موسوعة الإمام الخوئي - ج ١٢

الشيخ مرتضى البروجردي

لكان لاستفادة الشرطية مجال واسع ، من جهة تعليق الصحة في طبيعي الصلاة على قيد وجودي ، لكن المذكور في الموثق هكذا : « لا تقبل تلك الصلاة ... » إلخ مع أداة الإشارة. فلا بدّ من تعيين المشار إليه بعد امتناع أن يكون المراد به خصوص الصلاة الشخصية الخارجية الواقعة فيما لا يؤكل ، لعدم قبولها للصحة حتى لو أعادها فيما يؤكل ، فانّ الصحيح حينئذ هي الصلاة المعادة الثانية دون الأُولى. فهي بوصف وقوعها الخارجي غير صالحة للقبول أبداً ، ولا يمكن تصحيحها بوجه ، إذ الشي‌ء لا ينقلب عما هو عليه ، سواء أتى بصلاة أُخرى صحيحة أم لا ، مع أنّ صريح الموثّق تعليق الصحة في تلك الصلاة بإتيانها فيما يؤكل. وعليه فيتردد المشار إليه بين أُمور :

أحدها : أن تكون الأداة إشارة إلى طبيعي الصلاة على إطلاقها.

الثاني : أن تكون إشارة إلى نوع من طبيعة الصلاة الذي وقع فرد منه فاسداً ، فتلاحظ الصلاة الواقعة فيما لا يؤكل أنّها صلاة صبح أو ظهر أو عصر أو آيات ونحو ذلك من أنواع الصلاة التي فرض وقوع فرد منها خارجاً على صفة الفساد أي فيما لا يؤكل فتكون الأداة إشارة إلى ذلك النوع أو الصنف.

الثالث : أن تكون إشارة إلى شخص الصلاة الواقعة فيما لا يؤكل ، لكن لا بما أنّها شخص خارجي ، لاستحالته بهذا المعنى كما عرفت ، بل بما أنّها واقعة في الحيواني بإلغاء الخصوصية الشخصية وتجريدها عن كونها واقعة فيما لا يؤكل بخصوصه.

لا ريب في استفادة الشرطية على المعنيين الأوّلين بالتقريب المتقدم ، فانّ وجود الإشارة وعدمها حينئذ على حدّ سواء كما لا يخفى.

وأمّا على الاحتمال الثالث فلا ظهور لها في الشرطية أبداً ، ضرورة أن الصلاة في الحيواني تنقسم إلى قسمين : مأكول اللحم وغير المأكول ، ولا ثالث لهما وبعد الحكم في الصدر بمانعية غير المأكول وبطلان الصلاة من جهة الاقتران بالمانع فلا محالة تكون الصحة والقبولية منوطة بالوقوع في المأكول ، لكن لا بما هو كذلك ، بل فراراً عن المانع ، ففرض الفساد في القسم الأول استناداً إلى‌

٢٢١

وجود المانع يستلزم تعليق الصحة على الوقوع في القسم الثاني بعد حصر التقسيم فيهما. فهذه الفقرة مؤكّدة لما هو المستفاد من الفقرة الأُولى وبيان لما هو المفهوم منها ، من دون أن تتضمن تأسيس حكم جديد كما هو ظاهر.

وغير خفي أنّ الاحتمال الثالث هو الأقرب إلى الإشارة ، إذ تجريد المشار إليه المذكور في الكلام عن كلّ خصوصية وحمله على الطبيعة المطلقة أو خصوص نوع منها بلا مقتض ، والضرورات تقدّر بقدرها ، والمقدار اللازم تجريده عن الخصوصية الشخصية الخارجية الواقعة فيما لا يؤكل ، لامتناع الإشارة إليه كما عرفت ، فتلغى هذه الخصوصية فقط ، ويتحفظ على ما عداها التي منها خصوصية وقوعها في الحيواني المفروض في السؤال ، بل إنّ حصر الصحة فيما إذا وقعت في المحلل الذي تضمنه الذيل يقتضي ذلك ، وإلا فيمكن فرض الصحة فيما إذا وقعت في اللباس المتخذ من النبات فلا يكون الحصر حاصراً كما لا يخفى.

وعليه فلا دلالة في الذيل على الشرطية أصلاً حتى يعارض به الصدر فيورث الإجمال من جهة تصادم الظهورين ، بل هي صدراً وذيلاً ظاهرة في المانعية كما عرفت.

ويؤكّد ما ذكرناه ويشهد له قوله عليه‌السلام في آخر الموثق : « وإن كان غير ذلك مما قد نهيت عن أكله وحرم عليك أكله فالصلاة في كلّ شي‌ء منه فاسد ... » إلخ (١) فإنّ إسناد الفساد إلى الوقوع فيما نهى الله عنه وحرّم أكله الذي هو بمعنى الزجر عن الفعل واعتبار عدم صدوره من المكلف كالصريح في المانعية كما لا يخفى. فيكون ذلك قرينة على أنّ الجواز المعلّق على كون الحيوان محلّل الأكل في قوله عليه‌السلام قبل ذلك : « فان كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكلّ شي‌ء منه جائز » (٢) إنّما هو من جهة فقد المانع لا شرطية الوقوع في محلل الأكل.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٤٥ / أبواب لباس المصلي ب ٢ ح ١.

(٢) الوسائل ٤ : ٣٤٥ / أبواب لباس المصلي ب ٢ ح ١.

٢٢٢

ومنها : أي من الأمور التي استفيد منها الشرطية رواية علي بن أبي حمزة قال : « سألت أبا عبد الله وأبا الحسن عليهما‌السلام عن لباس الفراء والصلاة فيها ، فقال : لا تصلّ فيها إلا ما كان منه ذكيا ، قلت : أو ليس الذكي ما ذكي بالحديد؟ قال : بلى إذا كان مما يؤكل لحمه ... » إلخ (١).

فانّ قوله عليه‌السلام : « إذا كان مما يؤكل » ليس قيداً لحصول التذكية ضرورة ورودها على غير المأكول أيضاً فتفيد الطهارة وإن لم تؤثر في جواز الصلاة ، بل هو قيد للصلاة المذكورة في الصدر ، فكأنّه يعتبر فيها أمران : أحدهما وقوعها في المذكى إذا كان الملبوس أو المحمول حيوانياً. الثاني : وقوعها في مأكول اللحم.

وإن شئت فقل : يعتبر في الصلاة تذكية خاصة ، وهي الواردة على محلّل الأكل ، فيكون ذلك شرطاً في الصحة ، ومع عدمه يستند الفساد إلى فقد الشرط لا وجود المانع.

وفيه : مضافاً إلى ضعف سندها بالعلوي والديلمي ، بل وكذا علي بن أبي حمزة على الأصح ، أنّها قاصرة الدلالة على الشرطية ، إذ بعد فرض وقوع الصلاة في الحيواني كما هو مورد السؤال وانقسامه إلى محلل الأكل ومحرّمه ، واستظهار مانعية المحرم من الموثق المتقدم كما عرفت فلا محالة تكون الصحة منوطة بالوقوع في محلّل الأكل ، لكن لا لاعتباره بما هو ، بل تخلّصاً عن المانع. فالموثق المتقدم قرينة على المراد من هذه الرواية ، وبعد الجمع بينهما وضمّ إحداهما إلى الأُخرى لا يبقى ظهور لهذه في الشرطية كما لا يخفى.

ويشهد لذلك قوله عليه‌السلام في ذيل هذه الرواية قال : « لا بأس بالسنجاب فإنّه دابة لا تأكل اللحم ، وليس هو مما نهى عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ نهى عن كلّ ذي ناب ومخلب » فانّ قوله عليه‌السلام : « وليس هو مما نهى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله » كالصريح في أنّ الاعتبار إنّما هو‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٤٨ / أبواب لباس المصلي ب ٣ ح ٣.

٢٢٣

بالنهي الذي هو منشأ انتزاع المانعية. فيكون ذلك قرينة أُخرى على المراد من الصدر.

ومنها : ما رواه الحسن بن علي بن شعبة في تحف العقول عن الصادق عليه‌السلام في حديث قال : « وكلّ ما أنبتت الأرض فلا بأس بلبسه والصلاة فيه ، وكلّ شي‌ء يحلّ لحمه فلا بأس بلبس جلده الذكي منه وصوفه وشعره ووبره » (١).

ولا يخفى ما فيه من ضعف السند أولاً ، لاشتمال تحف العقول بأجمعه على المراسيل وإن كان مؤلفه جليل القدر كما تعرضنا له في بحث المكاسب (٢).

وقصور الدلالة ثانياً ، إذ مضافاً إلى إناطة اللبس فيها بحلية اللحم دون الصلاة التي هي محل البحث ، أنّه على تقدير التسليم فغاية ما يدل عليه جواز الصلاة وعدم البأس بها عند وقوعها في محلل الأكل ، وهذا بنفسه مما لا كلام فيه ، قلنا بالشرطية أم المانعية ، إنّما الكلام في العقد السلبي أعني ما إذا لم تقع في محلل الأكل فوقعت في محرمه فهل البطلان حينئذ مستند إلى فقدان الشرط أم وجود المانع ، ومن الواضح أنّ الرواية أجنبية عن التعرض لهذه الجهة بالكلّية.

فتحصّل من جميع ما مرّ : أنّ روايات الباب بأجمعها لا يستفاد منها إلا المانعية ، وأما الشرطية فلا تكاد تستفاد من شي‌ء منها.

الجهة السادسة : بناءً على ما هو المعروف من التفصيل بين الشرطية والمانعية في الرجوع لدى الشك في كون اللباس مأخوذاً من محلّل الأكل أو محرّمة إلى الاشتغال في الأوّل والبراءة في الثاني كما سيجي‌ء البحث حوله مفصّلاً إن شاء الله تعالى. فاذا اتضح كلّ من الأمرين فبنينا على الشرطية أو على المانعية كما هو المختار فلا كلام. وأما إذا لم يتضح شي‌ء منهما وقلنا بقصور الأدلّة عن‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٤٧ / أبواب لباس المصلي ب ٢ ح ٨ ، تحف العقول : ٣٣٨.

(٢) مصباح الفقاهة ١ : ٥.

٢٢٤

إثبات واحد منهما ، إمّا لتصادم الظهورين في صدر الموثّق وذيله كما ذكره الأُستاذ قدس‌سره (١) أو لجهة أُخرى ، فشككنا في أنّ المجعول الشرعي هل هو اعتبار الشرطية أو المانعية. وبالنتيجة تردّد أمر فساد الصلاة الواقعة في غير المأكول بين كونه من جهة وجود المانع أو فقدان الشرط فماذا يقتضيه الأصل العملي حينئذ؟ وهل الأصل الجاري في المقام هو البراءة كي توافق نتيجته المانعية ، أم الاشتغال كي تفيد فائدة الاشتراط.

ذهب المحقق النائيني قدس‌سره (٢) إلى الأول ، بدعوى أنّ اعتبار الشرطية يتضمن كلفة زائدة ، وهي لزوم إحراز الشرط عند الامتثال وعدم جواز الرجوع إلى البراءة ، بخلاف المانعية العارية عن هذه الكلفة ، فحيث إنّ أحد الجعلين يتضمن ضيقاً لا يقتضيه الآخر وهو مشكوك فيدفع بأصالة البراءة. فبحسب النتيجة يعامل مع المشكوك معاملة المانعية كما لو كانت محرزة.

لكن المناقشة فيما أفاده قدس‌سره واضحة جدّاً ، ضرورة أنّ نفس المانعية والشرطية المجعولين لو لوحظ كل واحد منهما بحياله فهو بنفسه يتضمّن الكلفة والضيق لا محالة ، إذ اعتبار كلّ منهما قيد مأخوذ في المأمور به وجوداً أو عدماً ، والتقييد خلاف الإطلاق المتضمن للتوسعة والتسهيل ، فلا يختص التضيق في مقام الجعل والتشريع بأحدهما دون الآخر ، بل هما من هذه الجهة على حدّ سواء ، وعليه فلو لوحظ الشك في كلّ واحد منهما مستقلا مع قطع النظر عن الآخر فهو مورد للأصل.

وأمّا بعد العلم الإجمالي بصدور واحد منهما كما هو المفروض في المقام فالأصل في كلّ منهما معارض بالآخر ، إذ هما اعتباران متقابلان وضدان متباينان ، وليس في البين قدر متيقن يقطع به في مقام الجعل والتشريع كي يشك في الزائد على المقدار المعلوم حتى يدفع بالأصل ، كما هو الحال في الأقل والأكثر‌

__________________

(١) رسالة الصلاة في المشكوك : ١٥٠.

(٢) [ لم نعثر عليه في مظان وجوده ].

٢٢٥

الارتباطيين ، نعم يختص أحدهما بخصوصية يمتاز بها عن الآخر ، وهي حكم العقل بلزوم الإحراز في مقام الامتثال وعدم جواز الرجوع إلى البراءة بناءً على الشرطية دون المانعية ، إلا أنّ هذه الخصوصية أجنبية عن مقام التشريع وغير ملحوظة في مقام الجعل أبداً ، بل هي كما عرفت من الآثار المترتبة عليه بحكم العقل ومن شؤون هذا النوع من الاعتبار والجعل ، وحيثياته العقلية ، ولا مساس له بالشارع بوجه ، فهذه الكلفة عقلية محضة ، ومن الواضح عدم كون الأحكام العقلية مورداً للأُصول العملية لا الشرعية ولا العقلية كما لا يخفى.

وبالجملة : إن أُريد نفي أصل اعتبار الشرطية بالأصل فهو معارض بجريانه في اعتبار المانعية بعد فرض العلم الإجمالي بصدور أحدهما ، وإن أُريد نفي الأثر المترتب عليه من لزوم الإحراز لدى الشك فهو حكم عقلي لا يكاد يرتفع بالأصل.

وممّا ذكرنا تعرف أنّ مقتضى الأصل حينئذ هو الاشتغال ، إذ الرجوع إلى البراءة الشرعية أو العقلية موقوف على إحراز كون المورد من الشك في التكليف ، كما إذا ثبتت المانعية. وأمّا مع احتمال الشرطية كما هو المفروض فيحتمل أن يكون الشك عائداً إلى مقام الامتثال لا في أصل التكليف. ومن الواضح أنّ مجرّد احتمال أن يكون الشك من الشك في الامتثال بعينه شك في تحقق الامتثال الذي هو موضوع لقاعدة الاشتغال.

وبالجملة : ما لم تحرز المانعية لا مجال للرجوع إلى البراءة ، إذ مجرد احتمال أن يكون المجعول على سبيل الشرطية الملازم في المقام لعدم إحراز حصول المأمور به في الخارج ولو ببركة الأصل كافٍ في استقلال العقل بالرجوع إلى الاشتغال.

الجهة السابعة : بعد ما عرفت من استفادة المانعية من هذه الأخبار المتضمنة لفساد الصلاة الواقعة في أجزاء ما حرم الله أكله ، يقع الكلام حينئذ في تحديد مدلول هذه الروايات ، وما يتطرق فيها من الاحتمالات مع بيان ما هو الصحيح‌

٢٢٦

منها ، حيث إنّ المانعية تدور مدارها سعة وضيقاً فنقول :

هل المراد بما حرّم الله أكله المأخوذ في هذه الأخبار ذوات الحيوانات المحرم أكلها كالأسد والأرنب والثعلب ونحوها فيكون ذلك عنواناً مشيراً ومعرّفاً لهذا النوع من الحيوانات ، من دون أن يكون لنفس هذا العنوان دخالة وموضوعية في ثبوت الحكم ، فكأنّ لذات الحيوان كالأسد مثلاً حكمين عرضيين : أحدهما : حرمة أكله ، الثاني : عدم جواز الصلاة فيه ، من دون ترتّب بينهما ، بل هما حكمان ثبتا لموضوع واحد.

أو أنّ هذا العنوان ما حرّم الله أكله مأخوذ على سبيل الموضوعية من دون أن يكون عبرة إلى الأفراد الخارجية؟ فهناك حكمان طوليان ، أحدهما موضوع للآخر ، فذات الحيوان كالأسد موضوع لحرمة الأكل ، وما حرم أكله موضوع لعدم جواز الصلاة فيه.

وعلى الثاني فهل المراد بالحرمة المترتّب عليها المانعية هي الحرمة الفعلية المنحلّة إلى الأحكام العديدة حسب اختلاف الأشخاص والحالات والطوارئ الدخيلة في فعلية الأحكام ، فلا يكون المانع إلا أجزاء الحيوان المحرّم أكله بالفعل ولو لجهة من الجهات كالضرر والغصب ونحوهما. وأما ما حلّ أكله فعلاً ولو لأجل الاضطرار ونحوه فلا بأس به.

أو المراد بها الحرمة الطبيعية المجعولة في أصل الشرع مع قطع النظر عن الطوارئ الشخصية والملابسات الخاصة المانعة عن فعلية الأحكام؟

وعلى الثاني فهل المراد بالحرمة الطبيعية الحرمة الثابتة للحيوان بعنوانه الذاتي ، أو يعم الثابتة لها بعنوان عارض كموطوء الإنسان أو الجدي الشارب لبن الخنزيرة ، فيكون موضوع المانعية كلّ حيوان محكوم بحرمة الأكل في أصل الشرع ، سواء كان التحريم لعنوانه الأصلي ولاقتضاء ذاته ذلك ، أو لأجل عروض عنوان اقتضى تحريماً طبعياً في عالم التشريع على سبيل الإطلاق؟

وعلى الثاني فهل المراد بالعنوان العارض خصوص ما لا يكون قابلاً للزوال‌

٢٢٧

كالمثالين المتقدمين ، أو يعمّ ما كان قابلاً له كالجلل الزائل بالاستبراء؟ وجوه أو أقوال ، ملخصها : أنّ المانع هل هو ذات الحيوان ، أو بعنوان محرّم الأكل بحرمة فعلية ، أو طبعية ذاتية ، أو حتى العارضة لكن بشرط عدم قبولها للزوال ، أو حتى إذا قبلت الزوال كالجلال؟ والأقوى هو الأخير ، كما يتضح وجهه من تزييف ما عداه من بقية الوجوه.

أمّا كون المانع هو الوقوع في أجزاء ذات الحيوان فهو وإن مال إليه شيخنا الأُستاذ قدس‌سره في بحثه وغيره (١) ، إلا أنّه خلاف ظواهر الأدلّة المتضمنة لعنوان ما لا يؤكل ، أو ما حرّم الله أكله ، فإنّ حمل العنوان المأخوذ في لسان الدليل على المعرفية مخالف لسياق الكلام ، لا يكاد يصار إليه من دون قرينة بل ظاهر الأخذ يعطي كون العنوان ملحوظاً على سبيل الموضوعية ما لم تقم قرينة على الخلاف المفقودة في المقام كما لا يخفى.

نعم ، لو كان المستند في الحكم رواية علي بن أبي حمزة (٢) المتضمنة للنهي عن الصلاة في كلّ ذي ناب ومخلب كان موضوع الحكم هي العناوين الذاتية أعني السباع.

إلا أنّ الرواية مضافاً إلى ضعف سندها من جهات كما تقدّم لا يمكن الأخذ بمضمونها ، للقطع بتعميم الحكم للسباع وغيرها مما لا يؤكل لحمه كما تضمنه موثّق ابن بكير وغيره. على أنّ علي بن أبي حمزة بنفسه روى رواية أُخرى بعين هذا السند تضمّن المنع عن كلّ ما لا يؤكل من السباع وغيرها (٣). فهذا الاحتمال ضعيف جدّاً.

وأمّا احتمال أن يكون الموضوع هو ما حرم أكله بالفعل فهو أضعف من سابقه من وجوه :

__________________

(١) رسالة الصلاة في المشكوك : ٣٢٠ فما بعدها.

(٢) الوسائل ٤ : ٣٤٨ / أبواب المصلي ب ٣ ح ٣ ، وقد تقدمت في ص ٢٢٣.

(٣) الوسائل ٤ : ٣٤٥ / أبواب لباس المصلي ب ٢ ح ٢ [ والظاهر أنها عين روايته الاولى كما أشار المحقّق الرباني في هامش الوسائل ].

٢٢٨

أمّا أوّلاً : فلأنّ مقتضاه اختلاف الحكم باختلاف الأشخاص ، فالثوب المنسوج من صوف المعز مثلاً لا يجوز الصلاة فيه بالإضافة إلى من حرم أكله عليه فعلاً لجهة من الجهات من الضرر أو الغصب ونحوهما ، وتجوز الصلاة فيه بعينه بالإضافة إلى غيره ممن لم يحرم عليه الأكل. بل يختلف الحكم في شخص واحد بالإضافة إلى حالاته ، فلا تجوز في الثوب المزبور في حال حرمة أكل لحمه لأجل الضرر مثلاً ، وتجوز في نفس الثوب بعد ارتفاع الضرر. بل يختلف في شخص واحد بتعدد الزمان ، فلا يجوز اللبس في نهار شهر رمضان لحرمة أكل لحم الحيوان المتخذ منه اللباس فعلاً على الصائم ، ويجوز فيه بعينه في الليل لارتفاع التحريم حينئذ. وأيضاً مقتضى ذلك جواز الصلاة في أجزاء السباع لمن اضطر إلى أكلها ، وعدم الجواز في نفس ذاك الجزء لغيره ، بل له أيضاً بعد زوال الاضطرار.

وهذا كلّه كما ترى مضافاً إلى بعده في نفسه لا يحتمل أن يلتزم به الفقيه بل كاد أن يكون مخالفاً للضرورة كما لا يخفى.

وثانياً : أنّ الحرمة الفعلية مخالفة لظواهر النصوص المتضمنة كموثق ابن بكير وغيره لتنويع الحيوان إلى محرّم الأكل ومحلله ، فانّ ظاهر إسناد الحلّية أو الحرمة إلى الحيوان أنّ الحكم بهما من جهة اقتضاء ذات الحيوان ذلك وأنّه بنفسه يكون لحمه محلّل الأكل أو محرمة ، لا من جهة العوارض الشخصية من ضرر أو اضطرار أو صوم ونحوها مما تختلف به الحلّية والحرمة الفعليتين ، فانّ ذلك خلاف ظاهر إضافة الحكم إلى الحيوان نفسه كما لا يخفى.

وثالثاً : أنّا نقطع بعدم دوران الحكم جوازاً ومنعاً مدار حلّية اللحم وحرمته فعلاً ، ضرورة أنّ اللباس قد يكون متخذاً من حيوان مذبوح قبل سنين عديدة ، أو مجلوباً من البلدان النائية بعد ذبح الحيوان في أقصى البلاد الخارجة عن محل الابتلاء عادة ، فلا يكون الحيوان حينئذ محلل الأكل ولا محرّمه لانتفاء الموضوع من أصله أو لعدم الابتلاء به ، فليس هناك خطاب فعلي أصلاً‌

٢٢٩

لا بحرمة الأكل ولا بحليته ، مع أنّ اللباس محكوم بعدم جواز الصلاة فيه إذا كان مأخوذاً من نوع خاص من الحيوانات ، وبالجواز إذا كان مأخوذاً من النوع الآخر.

فيظهر من ذلك أنّ المراد بالحرمة هي الحرمة الطبيعية ، أي ما كان طبع الحيوان في نوعه محكوماً بحرمة أكل اللحم في أصل التشريع ، سواء تمت شرائط الفعلية أم لا ، في قبال ما كان حلالاً كذلك سواء اتّصف بالحرمة الفعلية لجهة من الجهات أم لا.

وأمّا احتمال اختصاص هذه الحرمة الطبيعية بما إذا ثبتت للحيوان في حدّ ذاته وبعنوانه الأوّلي مع قطع النظر عن العوارض فلا تعمّ ما ثبتت له في أصل الشرع لكن بعنوان عارض كموطوء الإنسان ، أو الجدي الشارب لبن الخنزيرة المحرم أكله هو ونسله.

فيدفعه إطلاق الأدلة بعد صدق عنوان محرّم الأكل عليه أيضاً صدقاً حقيقياً من دون أيّة عناية ومسامحة ، فيصدق على الموطوء وشارب اللبن أنّه مما حرم الله أكله في الشريعة المقدسة على حدّ صدقه على الأسد والأرنب ونحوهما من المحرّمات الذاتية ، فإنّ كون جهة الحرمة ذاتية أم عرضية أي كونها لأجل الوصف العنواني القائم بالذات أم لأمر خارج عن مقام الذات عارض عليه بعد كونها على التقديرين مجعولة في أصل الشريعة المقدسة لطبيعة الحيوان على الإطلاق ، وعلى سبيل القضية الحقيقية غير فارق في صدق عنوان محرم الأكل المأخوذ في لسان الأدلّة موضوعاً للحكم صدقاً حقيقياً وحمله عليه حملاً شائعاً كما لا يخفى. فتخصيص الحكم بالأوّل مخالف لإطلاق الأدلّة.

وهل يتعدّى عن العنوان الذاتي إلى مطلق العناوين العرضية ، أو إلى خصوص ما لا يكون منها قابلاً للزوال كالمثالين المتقدّمين دون ما كان قابلاً له كالجلل الزائل بالاستبراء؟

٢٣٠

ذهب شيخنا الأُستاذ قدس‌سره (١) إلى الثاني ، ولا نعرف له وجهاً ، فانّ قبول العنوان للزوال وعدمه أجنبي عن الصدق المزبور الذي هو المناط في شمول الإطلاق ، فإنّه إمّا أن يقتصر على العنوان الذاتي بدعوى قصور الأدلّة عن الشمول للعرضي فينبغي أن لا يتعدى حتى إلى العارضي غير القابل للزوال ، مع أنّه قدس‌سره سلّم التعدي إليه ، واعترف بشمول الأدلّة له.

وإمّا أن يتعدّى إلى العارضي لعدم قصور الإطلاق كما هو الصحيح فلا فرق إذن بين ما لم يقبل الزوال وما قبله كالجلال. فالتخصيص بالأول بلا موجب بعد عدم دخل قابلية الزوال وعدمه في الصدق المزبور.

ومن الغريب قياسه قدس‌سره الجلل بالاضطرار ، فكما أنّ الاضطرار إلى أكل لحوم السباع مثلاً لا يجوّز الصلاة في أجزائها لقبوله للزوال فكذلك الجلاّل لعين الملاك.

وأنت خبير بما بينهما من الفرق الواضح ، ضرورة أنّ الاضطرار إلى أكل لحم الأسد مثلاً الموجب لحلّية الأكل بالإضافة إلى خصوص المضطر إليه لا يوجب تغييراً في أصل التشريع ، ولا يقتضي تبدّلاً في الحكم الواقعي بالنسبة إلى عامة المكلفين بحيث يصدق على اللحم المزبور أنّه مما أحلّ الله أكله في الشريعة المقدسة كما أحلّ لحم الغنم ونحوه.

وهذا بخلاف الجلال ، فانّ ذات لحم الحيوان المتصف بالجلل حرم على كلّ أحد كلحم الأسد ، ويصدق عليه حقيقة أنّه مما حرم الله أكله في الشريعة المقدّسة على عامّة المكلفين كما حرّم لحم السباع ونحوها مما لا يؤكل لحمه. فهما وإن اشتركا في قبول الزوال إلا أنّ الجلال يمتاز بخصوصية بها تندرج تحت الإطلاق دون الاضطرار ، فقياس أحدهما بالآخر قياس مع الفارق الواضح كما هو ظاهر.

__________________

(١) رسالة الصلاة في المشكوك : ٩٦.

٢٣١

وببالي أنّه قدس‌سره حكم بنجاسة بول الجلال أخذاً بإطلاق قوله عليه‌السلام : « اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه » (١) الشامل للعنوان الأصلي والعرضي. فتسليم التعميم هناك دون المقام مع أنّ الموضوع فيهما شي‌ء واحد وهو عنوان ما لا يؤكل ، الذي رتّب عليه نجاسة البول وعدم جواز الصلاة فيه غير ظاهر الوجه.

الجهة الثامنة : ذكر بعضهم أنّه يختلف جريان الأُصول باختلاف كيفية اعتبار المانعية من حيث تعلّقها بالصلاة أو اللباس أو المصلي.

فإن كانت معتبرة في الصلاة نفسها ، بأن اعتبر فيها أن لا تقع في غير المأكول من دون إضافة إلى المصلّي أو اللباس ، فينبغي حينئذ التفصيل بين ما لو كان المشكوك فيه مصاحباً مع المصلّي عند مفتتح الصلاة ، وما لو طرأ عليه في الأثناء. فيحكم بالصحة في الثاني ، للشك في عروض المانع بعد أن كانت الصلاة خالية عنه ، فتستصحب الصحة ويدفع المانع المشكوك حدوثه بالأصل. وبالبطلان في الأول ، لعدم الحالة السابقة ، إذ الصلاة من أوّل حدوثها يشك في صحتها وفسادها ، لاحتمال اقترانها بالمانع من أول الأمر ، فيحكم بالبطلان لقاعدة الاشتغال.

وإن كانت معتبرة في اللباس فهي محكومة بالفساد في كلتا الصورتين ، إذ لا أصل يتضح به حال اللباس من حيث اتخاذه من محلّل الأكل أو محرّمة ، بل هو من حين وجوده يشك في اتصافه بكونه جزءاً لما يؤكل أو ما لا يؤكل ، فسواء طرأ لبسه أثناء الصلاة أم لبسه قبل الشروع فيها يحتمل اقتران الصلاة بالمانع من دون أن يكون له أصل دافع.

وإن كانت معتبرة في المصلي يحكم بصحة الصلاة حينئذ على التقديرين ، إذ المصلي قبل أن يلبس المشكوك لم يكن لابساً لما لا يؤكل يقيناً فيستصحب عدمه إلى ما بعد اللبس ، وبه يحرز انتفاء المانع المستلزم لصحة الصلاة.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٠٥ / أبواب النجاسات ب ٨ ح ٢.

٢٣٢

ونحن الآن لسنا بصدد التعرّض لهذه التفريعات ، إذ سيجي‌ء البحث حولها عند التكلم فيما تقتضيه الأُصول العملية إن شاء الله تعالى (١). وإنّما المهم في المقام تحقيق الصغرى وأنّ المستفاد من الأدلّة أيّ من المحتملات الثلاثة المتقدمة فنقول :

لا ريب أنّ الشرطية أو المانعية إنّما تنتزعان من اعتبار تقيّد الواجب بشي‌ء وجوداً أو عدماً ، فاعتبار القيدية لا بدّ وأن تلاحظ بالإضافة إلى ذات المأمور به ، ولا يكاد يكون شي‌ء شرطاً في شي‌ء أو مانعاً عنه إلا بعد أخذه في الواجب نفسه ، وإلا فاعتباره في شي‌ء آخر خارج عن حريم المأمور به لا يستوجب الانتزاع المزبور بالضرورة. وعليه فالتقييد الاعتباري لا مناص من أن يكون ملحوظاً بالإضافة إلى نفس الصلاة ، بمعنى أنّ طرف الاعتبار ومتعلقه إنّما هو الصلاة نفسها على جميع التقادير.

والبحث المعقول في المقام إنّما هو في أنّ مركز هذا الاعتبار ومورده هل هو الصلاة نفسها أو اللباس أو المصلي ، وأنّ هذا التقييد المعتبر في الصلاة هل هو بلحاظ نفسها أو أحد الأمرين الآخرين. فهل الصلاة يعتبر فيها أن لا تقع في محرم الأكل أو تقع في غير ما لا يؤكل ، أو أنّ المعتبر فيها أن لا يكون اللباس متخذاً من غير المأكول ، أو أنّ المعتبر فيها أن لا يكون المصلي لابساً أو مصاحباً لجزء مما لا يؤكل. فالنزاع في مركز هذا الاعتبار.

والتحقيق : أنّ احتمال كون القيد ملحوظاً في ناحية اللباس ساقط جزماً ، لما عرفت في مطاوي ما تقدم عند بيان الفرق بين الجزء والشرط (٢) أنّه لا معنى لأخذ شي‌ء قيداً في الواجب وجوداً أو عدماً إلا فيما إذا كان القيد أيضاً متعلّقاً للأمر بتبع الأمر المتعلق بالمركّب ، لكون التقييد به مأخوذاً في الواجب وإن كان ذات القيد خارجاً عنه ، في قبال الجزء الذي هو داخل قيداً وتقيداً. ومن هنا‌

__________________

(١) في ص ٢٣٩ فما بعدها.

(٢) في ص ٢١٦.

٢٣٣

ذكرنا أنّ شرط الواجب أو المانع عنه لا بدّ وأن يكون فعلاً اختيارياً للمكلّف كي يمكن أخذ التقييد به في الواجب.

ومن الواضح أنّ اتصاف اللباس أو المحمول بكونه مأخوذاً من المأكول أو من غيره أمر واقعي خارج عن اختيار المكلّف ، إذ ليس هو فعلاً من أفعاله بل صفة خارجية قائمة بالغير تابعة لأسبابها ، فلا يعقل تعلق التكليف به وجوداً أو عدماً حتى يكون قيداً في المأمور به.

وما يتراءى في كلمات الفقهاء من إطلاق الشرط عليه فيقال إنّ من شرائط اللباس أن لا يكون من غير المأكول فهو مسامحة في التعبير ، حيث أُسند ما هو شرط في الصلاة أو المصلي إلى اللباس لما بينهما من نوع من الملازمة كما لا يخفى.

وعليه فالأمر دائر بين أن يكون التقييد معتبراً في ناحية الصلاة أو المصلي دون اللباس. فالمحتملات ثنائية لا ثلاثية.

وحينئذ نقول : ظاهر قوله عليه‌السلام في موثق سماعة : « ولا تلبسوا منها شيئاً تصلّون فيه » (١) اعتبار القيدية في ناحية المصلّي ، حيث تعلّق النهي المنتزع منه المانعية به ، وليس بإزائه ما ينافي هذا الظهور سوى قوله عليه‌السلام في موثق ابن بكير : « فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكلّ شي‌ء منه فاسدة ، لا تقبل تلك الصلاة ... » إلخ (٢) فإنّها ظاهرة في الجملة في اعتبار القيد في ناحية الصلاة نفسها ، من جهة إسناد الفساد إليها.

لكن دقيق النظر يقضي بعدم المنافاة ، وأنّ هذه أيضاً ظاهرة في رجوع القيد إلى المصلّي كما في موثقة سماعة ، نظراً إلى أن لبس ما لا يؤكل فعل من أفعال المكلف كنفس الصلاة ، ولا معنى لأن يكون أحد الفعلين ظرفاً للفعل الآخر سواء أُريد به ظرف الزمان أو المكان ، فلا معنى لكون لبس الوبر ظرفاً للصلاة‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٥٣ / أبواب لباس المصلي ب ٥ ح ٣.

(٢) الوسائل ٤ : ٣٤٥ / أبواب لباس المصلي ب ٢ ح ١.

٢٣٤

إلا بعناية توسيط المصلّي نفسه ، حيث إنّ اللباس الذي هو شرط في الصلاة ولو في الجملة لمّا كان محيطاً بالمصلّي بوصفه العنواني فكأنّ الصلاة أيضاً بنفسها وقعت فيه ، وإلا فمع الغضّ عن هذا التوسيط لا مصحح لإطلاق الظرفية ، إذ لا علاقة ولا ارتباط بينهما بوجه. فالإسناد أولاً وبالذات إلى المصلّي وبعنايته يسند إلى الصلاة تجوزاً وتوسعاً في الإطلاق. ونتيجة ذلك أنّ مركز التقييد هو المصلّي نفسه ، كما هو مفاد موثقة سماعة ومآل موثقة ابن بكير حسبما عرفت.

هذا تمام الكلام في الأُمور التي ينبغي تقديمها أمام المقصود. وحيث أحطت بها خبراً فهذا أوان الخوض فيه والبحث عن أصل المسألة فنقول والعون منه مأمول :

يقع الكلام تارة بالنظر إلى الأدلّة الاجتهادية ، وأُخرى فيما تقتضيه الأُصول العملية بعد فقد تلك الأدلّة ، فهنا مقامان :

أمّا المقام الأول : فقد استدلّ لجواز الصلاة في اللباس المشكوك بوجوه :

أحدها : ما عن المحقق القمي من انصراف النصوص المانعة عن الصلاة فيما لا يؤكل إلى صورة العلم ، فالمشكوك غير مشمول للدليل من أصله. ومقتضى ذلك صحة الصلاة الواقعة فيه حتى واقعاً ، إذ الإحراز جزء من موضوع الفساد ، وهو منفي على الفرض ، فلا مجال للقول بأنّ المانع موجود غير أنّ المصلي جاهل به.

ومن ثم بنى قدس‌سره في أجوبة مسائله على أنّ صحة الصلاة في المشكوك صحة واقعية (١).

وفيه : أنّ هذه الدعوى مع أنّه لا قائل بها دون إثباتها خرط القتاد ضرورة أنّ الألفاظ موضوعة لمعانيها الواقعية دون المعلومة المحرزة. فالانصراف المدعى في المقام مما لا أساس له بتاتاً.

__________________

(١) جامع الشتات ٢ : ٧٧٦ السطر ٢٦.

٢٣٥

ثانيها : أنّ مقتضى العمومات أو الإطلاقات جواز الصلاة في كلّ ساتر خرجنا عنها فيما لا يؤكل بالدليل المخصص ، لكون حجيته أقوى من حجية العام ، وحيث إنّ هذه الحجية خاصة بالأفراد المعلومة ، لتقوّم تنجّزها بالوصول صغرى وكبرى ، فيرجع في المشكوكة أعني الشبهات المصداقية للمخصص إلى العمومات ، إذ لم تقترن فيها بحجة أقوى لترفع اليد عنها.

ويندفع : بما سبق في مطاوي المقدمات من أنّ المخصص المنفصل وإن لم يصادم ظهور العام لكنه يصادم حجيته ، ويكشف عن تضيق دائرة الإرادة الجدية وعدم شمولها لمورد التخصيص. وعليه فالفرد المشكوك حيث لم يعلم اندراجه في المراد الجدي من العام لم يكن مجال للتمسك به.

وبعبارة اخرى : الدليل المخصص وإن لم يكن حجة إلا بعد الوصول كبرى وصغرى كما أُفيد إلا أنّ من الواضح تقييد العام بعد ورود التخصيص عليه بغير مورد الخاص ، لامتناع الجمع بين التوسعة والتضيق والإطلاق والتقييد فهو خارج عن تحت الإرادة الجدية منه. وعليه فالفرد المشكوك وإن لم يعلم دخوله في المخصص لكنّه لم يعلم دخوله في العام أيضاً بما هو حجة ، وإن كان داخلاً فيه بحسب المراد الاستعمالي ، فكما يشك في شمول المخصص له يشك في شمول العام أيضاً ، فلا يصح التمسك به.

على أنّه ليس لدينا عموم أو إطلاق يدلّ على جواز الصلاة في كلّ ساتر ليرجع إليه في الفرد المشكوك كما لا يخفى.

ثالثها : ما يظهر من كلمات المحقق القمي (١) وتمسك به بعضهم من أنّ المانعية في المقام منتزعة من النهي الوارد في موثقة سماعة « ... ولا تلبسوا منها شيئاً تصلّون فيه » (٢) ومن المعلوم أنّ فعلية النواهي كالأوامر متقوّمة بالوصول كبرى وصغرى ، لتصلح للزجر والبعث ، وحيث لا وصول في المشكوك فلا فعلية. فلا‌

__________________

(١) لم نعثر عليه.

(٢) الوسائل ٤ : ٣٥٣ / أبواب لباس المصلي ب ٥ ح ٣.

٢٣٦

يقاس ذلك بمثل لا صلاة إلا إلى القبلة ، أو بطهور ، أو بفاتحة الكتاب ، ونحوه مما لا يكون بلسان النهي. وإنّما هو إرشاد بحت ، فانّ العبرة ثمة بالواقع لا بالواصل ، وبذلك يفترق أحدهما عن الآخر.

وفيه أولاً : أنّ دليل المانعية في المقام غير منحصر فيما ذكر ، بل العمدة موثقة ابن بكير ، والمانعية فيها غير مستفادة من النهي ، بل من التصريح بالفساد حيث قال عليه‌السلام : « إنّ الصلاة في وبر كلّ شي‌ء حرام أكله ... فاسد » وهكذا في ذيلها. فعلى تقدير تسليم الكبرى فالصغرى ممنوعة في المقام.

وثانياً : مع الغض عن هذه الموثقة وتسليم انحصار الدليل بما تضمّن النهي فما ذكره من اعتبار الوصول إنّما يتجه في النواهي أو الأوامر المولوية النفسية الحاوية للتكاليف الاستقلالية ، والصالحة للبعث أو الزجر ، دون مثل المقام مما هو إرشاد إلى المانعية أو أحد أخويها ، الذي هو بمثابة الإخبار عن أمر واقعي وهو الدخل في المأمور به وجوداً أو عدماً ، علم به المكلّف أو لا ، ضرورة أنّ مثله لا يتضمن بعثاً أو زجراً ليتوهم إناطتها به.

وما قرع سمعك من انتزاع المانعية أو الشرطية من التكليف فلا يراد به هذا النهي المتعلّق بذات المانع ، بل المراد الانتزاع من تقيّد التكليف المتعلق بالمركب بالقيد العدمي أو الوجودي كما لا يخفى.

وثالثاً : لا نسلّم اعتبار الوصول في الفعلية حتى في التكاليف النفسية إلا إذا لوحظ العلم جزءاً من الموضوع ، وإلا ففعليتها بفعلية موضوعاتها ، علم بها المكلف أم لا ، فمتى كان الموضوع فعلياً أصبح الحكم فعلياً أيضاً بتبعه ، بل لا يمكن تخلّفه عنه ، فإنّه كتخلّف المعلول عن علته.

نعم ، تنجّزه منوط بالوصول ، وبدونه يكون معذوراً ، فلا تنجّز مع الجهل لا أنّه لا فعلية. ومن ثم يكون الاحتياط وقتئذ حسناً ، لما فيه من المحافظة على الواقع ، إمّا لزوماً كما في موارد العلم الإجمالي ، أو استحباباً كما في الشبهات البدوية ، فإنّه لولا الفعلية لم يكن ثمة واقع لتحسن المحافظة عليه. فالخلط بين الفعلية والتنجّز أوجب الوقوع في الاشتباه.

٢٣٧

وبالجملة : فاعتبار الوصول في فعلية الحكم غير سديد وإن أصرّ عليه صاحب الكفاية في مبحث اجتماع الأمر والنهي (١) ولأجله صحح الصلاة في المغصوب لدى الجهل ، نظراً إلى عدم فعلية الحرمة حينئذ. وأجبنا عنه بضرورة فعلية الحكم إذا كان موضوعه موجوداً بتمام قيوده ، غاية الأمر أنّه لا يتنجّز مع الجهل. وتمام الكلام في محلّه (٢).

رابعها : التمسك بالروايات التي تضمنت جواز الصلاة في الخزّ الخالص غير المغشوش بوبر الأرانب (٣) بدعوى أنّ اختصاصها بمحرز الخلوص بحيث يعلم عدم نسج شي‌ء من خيوطه بوبر غيره حمل للمطلق على الفرد النادر ، فيلغو تشريع هذا الجعل. فحذراً عن اللغوية يراد بها ما يطلق عليه اسم الخزّ مما كان لبسه متعارفاً في تلك الأزمنة ، بحيث يشمل محتمل الغشية ، فاذا شمل ما احتمل فيه الغش والخلط شمل ما احتمل أن يكون اللباس بأجمعه مما لا يؤكل ، لعدم القول بالفصل بين موارد الشبهة.

وفيه أولاً : أنّ معرفة الخالص من جلد الخز كغيره من الجلود سهلة يسيرة وغير عزيزة عند أهل الخبرة ، بل هو معروف لديهم يميزونه عن غيره كما يميزون جلد الشاة عن المعز.

وأمّا الخلوص في الوبر فيمكن إحرازه بالعلم الوجداني كما لو نسج اللباس بيده ، أو التعبدي كما لو أخبره البائع الذي يثق به ، أو شخص آخر من أهل الخبرة ، أو غيرهما من حجة معتبرة. فإحراز الموضوع بعلم أو علمي كبقية الموضوعات لم يكن من الفرد النادر بحيث يمتنع حمل المطلقات عليه ، فمع استقرار الشك بحيث لم يكن ثمّة حتى أصل محرز لا مانع من أن لا تتناوله هذه المطلقات ، لما عرفت من عدم قلّة الموارد التي يمكن فيها إحراز الخلوص ولو‌

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١٥٦ الأمر العاشر.

(٢) محاضرات في أُصول الفقه ٤ : ٢٣٢ فما بعد.

(٣) ومن تلك الروايات ما روي في الوسائل ٤ : ٣٦١ / أبواب لباس المصلي ب ٩ ح ١.

٢٣٨

بحجة غير العلم.

وثانياً : مع التسليم فغايته الالتزام بتخصيص آخر في عمومات عدم جواز الصلاة فيما لا يؤكل ، فكما أنّ الخز الخالص خارج عنها فكذا ما يحتمل فيه الخلط والغش ، نظراً إلى أنّ الاقتصار على الأوّل يستوجب الحمل على الفرد النادر كما أُفيد. وحينئذ فما هو الموجب للتعدّي إلى كلّ مشكوك مما لا يؤكل فإنّا إنّما تعدينا إلى التخصيص الثاني لعلة مختصة به مفقودة في غيره ، وهي التي سمعتها من محذور اللغوية الناشئة من الندرة ، فلا يقاس غيره به. ولا أساس لدعوى عدم القول بالفصل في مثله كما لا يخفى.

وثالثاً : أنّا لو سلّمنا شمول نصوص الخزّ للخالص والمحتمل الخلط ، إلا أنّها مقيّدة بما دل على عدم جواز الصلاة في المغشوش. إذن فالتمسك بها في الفرد المشكوك يكون من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية (١) الذي هو في حيّز المنع.

فتحصّل : أنّ هذه الوجوه كلها ساقطة ، ولا سبيل للتمسك بالأدلّة الاجتهادية لتجويز الصلاة فيما يشك في كونه مما لا يؤكل لحمه.

وأمّا المقام الثاني : أعني البحث حول الأُصول العملية بعد اليأس عن الأدلّة الاجتهادية فالكلام فيه يقع تارة فيما تقتضيه الأُصول الموضوعية أي التي يتنقح بها حال الموضوع الحاكمة على الأُصول الحكمية من البراءة أو الاشتغال ، وأُخرى فيما تقتضيه الأُصول الحكمية ، فهنا مبحثان.

__________________

(١) هكذا أفاده ( دام ظله ) في بحثه الشريف وفي رسالته التي كتبها في اللباس المشكوك [ في ص ٣٥ ] وتعرّض له المحقّق النائيني قدس‌سره أيضاً [ في رسالة الصلاة في المشكوك : ١٧٦ ] غير أنّ في النفس منه شيئاً ، إذ بعد تسليم ما يدعيه المستدل من امتناع تخصيص الإطلاق بمجرد الخلوص ، ولزوم شموله بنفسه للمشكوك حذراً من لغوية التشريع لو أُريد منه الفرد النادر ، فلازمه تخصيص ما دلّ على المنع عن الصلاة في المغشوش بمحرز الغشية ، ضرورة امتناع المحافظة على الإطلاقين ، للزوم التدافع. إذن فالفرد المشكوك مصداق واقعي للعام ، ومثله لا يكون من التمسك به في الشبهة المصداقية.

٢٣٩

أمّا المبحث الأول : فيستدل على جواز الصلاة في اللباس أو المحمول المشكوك بوجوه :

الأول : التمسك بأصالة الحلّ بتقريب : أنّ الحيوان الذي أُخذ منه هذا الجزء كالصوف يشك في حلّية لحمه وحرمته فيشمله عموم قوله عليه‌السلام : « كل شي‌ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال » (١) فبمقتضى أصالة الإباحة تحرز حلّية اللحم في ظاهر الشرع التي هي الموضوع لجواز الصلاة فيما أُخذ منه فيترتب عليه الأثر.

وقد نوقش فيه من وجوه :

أحدها : أنّ الحكم بالحلّية الفعلية المستندة إلى أصالة الإباحة يستدعي وجود الموضوع ودخوله في محلّ الابتلاء كي يصح التعبد الشرعي بحلّيته فعلاً ولا يكون لغواً ، مع أنّ الحيوان المتخذ منه الجزء المشكوك ربما يكون تالفاً قبل سنين ، أو خارجاً عن محلّ الابتلاء فلم يكن هناك أثر شرعي فعلي يصحّ التعبّد بلحاظه كي يجري الأصل.

ويندفع : بأنّ الدخول في محلّ الابتلاء وكونه ذا أثر فعلي لو كان معتبراً في مجرى الأصل نفسه لتمّ ما أُفيد ، إلا أنّه لا دليل على هذا التضييق ، بل المعتبر بمقتضى كون الأصل ناظراً إلى التطبيق في مقام العمل وجود أثر شرعي عملي داخل في محل الابتلاء ، وهذا المقدار من الأثر كاف في صحة التعبد الشرعي بلحاظه ، سواء كان بنفسه مجرى للأصل أو مترتباً على ما يجري فيه الأصل كما في المقام.

ونظيره ما لو لاقى شي‌ء مستصحب النجاسة ، وقبل العلم بالملاقاة انعدم الملاقي بالفتح أو خرج عن محل الابتلاء ، فإنّه لا ريب في الحكم بنجاسة الملاقي بالكسر استناداً إلى استصحاب نجاسة الملاقي بالفتح مع أنّه معدوم أو خارج عن محل الابتلاء على الفرض ، فمع أنّ المجرى بنفسه لم يكن‌

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٨٧ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ١.

٢٤٠