موسوعة الإمام الخوئي - ج ١٢

الشيخ مرتضى البروجردي

المقام كلّية ، ولا قرينة على التعيين. كما لا يحتمل فيها الإطلاق ، فإنّها قضية شخصية خارجية ، ولا لسان للفعل كي يستظهر منه الحال.

وبالجملة : الروايات المزبورة في حدّ نفسها قابلة لإرادة كلّ من المعنيين لاستعمال الخز في الحرير المشوب حتى في لسان الأخبار كما في صحيح أبي داود ابن يوسف بن إبراهيم قال : « دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام وعليَّ عباء خز وبطانته خز وطيلسان خز مرتفع ، فقلت : إن عليَّ ثوباً أكره لبسه ، فقال : وما هو؟ قلت : طيلساني هذا ، قال : وما بال الطيلسان؟ قلت : هو خز ، قال : وما بال الخز؟ قلت : سداه إبريسم ... » إلخ (١) فقد أُطلق الخز على ما سداه الإبريسم ، فلعلّ المراد به في هذه الروايات هو ذلك أيضاً ، وحيث لا قرينة على التعيين فتصبح مجملة فتسقط عن الاستدلال.

وهناك روايات اخرى لا بأس بدلالتها ، لكنها ضعيفة السند ، كمرفوعة أيوب بن نوح (٢) وغيرها ، أغمضنا عن ذكرها.

والعمدة في المقام روايات ثلاث معتبرة سنداً ودلالة.

إحداها : موثقة معمر بن خلاد قال : « سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن الصلاة في الخز ، فقال : صلّ فيه » (٣) فانّ الخز هنا لا يحتمل أن يراد به الحرير المحض كما هو ظاهر ، كما لا يحتمل إرادة نفس الحيوان ، إذ لا معنى للصلاة فيه ، فلا يقال : سألت عن الصلاة في الشاة مثلاً. فيدور الأمر بين أن يراد به الثوب المتخذ من وبر الخز أو الحرير المشوب بغيره من صوف ونحوه ومقتضى الإطلاق وترك الاستفصال جواز الصلاة في كلّ منهما ، وإلا فلو جاز في أحدهما دون الآخر لزم التنبيه واستفصال المراد من اللفظ المشترك ، ولما ساغ إلقاء الحكم على سبيل الإطلاق من دون قرينة على التعيين ، فحيث لم‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٦٣ / أبواب لباس المصلي ب ١٠ ح ٢.

(٢) الوسائل ٤ : ٣٦١ / أبواب لباس المصلي ب ٩ ح ١.

(٣) الوسائل ٤ : ٣٦٠ / أبواب لباس المصلي ب ٨ ح ٥.

١٨١

يستفصل عليه‌السلام يعلم جواز الصلاة في الوبر كالحرير المشوب ، وهو المطلوب.

الثانية : صحيحة الحلبي قال : « سألت عن لبس الخز ، فقال : لا بأس به ، إنّ علي بن الحسين عليه‌السلام كان يلبس الكساء الخز في الشتاء ، فاذا جاء الصيف باعه وتصدّق بثمنه ، وكان يقول : إني لأستحيي من ربّي أن آكل ثمن ثوب قد عبدت الله فيه » (١). والتقريب كما تقدّم ، ويستفاد شمول الحكم للصلاة من قوله عليه‌السلام في الذيل : « قد عبدت الله فيه » لظهور العبادة فيها كما لا يخفى.

وتزيد هذه الصحيحة على ما مرّ أنّ الظاهر منها إرادة الوبر من الخز دون الحرير المشوب ، للتصريح فيها بأنّ علي بن الحسين عليه‌السلام كان يلبسه في الشتاء ، وهو عليه‌السلام كان رجلاً صرداً كما نص عليه في بعض الأخبار (٢) ولا ريب أنّ الخز أدفأ من الحرير المشوب بالصوف ، لأن الحرير بارد. فيظهر من ذلك أنّه عليه‌السلام كان يلبس وبر الخز ، فيكون ذلك قرينة على أن المراد من الخز المذكور في السؤال هو ذلك.

الثالثة : صحيحة سعد بن سعد عن الرضا عليه‌السلام قال : « سألته عن جلود الخز؟ فقال : هُوَذا نحن نلبس ، فقلت : ذاك الوبر جعلت فداك ، قال : إذا حلّ وبره حلّ جلده » (٣). والمراد بأحمد بن محمد المذكور في السند وإن أمكن أن يكون هو أحمد بن محمد بن عيسى ، لكن المراد به هو أحمد بن محمد بن خالد أعني ابن البرقي كما نصّ عليه في الكافي ، وإن كان الأنسب أن يذكر السند حينئذ هكذا : عن أحمد بن محمد عن أبيه عن سعد بن سعد.

وكيف كان ، فلا ريب أنّ الرواية صحيحة السند كما أنّها قوية الدلالة أيضاً ،

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٦٦ / أبواب لباس المصلي ب ١٠ ح ١٣.

(٢) كرواية أبي بصير المتقدمة في ص ١٥٩.

(٣) الوسائل ٤ : ٣٦٦ / أبواب لباس المصلي ب ١٠ ح ١٤ ، الكافي ٦ : ٤٥٢ / ٧.

١٨٢

لظهور قوله عليه‌السلام : « هوذا نحن نلبس » في استمرار اللبس حتى في حال الصلاة بمقتضى الإطلاق ، سيما لو كان « هوذا » كلمة واحدة بمعنى الاتصال والاستمرار كما قيل ، المعبر عنه بالفارسية بـ ( همين ) كما في الجواهر (١). فإن الأمر حينئذ أظهر ، وعلى أي حال فهي صريحة في حلية الوبر بالتقريب الذي سنذكره في الجلد.

وأما المقام الثاني : أعني الصلاة في جلد الخز ففيه خلاف ، ولعلّ المشهور هو الجواز. ويستدل له بعدة من الروايات :

الأُولى : موثقة معمر بن خلاد المتقدمة ، بدعوى أنّ الخز المذكور فيها بعد امتناع حمله على نفس الحيوان يراد به أجزاؤه ، ومقتضى الإطلاق عدم الفرق بين الوبر والجلد ، وإلا وجب التنبيه والتعيين.

ويندفع : بأنّه بعد امتناع حمله على نفس الحيوان يتعيّن حمله على الوبر المتخذ منه ، الذي هو أحد إطلاقاته ومما يستعمل فيه هذا اللفظ لغة وعرفاً ، أو على الحرير المشوب كما مرّ. وأمّا الجلد فليس هو من إطلاقاته. فإرادته تفتقر إلى التقدير الذي هو خلاف الأصل لا يصار إليه من غير شاهد.

الثانية : رواية يحيى بن أبي عمران أنه قال : « كتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه‌السلام في السنجاب والفنك والخز وقلت : جعلت فداك أُحبّ أن لا تجيبني بالتقية في ذلك ، فكتب بخطه إليّ : صلّ فيها » (٢).

وهذه الرواية قوية الدلالة ، لأنّ اقتران الخز بغيره من الحيوانات أعني السنجاب والفنك يكشف عن أنّ المراد به هو الحيوان أيضاً ، لوحدة السياق فقوله عليه‌السلام : « صلّ فيها » أي صلّ في أجزاء هذه الحيوانات من الجلد والوبر وغيرهما ، فيقدر المضاف لا محالة.

ولا يخفى أنّ قول السائل : « أُحبّ أنْ لا تجيبني بالتقية » توقّع في غير محلّه‌

__________________

(١) الجواهر ٨ : ٨٨.

(٢) الوسائل ٤ : ٣٤٩ / أبواب لباس المصلي ب ٣ ح ٦.

١٨٣

لأنّ المورد إن كان من موارد التقية فلا يرفع الإمام عليه‌السلام يده عنها ولا يخالف وظيفته عليه‌السلام بهذا التوقع ، وإلا فهو عليه‌السلام يخبر عن الواقع لا محالة من دون أن يتّقي فيه بعد انتفاء مقتضيه ، وعلى التقديرين فهو توقّع مستدرك فتأمّل.

وكيف كان ، فالرواية لا بأس بدلالتها ، لكنّها ضعيفة السند ، لأنّ الصدوق يرويها عن شيخه محمد بن علي ماجيلويه (١) ولم يوثق. وقد مرّ غير مرّة أنّ مجرد كون الرجل من مشايخ الإجازة لا يقتضي الوثاقة ، كيف ومن مشايخ الصدوق الذي يروي عنه مَن لم يُرَ في خلق الله أنصب منه ، على حدّ تعبير الصدوق نفسه قدس‌سره (٢) حتى ذكر أنّه ( لعنه الله ) كان يصلّي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله منفرداً ، فكان يقول : اللهم صلّ على محمد منفرداً. هذا مضافاً إلى أنّ يحيى بن أبي عمران بنفسه أيضاً لم يوثق.

الثالثة : رواية ابن أبي يعفور (٣) فإنّها كالصريحة في كون المراد هو جلد الخز ، فإنّه الذي يحتاج إلى التذكية التي جعل الإمام عليه‌السلام ذكاته بموته في ذيل الخبر كسائر الحيتان دون الوبر كما هو ظاهر ، فهي صريحة الدلالة. لكنّها ضعيفة السند بعدة من المجاهيل كالعلوي والديلمي وقريب.

الرابعة : صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال : « سأل أبا عبد الله عليه‌السلام رجلٌ وأنا عنده عن جلود الخز ، فقال : ليس بها بأس ، فقال الرجل : جعلت فداك إنها علاجي أي شغلي أُعالج به أمر المعاش ، وفي بعض النسخ : في بلادي وإنّما هي كلاب تخرج من الماء ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : إذا خرجت من الماء تعيش خارج الماء؟ فقال الرجل : لا ، قال : ليس به بأس » (٤).

__________________

(١) راجع الفقيه ١ : ١٧٠ / ٨٠٤ و ٤ ( المشيخة ) : ٤٤.

(٢) [ وهو أبو نصر أحمد بن الحسين الضبي كما ذكره في عيون أخبار الرضا ٢ : ٢٧٩ / ٣ ].

(٣) الوسائل ٤ : ٣٥٩ / أبواب لباس المصلي ب ٨ ح ٤.

(٤) الوسائل ٤ : ٣٦٢ / أبواب لباس المصلي ب ١٠ ح ١.

١٨٤

ويدفعها : قصور الدلالة ، إذ لا تعرّض لها لحال الصلاة ، وإنّما السؤال عن جواز اللبس وعدمه ، فزعم السائل أنّها من الميتة فلا يجوز لبسها والانتفاع بها فأجاب عليه‌السلام بعدم كونها منها ، فهي أجنبية عمّا نحن فيه كما هو ظاهر.

الخامسة : صحيحة سعد بن سعد المتقدّمة (١) في الوبر ، وهي العمدة في الاستدلال. وبيانه : أنّ المحتملات في الصحيحة أمور :

الأول : أن يكون السؤال من جهة احتمال النجاسة الذاتية للخز ، حيث انّها كلاب تخرج من الماء كما عبّر بذلك في الصحيحة المتقدمة آنفاً وعليه فالنظر فيها إلى الطهارة والنجاسة لا إلى كون الجلد من أجزاء ما لا يؤكل لحمه فتكون أجنبية عمّا نحن فيه.

وفيه : أن هذا الاحتمال بعيد في حد نفسه لا يمكن حمل الصحيح عليه ، إذ كيف يحتمل في حق السائل أعني سعد بن سعد وهو من أجلاء أصحاب الرضا عليه‌السلام بل قد أدرك الكاظم عليه‌السلام أن يخفى عليه مثل هذا الحكم أعني اختصاص النجاسة الذاتية بالكلب البري دون البحري ، سيما وهو يرى أنّ الإمام عليه‌السلام قد لبس الوبر كما اعترف به في الصحيح ، فهل يحتمل في حقّه مع ما هو عليه من الجلالة أن يفرّق في أجزاء النجس الذاتي بين الوبر والجلد مع عدم خفائه على من له أدنى مساس بالفقه.

على أنّه كان الأنسب حينئذ أن يبدل الإمام عليه‌السلام في الجواب الحلّيّة بالطهارة فيجيب هكذا : إذا طهر وبره طهر جلده ، لا إذا حلّ وبره حلّ جلده كما لا يخفى. فهذا الاحتمال ساقط جزماً.

الثاني : أن يكون السؤال عن النجاسة العرضية من جهة احتمال كونه من الميتة ، حيث إنّه يرعى في البرّ ودابة تمشي على أربع ، فليس هو على حدّ الحيتان التي تكون ذكاتها بخروجها عن الماء حيّة والموت خارجه ، بل تحتاج‌

__________________

(١) في ص ١٨٢.

١٨٥

إلى التذكية بالذبح ، وبدونه تكون من الميتة ، كما أُشير إلى ذلك كلّه في بعض النصوص المتقدمة ، فتكون حينئذ أجنبية عمّا نحن فيه أيضاً.

وفيه : أنّ هذا الاحتمال وإن كان قابلاً في حدّ نفسه ولا يأباه مقام سعد كما كان يأبى الاحتمال السابق ، إلا أنّ ذيل الصحيح لا يساعد على ذلك ، إذ عليه تصبح القضية الشرطية كاذبة ، أعني قوله عليه‌السلام : « إذا حلّ وبره حلّ جلده » إذ لا ملازمة بين الأمرين جزماً ، بل الثابت خلاف ذلك ، إذ الميتة إنّما لا ينتفع بها أو يحكم بنجاستها في الأجزاء التي تحلّها الحياة كالجلد ، دون مثل الوبر ونحوه مما لا تحله الحياة. فحلّية الوبر لا تستلزم حلّية الجلد بالضرورة. على أنّه كان الأنسب حينئذ التعبير بالطهارة دون الحلّية كما عرفت في الاحتمال السابق.

فيبقى في المقام الاحتمال الثالث وهو المتعين ، بأن يكون السؤال من جهة كون جلد الخز من أجزاء ما لا يؤكل لحمه التي لا تجوز الصلاة فيها ولا تحلّ فأجاب عليه‌السلام بأنّه هَوْذا أو هُوَذا على الاحتمالين نحن نلبس. الصريح في الاستمرار أو الدالّ بالإطلاق على لبسه حتى في حال الصلاة. فذكر ثانياً أنّ الذي تلبسونه إنّما هو الوبر وسؤالي عن الجلد ، فأجاب عليه‌السلام بأنّه إذا حلّ الوبر حلّ الجلد. ولا ريب في صدق هذه الملازمة ، إذ البطلان في أجزاء ما لا يؤكل لا يختص بجزء دون جزء ، فإذا حلّ الصلاة في جزء حلّ في غيره ، كما أنّه لو حرم في جزء حرم فيما عداه أيضاً ، لاشتراك الجميع فيما هو المناط جوازاً ومنعاً. فكأنّه عليه‌السلام قال : إذا حرم في الجلد كما تتخيّل حرم في الوبر أيضاً لوحدة المناط ، لكنه حلّ في الوبر لانتفاء المانع حيث إن الخزّ مستثنى عما لا يؤكل فحلّ في الجلد أيضاً.

فتحصّل : أنّ الصحيح ما عليه المشهور من إلحاق الجلد بالوبر ، لأجل هذه الصحيحة. وأمّا غيرها مما استدل به في المقام من بقية الروايات فهي ضعيفة سنداً أو دلالة كما عرفت.

١٨٦

نعم ، قد تعارض الصحيحة بما رواه في الاحتجاج عن الحميري عن صاحب الزمان عليه‌السلام : « أنه كتب إليه : روي لنا عن صاحب العسكر عليه‌السلام أنه سئل عن الصلاة في الخز الذي يغشّ بوبر الأرانب ، فوقّع : يجوز. وروى عنه أيضاً : أنّه لا يجوز. فبأيّ الخبرين نعمل؟ فأجاب عليه‌السلام : إنما حرم في هذه الأوبار والجلود ، فأمّا الأوبار وحدها فكلّ حلال » (١).

وبما عن كتاب العلل لمحمد بن علي بن إبراهيم وهو إبراهيم بن هاشم « ولا يصلّى في الخز ، والعلّة في أن لا يصلّى في الخز أنّه من كلاب الماء ، وهي مسوخ إلا أن يصفّى وينقّى » (٢).

لكنّهما كما ترى لا تصلحان لمعارضة ما سبق ، للإرسال في الأُولى ، حيث إنّ الطبرسي في الاحتجاج ينقلها عن الحميري مرسلاً ، وجهالة محمد بن علي بن إبراهيم في الثانية ، على أنّه لم يثبت أنّ ما في علله رواية أم دراية ، ولعلّها اجتهاد أو استنباط من نفسه.

وعليه فلا ينبغي التأمّل في جواز الصلاة في جلد الخز كوبره كما عليه المشهور.

ثم إنّ الخز وإن عزّ وجوده في عصرنا وكان متداولاً في العصور السابقة يشتغل ببيعه جماعة كثيرون يسمّون بالخزازين إلا أنّه لا ينبغي التأمّل في أنّ المراد به في الروايات هو المسمّى بالخز في عصرنا الحاضر ، كما هو الشأن في سائر الألفاظ الواردة فيها المستعملة في معانيها ، فإنّها تنزّل على ما يفهم منها في العرف الحاضر بمقتضى أصالة عدم النقل.

وما عن المحدّث المجلسي في البحار من الاستشكال نظراً إلى ما يتراءى من‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٦٦ / أبواب لباس المصلي ب ١٠ ح ١٥ ، الاحتجاج ٢ : ٥٨٩.

(٢) البحار ٨٠ : ٢٣٥ / ٣٢ [ وذكر في ١ : ٢٨ حول مؤلف كتاب العلل ما نصّه : بل الأظهر كما سنح لي أخيراً أنّه محمد بن علي بن إبراهيم بن محمد الهمداني ].

١٨٧

الأخبار من أنّه حيوان لا يعيش خارج الماء ، فلا ينطبق على ما هو المسمّى بالخزّ الآن الذي هو دابة يعيش في البر ولا يموت بالخروج من الماء (١) غير قابل للتصديق ، لما عرفت من أنّ المتبع في أمثال المقام أصالة عدم النقل ، التي هي أصل عقلائي يعوّل عليه في تشخيص مفاد الكلمات المحرّرة في السجلات منذ قرون متمادية ، ولا يعتنى باحتمال إرادة معنى آخر ما لم يثبت خلافه ، استناداً إلى الأصل المزبور ، فإنّه لو لم يجر في المقام لم يجر في بقية الموارد بمناط واحد فيختل باب استنباط الأحكام وقد بنى فقهاؤنا العظام على كشف مقاصد الأئمة عليهم‌السلام مما يفهمونه من الألفاظ في عصرهم ، ولا يبالون باحتمال النقل المدفوع بالأصل.

وأمّا ما أشار إليه من الأخبار التي منها رواية ابن الحجاج (٢) فلعل المراد أنّه لا يعيش خارج الماء دائماً ، فلا مانع من خروجه أحياناً ، كما في كثير من الحيوانات البحرية كالضفدع ونحوه ، بل يظهر من رواية حمران بن أعين أنه « سبع يرعى في البرّ ويأوي في الماء » (٣).

وعليه فلا ينبغي الاستشكال في انطباق المذكور في الأخبار على ما هو المعروف في زماننا مما يسمّى باسم الخز ، هذا بحسب المفهوم.

وأمّا تشخيص الموضوع وتعيين المصداق فهل يكفي إخبار البائع بذلك؟ يظهر من المحقق الهمداني ذلك ، نظراً إلى قيام السيرة على سماع إخبار ذي اليد من أرباب الصنائع والبضائع عن حقيقة ما في يده وتصديقه فيما يدّعيه ، فمن أراد شيئاً من الأدوية يرجع إلى العطار ، أو من الأقمشة يرجع إلى التجار ويركن إلى قوله وإن لم يعرفه بنفسه ، فكذلك إخبار البائع عن كون ما في يده خزاً (٤).

__________________

(١) البحار ٨٠ : ٢٢٠.

(٢) الوسائل ٤ : ٣٦٢ / أبواب لباس المصلي ب ١٠ ح ١ ، وقد تقدمت في ص ١٨٤.

(٣) الوسائل ٢٤ : ١٩١ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ٣٩ ح ٢.

(٤) مصباح الفقيه ( الصلاة ) : ١٣٠ سطر ٢.

١٨٨

غير المغشوش بوبر الأرانب والثعالب (١)

______________________________________________________

ولكنه غير واضح ، إذ لا دليل على حجية إخبار ذي اليد بما هو كذلك عما في يده ، ومورد السيرة في الأمثلة المزبورة حصول الوثوق من قوله فيما إذا كان من أهل الخبرة والمعرفة ، وإلا فمجرد إخبار البائع عن كونه خزاً من دون حصول الوثوق من كلامه لا دليل على اعتباره ، ولعلّ المحقق المزبور لا يريده.

وكيف ما كان ، فلا شبهة في أنّ المرجع في تشخيص الموضوع في المقام ونحوه من الموضوعات الملتبسة هو أهل الخبرة.

(١) فالصلاة في المغشوش بأحد الوبرين باطلة على المشهور ، بل إجماعاً كما ادّعاه غير واحد ، ولم ينسب الخلاف إلا إلى الصدوق في الفقيه ، حيث إنّه بعد أن أورد رواية الجواز قال ما لفظه : وهذه الرخصة الآخذ بها مأجور ورادّها مأثوم (١). ومستند المشهور إطلاقات المنع عن الصلاة فيما لا يؤكل ، الشاملة للمغشوش وغيره بعد ظهور استثناء الخز في الاختصاص بالخالص منه المؤيدة بمرفوعتي أيوب بن نوح وأحمد بن محمد والظاهر أنّهما رواية واحدة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « الصلاة في الخز الخالص لا بأس به ، فامّا الذي يخلط فيه وبر الأرانب أو غير ذلك مما يشبه هذا فلا تصلّ فيه » (٢) فانّ الانجبار بعمل الأصحاب لا نقول به ، فلا تصلحان إلا للتأييد.

وبإزاء ذلك روايتان صريحتان في الجواز.

إحداهما : ما رواه الشيخ في الاستبصار بإسناده عن داود الصرمي عن بشير ابن بشار قال : « سألته عن الصلاة في الخز يغشّ بوبر الأرانب ، فكتب : يجوز ذلك » (٣).

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٧١ ذيل ح ٨٠٥.

(٢) الوسائل ٤ : ٣٦١ / أبواب لباس المصلي ب ٩ ح ١ وملحقه.

(٣) الوسائل ٤ : ٣٦٢ / أبواب لباس المصلي ب ٩ ح ٢ ، الاستبصار ١ : ٣٨٧ / ١٤٧١.

١٨٩

والأُخرى : ما رواه في التهذيب بسند آخر عن داود الصرمي أنّه سأل رجل أبا الحسن الثالث عليه‌السلام : وذكر مثله (١). ورواه الصدوق أيضاً بإسناده عن داود الصرمي (٢) ، ورواه في التهذيب أيضاً بسند آخر عن الصرمي مضمراً حيث قال : « سألته عن الصلاة ... » إلخ (٣).

وربما يجاب بإعراض الأصحاب ، ولكن الظاهر أنّها موهونة في نفسها ، فانّ بشير بن بشار لم يوجد في كتب الرجال. وعلى أي حال فسواء أكان ضبط الكلمة كذلك كما في الوسائل أم بصورة بشير بن يسار كما في الاستبصار ، أم بصورة بشر بن يسار كما في الوافي (٤) لا توثيق له. فالرواية الأُولى ضعيفة على جميع التقادير.

وأما الثانية فالصرمي لا توثيق صريح له في كتب الرجال ، واعتماد الصدوق لا يكشف عنه ، ولعلّه مبني على أصالة العدالة التي لا نقول بها ، نعم هو من رجال كامل الزيارات ، فيكون ثقة عندنا بتوثيق ابن قولويه (٥).

إذن فالسند الأول وإن كان ضعيفاً لكن الثاني خالٍ عن هذا الضعف لظهوره في أنّه كان حاضراً في مجلس السؤال ، فيروي جواب الإمام عليه‌السلام مباشرة وإن كان السائل مجهولاً ، أو أنّه رأى خط الإمام عليه‌السلام لو كان السؤال على سبيل المكاتبة.

ولكن الذي يمنعنا عن الركون إليه أنّ مقتضى السند الأول وهو صحيح إلى داود أنّه لم يكن حاضراً في مجلس السؤال. ومقتضى الثاني حضوره إمّا مع كون السائل غيره كما هو قضية إحدى روايتي التهذيب ، أو كونه نفسه كما‌

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢١٣ / ٨٣٤.

(٢) الفقيه ١ : ١٧٠ / ٨٠٥.

(٣) التهذيب ٢ : ٢١٢ / ٨٣٣.

(٤) الوافي ٧ : ٤١١ / ٦٢٢١.

(٥) ولكنه لم يكن من مشايخه بلا واسطة فلا يشمله التوثيق.

١٩٠

وكذا السنجاب (١)

______________________________________________________

هو مقتضى المضمرة ، وحيث لا يحتمل تعدد الواقعة فلا يدرى أنّه نقل عن الإمام بلا واسطة أو بواسطة مجهول ، فلا جرم تسقط عن درجة الاعتبار.

ومن ثمّ قال في التهذيب ما لفظه : وهذا ظاهر التناقض ، لأنّه لو كان السائل هو نفسه لوجب أن تكون الرواية الأخيرة كذباً ، ولو كان السائل غيره لوجب أن تكون الاولى كذباً ، وإذا تقابل الروايتان ولم يكن هناك ما يعضد إحداهما وجب اطراحهما (١).

وعلى الجملة : محتملات الرواية عن داود حسب اختلاف نقل المشايخ ثلاثة : كونه هو السائل ، كون السائل غيره وهو حاضر ، كونه غيره وهو غائب. وحيث إنّ الواقعة واحدة بالضرورة فلا سبيل للتعويل عليها.

أضف إلى ذلك أنّ المضمرة لا حجية لها في نفسها ، لجهالة المروي عنه ، فانّ داود الصرمي غايته أنّه موثق بتوثيق ابن قولويه ، ولم يبلغ من الجلالة حداً لا يحتمل روايته عن غير المعصوم ، مثل زرارة ومحمد بن مسلم وأضرابهما ، فلا يعتمد عليها بوجه.

هذا مع أنّ موردها وبر الأرانب خاصة ، فعطف الثعالب عليها عارٍ عن الدليل.

والمتحصّل : اختصاص الاستثناء بالخز الخالص كما عليه المشهور.

(١) فتجوز الصلاة في جلده ووبره وإن كان مما لا يؤكل. وقد اختلفت كلمات الفقهاء ( قدس الله أسرارهم ) في ذلك ، فذهب الشيخ في المبسوط (٢) وصلاة النهاية (٣) وأكثر المتأخرين إلى الجواز ، ونسبه في المنتهي إلى الأكثر (٤)

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢١٣ / ذيل ح ٨٣٤.

(٢) المبسوط ١ : ٨٢ ٨٣.

(٣) النهاية : ٩٧.

(٤) المنتهي ٤ : ٢١٨.

١٩١

بل قال في المبسوط : إنّه لا خلاف فيه. وذهب الشيخ نفسه في الخلاف (١) وكتاب الأطعمة والأشربة من النهاية (٢) إلى المنع ، واختاره جمع من القدماء ، ونسبه الشهيد الثاني إلى الأكثر (٣) بل عن ابن زهرة دعوى الإجماع عليه (٤). فالمسألة خلافية وذات قولين ، وليس أحدهما أشهر من الآخر.

وكيف ما كان ، فالمتبع هو الدليل بعد وضوح أنّ منشأ الخلاف اختلاف الأخبار ، وقد دلّت غير واحدة من الروايات على الجواز ، وهي على طائفتين :

إحداهما : غير نقية السند ، وهي لأجل ضعفها لا يلتفت إليها حتى بناءً على الانجبار بعمل المشهور ، لمنع الصغرى ، إذ لا شهرة في البين كما عرفت ، مضافاً إلى منع الكبرى.

مع أنّ بعضها غير قابل للتصديق في نفسه ، ففي رواية علي بن أبي حمزة : « .. لا بأس بالسنجاب فإنّه دابة لا تأكل اللحم ، وليس هو مما نهى عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ نهى عن كلّ ذي ناب ومخلب » (٥). حيث دلّت على اختصاص المنع بما له ناب ومخلب أي السباع مع وضوح عدم الاختصاص بلا إشكال ، ضرورة أنّ الاعتبار بما لا يؤكل لحمه ، سواء أكان من السباع أم لا ، فلو صح السند لزم الحمل على التقية.

ثانيتهما : نصوص معتبرة.

فمنها : صحيحة أبي علي بن راشد قال « قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : ما تقول في الفراء أيّ شي‌ء يصلّى فيه؟ قال : أيّ الفراء؟ قلت : الفنك والسنجاب‌

__________________

(١) الخلاف ١ : ٥١١ مسألة ٢٥٦.

(٢) النهاية : ٥٨٦ ٥٨٧ [ والصحيح في كتاب الصيد والذبائح ].

(٣) روض الجنان : ٢٠٧ السطر ٧.

(٤) الغنية : ٦٦ [ وفيها : ولا يجوز في جلود ما لا يؤكل لحمه ... ويدلّ على جميع ذلك الإجماع ].

(٥) الوسائل ٤ : ٣٤٨ / أبواب لباس المصلي ب ٣ ح ٣.

١٩٢

والسمور ، قال : فصلّ في الفنك والسنجاب. فامّا السمور فلا تصلّ فيه » (١).

ولعلّ السؤال في قوله عليه‌السلام : « أيّ الفراء » من أجل أنّ لهذه الكلمة إطلاقين : أحدهما : اللباس المعروف الذي هو شي‌ء كالجبة يبطن من جلود بعض الحيوانات. والثاني : حمار الوحش ، ومنه المثل المعروف : كلّ الصيد في جوف الفراء. فأجاب بأنّ المراد هو الأول المتخذ من السنجاب ونحوه.

ومنها : صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « أنّه سأله عن أشياء منها الفراء والسنجاب ، فقال : لا بأس بالصلاة فيه » (٢).

ومنها : صحيحته الأُخرى عنه عليه‌السلام قال : « سألته عن الفراء والسمور والسنجاب والثعالب وأشباهه ، قال : لا بأس بالصلاة فيه » (٣).

وهذه النصوص بالرغم من صحة أسنادها وصراحة مفادها قد نوقش فيها من وجهين :

أحدهما : أنّ السنجاب قد قورن في هذه النصوص بأُمور لا تجوز الصلاة فيها قطعاً كالفنك والسمور والثعالب ونحوها ، نعم خلت الصحيحة الأُولى للحلبي عنها ، إذ لم يذكر فيها مع السنجاب إلا الفراء التي هي حمار الوحش ويؤكل لحمه ، ولكن الظاهر أنّها متحدة مع الثانية ، لاتحاد السند والمتن ، غير أنّ الشيخ أجمل مرة وفصّل أُخرى. إذن فلا مناص من حملها على التقية.

ثانيهما : أنّ السنجاب بنفسه مذكور في موثقة ابن بكير الصريحة في عدم الجواز. ومن الواضح امتناع تخصيص المورد بهذه النصوص وإخراجه عن العام الوارد عليه الذي هو نص فيه. فلا جرم تقع المعارضة بينهما ، فلا تصلح للاستناد إليها.

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٤٩ / أبواب لباس المصلي ب ٣ ح ٥.

(٢) الوسائل ٤ : ٣٤٧ / أبواب لباس المصلي ب ٣ ح ١.

(٣) الوسائل ٤ : ٣٥٠ / أبواب لباس المصلي ب ٤ ح ٢.

١٩٣

ويندفع الأول : بأنّ سقوط الرواية عن الحجية في بعض مدلولها لمانع مختص به لا يلازم سقوطها في البعض الآخر ، فانّ التفكيك في مفاد الدليل غير عزيز في الفقه ، والسرّ أنّ الرواية المشتملة على حكمين تنحلّ في الحقيقة إلى روايتين ، فكأنّ الراوي روى مرة جواز الصلاة في الفنك وأُخرى جوازها في السنجاب ، فاذا كان للأُولى معارض أوجب سقوطها عن الحجية لا مقتضي لرفع اليد عن الثانية السليمة عنه ، نظير ما لو أخبرت البينة في الشبهات الموضوعية عن طهارة الثوب والإناء ، وقد علمنا بنجاسة الثوب ، فانّ سقوطها فيه لا يستوجب السقوط عن الحجية في الإناء.

وعليه فتحمل الاولى في المقام على التقية لوجود المعارض ، والثانية على بيان الحكم الواقعي لسلامتها عنه.

فالعمدة في الإشكال هو الوجه الثاني. وقد أجاب عنه جمع منهم صاحب الجواهر (١) بعدم الضير في تخصيص الموثقة بهذه الصحاح وإن استلزم تخصيص المورد ، إذ لا محذور فيه في القرينة المتصلة بالضرورة كما لو سئل عن إكرام زيد العالم فأُجيب أكرم كلّ عالم إلا زيداً ، أو لو أُجيب في الموثقة هكذا : وكلّ شي‌ء منه إلا السنجاب. فاذا ساغ ذلك في المتصلة ولم يكن محذور فيه ساغ في المنفصلة أيضاً بمناط واحد ، إذ المعيار في التنافي بين الدليلين عدم إمكان الجمع بينهما في لسان واحد ، فإذا أمكن لدى الاتصال وصحّ التخصيص الدافع للمنافاة أمكن لدى الانفصال أيضاً.

والأصل في هذا الجواب هو صاحب الجواهر على ما ذكره المحقق الهمداني (٢) قدس‌سرهما.

ولكنك خبير بأنّ هذه العلّة واضحة الدفع ، للفرق البيّن بين القرينتين ، فانّ‌

__________________

(١) الجواهر ٨ : ١٠٠.

(٢) مصباح الفقيه ( الصلاة ) : ١٣١ سطر ٣١.

١٩٤

المتصلة تمنع عن أصل الظهور وتصادم انعقاده ، فلا ظهور للعام في ابتداء الكلام إلا فيما عدا الخاص. وبذلك ينعدم موضوع المعارضة لتقوّمها بظهورين متصادمين ، وليس في البين إلا ظهور واحد.

أمّا في المنفصلة فقد انعقد الظهور للعام واستقر الكلام ، فاذا لم يكن المخصص المنفصل صالحاً للتخصيص لاستلزامه إخراج المورد كما هو المدعى فلا جرم تتحقق المعارضة بينهما. فلو قيل إنّ زيداً باع جميع كتبه إلا الفقهية ، لم يكن ثمة تعارض بين المستثنى والمستثنى منه. أما لو قيل إن زيداً باع جميع كتبه ولم يبق عنده ولا كتاباً واحداً ، ثم بعد مدّة قيل إنّه لم يبع كتبه الفقهية ، رأى العرف تهافتاً وتناقضاً بين الكلامين. والسرّ ما عرفت من عدم انعقاد الظهور إلا بعد التخصيص في الأوّل ، وانعقاده قبله في الثاني.

وعليه فالصحاح المجوّزة للصلاة في السنجاب تعارض الموثقة المانعة التي هي كالنص في موردها حسب الفرض. فهذا الجواب غير تام.

والصحيح في المقام أن يقال : إنّ تخصيص المورد إنّما يكون ممنوعاً فيما إذا كان بخصوصه منظوراً من العام ومعقوداً عليه الكلام ، فكان المجيب ناظراً إلى مورد السؤال ، كما لو سئل عن إكرام زيد العالم ، فقال : أكرم كلّ عالم ، أو عن إكرام شارب الخمر ، فقال : لا تكرم كلّ فاسق. فانّ إخراج هذا المورد بعد ذلك بمخصص منفصل موجب للتناقض كما أُفيد.

وأمّا إذا لم يكن المجيب ناظراً إلى مورد السؤال وإنّما تعرّض لحكم كلّي ولا سيما إذا كان السؤال عن أُمور عديدة كما في المقام ، حيث إنّ زرارة سأل في موثقة ابن بكير أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من دون أن يكون السائل ناظراً إلى خصوص السنجاب ولا المجيب ، وإنّما ذكره في السؤال من باب المثال ، وقد أعطى الإمام عليه‌السلام ضابطة كلّية بنطاق عام ، فانّ مثل هذا العموم لا يكون نصّاً في المورد المزبور ، بل غايته أنّه ظاهر في الشمول له ظهوراً قابلاً للتخصيص بدليل‌

١٩٥

وأمّا السمور (١)

______________________________________________________

منفصل ، كما هو الحال في سائر العمومات والإطلاقات ، من دون أي تهافت أو تناقض.

إذن فلا مانع من تخصيص الموثقة بالصحاح المتقدمة وإخراج السنجاب من تحتها والحكم بجواز الصلاة فيه. فما لعلّه المشهور واختاره في المتن من صحة الصلاة فيه هو الصحيح.

(١) وهو على وزن تنّور ، حيوان يشبه السنَّوْر ، أكبر منه ، له جلد ناعم يتخذ للفراء ، وقد اختلف الأصحاب في إلحاقه بالخز والسنجاب في الاستثناء عمّا لا يؤكل لحمه ، فاختار الماتن تبعاً للمشهور عدم الإلحاق فلا تجوز الصلاة فيه ، بل عن المفاتيح دعوى الإجماع عليه (١). وعن الصدوق في المقنع (٢) وغيره الجواز.

ويظهر ذلك من المحقق في المعتبر ، حيث إنه بعد أن استدل له بصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن الفراء والسمّور والسنجاب والثعالب وأشباهه ، قال : لا بأس بالصلاة فيه » (٣) وبصحيحة علي ابن يقطين قال : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن لباس الفراء والسمّور والفنك والثعالب وجميع الجلود ، قال : لا بأس بذلك » (٤). قال ما لفظه : وطريق هذين الخبرين أقوى من تلك الطرق ، ولو عمل بهما عامل جاز (٥).

لكنّك خبير بأنّ صحيحة ابن يقطين كغيرها مما ورد بهذا السياق كصحيحة‌

__________________

(١) مفاتيح الشرائع ١ : ١٠٩.

(٢) المقنع : ٧٩.

(٣) الوسائل ٤ : ٣٥٠ / أبواب لباس المصلي ب ٤ ح ٢.

(٤) الوسائل ٤ : ٣٥٢ / أبواب لباس المصلي ب ٥ ح ١.

(٥) المعتبر ٢ : ٨٦.

١٩٦

ابن الصلت (١) ناظرة إلى مجرد اللبس ، وغير متعرضة للصلاة ، فلا يصح الاستدلال بها لهذا الصدد.

نعم ، صحيحة الحلبي صريحة فيه ، ولا يقدح اشتمالها على الثعالب ، لما تقدّم (٢) من أنّ رفع اليد عن بعض فقرأت الحديث لوجود المعارض لا يمنع عن الأخذ بالبعض الآخر السليم عنه ، فلا مانع من الاستدلال بها.

وتؤيّده رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : « سألته عن لبس السمّور والسنجاب والفنك ، فقال : لا يلبس ولا يصلّى فيه إلا أن يكون ذكيا » (٣) حيث دلّت على جواز الصلاة مع التذكية ، وإن كانت ضعيفة السند من أجل اشتماله على عبد الله بن الحسن.

فلو كنّا نحن وهذه الصحيحة لحكمنا بجواز الصلاة فيه ، ولكنّها معارضة بصحيحتين تضمنتا النهي عن الصلاة فيه ، الذي هو في أمثال المقام إرشاد إلى الفساد.

إحداهما : صحيحة أبي علي بن راشد ، قال « قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : ما تقول في الفراء أي شي‌ء يصلّى فيه؟ قال : أيّ الفراء؟ قلت : الفنك والسنجاب والسمّور ، قال : فصلّ في الفنك والسنجاب ، فأمّا السمّور فلا تصلّ فيه » (٤).

ثانيتهما : صحيحة سعد بن سعد الأشعري عن الرضا عليه‌السلام قال : « سألته عن جلود السمّور ، فقال : أيّ شي‌ء هو ذاك الأدبس؟ فقلت : هو الأسود ، فقال : يصيد؟ قلت : نعم ، يأخذ الدجاج والحمام ، فقال : لا » (٥).

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٥٢ / أبواب لباس المصلي ب ٥ ح ٢.

(٢) في ص ١٩٤.

(٣) الوسائل ٤ : ٣٥٢ / أبواب لباس المصلي ب ٤ ح ٦.

(٤) الوسائل ٤ : ٣٤٩ / أبواب لباس المصلي ب ٣ ح ٥.

(٥) الوسائل ٤ : ٣٥٠ / أبواب لباس المصلي ب ٤ ح ١.

١٩٧

والقاقم (١)

______________________________________________________

ولا ينبغي التأمل في أنّ الترجيح مع الثانية ، لوجهين :

أحدهما : أنّها مخالفة للعامة ، حيث إنّهم يرون جواز الصلاة في كافة الجلود مما يؤكل لحمه وما لا يؤكل (١) فتقدم ، لأنّ الرشد في خلافهم ، فتحمل الاولى على التقية.

ثانيهما : أنّها موافقة للسنة القطعيّة من موثقة ابن بكير وغيرها ، والأولى مخالفة لها فتطرح.

ومع الغض عن ذلك وتسليم عدم الترجيح واستقرار المعارضة فيرجع بعد التساقط إلى العمومات المانعة من الصلاة فيما لا يؤكل ، من موثقة ابن بكير وغيرها ، للزوم الرجوع إليها بعد ابتلاء المخصص بالمعارض. فالنتيجة واحدة ، سواء ثبت الترجيح أم لا ، فما في المتن من عدم جواز الصلاة في السمّور هو الصحيح.

(١) بضم القاف الثانية ، يقال إنّه أكبر من الفأرة ويأكلها ، ولم يوجد على وزنه في لغة العرب ، ولعلّه أعجمي مستعرب. وظاهر تعبير الماتن بقوله : على الأقوى مع ذكر القاقم في سياق غيره من المذكورات في المتن ، وجود الخلاف فيه أيضاً ، مع أنّه لم ينسب القول بالجواز إلى أحد ، وبما أنّه من الحشرات التي تعيش تحت الأرض كالفأرة وهي بأجمعها محرمة الأكل فلا شبهة في عدم جواز الصلاة في أجزائه كغيره مما لا يؤكل لحمه.

نعم ، روى المحدّث النوري في المستدرك رواية علي بن جعفر المتضمنة للجواز مشتملة على القاقم (٢).

لكن صاحب الوسائل رواها خالية عنه (٣) فلم تثبت تلك الزيادة ، وعلى‌

__________________

(١) بدائع الصنائع ١ : ٨٦ ، المغني ١ : ٨٨ ، الشرح الكبير ١ : ١٠١.

(٢) المستدرك ٣ : ١٩٩ / أبواب لباس المصلّي ب ٣ ح ٢.

(٣) الوسائل ٤ : ٣٥٢ / أبواب لباس المصلي ب ٤ ح ٦.

١٩٨

والفنك (١)

______________________________________________________

تقدير الثبوت فالرواية ضعيفة السند بعبد الله بن الحسن. إذن فلا ينبغي التأمل في عدم الجواز.

(١) قال في مجمع البحرين : الفنك كعسل ، دويبة برية غير مأكول اللحم يؤخذ منه الفرو ، ويقال إنّ فروها أطيب من جميع أنواع الفراء ، وهو نوع من جراء الثعلب الرومي. قال : وحكي عن بعض العارفين أنّه يطلق على فرخ ابن آوى في بلاد الترك (١).

والمشهور عدم جواز الصلاة فيه ، بل عن المفاتيح (٢) دعوى الإجماع عليه استناداً إلى إطلاق موثق ابن بكير.

ونسب الجواز في الحدائق إلى الصدوق في كتابيه وهما المقنع والأمالي المسمّى بالمجالس ، فإنّهما كتاب واحد ، ونسب إلى العلامة في المنتهي أنّه استوجهه (٣).

وتدلّ عليه جملة من النصوص عمدتها صحيحة ابن راشد قال : « فصلّ في الفنك والسنجاب .. » إلخ (٤) المؤيدة بروايات بشير بن بشار ، ويحيى بن أبي عمران ، ووليد بن أبان (٥) وليس لها معارض ما عدا إطلاق موثق ابن بكير الصالح للتقييد بها من غير محذور كما سبق الكلام فيه مستقصى (٦) وبذلك يفارق السمور ونحوه مما له معارض.

__________________

(١) مجمع البحرين ٥ : ٢٨٥.

(٢) مفاتيح الشرائع ١ : ١٠٩.

(٣) لم أعثر على مصدر هذه النسبة في غير المستمسك [ ٥ : ٣٢٥ ] من الكتب المطوّلة. والموجود في الحدائق [ ٧ : ٧٠ ٧١ ] بعد النسبة إلى الصدوق في كتابيه نسبته إلى الشيخ في الخلاف وسلار نقلاً عن المختلف.

(٤) الوسائل ٤ : ٣٤٩ / أبواب لباس المصلي ب ٣ ح ٥.

(٥) الوسائل ٤ : ٣٤٨ / أبواب لباس المصلي ب ٣ ح ٤ ، ٦ ، ٧.

(٦) في ص ١٩٣ فما بعدها.

١٩٩

والحواصل (١) فلا تجوز الصلاة في أجزائها على الأقوى.

______________________________________________________

إذن فمقتضى الصناعة الحكم بالجواز عملاً بهذه النصوص لولا إعراض الأصحاب عنها ، لكن المختار عدم سقوط الصحيح به عن درجة الاعتبار. فالأقوى جواز الصلاة فيه وإن كان الاحتياط مما لا ينبغي تركه.

(١) قيل إنّها من سباع الطيور ، لها حواصل عظيمة وقد دلّت جملة من النصوص على استثنائها مما لا يؤكل ، عمدتها ما عبّر عنه بصحيحة عبد الرحمن ابن الحجاج قال : « سألته عن اللحاف ( الخفاف ) من الثعالب أو الجرز ( الخوارزمية ) منه أيصلّى فيها أم لا؟ قال : إن كان ذكيا فلا بأس به » (١) فإنّ الخوارزمية هي قسم من الحواصل.

ولكن هذه النسخة المطابقة للإستبصار (٢) معارضة بنسخة اخرى أوردها في التهذيب بلفظة « الجرز منه » (٣) قيل : الجرز نوع لباس للنساء ، والضمير في « منه » راجع إلى الثعالب. وعليه فتكون الرواية أجنبية عمّا نحن فيه.

إذن فلم يثبت متن الرواية بنحو يصلح للاستدلال به لما نحن بصدده ، ولا سيما بعد اختلاف النسخ من ناسخ واحد. هذا أولاً.

وثانياً : مع التسليم فهي أخصّ من المدعى ، لاختصاصها بنوع خاص من الحواصل تسمّى بالخوارزمية ، لا على سبيل الإطلاق ، ولم يثبت عدم القول بالفصل ، غايته أنّهم لم يصرحوا بذلك كما لا يخفى.

وثالثاً : أنّ سندها مخدوش وإن عبر عنها بالصحيحة في الجواهر (٤) وغيره فانّ في السند علي بن السندي ، ولم يوثق ، نعم وثّقه نصر بن الصباح على ما‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٥٨ / أبواب لباس المصلي ب ٧ ح ١١.

(٢) الاستبصار ١ : ٣٨٢ / ١٤٤٩.

(٣) التهذيب ٢ : ٣٦٧ / ١٥٢٨.

(٤) الجواهر ٨ : ١٠٨.

٢٠٠