موسوعة الإمام الخوئي - ج ١٢

الشيخ مرتضى البروجردي

الصلاة فيه وإن كان من أجزاء الميتة ، التي منها صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لا بأس بالصلاة فيما كان من صوف الميتة ، إنّ الصوف ليس فيه روح » (١) حيث يفهم من التعليل عموم الحكم لكلّ ما لا روح فيه.

ولو لا تلكم الروايات الناصّة على الجواز لحكمنا بعدمه وإن بنينا على طهارته ، أخذاً بإطلاق دليل المنع بعد وضوح عدم الملازمة بين الطهارة وبين جواز الصلاة. ومن ثم حكمنا بطهارة ما لم يعلم أنّه من الميتة. وكذا ميتة ما لا نفس له مع عدم جواز الصلاة في شي‌ء منهما.

فلا مانع من أن يكون المقام من هذا القبيل لولا ما عرفت من النصوص الصريحة في الجواز ، التي بها ترفع اليد أيضاً عن ظاهر موثقة ابن بكير من اعتبار التذكية حتى فيما لا تحلّه الحياة ، حيث قال عليه‌السلام : « فان كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكلّ شي‌ء منه جائز إذا علمت أنه ذكي وقد ذكاه الذبح » (٢) فإنّها ظاهرة بمقتضى رجوع القيد إلى الجميع في اشتراط التذكية حتى فيما لا تحلّه الحياة.

لكن صراحة النصوص المزبورة في العدم تستوجب رفع اليد عن هذا الظهور ، والالتزام برجوع القيد إلى الفقرة الأخيرة ، أعني قوله عليه‌السلام : « وكلّ شي‌ء منه » ويكون حاصل المعنى أنّ الصلاة في كل شي‌ء مما يؤكل يتوقف على إحراز التذكية ، ولا ينافي ذلك عدم التوقف في البعض كالصوف ونحوه ، لأنّ مفهوم القضية الشرطية في قوله عليه‌السلام : « وكلّ شي‌ء منه جائز إذا علمت أنّه ذكي » عدم جواز الصلاة في كلّ شي‌ء منه إذا لم تعلم بالتذكية ، فالقضية السالبة في الجملة المفهومية مصوغة على سبيل سلب العموم لا عموم السلب ، ويكفي في سلبه جواز الصلاة في بعض الأجزاء وإن لم تحرز تذكيته ، وإنّما لا يكفي إذا لوحظت القضية بنحو عموم السلب ليلزم الاطّراد في‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٥١٣ / أبواب النجاسات ب ٦٨ ح ١.

(٢) الوسائل ٤ : ٣٤٥ / أبواب لباس المصلي ب ٢ ح ١.

١٦١

[١٢٧٨] مسألة ١٠ : اللحم أو الشحم أو الجلد المأخوذ من يد الكافر أو المطروح في بلاد الكفار ، أو المأخوذ من يد مجهول الحال في غير سوق المسلمين (١)

______________________________________________________

جميع الأفراد ، ويتنافى حينئذ مع صحيحة الحلبي ، وليس كذلك.

فالمقام نظير قوله عليه‌السلام : « إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجسه شي‌ء » (١) حيث إن مفهومه أنّه إذا لم يبلغ ينجسه شي‌ء لا أنّه ينجسه كلّ شي‌ء ، بداهة أنّ نقيض السالبة الكلّية موجبة جزئية ، كما أنّ نقيض الموجبة الكلّية سالبة جزئية فانّ السلب الكلّي ينافيه الإيجاب الجزئي ، كما أنّ الإيجاب الكلّي ينافيه السلب الجزئي.

وعليه فلا مانع من الصلاة فيما لا تحله الحياة وإن كان من أجزاء الميتة.

(١) تقدم أنّ القاطع لأصالة عدم التذكية أحد أمرين :

الأوّل : الصنع في دار الإسلام ، سواء أُخذ من يد مسلم أو كافر أو مجهول ، لمصحّح إسحاق بن عمار الدالّ على أنّ الاعتبار بغلبة وجود المسلمين في البلاد التي يصنع فيها ، ليكون ذلك أمارة على جريان يد المسلم ولو بحسب تلك الغلبة.

الثاني : الأخذ من يد المسلم ، وقد دلّت عليه صحيحة الحلبي وصحيحة البزنطي (٢) وغيرهما الناطقة باعتبار سوق المسلمين ، وقد عرفت أنّ السوق في نفسه لا موضوعية له ، وإنّما العبرة بغلبة وجود المسلمين فيه ، ومن ثم لو أُخذ فيه من يد مجهول الحال كفى ، ولا يلزمه السؤال ، بل قد نهي عنه في تلك الأخبار.

ومنه تعرف أنّ ما أُفيد في المتن لا يستقيم على إطلاقه ، فالمأخوذ من يد‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٨ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ١.

(٢) المتقدمتان في ص ١٥٧.

١٦٢

أو المطروح في أرض المسلمين إذا لم يكن عليه أثر الاستعمال (١) محكوم بعدم التذكية ، ولا تجوز الصلاة فيه.

______________________________________________________

الكافر أو المطروح في بلاد الكفر إذا كان مصنوعاً في بلاد الإسلام محكوم بالتذكية ، لكشفه عن جريان يد المسلم قبل الوصول إلى يد الكافر ، كما أنّ المأخوذ من مجهول الحال في غير سوق المسلمين إنّما يحكم عليه بعدم التذكية إذا لم يكن مصنوعاً في بلاد الإسلام. فإطلاق القول بعدم التذكية في هذه الموارد في غير محلّه.

(١) تقدّم الكلام حول مستند هذا التقييد وأنه رواية إسماعيل بن عيسى الواردة في الشراء من أسواق الجبل (١) وعرفت النقاش فيها سنداً لضعفه ، ودلالة لعدم وضوح كونها من أسواق المسلمين ، بل لعلّ فيها ما يشهد بخلاف ذلك. وعلى أي حال فلا يمكن الاعتماد عليها. فالتقييد المزبور لا أساس له ، بل يكفي كونه في يد المسلم أو مطروحاً في بلاد المسلمين وإن كان عارياً عن أثر الاستعمال ، لإطلاقات نصوص السوق بعد أن عرفت أنّ السوق لا خصوصية له ، وإنّما هو أمارة على إسلام من يؤخذ منه ، بل عرفت أنّ الأخذ أيضاً لا خصوصية له ، بل مجرد الاستيلاء على ما جرت عليه يد محكومة بالإسلام لغلبة المسلمين في البلد كافٍ وإن كان المأخوذ منه مجهول الحال ، فلو جاءت هرّة وفي فمها لحم حكم بتذكيته وإن لم يعلم إسلام اليد التي اختلسته الهرّة منها فضلاً عن استعمالها ، بعد أن كان الغالب في الأرض هم المسلمين.

نعم ، المأخوذ من يد الكافر في سوق المسلمين أو من مجهول الحال في سوق الكفار محكوم بعدم التذكية ، لما عرفت من انصراف نصوص السوق إلى خصوص سوق المسلمين ، وأنّه إنّما يكون أمارة مع الشك لا مع القطع بكفر اليد كما هو واضح جدّاً.

__________________

(١) في ص ١٥٩.

١٦٣

بل وكذا المأخوذ من يد المسلم إذا علم أنّه أخذه من يد الكافر (١) مع عدم مبالاته بكونه من ميتة أو مذكى.

______________________________________________________

(١) قد يقال بمشمولية هذه الصورة لإطلاقات نصوص السوق ، نظراً إلى كثرة الكفرة الذين يتعاملون مع المسلمين ، ولا سيما إذا ألحقنا بهم الخوارج والنواصب والغلاة ، لتداول ذبحهم للحيوانات وأكلهم لها وبيع جلودها ، فلا موجب لتقييد يد المسلم بعدم السبق بيد الكافر ، بل المتبع إطلاقات الأدلة.

ويظهر من المتن التفصيل بين المسلم المبالي بأحكام الدين والملتزم بها فتكون يده حينئذ أمارة على التذكية ، وبين غير المبالي فلا أمارية لها.

أقول : أمّا ما ذكره في غير المبالي فجيّد ، إذ المستفاد من النصوص الناهية عن السؤال عن المأخوذ من سوق المسلمين اختصاص الحكم بصورة الجهل بالحال واحتمال اتصاف الحيوان بالتذكية ، بحيث لو سألنا صاحب اليد لما ظهر لنا غالباً خلاف ما احتملناه ، ومن ثم نهينا عن تكلّف المسألة والتضييق على النفس بكثرة الأسئلة كما صنعه الخوارج ، فلا تشمل ما كان معلوم الحال لكونه محكوماً بعدم التذكية من أول الأمر وقبل انتقاله إلى المسلم من أجل كونه تحت يد الكافر.

وبالجملة : لا تنفع يد المسلم المسبوقة قبل ساعة مثلاً بيد الكافر المحكومة آن ذاك بعدم التذكية ، فإنّ ذلك بمنزلة ما لو أخذه من الكافر ابتداء ومباشرة من دون توسيط يد المسلم ، فلا ينبغي الشك في خروج هذه الصورة عن منصرف الإطلاقات. ومنه يعلم فساد ما أُفيد آنفاً من التمسك بها.

وأمّا ما ذكره في المبالي بالدين والثقة الملتزم بأحكامه فإن كان تعريضه للبيع بمثابة إخباره عن التذكية صحّ ، لحجيّة خبر الثقة في الموضوعات ، وأمّا لو لم يكن كذلك ولو لاحتمال أنّه نسي شراءه من الكافر أو لم يكن ملتفتاً إلى كفره ونحن نعلم به فلا وجه حينئذ للحكم بالتذكية ، لما عرفت من أنّ نصوص‌

١٦٤

أماريّة يد المسلم قاصرة الشمول للمسبوقة بيد الكافر. فالتفصيل بين المبالي وغيره لا يستقيم على إطلاقه.

تنبيه : لو كان نصف الحيوان بيد المسلم ونصفه الآخر في يد الكافر فمقتضى اليد الأُولى تذكية ما في تحتها ، كما أنّ مقتضى الثانية عدم التذكية ، ولكنّا نعلم وجداناً باتحاد حكم النصفين والملازمة بينهما واقعاً ، لعدم تحمّل الحيوان الواحد لحكمين متضادين ، فأمّا أنّه مذكى كلّه ، أو غير مذكى كلّه أيضاً ، فلا يحتمل التفكيك في الحكم الواقعي.

وهل يمكن ذلك في الحكم الظاهري أو انّه لا بدّ من الحكم عليهما معاً بالتذكية أو بعدمها؟

لا شبهة أنّ يد المسلم أمارة التذكية ، وبناء على المشهور من حجية مثبتات الأمارات تدلّ بالالتزام على تذكية النصف الآخر أيضاً.

وأمّا يد الكافر فان قلنا بأنّها أمارة على عدم التذكية كما مال إليه في الجواهر (١) فتدلّ طبعاً بالالتزام على عدم تذكية النصف الآخر ، فيتعارض المدلول المطابقي لكلّ منهما مع المدلول الالتزامي للآخر ، والمرجع بعد التساقط أصالة عدم التذكية في النصفين معاً.

وإن أنكرنا ذلك وبنينا على أنّ يد الكافر لا تكون أمارة على التذكية لا أنّها تكون أمارة على العدم ، فلا جرم تكون يد المسلم سليمة عن المعارض ، فيعمل بمقتضاها من كونها أمارة على تذكية النصفين معاً ، أحدهما بالمطابقة والآخر بالالتزام.

هذا على المشهور من حجية الأمارات في لوازمها والعمل بمثبتاتها مطلقاً حتى أنّهم جعلوا ذلك هو الفارق بينها وبين الأُصول العملية.

ولكنّا ذكرنا في محلّه (٢) أنّ هذا بالرغم من اشتهاره وانتشاره لا أساس له‌

__________________

(١) الجواهر ٨ : ٥٤.

(٢) مصباح الأُصول ٣ : ١٥١ ١٥٥.

١٦٥

[١٢٧٩] مسألة ١١ : استصحاب جزء من أجزاء الميتة في الصلاة موجب لبطلانها وإن لم يكن ملبوساً (١).

______________________________________________________

وربّ شهرة لا أصل لها ، فإنّ حجيّة اللوازم تفتقر إلى الدليل ، ومجرد الأمارية لا تستوجبها. ومن ثم كان الظن بالقبلة لدى فقد العلامات حجة وأمارة عليها ، دون أن يثبت بذلك لازمها من دخول الوقت لو زالت الشمس عن الحاجب الأيمن لدى الوقوف إلى الجهة المظنون كونها قبلة.

أجل إنّ طائفة من الأمارات وهي التي تكون من سنخ الحكايات كخبر الواحد والإقرار ، وخبر الثقة في الموضوعات وما شاكلها تكون حجة في مثبتاتها ، لأنّ بناء العقلاء الذي هو العمدة في الحجية كما قام عليها في المدلول المطابقي قام عليها في المدلول الالتزامي أيضاً بمناط واحد حتى إذا كان المخبر بنفسه جاهلاً بالملازمة ، فلو أخبر أنّ زيداً شرب ما في الكأس ولا يدري ما فيه ونحن نعلم أنّه سمّ قاتل فقد أخبر عن مماته ، كما أنّه لو أقرّ بأنّه أوصل السلك الكهربائي بعمرو فقد أقرّ بقتله.

وحيث إنّ أمارية يد المسلم لم تكن من هذا القبيل فلا تكون مثبتاتها حجة. إذن فيبقى ما في يد الكافر تحت أصالة عدم التذكية ، ونتيجة ذلك هو التفصيل بين النصفين فيحكم بتذكية ما في يد المسلم دون غيره. ولا مانع من التفكيك بين المتلازمين في الأحكام الظاهرية ، فإنّه غير عزيز في الفقه كما لا يخفى.

(١) تقدّم في مبحث النجاسات (١) أنّ الممنوع في الروايات إنّما هو الصلاة في الميتة ، وهي لمكان الظرفية تفيد الاختصاص بالملبوس ، حيث يكون كظرف للمصلي ولو بالعناية فلا يشمل المحمول ، كما هو الحال في النهي عن الصلاة في الذهب والحرير ، حيث إنّ الممنوع لبسهما لا حملهما ، ولكن هناك رواية واحدة يظهر منها شمول المنع للمحمول أيضاً ، وهي صحيحة عبد الله بن جعفر قال :

__________________

(١) شرح العروة ٣ : ٤٣٦.

١٦٦

[١٢٨٠] مسألة ١٢ : إذا صلى في الميتة جهلاً لم يجب الإعادة ، نعم مع الالتفات والشك لا تجوز ولا تجزئ (١) ، وأمّا إذا صلى فيها نسياناً فان كانت ميتة ذي النفس أعاد في الوقت وخارجه (*) (٢).

______________________________________________________

« كتبت إليه ، يعني أبا محمد عليه‌السلام : يجوز للرجل أن يصلي ومعه فأرة المسك؟ فكتب : لا بأس به إذا كان ذكيا » (١) لظهورها في أنّ المسئول عنه هو الفأرة أعني الوعاء دون المسك نفسه. وقد دلّت بمقتضى المفهوم على عدم جواز حملها في الصلاة إذا لم تكن ذكيا. ومن ثم فصّلنا ثمة في الأعيان النجسة بين الميتة وغيرها ، وعممنا المنع في الأول للملبوس والمحمول فراجع (٢).

(١) فصّل قدس‌سره في الجاهل بين المركب والبسيط.

ففي الأول ، أعني من لم يلتفت إلى جهله إمّا لكونه غافلاً أو لاعتقاده الخلاف ثم انكشف له الخلاف بعد الصلاة صحّت ، ولا إعادة عليه في الوقت فضلاً عن خارجه لحديث لا تعاد ، سواء كانت الميتة نجسة أم طاهرة ، فإنّ المانعية من كلتا الناحيتين مرفوعة بالحديث ، مضافاً إلى النصوص الخاصة الناطقة بالعفو عن النجاسة لدى الجهل بها.

وفي الثاني بما أنّ الشرط وهو التذكية غير محرز ، بل محرز العدم بمقتضى أصالة العدم ، فلا يجوز للملتفت الدخول في المشروط قبل إحراز شرطه ، بعد وضوح عدم كون مثله مشمولاً للحديث.

(٢) لنجاسة الميتة حينئذ ، وقد نطقت الروايات ببطلان الصلاة مع نسيان النجاسة ، وهي بمثابة التخصيص في حديث لا تعاد ، فلا جرم تجب الإعادة أو القضاء.

__________________

(*) هذا إذا كانت الميتة مما تتم الصلاة فيه وإلا لم تجب الإعادة حتى في الوقت.

(١) الوسائل ٤ : ٤٣٣ / أبواب لباس المصلي ب ٤١ ح ٢.

(٢) شرح العروة ٣ : ٤٤١.

١٦٧

وإن كان من ميتة ما لا نفس له فلا تجب الإعادة (١).

[١٢٨١] مسألة ١٣ : المشكوك في كونه من جلد الحيوان أو من غيره لا مانع من الصلاة فيه (٢).

الرابع : أن لا يكون من أجزاء ما لا يؤكل لحمه (٣) ، وإن كان مذكى أو حياً ، جلداً كان أو غيره ، فلا تجوز الصلاة في جلد غير المأكول ، ولا شعره وصوفه ، وريشه ، ووبره ، ولا في شي‌ء من فضلاته ،

______________________________________________________

وكان على الماتن تقييد الحكم بما إذا كانت الميتة مما تتم فيه الصلاة. أمّا ما لا تتم فلا تجب الإعادة حتى في الوقت ، لحديث لا تعاد ، بعد قصور ما دلّ على البطلان في ناسي النجاسة عن الشمول للمقام ، لاختصاصه بما إذا كانت النجاسة المنسية في الثوب ونحوه مما تتم فيه الصلاة.

(١) إذ لا مانعية حينئذ إلا من ناحية الميتة دون النجاسة ، وهي مشمولة لحديث لا تعاد.

(٢) لا لأصالة البراءة عن اشتراط تذكيته أو عن مانعيته ، بل للأصل الموضوعي الحاكم عليها ، وهو أصالة عدم كونه من جلد الحيوان ، أمّا بناءً على جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية فواضح ، وأمّا بناء على عدمه فلجريانه على سبيل العدم النعتي ، فانّ الجلد يتكون قبل ولوج الروح ، وبعدئذ يتصف بكونه جلد الحيوان ، فنشير إلى هذا الجسم بالذات ونقول إنّه كان موجوداً في زمان ولم يكن متصفاً بكونه من جلد الحيوان والآن كما كان فيترتب عليه جواز الصلاة فيه.

(٣) بلا خلاف فيه ولا إشكال ، بل قد تسالم عليه الأصحاب ظاهراً قديماً وحديثاً ، مضافاً إلى نقل الإجماع المستفيض في كلمات غير واحد منهم وقد دلّت عليه روايات كثيرة عمدتها موثقة ابن بكير قال : « سأل زرارة أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من‌

١٦٨

الوبر ، فأخرج كتاباً زعم أنّه إملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الصلاة في وبر كلّ شي‌ء حرام أكله فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكلّ شي‌ء منه فاسد ، لا تقبل تلك الصلاة حتى يصلّي في غيره مما أحلّ الله أكله إلى أن قال : وإن كان غير ذلك مما قد نهيت عن أكله وحرم عليك أكله فالصلاة في كلّ شي‌ء منه فاسد ذكّاه الذبح أم لم يذكه » (١) الدالّة بصدرها وذيلها على المنع عن الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه ، سواء أذكي بالذبح أم لا.

نعم ، ناقش في الحكم السيد صاحب المدارك فذكر أنّ الروايات لا تخلو عن ضعف في السند أو قصور في الدلالة ، والمسألة محل إشكال (٢). انتهى.

وهذه المناقشة منه قدس‌سره مبنية على مسلكه في حجيّة الأخبار من الاقتصار على ما كان الراوي إمامياً عدلاً موثقاً ، المعبر عنه بالصحيح الأعلائي. فانّ مثل هذا السند وإن كان موجوداً في أخبار الباب إلا أنّ الدلالة حينئذ قاصرة ، للتعبير بـ « ما أُحبّ » كما في صحيح محمد بن مسلم (٣) غير الظاهر في التحريم ، وما كانت الدلالة فيه قوية كأغلب الأخبار لا تشتمل على مثل هذا السند ، فانّ عمدتها رواية ابن بكير كما عرفت ، وهو كإبراهيم بن هاشم الواقع في السند غير موصوفين بما ذكر كما لا يخفى.

لكن المبنى فاسد كما قرر في محلّه (٤) ، بل المناط في حجيّة الخبر كون الراوي موثوقاً به ، سواء كان عدلاً إمامياً أم لا ، ولا شك أنّ ابن بكير من الثقات ، وقد تقدّم غير مرة أنّ إبراهيم بن هاشم أيضاً كذلك على الأقوى ، مع أنّ هذه الرواية تشتمل على عظيمين من أصحاب الإجماع ، وهما الرجل مع ابن أبي‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٤٥ / أبواب لباس المصلي ب ٢ ح ١.

(٢) المدارك ٣ : ١٦٢.

(٣) الوسائل ٤ : ٣٥٥ / أبواب لباس المصلي ب ٧ ح ١.

(٤) مصباح الأُصول ٢ : ٢٠٠.

١٦٩

سواء كان ملبوساً أو مخلوطاً به أو محمولاً (١) حتى شعرة واقعة على لباسه ، بل حتى عرقه وريقه وإن كان طاهراً ما دام رطباً ، بل ويابساً إذا كان له عين.

______________________________________________________

عمير ، فلا ينبغي التشكيك في السند. كما أنّها صريحة الدلالة (١) مضافاً إلى التسالم والإجماعات المستفيض نقلها كما عرفت. فالحكم في الجملة ينبغي أن يعدّ من المسلمات التي لا غبار عليها.

(١) إنّما الكلام في أنّ هذا الحكم هل يختص بالملبوس أم يعمّ المحمول أيضاً. ظاهر الروايات في حدّ نفسها هو الأول ، لمكان التعبير بكلمة « في » التي هي للظرفية في مثل قوله : « إنّ الصلاة في وبر كلّ شي‌ء ... » إلخ المتوقف صدقها على اشتمال الوبر مثلاً على المصلي كي يصدق بهذه العناية وقوع الصلاة فيه ، وإلا فلا مصحّح للصدق من دون مراعاة ذلك ، فيختصّ بالملبوس ، كما مرّ نظير ذلك في الميتة (٢) ، لكن المراد بها في خصوص المقام مطلق المصاحبة والملابسة دون الظرفية بخصوصها ، بقرينة ذكر البول والروث في الموثق ، لعدم اشتمالهما على المصلي حتى تصدق الظرفية فيهما ، ولو فرض صحة الإطلاق فيما لو وقعا على اللباس باعتبار اشتمال اللباس المتنجس بهما على المصلّي فلا يكاد يصح الإطلاق حتى بهذه العناية فيما لو وقعا على البدن مباشرة ، مع أنّ الصلاة حينئذ محكومة بالفساد بلا إشكال.

فيظهر من ذلك أنّ الممنوع مطلق المصاحبة كما عرفت فيعمّ المحمول‌

__________________

(١) نعم هي معارضة برواية قاسم الخياط : « ما أكل الورق والشجر فلا بأس بأن يصلى فيه ، وما أكل الميتة فلا تصلّ فيه » [ الوسائل ٤ : ٣٥٤ / أبواب لباس المصلي ب ٦ ح ٢ ] ، بالعموم من وجه كما أشار إليه المحقق النائيني قدس‌سره في رسالته الصلاة في المشكوك : ٤٥ فتتعارضان في مثل المسوخ التي تأكل الورق ولا يؤكل لحمها.

ولكنّه مضافاً إلى ضعف سند الرواية فلا تنهض للمقاومة أنّ دلالتها بالإطلاق ، ودلالة الموثقة بالعموم الوضعي ، وهو مقدّم عليه.

(٢) في ص ١٦٧.

١٧٠

أيضاً ، بل حتى السقطات من الشعر أو الوبر الواقعة على اللباس أو البدن.

ويؤيده رواية إبراهيم بن محمد الهمداني قال : « كتبت إليه : يسقط على ثوبي الوبر والشعر مما لا يؤكل لحمه من غير تقية ولا ضرورة ، فكتب : لا تجوز الصلاة فيه » (١).

لكن الرواية لمكان الضعف غير صالحة للاستدلال ، لعدم ثبوت وثاقة إبراهيم ، غير أنّه حج أربعين سنة وكان وكيلاً للناحية المقدسة ، وشي‌ء منهما لا يقتضيان الوثاقة. أمّا الأوّل فظاهر ، وكذا الثاني ، إذ مجرد الوكالة في الأموال لا تستدعي إلا الأمانة وعدم الخيانة فيها ، وهي لا تستلزم الوثاقة في مقام الحكاية ، التي هي مناط حجية الرواية ، فإنّ بين الأمرين عموماً من وجه.

نعم ، روى الكشي بسنده عن الدينوري قال : كنت أنا وأحمد بن أبي عبد الله بالعسكر فورد علينا رسول من الرجل فقال : الغائب العليل ثقة ، وأيوب بن نوح وإبراهيم بن محمد الهمداني وأحمد بن حمزة وأحمد بن إسحاق ثقات جميعاً (٢).

وهذه الرواية لو ثبتت فنعم التوثيق ، لكنها في نفسها ضعيفة السند ، كرواية الشيخ الطوسي لها في الغيبة (٣) ، والعلامة في الخلاصة (٤) ، فلا يعبأ بها لضعف الطريق في الجميع ، هذا.

مضافاً إلى أنّ في السند عمر بن علي بن عمر بن يزيد ، وهو أيضاً غير ثابت الوثاقة.

وقد يقال : إنّ في عدم استثناء القميين روايته من كتاب نوادر الحكمة مع رواية محمد بن أحمد بن يحيى عنه نوع شهادة على الوثاقة. وهذه الدعوى قد‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٤٦ / أبواب لباس المصلي ب ٢ ح ٤.

(٢) رجال الكشي : ٥٥٧ / ١٠٥٣ [ وفيه ( الرازي ) بدل : الدينوري ].

(٣) الغيبة : ٤١٧ / ٣٩٥ [ ولم ينقل صدر جوابه عليه‌السلام ].

(٤) الخلاصة : ٥٢ / ٢٣.

١٧١

تكرّر ذكرها في كلمات الوحيد البهبهاني وقد أخذها منه جمع ممّن تأخّر عنه فذكر أنّ ابن الوليد شيخ القميين مع اعترافه بجلالة محمد بن أحمد بن يحيى الأشعري لا يعمل بجميع رواياته لنقله عن الضعاف كثيراً ، فاستثنى عدة ممّن يروي عنهم يبلغ عددهم خمساً وعشرين راوياً فلم يعتمد على رواياته عنهم وقد وافقه القميون على ذلك إلا في استثناء محمد بن عيسى العبيدي الذي وقع الكلام فيه من بعضهم.

وكيف كان ، فقد ذكر البهبهاني أنّ في اقتصار ابن الوليد في الاستثناء على جماعة مخصوصين نوع شهادة على توثيق غيرهم ممّن يروي محمد بن أحمد بن يحيى عنهم ، وحيث إنّ من جملتهم هذا الرجل أعني عمر بن علي بن عمر فيشمله التوثيق (١).

لكن هذه الدعوى كما ترى ظاهرة الضعف ، ضرورة أنّ ابن الوليد إنّما ذكر أنّه لا يعمل من روايات الأشعري ما يرويه عن هؤلاء الجماعة لثبوت ضعفهم لديه ، وأمّا غيرهم ممن يروي عنهم فغير ثابت الضعف ، ولذا لم يستثنهم ، لا أنّهم موثقون. وكم فرق بين الأمرين ، فليس في عدم التعرض لاستثناء غيرهم إشعار بالشهادة على وثاقتهم ، فضلاً عن الدلالة كما لا يخفى ، فتدبر.

وكيف ما كان ، فهذه الرواية لمكان الضعف غير صالحة للاستدلال ، وإنّما ذكرناها تأييداً.

والمتحصّل من جميع ما مرّ : أنّ الأقوى ما عليه المشهور من المنع عن الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل مطلقاً ، من دون فرق بين الملبوس والمحمول والشعرات الساقطة على اللباس ، عملاً بإطلاق الموثق كما عرفت.

ومنه يظهر ضعف التفصيل بين الملبوس وغيره كما عن جماعة ، فخصوا المنع بالأوّل جموداً على ما هو المنسبق من كلمة « في » الواردة في الموثق ، الظاهرة في‌

__________________

(١) حاشية المدارك : ١٣٧.

١٧٢

الظرفية المستدعية لكون المدخول مما يشتمل على المصلّي ولو بعضه ، فيختص باللباس ، لعدم الاشتمال في غيره. كضعف التفصيل الآخر بين المحمول وغيره بإلحاق الشعرات الواقعة على اللباس بالملبوس ، بدعوى الاقتصار على الظرفية المستفادة من الموثق مع الالتزام بالتوسعة فيها بقرينة ذكر الروث والبول ، فانّ صدق الظرفية بلحاظهما مستقلا وإن كان ممتنعاً لكنّها صادقة على اللباس المتلوث بهما ، فيصدق حينئذ أنّه صلّى في البول أو الروث بنحو من التوسعة في مفهوم الظرفية.

وفيه : أنّا لا نرى فرقاً في شمول إطلاق الموثق بين البول أو الروث الواقعين على اللباس أو على البدن ، ولا نحتمل الفرق بين الصورتين لا ثبوتاً ولا إثباتاً كما لا يخفى. فلا ينبغي التأمّل في أنّهما كالمحمول مندرج تحت الإطلاق ، ولازمه حمل الموثق على إرادة مطلق الملابسة والمصاحبة دون الظرفية ، لا الخاصة ولا الموسعة كما عرفت.

وقد يقال بامتناع الحمل على مطلق المصاحبة ، وإلا لزم المنع عن الصلاة في محل أجزاء ما لا يؤكل لحمه مثل المخازن والسفن الحاملة لها أو في المكان المفروش بها ، لصدق المصاحبة حينئذ قطعاً ، مع أنّه كما ترى لا يمكن الالتزام به.

وجوابه ظاهر ، إذ المراد من المصاحبة بمقتضى مناسبة الحكم والموضوع ملاحظة المعيّة والاقتران بين الصلاة بما هي صلاة مع أجزاء ما لا يؤكل ، وأمّا سائر الملابسات والمقارنات الملحوظة بالإضافة إلى المصلي من المكان والفضاء ونحوهما فهي أجنبية عن هذه المصاحبة المستفادة من الموثّق. فالمراد مصاحبة خاصة كما لا يخفى.

نعم ، قد يعارض إطلاق الموثق بصحيحة محمد بن عبد الجبار قال : « كتبت إلى أبي محمد عليه‌السلام أسأله : هل يصلى في قلنسوة عليها وبر ما لا يؤكل لحمه ، أو تكّة حرير محض ، أو تكّة من وبر الأرانب؟ فكتب : لا تحلّ الصلاة‌

١٧٣

في الحرير المحض ، وإن كان الوبر ذكيا حلّت الصلاة فيه إن شاء الله » (١).

لكن الأخذ بظاهر الصحيح مشكل جدّاً ، لعدم خلوّه عن الاضطراب والتشويش ، لأنّه إن أُريد من الذكي المقيّد به الوبر هو الطاهر في مقابل النجس فلا ريب في عدم اعتبار الطهارة فيما لا تتم به الصلاة كالقلنسوة المفروضة في السؤال ونحوها ، للنصوص الكثيرة الدالة على العفو عنها حينئذ كما تقدّمت في محلّها (٢).

وإن أُريد به ما يقابل الميتة فمن الواضح جواز الصلاة في أجزائها التي لا تحلها الحياة كالوبر ونحوه كما نطق به النص على ما مرّ (٣). فعلى التقديرين يصبح التقييد لغواً لا محصّل له. فهذان الاحتمالان ساقطان.

نعم ، هناك احتمالان آخران لا مناص من حمل الصحيح على أحدهما.

الأول : الحمل على التقية لاستقرار المذهب الحنبلي والشافعي اللذين كانا هما المتعارف من مذاهب العامة في زمن صدور هذه الصحيحة على جواز الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه مع التذكية كما نص عليه في الجواهر (٤).

ويؤيده تذييل الصحيح بقوله عليه‌السلام : « إن شاء الله » فانّ فيه نوع إشعار بالتقية كما لا يخفى.

ويؤيده أيضاً قوله في رواية إبراهيم الهمداني المتقدمة (٥) : « من غير تقية ولا ضرورة » المشعر باقتضاء التقية ذلك.

الثاني : أن يراد بالذكي ما ذكي بالحديد وكان محلّل الأكل كما فسّر بذلك في‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٧٧ / أبواب لباس المصلي ب ١٤ ح ٤.

(٢) شرح العروة ٣ : ٤٢٨.

(٣) في ص ١٦١.

(٤) الجواهر ٨ : ٨٥.

(٥) في ص ١٧١.

١٧٤

ولا فرق في الحيوان بين كونه ذا نفس أو لا كالسمك الحرام أكله (١).

______________________________________________________

رواية علي بن أبي حمزة المتقدمة (١). وهذا الاحتمال وإن كان بعيداً في حدّ نفسه ومخالفاً لظهور الصحيح ، لكن لا مانع من الالتزام به في مقام الجمع ، بل هو المتعيّن لو لم يحمل الصحيح على التقية بعد ما عرفت من تزييف الاحتمالين الأولين.

ولا يرد عليه بتوقّفه على كون الأرانب قسمين محلّل الأكل ومحرّمه ، وليس كذلك كما قيل لابتناء الإيراد على كون المقيد بـ « الذكي » في الصحيح خصوص وبر الأرانب ، ولا ملزم له ، بل المقيّد مطلق الوبر ، سواء كان من الأرانب أم غيرها كما لا يخفى.

وكيف كان ، فقد عرفت أنّ الأقرب هو الاحتمال السابق أعني الحمل على التقية فلا تعارض بينه وبين الموثق.

فتحصّل : أنّ مقتضى إطلاق الموثق السليم عن المعارض لزوم الاجتناب في الصلاة عن كلّ جزء من أجزاء غير المأكول لبساً أو حملاً حتى الشعرة الواقعة على اللباس أو البدن ، بل حتى العرق أو الريق وإن كان طاهراً ، بل وإن كان يابساً إذا بقي له عين حينئذ. وأمّا اليابس الذي لا عين له فلا بأس به لانتفاء الموضوع كما هو واضح.

(١) كما هو المشهور ، لإطلاق النصوص. وربما يناقش فيه بأنّ العمدة منها هو الموثق كما مرّ ، وصدره وإن كان مطلقاً يشمل ذات النفس وغيرها ، لكن ذيله مختص بذي النفس ، لقوله عليه‌السلام : « ذكّاه الذبح أو لم يذكه » إذ من المعلوم اختصاص الذبح به دون ما لا نفس له ، فيحمل الصدر عليه بقرينة الذيل.

ويندفع : بأنّ الصدر رواية مستقلة حكاها الصادق عليه‌السلام عن النبي‌

__________________

(١) [ بل الآتية في ص ٢٢٣ ].

١٧٥

[١٢٨٢] مسألة ١٤ : لا بأس بالشمع والعسل والحرير الممتزج ودم البق والقمل والبرغوث (١) ونحوها من فضلات أمثال هذه الحيوانات مما لا لحم لها.

______________________________________________________

( صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بإخراج كتاب زعم أنّه إملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والذيل من إنشاء الصادق عليه‌السلام بنفسه. فالموثّق ينحل إلى روايتين مستقلتين : إحداهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأُخرى عن الصادق عليه‌السلام لا ربط بينهما سوى مجرد الجمع بينهما في مجلس واحد فليس ذلك من احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية بعد عدم صدورهما من متكلم واحد ، بل الاولى منهما قد صدرت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في زمانه ، وقد انعقد لها الظهور الكلامي من دون احتفافه بما يصادم ظهوره في الإطلاق. فتذييلها بالرواية الثانية في مقام الجمع بينهما لدى الحكاية لا يخلّ بهذا الظهور ، وليس بينهما تنافٍ كي تحمل إحداهما على الأُخرى عملاً بصناعة الإطلاق والتقييد.

وعليه فالرواية الثانية الصادرة عن الصادق أعني الذيل وإن كانت قاصرة عن إفادة الإطلاق لما ذكر ، لكن الأُولى الصادرة عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أعني الصدر غير قاصرة عن إفادته ، فيتمسك بها.

(١) الوجه في ذلك كلّه ونحوها من فضلات الحيوانات التي لا لحم لها أُمور :

أحدها : الإجماع والتسالم عليه.

الثاني : قيام السيرة القطعية على عدم الاجتناب عن هذه الأُمور ، بل عن نفس تلك الحيوانات في الصلاة كما هو ظاهر.

الثالث : قصور المقتضي للمنع ، فانّ العمدة من روايات الباب هو الموثق (١) ولا إطلاق له بالإضافة إلى ما لا لحم له من الحيوانات ، فإنّه ينحلّ إلى روايتين كما عرفت آنفاً ، وشي‌ء منهما لا إطلاق له. أمّا الذيل فظاهر ، للتقييد فيه‌

__________________

(١) أي موثق ابن بكير المتقدم في ص ١٦٨.

١٧٦

وكذا الصدف (١) لعدم معلومية كونه جزءاً من الحيوان ، وعلى تقديره لم يعلم كونه ذا لحم ، وأمّا اللؤلؤ فلا إشكال فيه أصلاً ، لعدم كونه جزءاً من الحيوان.

______________________________________________________

باللحم ، وأمّا الصدر فهو وإن لم يتقيّد به ، بل الموضوع فيه ما حرّم أكله الشامل لما لا لحم له أيضاً ، لكنّه منصرف قطعاً إلى الحيوان الذي له لحم قابل للأكل فما لا لحم له الذي يكون أكله ببلعه كالبق ونحوه منصرف عن النصّ جزماً كما هو ظاهر جدّاً.

ويؤيده رواية الحلبي قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن دم البراغيث يكون في الثوب هل يمنعه ذلك من الصلاة فيه؟ قال : لا ، وإن كثر » (١) لكنّها ضعيفة السند وإن عبّر عنها بالصحيحة في بعض الكلمات لمكان ابن سنان الذي هو محمد بن سنان بقرينة الراوي والمروي عنه كما لا يخفى.

نعم ، هناك رواية أُخرى لا بأس بالاستدلال بها وهي موثقة عبد الله بن أبي يعفور قال « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما تقول في دم البراغيث؟ قال : ليس به بأس ، قلت : إنه يكثر ويتفاحش ، قال : وإن كثر » (٢) فانّ المراد السؤال عن حكم ذلك في الصلاة وإن لم يصرح بها ولذا سأل ثانياً أنّه يكثر ويتفاحش ، لتخيّله اختصاص العفو بمقدار الدرهم مثلاً كما في سائر الدماء وإلا فلو أراد السؤال عن حكمه في نفسه كان السؤال الثاني لغواً ، لوضوح عدم الفرق في نجاسة الشي‌ء بين قليله وكثيره.

وعلى الجملة : فالمقتضي للمنع في نفسه قاصر أوّلاً ، وعلى تقدير ثبوته فالمانع موجود كما عرفت.

(١) إذ لم يثبت أولاً أنّ ما يتكوّن فيه حيوان كي يكون الصدف جزءاً منه‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٣١ / أبواب النجاسات ب ٢٠ ح ٧.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٣٥ / أبواب النجاسات ب ٢٣ ح ١. [ الظاهر كونها صحيحة اصطلاحاً فلاحظ ].

١٧٧

[١٢٨٣] مسألة ١٥ : لا بأس بفضلات الإنسان ، ولو لغيره كعرقه ، ووسخه وشعره ، وريقه ، ولبنه (١) فعلى هذا لا مانع في الشعر الموصول بالشعر ، سواء كان من الرجل أو المرأة ، نعم لو اتخذ لباساً من شعر الإنسان فيه إشكال (*) سواء كان ساتراً أو غيره ، بل المنع قوي خصوصاً الساتر.

______________________________________________________

أم أنّه ليس بحيوان رأساً ، بل هو جسم نامٍ على هذه الكيفية الخاصة.

وعلى تقديره فهل إنّ الصدف جزء منه أو إنّه ظرف ووعاء لتكوّن الحيوان فيه.

وعلى تقديره أيضاً فهل هو ذو لحم أو أنّه جلد أو قشر محض ، كبعض الحيوانات التي لا لحم لها. والتشكيك في كلّ من هذه النواحي كافٍ في عدم ثبوت المنع والرجوع إلى البراءة كما هو ظاهر.

وصحيح علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن عليه‌السلام : « سألته عن اللحم الذي يكون في أصداف البحر والفرات أيؤكل؟ قال عليه‌السلام : ذلك لحم الضفادع لا يحلّ أكله » (١) غير ظاهر في ثبوت اللحم لهذا الحيوان ، لجواز أن يكون المراد أنّ هذا لحم الضفدع وقد دخل في الصدف غذاء لهذا الحيوان لا أنّه لحمه وهو غذاء الضفدع ، فلا يخلو الصحيح عن الإجمال.

وأمّا اللؤلؤ فالأمر فيه أظهر ، إذ لم يثبت كونه جزءاً من الحيوان أصلاً ولعلّه من قطرات المطر تبدلت عند وقوعها على الصدف لؤلؤاً ، كما أُشير إلى ذلك في بعض الإشعار الفارسية فلاحظ. وقد قامت السيرة القطعية على جواز لبسه في الصلاة.

(١) لقيام السيرة على عدم الاجتناب عن هذه الأُمور في الصلاة ، من غير فرق بين كونها من نفس المصلّي أو من غيره ، بل إنّ بعضها كالظفر والسن‌

__________________

(*) والأظهر الجواز بلا فرق بين الساتر وغيره.

(١) الوسائل ٢٤ : ١٤٦ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ١٦ ح ١.

١٧٨

وإرضاع المرأة طفلها في الصلاة منصوص بالخصوص ، وهل يحكم بالجواز في غير مورد السيرة والنصّ كما لو اتخذ لباساً من شعر الإنسان أو لا؟ استشكل فيه في المتن ، من غير فرق بين كونه ساتراً أم غيره ، بل ذكر قدس‌سره أنّ المنع قوي خصوصاً في الساتر.

ومبنى الإشكال هو أنّ الموثّق الذي هو العمدة في المقام هل يعمّ أجزاء كلّ ما لا يؤكل لحمه حتى الإنسان ، أو يختص بالحيوان غير الإنسان؟ فعلى الأوّل يقتصر في التخصيص على المقدار المتيقن الذي قام عليه الدليل من السيرة أو النص ، ويرجع فيما عدا ذلك إلى العام المقتضي للمنع ، وحيث إنّ اللباس المتخذ من شعر الإنسان لم يرد فيه نص بالخصوص ولم يكن مورداً للسيرة كي يثبت التخصيص بالنسبة إليه زائداً على المقدار المعلوم فهو مشمول للعموم ، ومقتضاه بطلان الصلاة فيه.

وعلى الثاني فحيث إنّ المقتضي للمنع قاصر في حد نفسه لعدم ثبوت العموم بالنسبة إليه فالمرجع حينئذ عند الشك أصالة البراءة.

وكأن الماتن قدس‌سره اختار الأوّل ، ولأجله بنى على عدم الجواز. لكنّ الأظهر هو الثاني ، لقصور المقتضي وعدم ثبوت الإطلاق في الموثق ، لانصراف عنوان ما لا يؤكل عن الإنسان جزماً ، إذ المنسبق منه إلى الذهن عرفاً ما يكون لحمه متعارف الأكل غايته قد يكون محلّلاً وأُخرى محرّماً ، وليس الإنسان من هذا القبيل بالضرورة.

وإن شئت فقل : عنوان ما لا يؤكل يتضمن النهي عن الأكل ، فيستدعي أن يكون هناك آكل ومأكول ، والمخاطب بالنهي إنّما هو الإنسان ، فهو الآكل وهو الطرف للإضافة ، فيكون الطرف الآخر أعني المأكول غيره من بقية الحيوانات.

وبالجملة : لا ينبغي التشكيك في انصراف هذا العنوان عن الإنسان فالمقتضي للمنع قاصر في حدّ نفسه. فالأقوى جواز الصلاة في الثوب المنسوج‌

١٧٩

[١٢٨٤] مسألة ١٦ : لا فرق في المنع بين أن يكون ملبوساً أو جزءاً منه ، أو واقعاً عليه أو كان في جيبه ، بل ولو في حُقة هي في جيبه (١).

[١٢٨٥] مسألة ١٧ : يستثني مما لا يؤكل الخز الخالص (٢)

______________________________________________________

من شعر الإنسان ، لأصالة البراءة عن المانعية وإن كان الأحوط تركه.

(١) تقدّم الكلام حول هذه المسألة قريباً ، ومعه لا حاجة إلى الإعادة فلاحظ (١).

(٢) يقع الكلام تارة في الوبر المتخذ من ذلك الحيوان ، وأُخرى في الجلد فهنا مقامان :

أمّا المقام الأول : فلا إشكال كما لا خلاف في استثناء الوبر ، بل هو مورد للإجماع والاتفاق كما نصّ عليه في غير واحدة من الكلمات. والنصوص الواردة في المقام كثيرة ، إلا أنّ جملة منها غير صالحة للاستدلال وإن استدلّ بها وهي الحاكية لفعل المعصوم عليه‌السلام من لبسه الخز أو الصلاة فيه ونحو ذلك ، وهي كثيرة كصحيح الجعفري أنّه قال : « رأيت الرضا عليه‌السلام يصلّي في جبّة خزّ » (٢) ، وعلي بن مهزيار (٣) وزرارة (٤) والبزنطي (٥) وغيرها.

والوجه في ذلك : أنّ الخز يطلق لغة على معاني أربعة : الحرير الخالص والمشوب بغيره من صوف ونحوه ، والثوب المتخذ من وبر الحيوان المسمّى بالخز ، ونفس ذلك الحيوان.

أمّا المعنى الأوّل والأخير فغير مرادين من هذه الأخبار جزماً كما هو ظاهر فيدور الأمر بين الاحتمالين المتوسطين. ومبنى الاستدلال هو الثاني منهما ، وإلا فعلى الأول أعني إرادة الحرير المشوب بغيره تكون الروايات أجنبية عن‌

__________________

(١) في ص ١٧٠.

(٢) ، (٣) ، (٤) الوسائل ٤ : ٣٥٩ / أبواب لباس المصلي ب ٨ ح ١ ، ٢ ، ٣.

(٥) الوسائل ٤ : ٣٦٤ / أبواب لباس المصلي ب ١٠ ح ٥.

١٨٠