موسوعة الإمام الخوئي - ج ١٢

الشيخ مرتضى البروجردي

[١٢٧١] مسألة ٣ : إذا غسل الثوب الوسخ أو النجس بماء مغصوب فلا إشكال في جواز الصلاة فيه بعد الجفاف (١) ، غاية الأمر أنّ ذمّته تشتغل بعوض الماء ، وأما مع رطوبته فالظاهر أنّه كذلك أيضاً ، وإن كان الأولى تركها حتى يجف.

[١٢٧٢] مسألة ٤ : إذا أذن المالك للغاصب أو لغيره في الصلاة فيه مع بقاء الغصبية صحّت (٢).

______________________________________________________

يفترق الثوب المصبوغ عن المخيط بالخيط المغصوب ، لبقاء العين في الثاني دون الأول ، فلا يكونان من باب واحد كما أُشير إلى هذا التفصيل في تعليقته الشريفة.

(١) إذ لا مقتضي للمنع بعد عدم وجود عين المغصوب فيه ، كما لا إشكال في عدم الجواز مع وجود عين الماء بحيث يمكن ردّه إلى مالكه ولو بعد العصر لصدق الصلاة في المغصوب.

وأمّا مع وجود مجرد الرطوبة فالظاهر عدم الجواز أيضاً. فإنّ مال الغير وإن عدّ تالفاً كما في الصورة الأُولى إلا أنّ له حق الاختصاص بالإضافة إلى الرطوبة الموجودة. وقد عرفت (١) عموم مناط المنع للتصرف في متعلق حق الغير ، نعم لو دفع البدل سقط حقّه وساغ التصرف فيه ، للمعاوضة القهرية الواقعة بين العين التالفة وبين البدل المبذول ، الموجبة لزوال الحق بطبيعة الحال.

(٢) قد يتعلّق الإذن بشخص خاص ، وقد يصدر على سبيل الإطلاق.

أمّا الأوّل : فلا إشكال في الصحة فيما إذا كان المأذون غير الغاصب ، لانتفاء المانع بالمرّة ، وهذا واضح.

وأمّا إذا كان هو الغاصب فيقع الكلام تارة من ناحية الموضوع وأُخرى من ناحية الحكم.

__________________

(١) في ص ١٣٧.

١٤١

أمّا الموضوع فربما يناقش في إمكان الجمع بين الغصب والإذن ، لما يتراءى بينهما من التضاد.

ويندفع : بانتزاع الغصب من الاستيلاء على مال الغير من دون إذنه ورضاه ، سواء تصرّف فيه خارجاً أم لا ، فلو تصرّف فقد ارتكب محرّماً آخر. وعليه فربما لا يرضى المالك بالغصب ولا يزال يطالب بالردّ إلا أنّ حنانه على الغاصب يمنعه عن الرضا ببطلان صلاته ويدعوه إلى الإذن في هذا التصرف الخاص ، في حين كونه ساخطاً على أصل الاستيلاء ، ولا تنافي بين الأمرين بوجه.

وأمّا الحكم فقد يتوهم المنع ، نظراً إلى أنّه بعد ما كان مأموراً بالردّ في كلّ آن بمقتضى افتراض الغصب فهذا الأمر يستدعي النهي عن ضده وهو الصلاة ، ولا يرفعه إذن المالك ، لعدم مقاومته مع نهي الشارع ، وبذلك يفترق الغاصب عن غيره. وإليه يشير الماتن بقوله : خصوصاً ... إلخ.

وفيه : مضافاً إلى منع المبنى ، لعدم اقتضاء [ الأمر ] النهي عن الضد الخاص أنّ النهي بعد تسليمه غيري ، ومثله لا يقتضي الفساد حتى في العبادات كما هو موضح في محلّه (١).

وعليه فالأصح ما ذكره في المتن من عدم الفرق بين الغاصب وغيره من هذه الجهة.

وأما الثاني : أعني ما لو أطلق الإذن ، فإن أُحرز الظهور في العموم بحيث يتناول الغاصب أو أُحرز عدمه فلا إشكال ، ويختلف ذلك باختلاف المقامات والمناسبات كما لا يخفى. وإن لم يحرز فان تمّ الانصراف إلى غير الغاصب فهو وإلا كان المرجع أصالة عدم الرضا ، المقطوع به حال الغصب ، وبذلك يحرز عدم تناول الإذن للغاصب.

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٣ : ٨٧.

١٤٢

خصوصاً بالنسبة إلى غير الغاصب (١) وإن أطلق الإذن ففي جوازه بالنسبة إلى الغاصب إشكال ، لانصراف الإذن إلى غيره (٢) نعم مع الظهور في العموم لا إشكال.

[١٢٧٣] مسألة ٥ : المحمول المغصوب إذا تحرك بحركات الصلاة يوجب البطلان (*) وإن كان شيئاً يسيراً (٣).

[١٢٧٤] مسألة ٦ : إذا اضطر إلى لبس المغصوب لحفظ نفسه أو لحفظ المغصوب (**) من التلف صحت صلاته فيه (٤).

______________________________________________________

(١) قد عرفت وجه الخصوصية.

(٢) بل حتى مع عدم الانصراف حسبما عرفت.

(٣) قد عرفت عدم البطلان في غير الساتر من الملبوس فضلاً عن المحمول تحرّك أم لم يتحرّك فراجع (١) ولا نعيد.

(٤) بلا إشكال فيما إذا كان المضطر غير الغاصب ، لسقوط الحرمة وجواز اللبس حال الاضطرار حتى واقعاً ، بل قد يكون واجباً أحياناً كما لا يخفى.

وأمّا لو كان هو الغاصب فلا ينبغي الإشكال أيضاً فيما لو نشأ الاضطرار عن جهة أُخرى غير الغصب ، كما لو تسبّب عن مرض أو برد لا يتحمل ونحو ذلك مما لا يستند إلى الغصب ، إذ ما من شي‌ء حرّمه الله الا وقد أحلّه عند الضرورة ، فلم يصدر منه إلا فعل سائغ حتى في صقع الواقع.

وأمّا لو استند إلى الغصب كما لو توقف حفظ المغصوب على لبسه فهذا اللبس وإن كان جائزاً عقلاً من باب أخفّ القبيحين وأقل المحذورين نظير‌

__________________

(*) على الأحوط كما تقدم.

(**) هذا في غير الغاصب ، وأما فيه فصحة الصلاة محل إشكال ، ولا يبعد عدم صحتها إذا كان ساتراً بالفعل.

(١) ص ١٣٠ فما بعد.

١٤٣

[١٢٧٥] مسألة ٧ : إذا جهل أو نسي الغصبية وعلم أو تذكر في أثناء الصلاة فإن أمكن نزعه (*) فوراً وكان له ساتر غيره صحت الصلاة (١) وإلا ففي سعة الوقت ولو بإدراك ركعة يقطع الصلاة (٢) وإلا فيشتغل (٣) بها في حال النزع.

______________________________________________________

الخروج عن الدار الغصبية إلا أنّه لما كان مستنداً إلى سوء الاختيار ، والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فلا جرم يصدر منه على صفة المبغوضية المانعة عن الصلوح للمقربية. ومن ثمّ يشكل الصلاة فيما إذا كان ساتراً بالفعل على ما تقدّم (١).

(١) لعدم قدح الغصبية السابقة لمكان النسيان ، ولا اللاحقة لمكان النزع إلا بناءً على اعتبار الإباحة حتى في الآنات المتخلّلة ، فإنّه قد يشكل لعدم رعايتها في آن النزع ، نظير ما تقدّم (٢) في الأمة المعتقة أثناء الصلاة. وعلى أيّ حال فاعتبار النزع في الصحة في غير الساتر بالفعل مبني على الاحتياط الاستحبابي كما تقدّم (٣).

(٢) لعدم التمكن من إتمامها صحيحة حسب الفرض. إما لاستلزام النزع والتبديل الفعل الكثير ، أو لعدم وجود ساتر مباح.

(٣) بحيث وقعت المزاحمة بين رعاية الوقت ورعاية الشرط فإنّه يقدم الأول ، لأنّ الصلاة لا تسقط بحال ، فيستمر في صلاته في حال النزع وإن وقع جزء منها في المغصوب.

نعم ، لو كان المغصوب هو الساتر وكان مأموناً من الناظر نزعه وأتمّ صلاته عارياً ، فانّ ضيق الوقت لا يسوّغ الصلاة في المغصوب مع التمكن منها عارياً كما لا يخفى.

__________________

(*) وجوب النزع وضعاً في غير الساتر بالفعل مبني على الاحتياط المتقدم.

(١) في ص ١٣٣.

(٢) في ص ١١١.

(٣) في ص ١٣٣.

١٤٤

[١٢٧٦] مسألة ٨ : إذا استقرض ثوباً وكان من نيته عدم أداء عوضه أو كان من نيته الأداء من الحرام فعن بعض العلماء أنّه يكون من المغصوب ، بل عن بعضهم أنّه لو لم ينو الأداء أصلاً لا من الحلال ولا من الحرام أيضاً كذلك (١).

______________________________________________________

(١) يقع الكلام تارة فيما تقتضيه القاعدة واخرى بالنظر إلى النصوص الخاصة الواردة في المقام.

أمّا الأوّل : فلا ينبغي التأمّل في أنّ مقتضاها عدم جريان حكم الغصب لصحة العقود المذكورة في المتن من القرض والإجارة والبيع ونحوها ، لأنّ العبرة في صحّة العقود المعاوضة باعتبار المبادلة وإنشاء العقد القائم بالطرفين من دون إناطة بالوفاء الخارجي فضلاً عن نية الأداء من الحلال أو الحرام. فمناط الصحة مجرد الاعتبار النفساني المبرز الصادر منهما ، ولم تكن النية المزبورة من مقوّمات العقد ، غاية الأمر أنّه لو تخلف عن الأداء ولم يتعقب العقد بالوفاء كان للطرف الآخر خيار الفسخ ، وهو أمر آخر ، فما لم يفسخ كان العقد صحيحاً والمعاملة نافذة ، ومعه لا مجال لاحتمال الغصبية.

ومنه تعرف فساد دعوى المنافاة يبن القصد إلى المعاوضة وبين نية عدم الأداء أو الأداء من الحرام ، فإنّها إنّما تتجه لو كان المنشأ هو المعاوضة الخارجية ، وليس كذلك ، وإنّما هي في وعاء الاعتبار ، فيعتبر كلّ من البائع والمشتري ملكية الآخر للثمن أو المثمن ، والآثار تترتب على هذا الاعتبار ولا مانع من أن يكون في عين الحال بانياً على الامتناع وعدم الأداء خارجاً.

ويشهد لذلك عدم ذكر الفقهاء نية الأداء من شرائط العقد ، وهذا مما يكشف بوضوح عن عدم الدخل في صحة العقد بوجه.

وأمّا الثاني : فقد وردت في المقام روايتان :

إحداهما : مرسلة ابن فضال عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « من استدان‌

١٤٥

ديناً فلم ينو قضاءه كان بمنزلة السارق » (١).

وفيه أوّلاً : أنّ السند ضعيف بالإرسال ، وبصالح بن أبي حماد فإنّه لم يوثق بل ربما يستشعر ضعفه من النجاشي حيث قال : إنّ حديثه يعرف وينكر (٢) بل قد ضعّفه ابن الغضائري صريحاً (٣). نعم روى الكشي عن علي بن محمد أنّه قال فيه : إنّه خيّر أو مؤمن (٤) ولكن الراوي لم يوثق. والعمدة أنّ الرجل لم يثبت توثيقه ، وهو كافٍ في الضعف.

وثانياً : أنّ موردها القرض ، ويمكن القول بأنّ فيه خصوصية وهي أنّه تمليك بالضمان لا مبادلة مال بمال ، ولعلّ ذلك يتنافى مع قصد عدم الأداء ، فكيف يمكن التعدّي إلى البيع ونحوه من المبادلات مع وضوح لزوم الاقتصار في الحكم المخالف للقاعدة على مورد قيام النص.

ثانيتهما : ما رواه الصدوق بإسناده عن أبي خديجة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « أيّما رجل أتى رجلاً فاستقرض مالاً وفي نيّته أن لا يؤديه فذلك اللصّ العادي » (٥).

وفيه : مضافاً إلى ضعف السند ، لضعف طريق الصدوق إلى أبي خديجة سالم ابن مكرم الجمال ، ولا أقل من أجل اشتماله على محمد بن علي الكوفي (٦) ولم يوثق ، أنّ الدلالة قاصرة ، فإنّها وإن كانت واضحة في موردها إلا أنّها أخص من المدعى من وجهين :

أحدهما : الاختصاص بالقرض ، فلا تشمل غيره كما عرفت.

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٣٢٨ / أبواب الدين والقرض ب ٥ ح ٢.

(٢) رجال النجاشي : ١٩٨ / ٥٢٦.

(٣) حكاه عنه في الخلاصة : ٣٥٩ / ١٤١٧.

(٤) رجال الكشي : ٥٦٦ / ١٠٦٨.

(٥) الوسائل ١٨ : ٣٢٩ / أبواب الدين والقرض ب ٥ ح ٥ ، الفقيه ٣ : ١١٢ / ٤٧٥.

(٦) الفقيه ٤ ( المشيخة ) : ٧٩.

١٤٦

ولا يبعد ما ذكراه (*) (١) ، ولا يختص بالقرض ، ولا بالثوب ، بل لو اشترى أو استأجر أو نحو ذلك وكان من نيته عدم أداء العوض أيضاً كذلك.

[١٢٧٧] مسألة ٩ : إذا اشترى ثوباً بعين مال تعلق به الخمس أو الزكاة مع عدم أدائهما من مال آخر ، حكمه حكم المغصوب (٢).

______________________________________________________

ثانيهما : أنّ موردها نية عدم الأداء ، فلا تشمل عدم نية الأداء الذي هو المورد الثاني مما ذكره في المتن.

فتحصّل : أنّ ما ذكره بعض العلماء لا يمكن المساعدة عليه في شي‌ء من الموردين لا بمقتضى القاعدة ، ولا بموجب النصوص الخاصة ، بل الأقوى صحة المعاملة بعد تحقق القصد إليها حقيقة ، ومعه لا موضوع للغصب.

(١) بل هو بعيد كما عرفت.

(٢) سيأتي في محلّه (١) إن شاء الله تعالى أنّ مستحق الزكاة شريك مع المالك في ماليّة العين الزكوية ، وحينئذ فان اشترى بما فيه الزكاة شيئاً فالمعاملة بالإضافة إلى حصّة الزكاة فضولية تتوقّف صحتها على الإجازة.

نعم ، بما أنّ الزكاة يجوز دفعها من مال آخر ، ولا يلزم أن يكون من نفس العين ، فبعد الدفع يملك تلك الحصة ، ويكون المقام من صغريات من باع شيئاً ثم ملكه المحكوم بالصحة ، من غير حاجة إلى الإجازة. وعليه فقبل الدفع يجري عليه حكم المغصوب ، فلو كان ثوباً لا تجوز الصلاة فيه.

ومنه تعرف أنّ ما في المتن من التقييد بعدم الأداء يراد به بعد الشراء ، إذ لا مجال للتقييد قبله ، لوضوح خروج العين بعد الأداء عن موضوع الشراء ، بما فيه الحق ، فيخرج عن مفروض المسألة.

وكيف ما كان ، فالحكم في الزكاة مطابق لمقتضى القاعدة ، مضافاً إلى النصّ‌

__________________

(*) بل هو بعيد فيما إذا تحقق قصد المعاملة حقيقة.

(١) العروة الوثقى ٢ : ١١٤ المسألة [٢٦٩٠].

١٤٧

الثالث : أن لا يكون من أجزاء الميتة (١) ،

______________________________________________________

الخاص المتضمن لجواز التصرف بعد الدفع من مال آخر كما سيأتي في محلّه. هذا في الزكاة.

وأمّا في الخمس فان بنينا على ما هو المشهور من إلحاقه بالزكاة فيجري فيه ما عرفت ، وإن أنكرنا ذلك فمقتضى نصوص التحليل بناءً على المختار من شمولها للمقام كما سيأتي (١) صحة المعاملة وانتقال الحق ممّا فيه الخمس إلى بدله ، ومقتضاها كون الثوب بنفسه مشتركاً بين المالك وبين السادة فلا يجوز التصرف فيه بغير إذن الشريك.

وبالجملة : لا تجوز الصلاة في الثوب إما لأنّ المعاملة فضولية ، أو لأنّه بنفسه متعلق لحقّ الخمس ، ولا يجوز التصرّف فيه قبل أدائه.

(١) لا إشكال كما لا خلاف في عدم جواز الصلاة في أي جزء من أجزاء الميتة ، سواء أكان هو الجلد أم غيره مما تحله الحياة ، من غير فرق بين كون الحيوان محلل اللحم أم محرّمه ، وقد ادعي عليه الإجماع في غير واحد من الكلمات حتى ممّن قال بطهارة الجلد بالدبغ ، فانّ الميتة بعنوانها تبطل الصلاة فيها لا لمكان نجاستها فحسب كي يقتصر على موردها.

وتشهد به جملة من النصوص دلّت طائفة منها على النهي عن الصلاة في الميتة كصحيحة محمد بن مسلم ، قال : « سألته عن الجلد الميت أيلبس في الصلاة إذا دبغ؟ قال : لا ، ولو دبغ سبعين مرة » (٢).

وطائفة اخرى على الأمر بالصلاة في المذكى كقوله عليه‌السلام في موثقة ابن بكير : « ... فان كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكل شي‌ء منه جائز إذا علمت أنّه ذكي قد ذكاه الذبح ... » إلخ (٣) هذا.

__________________

(١) في العروة الوثقى ٢ : ١٩٩ المسألة [٢٩٧٩].

(٢) الوسائل ٤ : ٣٤٣ / أبواب لباس المصلي ب ١ ح ١.

(٣) الوسائل ٤ : ٣٤٥ / أبواب لباس المصلي ب ٢ ح ١.

١٤٨

ومورد صحيحة ابن مسلم وغيرها وإن كان هو خصوص الجلد فيحتاج التعميم لغيره إلى دليل آخر من إجماع أو تنقيح مناط ونحوهما ، إلا أنّه يكفي في التعميم صحيح ابن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « في الميتة ، قال : لا تصلّ في شي‌ء منه ولا في شسع » (١).

ولا يضره الإرسال بعد أن كان المرسَل عنه غير واحد ، لما تقدّم عند التكلم حول رواية يونس في مبحث الحيض أنّ هذا التعبير ونحوه كجماعة أو عدّة من أصحابنا يدلّ على أنّ المروي عنه جماعة كثيرون بحيث لا يحتمل عادة عدم وثاقة واحد منهم.

وكيف ما كان ، فالحكم في الجملة مما لا غبار عليه ، وإنّما الإشكال في كيفية الاعتبار وأنّ المجعول الشرعي هل هو اعتبار المانعية للميتة كما هو ظاهر الطائفة الأُولى ، فيتصرّف في الطائفة الثانية ويحمل الأمر بالصلاة في المذكى على العرضي من جهة الملازمة بعد وضوح عدم الواسطة بينه وبين الميتة. أو أنّ المجعول هو اعتبار الشرطية للتذكية كما هو ظاهر الأمر في الطائفة الثانية فيتصرّف في الأُولى ويحمل النهي على العرضي ، لما عرفت من الملازمة. أو أنّ المجعول كلا الاعتبارين كما قيل فالتذكية شرط كما أنّ الميتة مانع ، فيؤخذ بظاهر كلّ من الطائفتين؟ وجوه متصورة في مقام الثبوت.

أما الاحتمال الأخير فساقط جزماً ، بداهة أنّ أحد الاعتبارين يغني عن الآخر بعد انتفاء الواسطة بينهما ، واستلزام وجود أحدهما لعدم الآخر وبالعكس ، سواء كان التقابل بين الميتة والمذكى من تقابل التضاد أو العدم والملكة. فاعتبارهما معاً لغو محض ، فيدور الأمر بين الاحتمالين الأوّلين.

وتظهر الثمرة في صورة الشك في الشبهة الموضوعية وأنّ هذا الجلد مثلاً هل هو من أجزاء الميتة أو المذكى. فعلى الأول يبنى على العدم ، لأصالة عدم المانع‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٤٣ / أبواب لباس المصلي ب ١ ح ٢.

١٤٩

أو أصالة البراءة عن تقيد الصلاة بعدم وقوعها مع هذا الشي‌ء ، حيث إنّ المانعية انحلالية. وعلى الثاني لا بد من الإحراز ، لقاعدة الاشتغال عند الشك في تحقق الشرط المعتبر في المأمور به. وحينئذ فان استظهرنا من الأدلّة أحد الأمرين فهو وإلا فلا أصل يحرز به شي‌ء منهما.

أمّا بناءً على كون التقابل بين الميتة والمذكى من تقابل التضاد كما لا يبعد ، حيث إن الميتة كما عن المصباح المنير عبارة عن زهاق الروح المستند إلى سبب غير شرعي (١) ، في مقابل المذكى الذي هو عبارة عن الزهاق المستند إلى سبب شرعي ، فهما عنوانان وجوديان وضدّان لا ثالث لهما ، فالأمر واضح ، إذ لا سبيل حينئذ لإجراء الأصل لا في نفس الحكم ، لمعارضة أصالة عدم المانعية بأصالة عدم الشرطية بعد العلم الإجمالي بمجعولية أحد الاعتبارين. ولا في الموضوع لأنّ استصحاب عدم الموت إنّما يجدي لو كان المجعول هو المانعية ، وهو أوّل الكلام ، لاحتمال أن يكون المجعول شرطية التذكية ، ومن الواضح عدم ثبوتها باستصحاب عدم الموت إلا بنحو الأصل المثبت. كما أنّ استصحاب عدم التذكية إنّما يجدي لو كان المجعول شرطية التذكية ، وهو أيضاً غير معلوم حسب الفرض ، ولا يثبت به الموت لو كان هو الموضوع للأثر للشك في المانعية كما ذكر.

وأمّا بناءً على أن يكون التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة فقد يقال إنّ اعتبار المانعية حينئذ يرجع إلى الشرطية ، نظراً إلى أنّ الموت على هذا معناه عدم التذكية ، فالنهي عنه يؤول إلى الأمر بالتذكية ، إذ نتيجة النفي في النفي هو الإثبات. فلا فرق بين الاعتبارين لرجوعهما إلى معنى واحد ، وإنّما الاختلاف في مجرد التعبير ، وعليه فعند الشك يكون مقتضى الأصل عدم التذكية.

ولكنّه يندفع بأنّ العدم المقابل للملكة لم يكن عدماً مطلقاً ، بل هو مضاف وله حظ من الوجود فيعتبر فيه الاتصاف بالعدم كما تعرضنا له في مبحث‌

__________________

(١) المصباح المنير : ٥٨٤.

١٥٠

النجاسات (١) فليس العمى مجرد عدم البصر عمّن من شأنه ذلك ، بل الاتصاف بعدم البصر ، كما أنّ الكفر هو الاتصاف بعدم الإسلام وهكذا.

وعليه فالميتة عبارة عن الاتصاف بعدم التذكية لا مجرد عدمها كي تحرز بالاستصحاب ، ولا ريب أنّ استصحاب عدم التذكية لا يثبت الاتصاف بالعدم كي يحرز معه عنوان الميتة.

نعم ، لو كانت الميتة مركباً من زهاق الروح مع عدم ورود التذكية على المحل كما ذكره شيخنا الأنصاري قدس‌سره في رسائله (٢) أمكن إحرازه بضمّ الوجدان إلى الأصل ، فإنّ الزهاق محرز بالوجدان ، والتذكية مشكوكة تدفع بالأصل فيلتئم الموضوع بضم أحدهما إلى الآخر ، ولكنه غير ثابت كما عرفت.

والتحقيق : أنّ مفهوم الميتة لم يكن شيئاً مما ذكر ، بل هو عبارة عن خصوص ما مات حتف أنفه ، المعبر عنه بالفارسية بـ ( مردار ) الذي تشمئز منه جميع الطباع وتستنفره ، كما تساعده اللغة (٣) والاستعمالات القرآنية. وأوضح شاهد له قوله تعالى ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ .. ) إلخ (٤) مع أنّ جميع المذكورات ما عدا الدم ولحم الخنزير من أقسام الميتة ، أي من أفراد غير المذكى ، فبقرينة المقابلة يظهر أنّ المراد خصوص الموت حتف الأنف.

وهو وإن تعلّق النهي عن أكله في الآية الشريفة كما تعلّق النهي عن الصلاة فيه في الروايات العديدة كما سمعت إلا أنّ ذلك لا يمنع عن تعلّق الحكمين المزبورين بما هو أوسع من ذلك ، وهو العنوان العام أعني غير المذكى ـ

__________________

(١) شرح العروة ٣ : ٨١ ٨٢.

(٢) فرائد الأُصول ١ : ٤١٠.

(٣) المصباح المنير : ٥٨٤.

(٤) المائدة ٥ : ٣.

١٥١

ويكون التنصيص على هذا الفرد لمكان الاهتمام أو لكونه من أحد الأقسام والمصاديق البارزة ، ويكون الجمع بينهما في الآية من عطف العام على الخاص.

وحيث تعلّق النهي عن أكل غير المذكى بمقتضى قوله تعالى ( إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ .. ) إلخ (١) وعن الصلاة فيه في موثقة ابن بكير كما عرفت (٢) فيعلم من ذلك أنّ الموضوع في الحقيقة هو ذلك العنوان العام من دون خصوصية للميتة لما عرفت من أنّه لا مانع من تعلّق الحكم بعنوان وتعلّقه بعنوان آخر أوسع منه ، فيعلم أن العبرة بالثاني ، وإنّما ذكر الأوّل من باب التطبيق وكونه من أحد المصاديق ، بل قد يقال إنّ الميتة في لسان الأخبار مساوقة لعدم المذكى توسعاً في الإطلاق كما هو كذلك في العرف الحاضر.

وعلى الجملة : مقتضى الجمع بين الآيات الكريمة والروايات الشريفة أنّ الميتة بعنوانها لا اعتداد بها ، وإنّما هي من مصاديق غير المذكى ، وأنّ هذا العنوان هو المناط في ترتّب الحكمين المزبورين ، فلو شك في تعلّق التذكية بجلد ونحوه على الوجه الشرعي كان المرجع أصالة عدم التذكية ، ولا تعارضها أصالة عدم كونه من الميتة ، لما عرفت من عدم كونها بعنوانها موضوعاً للأثر. إذن فلا يجوز أكله كما لا تجوز الصلاة فيه.

نعم ، هي موضوع لخصوص الحكم بالنجاسة ، لعدم ترتّبها في شي‌ء من الأدلّة على عنوان غير المذكى ما عدا رواية الصيقل (٣) الضعيفة السند ، وبذلك تمتاز عن الحكمين المزبورين ، لاختلاف موضوعها عن موضوعهما ، فانّ موضوع النجاسة في لسان الأدلّة هو عنوان الميتة ، ويلحق بها بعض ما ثبت بالنصوص الخاصة كأليات الغنم المقطوعة منها حال الحياة وما أخذته الحبالة من الصيد ، فاذا شككنا في جلد أنّه من الميتة حكم بطهارته لأصالة عدمها‌

__________________

(١) المائدة ٥ : ٣.

(٢) في ص ١٤٨.

(٣) الوسائل ٣ : ٤٦٢ / أبواب النجاسات ب ٣٤ ح ٤.

١٥٢

سواء كان حيوانه محلّل اللّحم أو محرمة (١)

______________________________________________________

بعد وضوح عدم ثبوتها بأصالة عدم التذكية ، لعدم حجية الأُصول المثبتة ، وإن حكمنا بعدم جواز الصلاة فيه استناداً إلى الأصل المزبور حسبما عرفت ، إلا إذا قامت أمارة على التذكية من يد المسلم أو سوق المسلمين ونحوهما ، فإنّه يعتمد عليها بأدلّة اعتبارها. وبذلك يرتكب التقييد فيما ورد في ذيل موثقة ابن بكير من تعليق جواز الصلاة على العلم بالتذكية ، كما يرتكب التقييد أيضاً فيما دلّ على إناطة المنع بالعلم بأنّه ميتة كموثّق سماعة : « لا بأس ما لم تعلم أنّه ميتة » (١) الظاهر في جواز الصلاة في المشكوك التذكية ، فيحمل على ما إذا كان مقروناً بأمارة عليها من يد مسلم ونحوها.

وملخص الكلام في المقام : أنّ المستفاد من الأدلّة بعد ضمّ بعضها ببعض أنّ الموضوع لحرمة الأكل ولعدم جواز الصلاة هو عنوان غير المذكى ، فالتذكية شرط في جواز الأكل وفي جواز الصلاة ، لا بدّ من إحرازها في الحكم بهما ، شأن كلّ شرط مع مشروطه ، لا أنّ الميتة مانع.

كما أنّ الموضوع للنجاسة هو عنوان الميتة إمّا حقيقة وهي ما مات حتف أنفه ، أو تنزيلاً كالأجزاء المبانة حال الحياة مثل الأليات المقطوعة من الأغنام ونحوها ، وهي عنوان وجودي يحكم بعدمه لدى الشك فيه ، ولا يثبت بأصالة عدم التذكية.

ونتيجة ذلك أنّه عند عدم قيام أمارة على التذكية كالجلود المستوردة من بلاد الكفر مع احتمال تذكيتها لا تجوز الصلاة فيها ، لأصالة عدم التذكية ، ولكنها محكومة بالطهارة لأصالة عدم كونها من الميتة بعد عدم إحرازها بالأصل المزبور ، لعدم حجية الأُصول المثبتة.

(١) هذا التعميم وإن كان صحيحاً إلا أنّ التصريح به مستدرك لا يناسب‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٩٣ / أبواب النجاسات ب ٥٠ ح ١٢.

١٥٣

بل لا فرق بين أن يكون مما ميتته نجسة أو لا (١) كميتة السمك ونحوه مما ليس له نفس سائلة على الأحوط.

______________________________________________________

المقام ، فانّ محلّ الكلام مانعية الميتة التي هي جهة عرضية ترتفع بالتذكية في المحل القابل ، أما البطلان فيما لا يؤكل فهو مستند إلى مانع ذاتي لا تؤثر التذكية في ارتفاعه ولا تجوز الصلاة فيه ذكي أم لا ، حياً كان أو ميتاً ، كما صرح بهذا التعميم في موثقة ابن بكير حيث قال عليه‌السلام : « ... فالصلاة في كلّ شي‌ء منه فاسد ، ذكاه الذبح أو لم يذكه » (١). فمورد اشتراط التذكية أو مانعية الميتة خصوص محلل الأكل كما أُشير إليه أيضاً في الموثقة.

(١) كما اختاره شيخنا البهائي في حبل المتين ونقله عن والده (٢) استناداً إلى إطلاق النصوص الشامل لما كانت له نفس سائلة فكانت ميتته نجسة ، وما لا نفس له سائلة كالسمك ، خلافاً لجماعة منهم صاحب الجواهر (٣) والمحقق الهمداني (٤) فأنكروا الإطلاق.

أمّا للانصراف إلى الأول كما في الجواهر خصوصاً مع التصريح في بعضها بدبغ الجلود ولو سبعين مرة (٥) الذي هو طعن على ما ترتئيه العامة من حصول الطهارة بالدبغ ، فانّ من الواضح أنّ ميتة غير ذي النفس طاهرة لا تحتاج إلى الدبغ ، ومن ثم تكون خارجة عن منصرف النصوص.

وإمّا لما ذكره المحقق الهمداني قدس‌سره من أنّ مناسبة الحكم والموضوع تستوجب الاختصاص ، نظراً إلى ما هو المرتكز في الأذهان من نجاسة الميتة واشتراط الصلاة بالطهارة وأنّ مانعيتها إنّما هي من أجل النجاسة. فلا جرم‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٤٥ / أبواب لباس المصلي ب ٢ ح ١.

(٢) حبل المتين : ١٨٠.

(٣) الجواهر ٨ : ٦٣.

(٤) مصباح الفقيه ( الصلاة ) : ١١٩ السطر ١٢.

(٥) كما في صحيحة ابن مسلم المتقدمة في ص ١٤٨.

١٥٤

تختص بذي النفس السائلة ، هذا.

ولكن الأظهر ما اختاره في المتن من التعميم ، فانّ مورد بعض النصوص وإن كان هو خصوص ذي النفس كموثقة ابن بكير (١) لمكان التعبير بالذبح ضرورة عدم الحاجة إليه في تذكية ما لا نفس له ، وكصحيحة محمد بن مسلم (٢) لمكان التعبير بالدبغ كما ذكر ، إلا أنّ صحيحة ابن أبي عمير (٣) غير قاصرة الشمول لها ، حيث إنّ لها عموماً وإطلاقاً ، فمن حيث أجزاء الميتة عامة ، لمكان النكرة الواقعة في سياق النفي في قوله : « لا تصلّ في شي‌ء منه » ومن حيث ذي النفس وعدمه مطلقة ، فإنّ لفظ الميتة يشمل بإطلاقه كلا القسمين.

ومن البيّن أنّ مقتضى الجمود على ظاهرها أنّ الميتة بذاتها وبوصفها العنواني أُخذت موضوعاً للحكم ومناطاً للأثر ، لا أنّها ملحوظة طريقاً ومعرّفاً إلى ما هو النجس لتختص بذي النفس ، خصوصاً في قوله : « حتى في شسع » ولا سيما بناءً على عدم المانعية لما لا تتم الصلاة فيه حتى إذا كان من الأعيان النجسة إذ النجاسة غير مانعة على هذا في مثل الشسع ، فلا جرم تختص المانعية بحيثية كونه من الميتة بما هي ميتة.

ومنه تعرف أنّه لا مجال لدعوى الانصراف ولا قرينية المناسبة بين الحكم وموضوعه ، لابتنائها على لحاظ الميتة على سبيل الطريقية والمعرّفية ، ولا شاهد عليها ، بل ظاهرها أنّها ملحوظة بحيالها وبعنوانها الذاتي ، وشي‌ء مما ذكر لا يصلح لرفع اليد عن هذا الظهور كما لا يخفى.

نعم ، لا ينبغي الشك في انصرافها إلى حيوان له لحم قابل للأكل بعد ورود التذكية عليه ، فلا تشمل مثل البقّ والبرغوث ونحوهما ، فإنّها خارجة عن محط النظر في هذه الأخبار ، لعدم كونها قابلة للأكل على التقديرين ، فالمقتضي‌

__________________

(١) المتقدمة في ص ١٤٨.

(٢) المتقدمة في ص ١٤٨.

(٣) المتقدمة في ص ١٤٩.

١٥٥

وكذا لا فرق بين أن يكون مدبوغاً أو لا (١) والمأخوذ من يد المسلم وما عليه أثر استعماله بحكم المذكى ، بل وكذا المطروح في أرضهم وسوقهم وكان عليه أثر الاستعمال ، وإن كان الأحوط اجتنابه (٢).

______________________________________________________

للمانعية قاصر في نفسه بالإضافة إليها من غير حاجة إلى دعوى خروجها بالإجماع أو السيرة كما هو ظاهر.

(١) لما عرفت من ظهور النصوص في كون المانع هو عنوان الميتة بما هي ميتة ، لا بما هي نجسة لترتفع بالدبغ على القول به. وأمّا على القول بعدمه فالأمر أظهر ، مضافاً إلى التصريح بالتعميم في الصحيح المتقدم وأنّه لا ينفع ولو دبغ سبعين مرة.

(٢) إذا شك في تحقّق التذكية فالأثر المرغوب إمّا هو الطهارة أو جواز الصلاة.

أمّا الأوّل : فقد عرفت أنّ الموضوع للنجاسة هو الميتة لا عدم المذكى ، لعدم وروده إلا في رواية واحدة ضعيفة (١) وبما أنّ أصالة عدم التذكية لا تثبت الميتة فمقتضى الأصل عدمها فيحكم بالطهارة.

وأمّا الثاني : فقد سبق (٢) أنّ الموضوع لجواز الصلاة هو عنوان المذكّى ، فهو مشروط به ، ولا بدّ من إحرازه شأن كلّ شرط مع مشروطه ، فمع الشك كان المتبع أصالة عدم التذكية فيحكم بالبطلان.

خلافاً لصاحب الحدائق حيث حكم بالصحة استناداً إلى أصالة الحلّ (٣).

ويندفع : بأنّها أصل حكمي ، وأصالة عدم التذكية أصل موضوعي حاكم عليه ، كحكومة استصحاب النجاسة على أصالة الطهارة.

ولكنّها مشروطة بعدم جريان يد المسلم عليه ، وإلا فهي كأمارة على‌

__________________

(١) وهي مكاتبة قاسم الصيقل ، الوسائل ٣ : ٤٦٢ / أبواب النجاسات ب ٣٤ ح ٤.

(٢) في ص ١٥١.

(٣) الحدائق ٥ : ٥٢٦.

١٥٦

التذكية حاكمة على الأصل المذكور ، وقد دلّت عليه جملة من النصوص :

كصحيح الحلبي قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الخفاف التي تباع في السوق ، فقال : اشتر وصلّ فيها حتى تعلم أنّه ميت بعينه » (١).

وصحيح البزنطي قال : « سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فراء لا يدري أذكيّة هي أم غير ذكيّة أيصلّي فيها؟ فقال : نعم ، ليس عليكم المسألة إنّ أبا جعفر عليه‌السلام كان يقول : إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم إنّ الدين أوسع من ذلك » (٢).

ونحوه صحيحه الآخر (٣) ونحوها غيرها. فإنّه لا شبهة في عدم إرادة العموم من السوق في هذه النصوص بحيث يتناول سوق الكفار ، بل المراد خصوص سوق المسلمين ، كما لا ينبغي الشك في عدم خصوصية للسوق ، إذ لا موضوعية لهذا العنوان قطعاً ، فلو كان له (٤) وكان في المحلّة أو في الشارع أو اشتراه من بيته عمّه الحكم بالضرورة ، بل لا خصوصية للشراء ، فلو انتقل إليه بهبة ونحوها كفى ، بل حتى بناقل قهري كالإرث. فالعبرة بمقتضى الفهم العرفي بالأخذ من المسلم وجريان يده عليه وكونه تحت استيلائه ، فإنّها أمارة التذكية وسوق المسلمين أمارة على أنّ اليد المأخوذ منها يد مسلم ، فهو أمارة على الأمارة من دون خصوصية فيه ، هذا.

ومقتضى الإطلاق عدم الفرق بين ما كان عليه أثر استعماله وما لم يكن ، بل قد يظهر من موثقة السكوني عدم البأس حتى إذا كان مظنّة استعمال الكافر عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكين فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : يقوّم ما فيها ثم يؤكل ، لأنّه يفسد وليس له‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٤٢٧ / أبواب لباس المصلي ب ٣٨ ح ٢.

(٢) الوسائل ٤ : ٤٥٥ / أبواب لباس المصلي ب ٥٥ ح ١.

(٣) الوسائل ٣ : ٤٩٢ / أبواب النجاسات ب ٥٠ ح ٦.

(٤) أي للمسلم.

١٥٧

بقاء ، فاذا جاء طالبها غرموا له الثمن ، قيل له : يا أمير المؤمنين لا يدرى سفرة مسلم أو سفرة مجوسي ، فقال : هم في سعة حتى يعلموا » (١).

قال المحقق الهمداني قدس‌سره : إنّ وجود السكين في السفرة لعله يشهد بأنّها لغير المسلم ، حيث إنّ المتعارف بينهم قطع الخبز واللحم بالسكين بخلاف المسلمين (٢).

وكيف ما كان ، فيظهر من هذه النصوص أنّ يد المسلم أمارة التذكية ، بل قد يظهر من مصحح إسحاق بن عمار كفاية الصنع في أراضي الإسلام وإن لم يؤخذ من يد المسلم ، عن العبد الصالح عليه‌السلام أنه قال : « لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني وفيما صنع في أرض الإسلام ، قلت : فان كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال : إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس » (٣). وقد عرفت آنفاً دلالة الموثقة على حلّية المطروح في أرض الإسلام حتى مع الظن بجريان يد الكافر عليه.

والمتحصل : من مجموع هذه النصوص : أنّ المخرج عن أصالة عدم التذكية أحد أمرين : إمّا الأخذ من يد المسلم ، أو الصنع في أرض الإسلام وإن أُخذ من غيره ، فانّ ذلك أمارة التذكية ، ولا يلزم السؤال والفحص ، بل قد نهي عنه في صحيحة البزنطي المتقدمة ، فيكون الصنع المزبور أمارة على جريان يد المسلم التي هي أمارة التذكية ، كما أنّ السوق أيضاً أمارة على الأمارة حسبما عرفت.

وعليه فالمأخوذ من يد المسلم لا يعتبر فيه الجزم بكونه مصنوعاً في بلاد الإسلام ، كما أنّ المصنوع في بلادهم لا يعتبر فيه الأخذ منه ، فلو أخذه من الكافر كفى ، لأنّه مسبوق بيد المسلم بحكم الغلبة فأحد الأمرين كافٍ في الحكم بالتذكية ، ولا يعتبر شي‌ء آخر وراء ذلك.

نعم ، هناك روايتان يظهر من إحداهما اعتبار استعمال المسلم في مشروط‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٩٣ / أبواب النجاسات ب ٥٠ ح ١١.

(٢) مصباح الفقيه ( الطهارة ) : ٦٥٦ سطر ٤.

(٣) الوسائل ٤ : ٤٥٦ / أبواب لباس المصلي ب ٥٥ ح ٣.

١٥٨

كما أن الأحوط اجتناب ما في يد المسلم المستحلّ للميتة بالدبغ (١).

______________________________________________________

الطهارة ، ومن الأُخرى اعتبار ضمانه وتعهّده بالتذكية.

أمّا الأُولى : فهي رواية إسماعيل بن عيسى قال : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلماً غير عارف؟ قال : عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك ، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه » (١).

وأمّا الثانية : فهي رواية محمد بن الحسين ( الحسن ) الأشعري قال : « كتب بعض أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني عليه‌السلام : ما تقول في الفرو يشترى من السوق؟ فقال : إذا كان مضموناً فلا بأس » (٢).

لكن ضعف سند الاولى بسعد وأبيه ، والثانية بسهل والأشعري يمنع عن الاعتماد عليهما. ومع الغض عن السند فيمكن الحمل على الاستحباب جمعاً بينهما وبين ما تقدّم ، الصريح في الكفاية وعدم الحاجة إلى السؤال.

على أنّ الاولى غير واضحة في سوق المسلمين ، بل لعلّ قوله : « إذا رأيتم المشركين يبيعون .. » إلخ قرينة على كون سوق الجبل مشتركاً بينهم ، فتخرج عن محلّ الكلام.

وكيف ما كان ، فما في المتن من تقييد المطروح في الأرض أو السوق بأن يكون عليه أثر الاستعمال لا وجه له.

(١) منشأ الاحتياط ما رواه الكليني بإسناده عن أبي بصير قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصلاة في الفراء؟ فقال : كان علي بن الحسين عليه‌السلام رجلاً صرداً لا يدفئه فراء الحجاز لأنّ دباغها بالقرظ ، فكان يبعث إلى العراق فيؤتى مما قبلكم بالفرو فيلبسه ، فاذا حضرت الصلاة ألقاه‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٩٢ / أبواب النجاسات ب ٥٠ ح ٧.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٩٣ / أبواب النجاسات ب ٥٠ ح ١٠.

١٥٩

ويستثنى من الميتة صوفها وشعرها ووبرها وغير ذلك مما مرّ في مبحث النجاسات (١).

______________________________________________________

وألقى القميص الذي يليه ، فكان يسأل عن ذلك ، فقال : إنّ أهل العراق يستحلّون لباس جلود الميتة ويزعمون أنّ دباغه ذكاته » (١).

فإنّها ظاهرة في لزوم الاجتناب عما يؤخذ ممن يستحلّه بالدبغ ، ومن ثم ألقى عليه‌السلام الفرو. وأمّا إلقاء القميص الذي يليه فهو إما لأجل إصابته للفرو مع الرطوبة من عرق ونحوه فيتنجّس بالملاقاة ، أو لأجل تعلّق شي‌ء من أجزاء الفرو به من صوف ونحوه ، وإن كان الأظهر بل المتعيّن هو الأول ، إذ الصوف مما لا تحلّه الحياة فلا مانع من حمله في الصلاة ، هذا.

ولكن السند ضعيف جدّاً ، لاشتماله على عدة من المجاهيل ، فلا تصلح الرواية للتعويل. على أنّها قاصرة الدلالة ، لعدم صراحتها في لزوم ما صدر منه عليه‌السلام فإنّه عمل لا لسان له ، ولعلّه كان على سبيل الاستحباب من باب التورّع والاحتياط الذي هو حسن على كلّ حال ، وإن كان طاهراً في ظاهر الشرع لمكان اليد التي هي أمارة التذكية وعدم كون الجلد من الميتة ، بل لا مناص من الحمل عليه وإن سلّمت الدلالة ولم تكن قاصرة ، لصراحة الصحاح السابقة في جواز الشراء من سوق المسلمين. ومن الواضح البيّن أنّ أكثرهم يومئذ من المخالفين الذين يستحلّون الميتة بالدباغة ، فكيف يمكن حملها على إرادة غير المستحل ، فلم يكن بدّ من الحمل على الاستحباب ، فالاحتياط المذكور في المتن استحبابي لا وجوبي.

(١) تقدم الكلام حول هذا الاستثناء في مبحث النجاسات (٢) بنطاق واسع وذكرنا دلالة جملة من الروايات على طهارة ما لا تحلّه الحياة وعلى جواز‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٤٦٢ / أبواب لباس المصلي ب ٦١ ح ٢ ، الكافي ٣ : ٣٩٧ / ٢.

(٢) شرح العروة ٢ : ٤٢٣.

١٦٠