موسوعة الإمام الخوئي - ج ١٢

الشيخ مرتضى البروجردي

حكاه الكشي (١) لكنه بنفسه لم يوثّق ، فلا عبرة بتوثيقه.

إذن فالرواية مخدوشة سنداً ومتناً ودلالة فلا يعوّل عليها.

ثم إنّ هناك روايات اخرى يستدل بها على الجواز :

منها : ما رواه الشيخ بإسناده عن بشير بن بشار قال : « سألته عن الصلاة في الفنك والفراء والسنجاب والسمور والحواصل التي تصاد ببلاد الشرك أو بلاد الإسلام أن أُصلّي فيه بغير تقيّة؟ قال فقال : صلّ في السنجاب والحواصل الخوارزمية ، ولا تصلّ في الثعالب ولا السمور » (٢). ولكنّها بهذا السند مضمرة لم يعلم من المروي عنه ، فلا تصلح للاستدلال.

نعم ، رواها ابن إدريس في آخر السرائر نقلاً عن كتاب مسائل الرجال برواية الحميري وابن عياش عن داود الصرمي عن بشر بن بشار عن علي بن محمد الهادي عليه‌السلام (٣) فلا إضمار حينئذ.

ولكنّها مضافاً إلى أنّها أخصّ من المدعى كما عرفت مخدوشة متناً وسنداً.

أمّا المتن فلتضمنه جواز الصلاة حتى في التي تصاد ببلاد الشرك وتؤخذ من المشركين ، مع أنّها محكومة عندئذ بأنّها ميتة ، فلا بدّ من حملها على التقية.

وأمّا السند فلما سبق من أنّ الصرمي وإن كان ثقة عندنا لوقوعه في أسناد كامل الزيارات (٤) ولكن ابن بشار لا توثيق له.

ومنها : التوقيع المروي عن الخرائج : « وإن لم يكن لك ما تصلّي فيه فالحواصل جائز لك أن تصلّي فيه » (٥).

__________________

(١) رجال الكشي : ٥٩٨ / ١١١٩.

(٢) الوسائل ٤ : ٣٤٨ / أبواب لباس المصلي ب ٣ ح ٤ ، التهذيب ٢ : ٢١٠ / ٨٢٣.

(٣) السرائر ٣ : ٥٨٢.

(٤) وقد سبق أنّه لم يكن من مشايخ ابن قولويه بلا واسطة.

(٥) المستدرك : ٣ : ١٩٧ / أبواب لباس المصلي ب ٣ ح ١ ، الخرائج والجرائح ٢ : ٧٠٢ / ١٨. [ وفيه : فان لم يكن لك بدّ فصلّ فيه ، والحواصل جائز لك أن تصلي فيه ].

٢٠١

[١٢٨٦] مسألة ١٨ : الأقوى جواز الصلاة في المشكوك كونه من المأكول (١) أو من غيره ، فعلى هذا لا بأس بالصلاة في الماهوت ، واما إذا شك في كون‌

______________________________________________________

ولكنّها : مضافاً إلى الإرسال مختصة بحال الضرورة ، فهي أخصّ من المدعى.

ومنها : صحيحة علي بن يقطين قال : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن لباس الفراء والسمور والفنك والثعالب وجميع الجلود ، قال : لا بأس بذلك » (١) بدعوى شمول جميع الجلود للحواصل.

وفيه : أنّ السؤال إنّما هو عن اللبس دون الصلاة ، فهي أجنبية عمّا نحن فيه.

ومنها : صحيحة الريان بن الصلت قال : « سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن لبس الفراء والسمور والسنجاب والحواصل وما أشبهها ، والمناطق والكيمخت والمحشو بالقز والخفاف من أصناف الجلود ، فقال : لا بأس بهذا كلّه إلا بالثعالب » (٢).

وفيه : أنّها أيضاً واردة في اللبس ، نعم يمكن القول بأنّ استثناء الثعالب يكشف عن إرادة الصلاة ، وإلا لم يبق مورد للاستثناء ، لوضوح عدم الفرق في جواز اللبس بين الثعالب وغيرها. إلا أن يقال : إنّ الوجه في الاستثناء بعد اشتراك جميع الجلود المتخذة من غير المأكول في كراهة اللبس أنّ المأخوذة من الثعالب أشد كراهة وأكثر مرجوحية.

إذن فلا سبيل للاستدلال بها على جواز الصلاة في الحواصل. ومعه كان المرجع عموم ما دلّ على المنع عن الصلاة في غير المأكول من موثقة ابن بكير وغيرها.

(١) اختلفت الأنظار في جواز الصلاة فيما يشك في جزئيته لما لا يؤكل لحمه‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٥٢ / أبواب لباس المصلي ب ٥ ح ١.

(٢) الوسائل ٤ : ٣٥٢ / أبواب لباس المصلي ب ٥ ح ٢ [ وفي التهذيب ٢ : ٣٦٩ / ١٥٣٣ : فراء السمور ].

٢٠٢

شي‌ء من أجزاء الحيوان أو من غير الحيوان فلا إشكال فيه.

______________________________________________________

على أقوال :

أحدها : عدم الجواز مطلقاً. وهذا هو المشهور بين الفقهاء ، بل عن المدارك نسبته إلى قطع الأصحاب (١).

الثاني : الجواز مطلقاً. اختاره المحقق الأردبيلي (٢) وقال [ به ] السيد صاحب المدارك (٣) وجمع آخرون ، بل إنّ هذا في الجملة هو المعروف بين المتأخرين كما ستعرف.

الثالث : التفصيل بين الشرطية والمانعية ، وأنّه بناء على أن يكون الشرط في صحة الصلاة كون اللباس من النبات أو من حيوان مأكول اللحم فمع الشك يحكم بالفساد ، لعدم إحراز الشرط. وأمّا بناءً على القول باعتبار المانعية وأنّ إيقاع الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه مانع عن الصحة يندفع المانع لدى الشك بأصالة العدم ، ويحكم بجواز الصلاة فيه. اختاره صاحب الجواهر (٤) هذا.

وقد ذكر شيخنا الأُستاذ قدس‌سره (٥) أنّ هذا القول ليس تفصيلاً في المسألة ، إذ بناءً على الشرطية لا إشكال في عدم الجواز ، للزوم إحراز الشرط. ومحلّ الكلام جوازاً ومنعاً إنّما هو بناءً على القول بالمانعية.

لكنّك ستعرف إن شاء الله تعالى أنّ مقتضى بعض أدلّة القائلين بالجواز عدم الفرق بين الشرطية والمانعية (٦) فالتفصيل بين المبنيين قول ثالث في المسألة.

الرابع : التفصيل بين ما يكون مع المصلي من افتتاح صلاته وما يقع عليه أو‌

__________________

(١) المدارك ٤ : ٢١٤.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ٩٥.

(٣) المدارك ٣ : ١٦٧.

(٤) الجواهر ٨ : ٨٠ فما بعد.

(٥) رسالة الصلاة في المشكوك : ٨.

(٦) كالوجه الرابع الآتي في ص ٢٤٥.

٢٠٣

يلبسه بعد الشروع فيها ، بالجواز في الثاني وعدمه في الأول.

وهذان التفصيلان هما الأساس في المقام. وأمّا التفاصيل الأُخر من بقية الأقوال المذكورة في المسألة فكلّها من شؤون التفصيل الأوّل أعني الفرق بين الشرطية والمانعية ومما يترتب ويتفرع عليه.

فمنها : التفصيل بين اللباس وغيره من المحمول ونحوه ، فيحكم بالبطلان في الأوّل دون الثاني. اختاره صاحب الجواهر قدس‌سره في نجاة العباد (١) وأقرّ عليه شيخنا الأنصاري قدس‌سره في التعليقة. فكأنّهما قدس‌سرهما يريان أنّ من شرائط اللباس كونه من أجزاء ما يؤكل إذا كان متخذاً من الحيوان وأمّا غير اللباس فلم يشترط فيه شي‌ء ، بل هناك اعتبار المانعية إذا كان من أجزاء ما لا يؤكل ، ففي الأول يحكم بالبطلان لدى الشك لعدم إحراز الشرط وفي الثاني يحكم بالصحة دفعاً للمانع المحتمل بالأصل.

ومنها : التفصيل بين الساتر وغيره ، فيحكم بالبطلان في الأول دون الثاني سواء أكان ملبوساً أم محمولاً أو غيرهما. وهو أيضاً مبني على ما عرفت من اختصاص اعتبار الشرطية في الساتر بخصوصه فلا بدّ من إحرازه في الحكم بالصحة ، وفي غيره لم يعتبر إلا المانعية المدفوعة بالأصل.

ومنها : ما ذكره السيد قدس‌سره في المتن من التفصيل بين ما يعلم كونه من أجزاء الحيوان ويشك في كون الحيوان مما يؤكل أو لا يؤكل ، وبين ما لم يعلم كونه من الحيوان أو من غيره ، فجعل الجواز في الثاني مما لا إشكال فيه وأمّا في الأول فذكر أنّه الأقوى. فهو قدس‌سره وإن حكم بالجواز في كلتا الصورتين لكنه جعله في إحداهما أظهر. وهو أيضاً مبني على ما عرفت من التفصيل المتقدم ، إذ لا يحتمل الشرطية مع الشك في كونه من أجزاء الحيوان فإنّ القائل بها يخصصها بما علم كونه منه كما لا يخفى ، فليس هناك إلا احتمال المانعية المدفوعة بالأصل ، نعم في صورة العلم [ بكونه من أجزاء‌

__________________

(١) نجاة العباد : ٨٩ ٩٠.

٢٠٤

الحيوان ] والشك في كون الحيوان مما يؤكل أو من غيره يحتمل كل من القولين ، وحيث إنّه قدس‌سره بنى على المانعية اختار الجواز فجعله أقوى.

هذه هي حال الأقوال في المسألة ، وسيتّضح المختار منها.

وينبغي قبل الشروع في صميم البحث التكلّم في جهات :

الاولى : أنّ الجواز المبحوث عنه في المقام يحتمل أن يراد به الوضعي منه الذي هو بمعنى المضي والنفوذ والصحة المستلزم لترتب الأثر عليه وجواز الاكتفاء به في مقام الامتثال ، كما يحتمل أن يراد به الجواز التكليفي بمعنى الإباحة لا ما يقابل الحرمة الذاتية ، لعدم احتمال أن تكون الصلاة في اللباس المشكوك من المحرمات الإلهية ، بل ما يقابل الحرمة التشريعية أي الإتيان بالعمل في مقام الامتثال مضيفاً له إلى المولى ومسنداً له إلى الشارع فانّ جواز العمل تكليفاً بهذا المعنى يلازم الصحة والاجتزاء به في مقام الامتثال ، وإلا كان تشريعاً محرماً ، والشارع لا يرخّص في التشريع المحرّم ، لعدم الفرق في حرمته بين عدم ثبوت الحكم واقعاً أو عدم إحرازه كما لا يخفى. فما لم تحرز صحة الصلاة في المشكوك بأصل أو أمارة فهي محكومة بالحرمة تشريعاً ، فإذا أباحه الشارع ورخّصه في مقام الامتثال كشف ذلك لا محالة عن صحته ونفوذه. فالجواز التكليفي بهذا المعنى يلازم الجواز الوضعي ، بل مرجعهما شي‌ء واحد.

الجهة الثانية : هل المراد بالجواز المبحوث عنه في المقام هو الجواز الواقعي أو الظاهري البحت ، أو الظاهري المنقلب إلى الواقعي في بعض الفروض؟ وجوه ، بل أقوال. وستعرف أنّ الأقوى هو الأخير.

ظاهر المحقق القمي قدس‌سره في أجوبة مسائله هو الأوّل ، حيث ذكر قدس‌سره أنّ المتبادر أو المنصرف ممّا دلّ على المنع من الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل صورة العلم بكون الشي‌ء جزءاً من حيوان غير مأكول اللحم ، ففرض الشك خارج عن مصبّ الحكم رأساً ، ثم قال قدس‌سره : وعلى تقدير التنزّل‌

٢٠٥

والتسليم فلا أقل من عدم ظهور الدليل في التعميم (١).

فعلى ما أفاده قدس‌سره من أخذ العلم جزءاً للموضوع تكون الصحة في ظرف الشك واقعية (٢) ، لانتفاء المانع حقيقة وارتفاعه وجداناً ، من دون حاجة إلى قيام أمارة أو أصل. لكن المبنى غير قابل للتصديق.

أمّا أوّلاً : فلأنّ الألفاظ أسامٍ للمعاني الواقعية دون المعلومة ، فالنهي عما لا يؤكل متوجه إلى واقع هذا العنوان علم به أم جهل ، كغيره من موضوعات الأحكام من الخمر ونحوه ، ولا قرينة على الاختصاص بصورة العلم. وما ادّعاه من التبادر أو الانصراف عهدته على مدّعيه.

وثانياً : مع الغضّ فإنّما يسلّم الانصراف في مثل الأخبار المتضمنة للخطاب والنهي التكليفي ، فيدعى ظهورها لمكان الاشتمال على البعث أو الزجر في صورة العلم ، لكن الأخبار الدالّة على المنع عن الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لا تنحصر بذلك ، بل قد عرفت أنّ العمدة منها هي الموثّقة ، وهي عارية عن النهي والخطاب ، بل هي دالة على الحكم الوضعي أعني الفساد ابتداءً ، قال عليه‌السلام فيه : « فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وألبانه وكلّ شي‌ء منه فاسدة لا تقبل تلك الصلاة ... إلخ » ولا مقتضي لدعوى الانصراف في مثل ذلك أصلاً ، فهو بإطلاقه شامل لصورتي العلم والجهل. فما أفاده قدس‌سره لا يمكن المساعدة عليه بوجه.

وذهب المحقّق النائيني قدس‌سره إلى أنّ الصحّة ظاهرية لا واقعية (٣). وتظهر الثمرة فيما لو صلّى في المشكوك ثم انكشف الخلاف وبان أنّه من أجزاء ما لا يؤكل ، فعلى ما أفاده قدس‌سره تجب الإعادة ، بخلاف ما لو كانت الصحّة واقعية.

وهذا منه قدس‌سره مبني على ما اختاره من اختصاص حديث لا تعاد‌

__________________

(١) جامع الشتات ٢ : ٧٧٦ السطر ٢٦.

(٢) [ وفي الأصل : والقيد ، والصحيح ما أثبتناه ].

(٣) رسالة الصلاة في المشكوك : ١٥٩.

٢٠٦

بصورة النسيان وعدم شموله لفرض الجهل (١) ، فإنّه بعد ما كان المنع عما لا يؤكل واقعياً غير مختص بصورة العلم كما مرّ آنفاً فبعد انكشاف الخلاف وتنجّز الواقع لا بدّ من الإعادة ، التي هي مقتضى القاعدة الأوّلية في كل ما لو تبيّن خلل في العبادة من نقص جزء أو شرط أو الاقتران بمانع ، ما لم يدل دليل على الإجزاء المقتضي لانقلاب القاعدة الأوّلية إلى الثانوية ، من قاعدة لا تعاد ونحوها من القواعد المقرّرة في أمثال المقام ، هذا.

وقد أفاد قدس‌سره في وجه الاختصاص أنّ ذلك مقتضى مادة الإعادة فإنّ الأمر بها أو نفيها إنّما يتّجه مع عدم بقاء الأمر الأول ، وإلا فمع ثبوته يكلّف بإتيان العمل بنفس ذلك الأمر من دون حاجة إلى الأمر بالإعادة. فالمعتبر في مقسم هذا الحكم نفيا وإثباتاً سقوط الأمر الأول ، المختصّ ذلك بالناسي ، حيث إنّ الجزء المنسي عنه مرفوع عنه حتى واقعاً ، وأمّا الجاهل فحيث إنّ الحكم الواقعي ثابت في حقه وغير ساقط عنه فهو لا يزال مخاطباً بنفس الأمر الأول فيقال له أدِّ العمل وائتِ به ، ولا يقال له أعد أو لا تعد كما لا يخفى.

لكنّك خبير بصحة إطلاق الإعادة في كلتا الصورتين وإن اختص الجاهل بإمكان خطابه بنحو آخر أيضاً كما ذكر فمهما يشتركان في صحة الإطلاق نفياً وإثباتاً بمجرد الشروع في العمل ، نعم قبل الشروع لا معنى للحكم بالإعادة أو بعدمها ، لانتفاء الموضوع ، فإنّها عبارة عن الوجود الثاني للطبيعة وبعد لم يوجد أيّ فرد منها ، من دون فرق في ذلك بين الجاهل والناسي. وأمّا بعد الشروع والتلبس بالعمل فيصح الإطلاق ، سواء فرغ من العمل أم كان بعد في الأثناء ، وإن كان في الأول أظهر. ويكشف عن الثاني ما ورد في غير واحد من الأخبار من الإعادة في من أخلّ بصلاته في الأثناء من قهقهة أو تكلم أو حدث ونحو ذلك (٢).

__________________

(١) كتاب الصلاة ٣ : ٥.

(٢) الوسائل ٧ : ٢٥٠ / أبواب قواطع الصلاة ب ٧ ، ٢٥ ، ١ وغيرها.

٢٠٧

وبالجملة : فلا فرق في حسن الإطلاق في كلّ ذلك بين الناسي والجاهل فيما إذا كان الجهل عذراً وعن قصور ، فلو صلّى في اللباس المشكوك جهلاً يعذر فيه وبعد الفراغ بان الخلاف فهو مشمول لحديث لا تعاد.

نعم ، الجاهل المتردد الذي لا يعذر فيه كمن صلّى قبل الفحص ونحو ذلك غير مشمول للحديث ، لانصرافه إلى ما إذا كان المقتضي للإعادة ما يلحق العمل من انكشاف الخلاف المتأخر عنه بحيث لولاه كان محكوماً بالصحة. وأمّا في الفرض فالعمل محكوم بالبطلان بحكم العقل من أول الأمر ، لمكان قاعدة الاشتغال فلا يعمّه الحديث.

وأوضح حالاً منه العالم المتعمّد ، فانّ البطلان حينئذ ثابت من أوّل الأمر ، لا أنّه يتجدّد لاحقاً لأجل انكشاف الخلاف ، على أنّ شموله لمثله منافٍ لأدلّة الأجزاء والشرائط والموانع كما هو ظاهر. فما عن بعض من شموله للعامد بمراحل عن الواقع.

وأمّا الجاهل المقصّر غير المتردد فالحديث في حدّ نفسه غير قاصر الشمول له ، لكن يمنع عن ذلك ما ورد في غير واحد من الأخبار من الأمر بالإعادة في من أخلّ بجزء أو شرط أو مانع ، فانّ لازم شمول الحديث للجاهل المقصّر حمل هذه الأخبار على العالم العامد أو الجاهل المتردد اللذين قلّما يتفق لهما مصداق في الخارج ، ضرورة أنّ الغالب من موارد هذه الأخبار إنّما هو الجاهل المقصّر ، فيلزم من الشمول المزبور حمل هذه الأخبار على كثرتها على الفرد النادر وهو قبيح مستهجن. ففراراً عن هذا المحذور يمنع عن شمول الحديث للجاهل المقصّر.

فتحصّل : أنّ مورد حديث لا تعاد إنّما هو الناسي والجاهل المعذور ، دون المقصّر ودون المتردد والعامد.

وعليه فمن صلّى في اللباس المشكوك جاهلاً وهو معذور فيه ثم بان الخلاف بعد الفراغ حكم بصحة صلاته صحة واقعية ، لحديث لا تعاد.

وكذا لو انكشف الخلاف في الأثناء لكن بعد أن نزع اللباس قبل الانكشاف‌

٢٠٨

كما لو صلّى فيه ركعة ثمّ اتفق نزعها في الركعة الثانية ثم حدث الانكشاف في الركعة الثالثة مثلاً ، فإنّ القاعدة جارية حينئذ ، إذ حين اللبس كان جاهلاً معذوراً على الفرض فتشمله القاعدة بلحاظ ذلك الجزء ، وعند الانكشاف لم يكن لابساً له. فجواز الصلاة مع المشكوك كان ظاهرياً ، وبعده تبدل إلى الواقعي ببركة الحديث.

نعم ، إذا كان لابساً له حال الانكشاف لم تنفع القاعدة حينئذ ، فإنّها وإن جرت بالإضافة إلى الأجزاء السابقة لكنها لا تنفع بالنسبة إلى اللاحقة التي منها آن الانكشاف ، المعتبر فيه الخلو عما لا يؤكل كبقية الآنات الصلاتية ، لعدم تكفّل الحديث إلا لتصحيح العمل السابق وترميم الخلل الواقع فيه ، دون ما لم يأت به بعدُ من الأجزاء اللاحقة كما هو ظاهر جدّاً ، ففي مثله يكون الجواز ظاهرياً بحتاً فيحكم بالبطلان عند انكشاف الخلاف.

والمتحصّل من جميع ما ذكرناه : أنّ كون الجواز ظاهرياً أم واقعياً يدور مدار جريان حديث لا تعاد وعدمه ، وقد عرفت جريانه في بعض الصور ، فيتبدّل فيه الجواز الظاهري إلى الواقعي ، وهو ما إذا كان الانكشاف بعد الفراغ عن الصلاة أو في الأثناء لكن بعد النزع ، فيحكم بالصحة. وأمّا إذا كان الانكشاف قبله فلا تبدّل ولا انقلاب ، بل الجواز ظاهري بحت يرتفع بقاءً لدى الانكشاف فيحكم بالبطلان ووجوب الإعادة.

الجهة الثالثة : قد ظهر من مطاوي ما ذكرناه أنّه لا بدّ على كلا القولين من الشرطية أو المانعية من إحراز الصحة عند الشروع في الصلاة ، وأنّ اللباس ليس من غير المأكول ، إمّا بأمارة أو بأصل ، لحكم العقل بلزوم إحراز الشرط أو انتفاء المانع في مقام الامتثال ، فالصحة الظاهرية لا بدّ من إحرازها على كل حال ، وإلا فالعمل بدونه محكوم بالبطلان بقاعدة الاشتغال.

وما يقال من اختصاص ذلك بالقول بالشرطية للزوم إحراز الشرط بلا إشكال ، دون المانعية فإنّ مجرد الشك في وجود المانع كافٍ في الحكم بعدمه بقاعدة المقتضي والمانع ، بعيد عن الصواب.

٢٠٩

أمّا أولاً : فلأنّ هذه القاعدة غير تامة في حد نفسها كما ذكرناه في الأُصول (١).

وثانياً : على تقدير التسليم فمورد القاعدة إنّما هو المانع الذي يكون عدمه من أجزاء العلة في مقابل الشرط والمقتضي ، فاذا أُحرزت أجزاء العلة التامة من غير ناحية المانع وشك في وجوده يحكم حينئذ بثبوت المعلول وترتب المقتضى بالفتح ولا يعتنى باحتمال وجود المانع. وأمّا في المقام فليس إطلاق المانع على اللباس المتخذ من غير المأكول من هذا القبيل قطعاً ، بل هو بمعنى ما أُخذ عدمه في المركب ، فيعبّر عن القيود العدمية بالمانع ، كما يعبّر عن الوجودية بالشرط ، فكلّ منهما قيد مأخوذ في الواجب ، غايته أنّ أحدهما وجودي والآخر عدمي ، ومن الواضح لزوم إحراز الواجب بماله من القيود الوجوديّة والعدمية في مقام الامتثال.

نعم ، الغالب أنّ القيد العدمي أعني عدم المانع محرز بأصل موضوعي أو حكمي ، إذ المانع أمر حادث مسبوق بالعدم ، بخلاف القيود الوجودية أعني الشرائط فإنّ وجودها على خلاف الأصل فتحتاج إلى الدليل غالباً ، لكن ذلك لا يستوجب فرقاً فيما هو الملاك في المقام من لزوم إحرازهما في مقام الامتثال.

الجهة الرابعة : لا يخفى أنّ عنوان البحث في هذه المسألة وإن كان هو جواز الصلاة في خصوص ما يشك في جزئيته لما لا يؤكل ، إلا أنّ ملاك البحث عام له ولكلّ مشتبه من بقية الموانع من الحرير والذهب والمغصوب ونحوها ، لعدم الموجب للتخصيص بعد التوسعة في ملاك النزاع في المقام.

نعم ، قد يستظهر من الأدلّة عنوان الشرطية في المقام والمانعية في بقية الموارد ، لكنّ ذلك مجرد استظهار في مقام الإثبات قابل للنقض والإبرام ، فلا يكاد يؤثر في تضييق نطاق البحث كما لعله ظاهر جدّاً. فالكلّ داخل في محلّ‌

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ٢٤٠ فما بعد.

٢١٠

الكلام من دون فرق في ذلك بين ما إذا كانت المانعية شرعية مستفادة من دليل لفظي ، أو عقلية ثبتت بالدليل اللبّي كما في الغصبية ، حيث إنّ اعتبار الإباحة في اللباس لم يكن مدلولاً لدليل لفظي ، وإنّما استفيد من حكم العقل بامتناع كون الحرام مصداقاً للواجب ، الموجب لتقييد ما دلّ على اعتبار الساتر في الصلاة بكونه مباحاً ، بخلاف مانعية مثل الحرير المستفادة من الأدلّة اللفظية.

وقد خالف في ذلك بعض الأعاظم تبعاً لصاحب الكفاية قدس‌سره (١) فذكر أنّ المخصص إذا كان لبيّاً مستفاداً من دليل العقل يقتصر فيه على المقدار المتيقن ، فكان الخارج عن عموم العام إنّما هي الأفراد المعلومة ، فلا يوجب ذلك انثلام ظهور العام وحجيته في الباقي وإن كان الفرد مشكوكاً.

لكنه كما ترى لا يمكن المساعدة عليه بوجه ، ضرورة أنّ العبرة في التخصيص إنّما هو بالمنكشف دون الكاشف ، فاذا ثبت خروج عنوان عن تحت العام خروجاً واقعياً بحيث لا يكاد يشمله العموم في نفس الأمر وفي مقام الثبوت ، اقتضى ذلك لا محالة تقيّد موضوع العام بحسب الإرادة الجدية بما عدا عنوان الخاص ، سواء أكان الدالّ عليه في مقام الإثبات اللفظ أم العقل فعنوان العام مقيّد بحسب الواقع بغير ذلك على التقديرين ، ومعه كيف يمكن التمسك به عند الشك وفي الشبهة المصداقية.

وبالجملة : فالمانعية العقلية كاللفظية لا تختص بصورة الإحراز ، بل هي أمر واقعي تعمّ صورة الشك في وجود الموضوع أيضاً.

نعم ، يتمّ ذلك فيما إذا كانت المانعية العقلية ناشئة من التزاحم بين التكليفين مع تقديم جانب النهي ، فانّ المانعية حينئذ تختص بصورة العلم والإحراز لتقوّم صدق المزاحمة بذلك ، ضرورة أنّ التكليف إنّما يتصف بكونه مزاحماً ومعجّزاً مولوياً في ظرف التنجّز وبلوغه إلى المكلف ، وإلا فمجرد وجوده الواقعي ما لم يبلغ حدّ التنجز لا يكون مزاحماً مع التكليف الآخر.

__________________

(١) الكفاية : ٢٢٢.

٢١١

وأمّا إذا كانت ناشئة من التعارض كما في أمثال المقام فيقيد التكليف بحسب الواقع بعدم اقترانه بالمانع. فهذا المانع بوجوده الواقعي متصف بالمانعية سواء علم به أم جهل كما هو ظاهر.

الجهة الخامسة : في تحقيق أنّ اعتبار عدم وقوع الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل هل هو على سبيل الشرطية ، أو أنّه بنحو المانعية. فإنّ العمدة من روايات الباب إنّما هي موثقة ابن بكير المتقدمة سابقاً (١) ، وهي بمقتضى صدرها ظاهرة في المانعية ، كما أنّها بمقتضى الذيل ظاهرة في الشرطية.

فهل يؤخذ بالظهور الأول ويتصرّف في الثاني ، فيحمل الاشتراط على التبعي وانّ وقوع الصلاة فيما أحلّه الله ليس لخصوصية فيه ، بل لأجل التخلّص عن المانع ، وهو الوقوع فيما لا يؤكل؟

أو يعكس فيتحفظ على الظهور الثاني ، ويحمل النهي والفساد في الصدر على العرضي ، فيكون المجعول الشرطية ، وأمّا المانعية المستفادة من الصدر فهي عرضية تبعيّة؟

وربما يحتمل في المقام احتمال ثالث ، وهو الجمع بين كلا الاعتبارين أعني الشرطية والمانعية فكما أنّ الوقوع في أجزاء ما لا يؤكل مانع كذلك يشترط في الصحة أن يكون اللباس متخذاً من النبات أو من حيوان محلّل الأكل.

لكن هذا الاحتمال ساقط جزماً ، بل هو مستحيل وإن أصرّ عليه بعض الأعاظم قدس‌سره لامتناع الجمع بين شرطية أحد الضدين ومانعية الضد الآخر ، من دون فرق في ذلك بين التكوينيات والتشريعيات.

أمّا في الأُمور التكوينية : فتوضيحه يتوقف على تحقيق معنى المانعية فيها وكيفية دخل أجزاء العلّة في وجود المعلول فنقول :

لا ريب أنّ العلّة تتألف من أُمور ثلاثة : المقتضي ، والشرط ، وعدم وجود المانع ، فهي بأجمعها دخيلة في وجود المعلول ، كما أنّ بانتفاء واحد منها ينتفي‌

__________________

(١) في ص ١٦٨.

٢١٢

وجوده ، إلا أنّ كيفية دخل هذه الثلاثة مختلفة.

أمّا المقتضي فدخالته باعتبار أنّه هو الذي منه يترشح الأثر ، ومنه يتولّد المعلول ، كالنار بالإضافة إلى الإحراق.

وأمّا الشرط كالمحاذاة في هذا المثال فليس شأنه الترشح والتوليد ضرورة أنّ الإحراق إنّما ينشأ ويترشح من ذات النار ، وأمّا المماسة والمحاذاة فهي أجنبية عن الرشح بالكلّية. فدخالتها في التأثير وعدّ الشرط من أجزاء العلّة إنّما هو باعتبار كونه دخيلاً في فعلية الأثر الناشئ عن المقتضي ، لنقص في الفاعل أو في المحلّ ، فيكون متمماً لفاعلية الفاعل أو لقابلية القابل. وعلى أي تقدير فالشرط بنفسه بمعزل عن الفاعلية والتأثير ، وأجنبي عن الإفاضة والترشيح ، بل إنّ هذه من صفات المقتضي فقط كما عرفت. فليس كيفية الدخل فيهما على حدّ سواء ومن سنخ واحد.

وأمّا المانع الذي يعدّ عدمه من أجزاء العلّة فكيفية الدخل فيه تباين المقتضي والشرط ، فلا هو منشأ للرشح ولا أنّه متمّم للنقص ، كيف وهو أمر عدمي ، ولا يعقل ترشح الوجود من العدم ، أو دخله في تحقق الأثر بالضرورة ، فليست دخالته إلا باعتبار مزاحمة المانع بوجوده عن تأثير المقتضي وصدّه عن ترتب المقتضى بالفتح عليه. فلأجل التدافع والتمانع الحاصل بين وجودين المقتضي والمانع ، حيث إنّ أحدهما يقتضي شيئاً والآخر يضاده ويزاحمه ويقتضي خلافه اعتبر عدمه في فعلية الأثر وترتّب المعلول. ولو لا هذه المزاحمة لما كاد يعقل أن يكون عدم شي‌ء من أجزاء علّة شي‌ء آخر.

وبالجملة : لا بدّ في صدق المانعية على شي‌ء من اتصاف وجوده بكونه مزاحماً فعلياً مع المقتضي المفروض وجوده وكافّاً له عن التأثير ، بحيث لولاه لترتب الأثر عليه بالفعل ، حتى يكون عدمه من أجزاء العلّة بالمعنى الذي عرفت ، أي يكون المزاحم منتفياً حتى يؤثر المقتضي أثره.

ومما ذكرناه تعرف أنّ بين أجزاء العلة المقتضي ، الشرط وعدم المانع نوعاً من الترتب والطولية ، بمعنى أنّه عند اجتماعها المستلزم لوجود المعلول‌

٢١٣

فالوجود مستند إلى تحقق مجموع هذه الأجزاء ، وأمّا عند انتفائها فعدم المعلول حينئذ يستند إلى الأسبق فالأسبق ، فلا يستند إلى اللاحق إلا بعد فرض وجود السابق.

فمثلاً النار مقتضٍ للإحراق ، والمحاذاة شرط ، ورطوبة المحلّ مانع ، فعند اجتماع الأوّلين مع انتفاء المانع يتحقق الإحراق. وأمّا عند فقد شي‌ء منها المؤدي إلى عدم وجود المعلول فإنّما يستند العدم إلى وجود المانع مع تحقق المقتضي والشرط ، وإلا فمع عدم وجود النار من أصله أو وجودها من دون المحاذاة لا معنى للاستناد إلى رطوبة المحلّ ، لما عرفت من أنّ المانع هو ما يكون مزاحماً مع المقتضي في التأثير ، والمفروض عدم وجود المقتضي من أصله أو عدم كونه تام الفاعلية ، ومعه كيف تعقل المزاحمة حتى يكون العدم مستنداً إلى وجود المزاحم ، فإنّه من السالبة بانتفاء الموضوع.

كما أنّه إنّما يستند إلى فقد الشرط مع فرض وجود المقتضي ، فيستند عدم الإحراق إلى عدم المحاذاة مع وجود أصل النار ، وإلا فمع عدمه لا معنى للاستناد إلى فقدان الشرط ، إذ الشرطية المتقوّمة بالتتميم كما عرفت متفرّعة على فرض الوجود الناقص كي يتمّم ويجبر به النقص. وبالجملة : فمع فرض عدم المقتضي يستند عدم المعلول إليه لا إلى فقد الشرط ، ولا إلى وجود المانع.

ولعمري إنّ هذا ظاهر جدّاً ، بل لعلّه يعدّ من الضروري وإن أصرّ على خلافه بعض الأعاظم فجوّز الاستناد إلى كلّ من عدم المقتضي ووجود المانع عند فرض انتفاء أجزاء العلّة بأجمعها. وقد عرفت ما فيه بما لا مزيد عليه.

ومن هنا يظهر استحالة مانعية أحد الضدّين بعد فرض شرطية الضد الآخر ، ضرورة أنّ المقتضي مع شرطه إن كانا موجودين فيستحيل معه وجود المانع حتى يزاحم المقتضي في التأثير ، لاستلزامه اجتماع الضدّين بعد فرض المضادة بينه وبين الشرط ، فلا يعقل وجوده حينئذ كي يتصف بالمانعية حتى يكون عدمه من أجزاء العلّة ودخيلاً في فعليّة الأثر بالمعنى المتقدم.

٢١٤

وإن لم يكن المقتضي التام وبوصف كونه مؤثراً لولا المزاحم موجوداً إمّا لعدم وجود المقتضي من أصله أو لعدم تأثيره من جهة فقد الشرط فالمقتضي ( بالفتح ) بنفسه غير قابل للتحقق ، لنقص في الفاعل أو لعدم وجوده من أصله ، كان المانع موجوداً أم لا. فعدم المعلول حينئذ يستند إلى عدم المقتضي أو عدم الشرط لا إلى وجود المانع ، إذ ليس هناك مقتض مؤثّر كي يزاحمه المانع في التأثير. فلا يعقل المانعية لأحد الضدّين بعد فرض شرطية الضدّ الآخر على أيّ تقدير. هذا كلّه في التكوينيات.

وأمّا في التشريعيات فليس إطلاق الشرط والمانع فيها على حدّ إطلاقه في الأُمور التكوينية ، إذ ليس هناك تأثير لا تأثر ولا علّة ولا معلول ، وإنّما هناك جعل حكم على الموضوع المقدّر وجوده مع أخذ قيود فيه وجودية وعدمية ، فيعبّر عن القيد الوجودي بالشرط ، وعن العدمي بالمانع ، وهذا مجرد اصطلاح محض كما لا يخفى.

وعليه فبعد اعتبار الشرطية لأحد الضدّين أعني اعتبار التقيّد بوجوده كان اعتبار المانعية أي التقيّد بعدم الضدّ الآخر من اللغو الظاهر ، لإغناء الجعل الأول عن الثاني بعد عدم انفكاك وجود الضدّ عن عدم الضدّ الآخر هذا إذا كان الضدّان مما لهما ثالث. وأمّا إذا لم يكن فاللغوية لا تنحصر في اعتبار المانعية ، بل أيّاً منهما اعتبره أوّلاً كان الثاني لغواً ، سواء كانت الشرطية أو المانعية ، إذ المفروض عدم خلو المحلّ عن أحدهما. فاعتبار كلّ منهما يغني عن الآخر ، واللغو إنّما هو الجمع بين الاعتبارين من دون ترجيح في البين.

والمتحصّل من جميع ما قدمناه : استحالة الجمع بين شرطية أحد الضدّين ومانعية الضد الآخر ، من دون فرق فيه بين التكوينيات والتشريعيات. فما اختاره بعض الأعاظم من الجمع بينهما في المقام فالتزم باشتراط كون اللباس من محلل الأكل إذا كان متخذاً من الحيوان ، وبمانعية المتخذ من محرم الأكل ساقط جزماً.

بل يدور الأمر بين الشرطية المطلقة ، والمانعية كذلك ، والتفصيل بين الساتر‌

٢١٥

وغيره فالاعتبار في الأوّل بنحو الشرطية ، وفي الثاني على سبيل المانعية كما قيل.

وقبل الخوض في تحقيق الحال وبيان المختار ينبغي التنبيه على أمر قد تعرضنا له في الأُصول في بحث مقدمة الواجب (١) وهو أنّ الفرق بين الجزء والشرط هو أنّ الجزء مما يتألف منه المركب ، فينبسط الأمر المتعلق به وينبث عليه لدى التحليل لا محالة ، فانّ ذات الجزء إذا لوحظ في حدّ نفسه ولا بشرط فهو جزء ، وإذا لوحظ بشرط الانضمام مع بقية الأجزاء فهو عين المركّب فالمركب ليس إلا نفس الأجزاء بالأسر. وعليه فهو داخل فيه قيداً وتقيّداً ، ولذا قلنا بأنّ وجوبه نفسي لانبساط الأمر المتعلق بالمركب عليه.

وأمّا الشرط فهو وإن كان خارجاً عن حريم المأمور به ، إلا أنّ التقيد به مأخوذ فيه ، ولذا قيل إنّه جزء عقلاً وشرط خارجاً ، أي انّ التقيّد به داخل في المأمور به وواقع في حيّز الطلب ، والقيد خارج. فالشرطية أو المانعية إنّما تنتزعان من تقيّد الواجب بقيد وجودي أو عدمي.

ومنه تعرف أنّ ذات القيد لا بدّ وأن يكون فعلاً اختيارياً للمكلّف ، كي يصح الأمر بتقيد الواجب به أو بعدمه ، لما عرفت من أن التقيد في باب الشرائط والموانع داخل في المركب فلا بدّ وأن يكون أمراً اختيارياً ، ولا يكاد يكون كذلك إلا إذا كان ذات القيد متعلقاً لاختيار المكلّف ، إذ لا يعقل تقييد الواجب بأمر غير اختياري ، وإنّما يجوز ذلك في تقييد الوجوب نفسه دون الواجب ، وإلا لكان القيد مفروض الوجود ، ومثله خارج عن حيّز الطلب الذي قد عرفت تعلّقه بالتقيد به.

ولأجله ذكرنا في محلّه أن عدّ القبلة من شرائط الصلاة وكذا الطهارة الحدثية والخبثية مبني على ضرب من المسامحة ، وإنّما الشرط هو الاستقبال وإيقاع الصلاة في هذه الأحوال ، الذي هو فعل اختياري للمكلّف ، دون نفس‌

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٢٩٦ ٢٩٨.

٢١٦

هذه الأُمور الخارجة عن تحت قدرته واختياره.

ومما ذكرنا يعلم أنّ الشرط أو المانع في محلّ الكلام لا بدّ وأن يكون اعتبار أمر وجودي أو عدمي صالح لتعلق الاختيار به كي يمكن أخذه قيداً في الواجب ، كإيقاع الصلاة في اللباس المأخوذ من حيوان مأكول اللحم أو [ غير ] محرم الأكل ، أو عدم إيقاعها فيه. وأمّا نفس المأكوليّة وعدمها أعني حكم الشارع بحليّة الأكل أو بحرمته فلا يعقل أن يكون شرطاً أو مانعاً ، فإنّه فعل اختياري للشارع ، ومثله خارج عن تحت قدرة المكلف واختياره فكيف يتقيد الواجب به أو بعدمه ، وهذا ظاهر.

فما أفاده بعض الأعاظم قدس‌سره من تعميم الشرط والمانع لما كان خارجاً عن الاختيار ، وأنّهما منتزعان من إضافة الواجب إلى شي‌ء خارجي وإن كان غير اختياري ، في حيّز المنع وغير قابل للتصديق كما عرفت.

ومما ذكرنا يعلم أيضاً أنّ المدار في استفادة الشرطية أو المانعية على أنّ القيد المأخوذ في الصلاة هل هو عنوان وجودي أو عدمي ، من دون فرق في ذلك بين كون متعلّق هذا العنوان وجودياً أم عدميا ، فاذا كان المستفاد من الأدلّة هو إيقاع الصلاة في محلّل الأكل أو إيقاعها في غير محرم الأكل كان الاعتبار من باب الشرطية ، وإذا كان مفادها عدم الإيقاع في محرم الأكل أو عدم إيقاعها في غير محلّل الأكل كان ذلك من باب المانعية. فاختلاف الاعتبارين يدور مدار تقيّد الصلاة بأمر وجودي أو عدمي.

فإذا كان وجودياً كان شرطاً وإن كان متعلقه عدميا كالإيقاع في غير محرم الأكل. وإن كان عدميا كان مانعاً وإن كان متعلقه وجودياً كعدم الإيقاع في محرم الأكل ، لما عرفت من أنّ الحلّية والحرمة ليستا من الشرط والمانع في شي‌ء ، لخروجهما عن تحت الاختيار ، وإنّما المقدور الإيقاع وعدمه ، فالاعتبار بهما لا بمتعلقهما.

فما أفاده بعض الأساطين قدس‌سره من أنّ ما لا يؤكل لحمه إن كان كناية عن حرمة الأكل كان الفساد مستنداً إلى وجود المانع ، وإن كان كناية عن‌

٢١٧

عدم حلّيته دلّ على اشتراط الصحة بالحلّية فيكون الفساد مستنداً إلى فقد الشرط ، غير وجيه ، لابتنائه على ما اختاره قدس‌سره من تعميم شرط الواجب لما كان خارجاً عن الاختيار ، وقد عرفت ما فيه.

إذا عرفت هذا فنقول : المستفاد من الروايات الواردة في المقام عموماً وخصوصاً إنّما هي المانعية ، لتضمنها النهي عن الصلاة فيما لا يؤكل أو في خصوص الأرانب والثعالب ونحوهما من العناوين الخاصة ، فيستفاد منها اعتبار عدم إيقاعها في هذه الأُمور ، الذي هو منشأ انتزاع المانعية كما عرفت. وليس هناك ما يمكن استفادة الشرطية منه في الروايات عدا أُمور :

منها : قوله عليه‌السلام في ذيل موثقة ابن بكير : « لا تقبل تلك الصلاة حتى يصلّي في غيره مما أحلّ الله أكله » (١) فانّ مقتضى إناطة الصحة والقبول بإيقاع الصلاة فيما أحل الله أكله الذي هو عنوان وجودي هي الشرطية لمكان الأمر بإيجاد هذا العنوان الملازم لها.

وأورد عليه المحقق النائيني قدس‌سره (٢) بأنّ ظهور الصدر وهو قوله : إنّ الصلاة في وبر كلّ شي‌ء حرام أكله ... إلى قوله : فاسدة في المانعية يمنع عن دلالة الذيل على الشرطية ، لعدم إمكان الجمع بين مانعية أحد الضدّين وشرطية الضدّ الآخر كما مرّ ، فيكون ذلك من سوء تعبير ابن بكير ، حيث عبّر أولاً بما يظهر منه المانعية وثانياً بما يظهر منه الشرطية ، فلا ظهور في الموثق إلا في المانعية دون الشرطية.

وإن أبيت إلا عن الظهور في كلّ منهما فحيث إنّ الظهورين حينئذ متصادمان ، لامتناع الجمع بينهما ثبوتاً كما عرفت فتسقط الموثقة عن الحجية حينئذ من هذه الجهة ، لتعارض الصدر والذيل ، فتطرح ويرجع إلى الروايات الأُخر الظاهرة في المانعية بلا معارض ، هذا.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٤٥ / أبواب لباس المصلي ب ٢ ح ١.

(٢) رسالة الصلاة في المشكوك : ١٤٦ فما بعدها.

٢١٨

ولكنّه يمكن أن يقال بعدم التعارض بين الفقرتين وعدم تصادم الظهورين لتعدد الموردين ، فانّ الذيل ناظر إلى خصوص الساتر ، والصدر إلى ما عدا الساتر من الملبوس أو المحمول.

وتوضيحه : أنّ مقتضى إناطة الصحة والقبولية في الذيل بإيقاع الصلاة في غير محرم الأكل أنّ مجرد ذلك كافٍ في الحكم بالصحة ، مع أنّه على إطلاقه غير قابل للتصديق إلا إذا كان النظر مقصوراً على خصوص الساتر ، وإلا فمجرد لبس شي‌ء ما من قلنسوة أو عمامة أو ثوب لا يتستر به وإن كان متخذاً من محلّل الأكل غير كافٍ في صحة الصلاة قطعاً. فلا مناص من أن يكون محطّ النظر ومورد التقييد في هذه الفقرة من الموثقة هو اللباس الساتر في مقابل الصلاة عارياً.

وعليه فيستفاد منها بمقتضى تعليق الصحة على العنوان الوجودي شرطية الستر المخصوص في الصلاة ، بمعنى لزوم إيقاع الصلاة في ساتر متخذ من غير ما لا يؤكل لحمه ، وحيث إنّ المفروض في مورد السؤال كونه حيوانياً فلا بدّ من تقييده بكونه من مأكول اللحم أو بعدم كونه من غير المأكول ، إذ لا فرق في الشرطية المنتزعة من العنوان الوجودي بين كون متعلقه وجودياً أو عدميا كما مرّ (١). وعلى أي حال فلا مانع من استفادة الشرطية من الذيل في خصوص الساتر.

وأمّا الصدر فهو متمحّض في المانعية ، إذ لا يعتبر في صحة الصلاة وقوعها في شي‌ء غير الساتر حتى يكون مشروطاً بشي‌ء. فالبطلان المستند إلى الوقوع في غير المأكول الذي تضمّنه صدر الموثق من الملبوس أو المحمول لا يكون إلا من جهة وجود المانع لا فقدان الشرط ، كما يشهد له عطف البول والروث على ما قبله من الوبر والشعر والجلد ، إذ لا يحتمل اشتراط الصحة بالوقوع في بول المأكول وروثه ، وإن احتمل بالإضافة إلى شعره وجلده ووبره فيما إذا كان‌

__________________

(١) في ص ٢١٧.

٢١٩

اللباس متخذاً من الحيوان. فهي ظاهرة في أنّ هذه الأُمور بأنفسها مانعة عن الصحة كما لا يخفى.

وبالجملة : يمتاز الساتر عن غيره في اشتراط صحة الصلاة به دون غيره. وعليه فاذا كان القيد راجعاً إلى الأول كان ظاهراً في الشرطية ، وأمّا إذا كان عائداً إلى الثاني فلا سبيل فيه غير المانعية ، إذ كونه شرطاً له يتوقف على أن يكون المشروط به دخيلاً في صحة الصلاة ، والمفروض عدمه.

ودعوى إمكان تصوير الشرطية في المقام لكن لا مطلقاً ، بل على تقدير وجود المشروط خارجاً ، بأن يقال : إذا لبست شيئاً غير الساتر في الصلاة أو حملته فيشترط أن يكون من المأكول أو من غير ما لا يؤكل ، فاسدة جزماً لأوْله إلى تحصيل الحاصل أو طلب المحال ، ضرورة أنّ ما حمله أو لبسه في الصلاة لا يخلو إما أن يكون واجداً لذاك القيد أعني كونه من غير محرّم الأكل أم لا ، فعلى الأوّل يكون الأمر به المنتزع منه الشرطية تحصيلاً للحاصل وعلى الثاني يكون من طلب المحال ، لعدم إمكان تحصيله في تلك الصلاة لامتناع قلب الشي‌ء عما وقع عليه.

وبالجملة : قبل الدخول في الصلاة لم يكن موضوع للشرطية ، لعدم تحقق ذاك التقدير المعلق عليه الشرطية على الفرض. وبعده يستحيل الأمر به حتى ينتزع منه الشرطية ، لدورانه بين محذورين كما عرفت.

وعلى هذا فيمكن التوفيق بين الصدر والذيل مع التحفظ على ظهور الأوّل في المانعية ، والثاني في الشرطية من دون تهافت ، باختصاص الذيل بالساتر وحمل الصدر على ما عداه من الملبوس أو المحمول ، فيرتفع التنافي باختلاف المورد.

إلا أنّ دقيق النظر يقضي بخلاف ذلك وعدم ظهور الذيل إلا في المانعية كالصدر.

وبيانه : أنّ الذيل إن كان هكذا : لا تقبل الصلاة حتى يصلّيها في غيره .. إلخ.

٢٢٠