند اجتماعها ، أي وجود كلّ جزء في زمان يوجد فيه الجزء الآخر ، وأمّا المركب‌

__________________

(١) رسالة الصلاة في المشكوك : ٤١٠.

٢٥١

بما هو مركّب أعني صفة الاجتماع فليس هو نفسه موضوعاً للأثر ، بل هو عين الأجزاء بالأسر ، فلا يكون شيئاً آخر وراءها كي يكون دخيلاً في ثبوت الحكم ، وإلا فلو فرض أنّ هذا العنوان البسيط المنتزع من تحقق الأجزاء مجتمعة هو الموضوع للحكم بحيث تكون هي من محصلات هذا العنوان خرج الموضوع حينئذ عن التركّب إلى البساطة ، وهو خلف فرض التركيب الذي هو محل الكلام.

وبعبارة اخرى : إمّا أن يفرض أنّ موضوع الحكم في المركبات ذوات الأجزاء ، أو عنوان الاجتماع ، أو الذوات بوصف الاجتماع.

أما الأخير فهو يرجع في الحقيقة إلى الثاني ، فإنّ الموضوع حينئذ هو عنوان الاجتماع والمقارنة.

وأمّا الذوات فهي متعلّق لهذا العنوان وطرف للإضافة ، لأنّه من الأوصاف التعلقية ذات الإضافة ، نظير السبق واللحوق ، فأخذها في الموضوع بعد أخذ نفس العنوان من اللغو الظاهر.

وأمّا الثاني فهو خلف ، لرجوعه إلى أنّ الموضوع إنّما هو العنوان البسيط المنتزع ، أعني التركّب والاجتماع ، وأنّ ذوات الأجزاء من محصّلات هذا العنوان ومحققاته ، وهو خلاف فرض كونه مركّباً. فيتعين الأول ، فإذا أُحرز بعض الأجزاء بالوجدان لا مانع من إجراء الأصل في البعض الآخر ، فليتم الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل. ولا يعارض ذلك باستصحاب عدم وجود المجموع المركّب ، لما عرفت من عدم كون عنوان الاجتماع بنفسه موضوعاً للأثر.

ومنه يظهر أنّ الاستصحاب الثاني في حدّ نفسه غير جارٍ ، لعدم ترتّب الأثر عليه ، لا أنّه محكوم بالأصل الأول من جهة حكومة الأصل السببي على المسببي حتى مع الغض عمّا ناقشناه في هذه الحكومة من اختصاصها بما إذا كان التسبب أيضاً شرعياً وفي المقام عقلي كما عرفت آنفاً.

هذا كلّه فيما إذا لم يكن هناك ربط تكويني بين جزأي المركّب وإن كانا‌

٢٥٢

مرتبطين تشريعاً لا محالة من جهة أخذهما معاً في موضوع الحكم كما لو كانا جوهرين أو عرضين في محلّ واحد أو محلّين ، أو جوهر وعرض قائم في غير هذا الموضوع.

مثال الأول : حجب الاخوة للُام عن الثلث ، فانّ موضوع الحكم أعني الحجب مركّب من وجود جوهرين وهما الأخوان فصاعداً ، فاذا علمنا بوجود أحدهما وجداناً وشككنا في بقاء الآخر عند موت المورث وعدمه يستصحب بقاؤه ، وبضم الوجدان إلى الأصل يلتئم الموضوع فيترتب الحكم.

ومثال الثاني : الطهارة والصلاة اللتان هما عرضان قائمان بالمصلّي ، فاذا أُحرزت الصلاة وجداناً وشك في بقاء الطهارة يحكم بترتب الأثر بضم الوجدان إلى الأصل كما مرّ.

ومثال الثالث : الإرث المترتب على وجود المورّث مع إسلام الوارث الذي هو عرض قائم بغير ذاك الجوهر ، فإذا أُحرز الأول بالوجدان وشك في بقاء الثاني يستصحب ، وبضم الوجدان إلى الأصل يلتئم الموضوع فيرتب الأثر.

والجامع بين هذه الأقسام عدم وجود الربط التكويني بين جزأي المركّب كما عرفت.

وهناك قسم رابع يتضمن الربط تكويناً كما لو كان الموضوع مركّباً من العرض ومحلّه ، مثل ما إذا كان الأثر مترتباً على زيد وعدالته أو الماء وكرّيته ونحوهما ، فهل يجري فيه الكلام المتقدّم من إجراء الأصل في أحد الجزأين وضمّه إلى الجزء الآخر المحرز بالوجدان ، فتستصحب العدالة أو الكرّية الموجودتان سابقاً ، وبعد الضم إلى زيد أو الماء المحرزين بالوجدان يحكم بالتئام جزأي الموضوع فيرتب الحكم أم لا؟ الظاهر الثاني ، للفرق بين هذا القسم والأقسام المتقدمة ، من جهة أنّ تركّب الموضوع من العرض ومحلّه يستدعي أخذ عنوان الاتصاف ولحاظ العرض ناعتاً ، فزيد المتصف بالعدالة موضوع للحكم ، وكذلك الماء المتصف بالكرّية ، وعليه فان كان الاتصاف بنفسه مسبوقاً‌

٢٥٣

بالحالة السابقة بأن كان العرض بوجوده النعتي متيقناً سابقاً جرى فيه الاستصحاب ، وإلا فاستصحاب وجوده المحمولي وضمه إلى المحلّ المحرز بالوجدان لا يجدي في ترتب الأثر ، إذ لا يثبت به عنوان الاتصاف والوجود النعتي الذي لا مناص من أخذه في الموضوع إلا على القول بالأصل المثبت.

ونظير ذلك ما إذا كان الأثر مترتباً على زيد وعماه ، فانّ العمى ليس عبارة عن مجرد عدم البصر ، بل الاتصاف به ، ولذا كان التقابل بينه وبين البصر من تقابل العدم والملكة حيث إنّ هذا العدم له حظ من الوجود ، وليس كتقابل السلب والإيجاب وحينئذ فان كان الاتصاف المزبور بنفسه متيقناً سابقاً جرى فيه الاستصحاب ، وإلا فمجرّد عدم الاتصاف بالبصر (١) الثابت في الأزل وقبل أن يوجد زيد لا يجدي في إثبات عنوان الاتّصاف إلا على القول بالأصل المثبت ، وهذا في نفسه لا شبهة فيه.

إنّما الكلام في إقامة البرهان على هذه الدعوى ، وهي أنّ الموضوع إذا كان مركّباً من العرض ومحلّه لزم أخذ عنوان الاتصاف في الموضوع ولحاظ العرض ناعتاً.

ذكر شيخنا الأُستاذ قدس‌سره (٢) في وجه ذلك أنّ انقسام الشي‌ء في حدّ نفسه إلى الإطلاق أو التقييد بلحاظ الحالات والأوصاف الطارئة عليه مقدّم على لحاظ التقسيم المزبور بالإضافة إلى مقارناته وعوارضه ، لتقدّم رتبة الجوهر على العرض بالطبع ، لمكان افتقار العرض إلى المحلّ واستغناء الجوهر عنه ، ولأجله لا يبقي التقسيم الأوّل ولحاظ الذات مطلقاً أو مقيداً مجالاً للتقسيم الثاني ولا عكس.

مثلاً إذا كان الموضوع مركّباً من زيد وعدالته فالذات وهو زيد إذا لوحظ في حدّ نفسه وقيس بالإضافة إلى صفته وهي العدالة يمكن أخذه في‌

__________________

(١) [ وفي الأصل : وإلا فمجرد اتصاف عدم البصر. والصحيح ما أثبتناه ].

(٢) رسالة الصلاة في المشكوك : ٤٢٠.

٢٥٤

الموضوع مقيّداً بهذا الوصف كما يمكن أخذه مطلقاً عنه ، بمعنى رفضه وعدم دخله في ترتّب الأثر ، فهو في ذاته قابل لهذين القسمين ، كما أنّ عرضه وهي العدالة يمكن لحاظها مقيداً بأن تكون في خصوص هذا الموضوع وهو زيد أو مطلقاً سواء كانت في هذا المحلّ أم في غيره. فالتقسيم المزبور جارٍ في حدّ نفسه في كل من العرض ومحلّه ، إلا أنّه بعد لحاظ الإطلاق أو التقييد في الجوهر لا يبقى بعدئذ مورد للحاظهما في العرض ، بل ينعدم موضوع التقسيم حينئذ ، فإذا لوحظ زيد مقيداً بالعدالة ومتّصفاً بها لا يبقى بعد ذلك مجال للسؤال عن أنّ الجزء الآخر للمركّب وهي العدالة هل لوحظت مقيدة بكونها في زيد أو مطلقاً ، فانّ تقييد الذات أوّلاً بذلك يغني عن تقييد العرض ولا يبقي مجالاً له ، كما أنّ لحاظ الإطلاق فيه أيضاً سابق على لحاظه في العرض ومغنٍ عنه.

وهذا بخلاف ما إذا لوحظ التقييد في ناحية العرض فلوحظت العدالة مقيدة بكونها في زيد مثلاً الذي هو وجود محمولي خاص فحيث إنّ الذات في رتبة سابقة على العرض يبقى مجال للسؤال عن أنّ زيداً المأخوذ في الموضوع هل لوحظ مقيداً باتصافه بالعدالة أو مطلقاً ، ومن الواضح أنّه لا ثالث بينهما لاستحالة الإهمال في الواقعيات.

فان لوحظ مقيداً كان التقييد الثاني الملحوظ في ناحية العرض وهو تقييده بكونه في ضمن زيد لغواً محضاً ، لكونه مستدركاً بعد لحاظ التقييد في ناحية الذات ، فهو مغنٍ عن هذا التقييد كما عرفت.

وإن لوحظ مطلقاً عن اتصافه بالعدالة وعدمها لزم التناقض والتدافع بين هذا الإطلاق وبين التقييد المفروض لحاظه في ناحية العرض كما هو ظاهر. فحيث لا موقع للحاظ التقسيم في المقارن وهو العرض لا مناص من لحاظ الإطلاق أو التقييد في ناحية الذات نفسها ، وحيث لم تؤخذ مطلقة على الفرض فهي مقيدة بالعدالة لا محالة ، ولا معنى لتقيدها بها إلا لحاظ الاتصاف بهذا العرض الخاص. فالاتصاف المزبور مأخوذ في الموضوع قطعاً ، ومرجعه إلى‌

٢٥٥

لحاظ العرض نعتاً ، وقد عرفت أنّ استصحاب العرض بوجوده المحمولي لا يثبت الاتصاف والوجود النعتي ، هذا ملخص كلامه قدس‌سره.

ويرد عليه أوّلاً : أنّ تقدّم مرتبة الجوهر على العرض وإن كان مسلماً إلا أنّ ذلك لا يستدعي انحصار لحاظ التقييد في ناحية الذات ، وعدم إمكان رعايته في ناحية العرض نفسه.

والسرّ أنّ وجود العرض في نفسه عين وجود في محلّه ، ولذا كان العرض والمعروض موجودين بوجود واحد ، ولا فرق بينهما إلا بالاعتبار. فالبياض مثلاً إذا لوحظ بحياله وبما هو شي‌ء في نفسه مع إلغاء جهة الانتساب والاتصاف كان وجوده محمولياً ، وإذا لوحظ بما أنّه عرض قائم بالغير ومنتسب إلى المحل ووصف له كان وجوده نعتياً والمحلّ متصفاً به ، ويعبّر عنه حينئذ بالأبيض. فهما شي‌ء واحد ذاتاً وأحدهما عين الآخر ، وإنّما الاختلاف بحسب اللحاظ والاعتبار.

وعليه فكما أنّ لحاظ الاتصاف والتقييد في ناحية الذات يغني عن لحاظ التقييد في ناحية العرض واعتبار كونه في خصوص هذا الموضوع ، ولا يبقي مجالاً له ولا للإطلاق فكذلك العكس ، فيغني اعتباره في العرض عن لحاظ التقييد في الجوهر ، ولا يبقي مجالاً لا له ولا للإطلاق. فأحد التقييدين يغني عن الآخر لا محالة ، وأيّا منهما لاحظه المولى ابتداءً لا يبقى معه مجال للسؤال عن التقسيم من حيث الإطلاق والتقييد في الآخر. فالمولى يمكنه التوصّل إلى غرضه وهو التقييد بأيّ من النحوين شاء. ومجرد سبق أحدهما في المرتبة لا يمنع عن ذلك كما هو ظاهر.

وثانياً : لو تمّ ما ذكره قدس‌سره لجرى هذا الكلام في مطلق المركّبات ، سواء كان المركّب مركباً من الجوهرين أم العرضين أم الجوهر والعرض في محلّ أو محلّين ، ولزم اعتبار الاتصاف على الإطلاق ، ضرورة أنّ مقارنة الجوهر مع جوهر آخر أو مع عرض في محلّ آخر ، وكذا مقارنة العرض مع عرض آخر‌

٢٥٦

في هذا المحلّ أو محلّ آخر تكون من صفات هذا الجوهر أو هذا العرض وأعراضه الطارئة عليه ، فهو يتصف بهذه المقارنة لا محالة ، فلا بدّ في كل من جزأي المركب إذا قيس بالإضافة إلى اتصافه بالمقارنة مع الجزء الآخر وعدمها من لحاظه إمّا مطلقاً أو مقيداً في مرتبة سابقة على وجود المقارن ، ومعه يرتفع موضوع الإطلاق والتقييد بالإضافة إلى ذات المقارن ، كما هو الحال بعينه في العرض ومحلّه حرفاً بحرف ، مع أنّه قدس‌سره لم يلتزم بذلك فيما عدا الأخير ، ولا ينبغي الالتزام به.

فالصحيح في الاستدلال على اعتبار الاتصاف في هذا القسم اعني تركب الموضوع من العرض ومحلّه أن يقال : إنّ وجود الأعراض في أنفسها عين وجودها لموضوعاتها كما مرّ ، فهي في وجودها الخارجي لا تنفك عن وجود نسبة بينها وبين الموضوع ، لأن حقيقة وجود العرض سنخ حقيقة متقوم بالموضوع ومرتبط به ، في قبال وجود الجوهر الذي هو غني في ذاته عن القيام بالغير ، وغير متقوّم بشي‌ء آخر.

وعليه فاذا كان الموضوع مركّباً من العرض ومحلّه كقوله : أكرم زيداً العادل. فلا يخلو إمّا أن يؤخذ العرض بما هو شي‌ء في نفسه وموجود بحياله أينما تحقق ، مع إلغاء جهة النسبة والنعتية لمحلّه ، ومن غير تقيده بموضوع خاص. وإمّا أن يؤخذ مع لحاظ الانتساب والاتصاف ، وبما أنّه نعت لموضوع خاص وعرض قائم بمحلّ مخصوص.

لا سبيل إلى الأول ، إذ لازمه ترتيب الأثر على مطلق وجوده الساري ولو في غير هذا الموضوع ، فيجب إكرام مطلق العادل ولو لم يكن زيداً. وهذا خارج عن محل الكلام ، إذ هو خلف فرض التركّب من العرض ومحلّه كما هو ظاهر.

فلا مناص إلا من أخذه على النحو الثاني كي لا يترتب الحكم إلا على خصوص وجوده في ذلك الموضوع الخاص ، ولا معنى لذلك إلا أخذه ناعتاً وعلى سبيل مفاد كان الناقصة ، أي لحاظ اتصاف المحلّ به ، لما عرفت من أنّ‌

٢٥٧

وجود العرض في نفسه عين وجوده لموضوعه ، فاعتبار وجود العدالة في خصوص زيد مثلاً هو بعينه ثبوت العدالة لزيد ، وهو عبارة أُخرى عن اتصاف زيد بالعدالة ، فإنّه معنى النعتية كما لا يخفى.

وعليه فاذا كان الوجود النعتي أعني الاتصاف المزبور بنفسه مسبوقاً بالحالة السابقة فكنّا سابقاً على يقين باتصاف زيد بالعدالة جرى فيه الاستصحاب ، والتأم الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل ، وإلا فاستصحاب مجرد العدالة بمفاد كان التامة وبوجودها المحمولي لا يجدي في إثبات الاتصاف والوجود الناعتي ، كي يحرز معه الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل إلا على القول بالأصل المثبت.

ومن هنا كان استصحاب العدم المحمولي في باب الأعدام والملكات غير مجدٍ في إثبات العدم النعتي ، أعني الاتصاف بالعدم الذي هو معنى عدم الملكة حيث إنّ العدم المضاف إلى الملكة له حظ من الوجود وهو الاتصاف بالعدم في قبال تقابل السلب والإيجاب فيما إذا كان الأثر مترتباً على ذاك العدم. فلو كان زيد الأعمى مثلاً موضوعاً للحكم ، وشك في زوال عماه ، فان كان بوصف كونه أعمى مسبوقاً بالحالة السابقة جرى استصحاب العدم النعتي ورتّب الأثر بضم الوجدان إلى الأصل ، وإلا فاستصحاب عدم اتصافه بالبصر الثابت أزلاً بنحو السالبة بانتفاء الموضوع لا يجدي في إثبات الاتصاف بعدم البصر الذي هو معنى العمى.

وكذا لو كان هناك أثر مترتب على عنوان الكافر وشك في إسلام زيد وكفره ، فاستصحاب عدم الإسلام أزلاً أو قبل البلوغ لا يثبت الاتصاف بعدم الإسلام الذي هو معنى الكفر ، إذ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، فانّ الكفر هو الاتصاف بعدم الإسلام (١) عمّن من شأنه ذلك لا مجرد عدم الإسلام. وكذا الحال في استصحاب عدم العلم أو عدم الغنى ، فإنّه لا يثبت بهما عنوان الجهل‌

__________________

(١) [ وفي الأصل : هو عدم الاتصاف بالإسلام. والصحيح ما أثبتناه ].

٢٥٨

أو الفقر الذي هو عبارة عن الاتصاف بعدم العلم أو بعدم الغنى لا مجرد العدم ، وغير ذلك من سائر موارد الأعدام والملكات.

الجهة الثانية : لا ريب أنّ المفاهيم المأخوذة في لسان الدليل موضوعاً للحكم أو متعلقاً له لا يراد بها المفهوم من حيث إنّه مفهوم ، بل بما أنّه معرّف للوجودات الخاصة ومشير إلى الأفراد الخارجية ، من دون فرق في ذلك بين الجمل الإنشائية كقول : يجب الحج على المستطيع ، أو أكرم العالم ، أو الخبرية كقولنا : كلّ زوج ينقسم إلى متساويين ، ونحو ذلك. فانّ المفهوم بما هو كذلك غير قابل للحكم عليه [ إلاّ ] بماله تعلّق بالوجود الخارجي كما هو ظاهر.

وعليه فامّا أن يؤخذ المفهوم في مقام الثبوت على نحو يسري إلى جميع الأفراد وبنحو الطبيعة السارية ، مع إلغاء كلّ خصوصية يمكن انقسام الطبيعة بلحاظها إلى قسمين ككون العالم فاسقاً أو عادلاً ، والمستطيع حراً أو عبداً ونحو ذلك من المشخّصات الفردية ، فيجعل الحكم حينئذ على سبيل الإطلاق. أو يؤخذ المفهوم معرّفاً إلى حصة خاصة وصنف مخصوص ، فتلاحظ الطبيعة على نحو تسري إلى بعض الأفراد دون بعض ، فلا بدّ من التقييد حينئذ وجعل الحكم على نحو لا ينطبق إلا على خصوص ذلك البعض.

وبالجملة : فالحكم المجعول في مقام الثبوت لا يخلو عن أحد هذين القسمين ، فامّا أن يكون الموضوع فيه مطلقاً أو مقيداً بصنف خاص وعنوان مخصوص ، ولا ثالث لهما ، لوضوح استحالة الإهمال في الواقعيات ، ضرورة أنّ المولى الحكيم والحاكم الملتفت إلى الجهات التي لا تخفى عليه إمّا أن يرى دخل خصوصية في موضوع حكمه أو يرى عدم الدخل ، ويستحيل في حقه الشك والجهل. فعلى الأول لا بدّ من التقييد ، وعلى الثاني لا مناص من الإطلاق.

نعم ، في مقام الإثبات قد لا يرى مصلحة في البيان ، أو يرى مفسدة فيه فيظهر الحكم مهملاً من دون تعرّض لأحد النحوين ، وهذا لا مانع منه كما لا يخفى. فبينهما واسطة هو الإهمال في مقام الإثبات دون الثبوت. ومن هنا ذكرنا‌

٢٥٩

في محلّه أن التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة في مقام الإثبات ، والتضاد في مقام الثبوت وتمام الكلام في محلّه (١).

الجهة الثالثة : لا يخفى أنّ التخصيص بالمتصل كالاستثناء ونحوه يصادم ظهور العام ، فلا ينعقد الظهور من أول الأمر إلا في غير الخاص وأنّ المراد الاستعمالي هو ذلك. وهذا بخلاف التخصيص بالمنفصل ، فإنّه لا يصادم الظهور إذ هو قد انعقد ووقع ، والشي‌ء لا ينقلب عمّا وقع عليه ، بعد أن لم يكن الكلام محفوفاً بما يصلح للقرينية ، إلا أنّه مصادم لحجيته ، بمعنى أنّه كاشف عن تضييق دائرة المراد الجدي واختصاصه بغير مورد التخصيص. فقوله : لا يجب إكرام العالم الفاسق ، الوارد بعد قوله : أكرم العلماء. يكشف عن تقيّد موضوع الوجوب في العموم بحسب الواقع والإرادة الجدّية بغير الفاسق ، وأنّه معنون بهذا العنوان لا محالة ، لما عرفت في المقدمة الثانية من أنّ موضوع الحكم في مقام الثبوت لا مناص عن كونه مطلقاً أو مقيداً بقيد وجودي أو عدمي ولا يعقل فيه الإهمال ، وبعد ورود التخصيص يقطع بعدم مطابقة المراد الاستعمالي مع المراد الجدي وأنّ العموم غير مراد واقعاً. فلا مناص من تقيّد موضوع الحكم وتعنونه بالعالم الذي لا يكون فاسقاً.

ومن الغريب غفلة بعض الأساطين قدس‌سره عن ذلك وزعمه أنّ حال التخصيص بالمنفصل حال موت بعض الأفراد ، فكما أنّ موت الفرد خروج تكويني له عن تحت العام فيختص الحكم لا محالة بما عداه ، من دون تعنون العام بذلك ولا تقيّده بغيره ، فكذلك التخصيص خروج تشريعي للخاص عن تحت العموم من دون أن يتعنون العام ويتقيد بما عداه ، بل الحكم لا يشمل غير مورد التخصيص قهراً.

وأنت خبير بما في كلامه قدس‌سره من الخلط الواضح بين مقام الجعل ومقام الانطباق والفعلية ، فانّ الحكم في مقام الجعل يتعلق بالموضوع المقدّر‌

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ١٧٢ مبحث التعبّدي والتوصلي.

٢٦٠