بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر الإيرواني

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر الإيرواني


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٠٣
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

تأخذ مفتاح الكعبة ، وتعرف(١) مع المعرفين : وهدينا لم يصل إلى البيت ولا نحر؟ فقال رسول الله (ص) : أقلت لكم في سفركم هذا؟ قال عمر : لا ، قال : أما إنكم ستدخلونه ، وآخذ مفتاح الكعبة ، وأحلق رأسي ورؤسكم ببطن مكة وأعرف مع المعرفين ، ثم أقبل على عمر وقال : « أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد ، وأنا أدعوكم في أخراكم؟ أنسيتم يوم الاحزاب إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم ، وإذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر؟ أنسيتم يوم كذا؟ » و جعل يذكرهم أمورا ، أنسيتم يوم كذا؟ فقال المسلمون : صدق الله ورسوله أنت يا رسول الله أعلم بالله منا ، فلما دخل عام القضية وحلق رأسه قال : « هذا الذي كنت وعدتكم به » فلما كان يوم الفتح وأخذ مفتاح الكعبة قال : « ادعوا لي عمر بن الخطاب » فجاء فقال : « هذا الذي كنت قلت لكم ».

قالوا : فلو لم يكن فر يوم أحد لما قال له : « أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد ».

هذا آخر ما أردنا نقله من كلام ابن أبي الحديد(٢).

أقول : والعجب منه أنه ادعى هنا اتفاق الرواة على أنه ثبت أبوبكر ولم يفر ، مع أنه قال عند ذكر أجوبة شيخه أبي جعفر الاسكافي عما ذكره الجاحظ في فضل إسلام أبي بكر على إسلام علي عليه‌السلام حيث قال الجاحظ : وقد ثبت أبوبكر مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم أحد كما ثبت علي فلا فخر لاحدهما على صاحبه في ذلك اليوم قال شيخنا أبوجعفر : أما ثباته يوم أحد فأكثر المؤرخين وأرباب السيرة ينكرونه وجمهورهم يروي أنه لم يبق مع النبي (ص) إلا علي عليه‌السلام وطلحة والزبير وأبو دجانة ، وقد روي عن ابن عباس أنه قال : ولهم خامس وهو عبدالله بن مسعود ، و منهم من أثبت سادسا وهو المقداد بن عمرو ، وروى يحيى بن سلمة بن كهيل قال : قلت لابي : كم ثبت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم أحد؟ كل منهم يدعيه؟ فقال : اثنان

___________________

(١) عرف الحجاج : وقفوا بعرفات.

(٢) شرح نهج البلاغة ٣ : ٣٩٠.

١٤١

قلت : من هما؟ قال : علي وأبودجانة انتهى(١).

فقد ظهر أن ثبات أبي بكر أيضا ليس مما أجمعت عليه رواتهم ، واتفقت رواياتهم مع اتفاق روايات الشيعة على عدمه ، وهي محفوفة بالقرائن الظاهرة ، إذ من المعلوم أن مع ثباته لابد أن ينقل منه إما ضرب أو طعن ، والعجب منه أنه حيث لم يكن من الطاعنين كيف لم يصر من المطعونين؟ ولما لم يكن من الجارحين لم لم يكن من المجروحين؟ وإن لم يتحرك لقتال مع كونه بمرءى من المشركين ومسمع لم لم يذكر في المقتولين؟ إلا أن يقال : إن المشركين كانوا يرونه منهم باطنا ، فلذا لم يتعرضوا له ، كما لم يقتل ضرار عمر ، ولعمري يمكن أن يقال : لو كان حضر ميت تلك الوقعة لكان يذكر منه بعض ما ينسب إلى الاحياء ولا يدعي مثل ذلك إلا من ليس له حظ من العقل والحياء.

ولنوضح بعض ما ربما اشتبه فيما نقلنا عنه : ضوى إليهم كرمى : انضم. ما فضت أي كسرت ، والتيه بالكسر : الكبر. والصياصي : الحصون. لم يكلموا على بناء المفعول ، أي لم يجرحوا. والرصد بالتحريك : الذين يرقبون العدو و الجمع إرصاد.

وفي النهاية : فيه كمثل الجسد إذا اشتكى بعضه تداعى سائره بالسهر والحمى كأنه بعضا دعا بعضا ، ومنه قولهم : تداعت الحيطان ، أي تساقطت ، أو كادت ، ومنه تداعت إليكم الامم ، أي اجتمعوا ودعا بعضكم بعضا انتهى.

وثعب الماء والدم كمنع : فجره فانثعب ، ذكره الفيروز آبادي ، وقال : القتره بالفتح : الغبرة ، والقتر بالضم. الناحية ، والجانب ، والقتر : القدر ، ويحرك وقال : الريح : الغلبة والقوة والنصرة انتهى.

انحزت ، إي عدلت عما كنت فيه متوجها إليه ، والاعوص : موضع قرب المدينة.

___________________

(١) شرح نهج البلاغة ٣ : ٢٨١. راجعه ففيه بعد ذلك ما يناسب الباب من اجوبة ابى جعفر الاسكافى.

١٤٢

ثم قال ابن أبي الحديد : في ذكر أسماء من قتل من المسلمين بأحد : قال الواقدي : ذكر سعيد بن المسيب وأبوسعيد الخدري أنه قتل من الانصار خاصة أحد وسبعون(١) ، وبمثله قال مجاهد ، قال : فأربعة من قريش ، وهم حمزة قتله وحشي ، وعبدالله بن جحش ، قتله الاخنس(٢) بن شريق وشماس بن عثمان ، قتله أبي بن خلف ، ومصعب بن عمير ، قتله ابن قميئة ، قال : وقد زاد قوم خامسا وهو سعد مولى حاطب من بني أسد ، وقال قوم أيضا : إن أبا سلمة بن عبدالاسد المخزومي جرح يوم أحد ومات من تلك الجراحة بعد أيام.

قال الواقدي : وقال قوم : قتل ابنا الهيت من بني سعد وهما عبدالله وعبد الرحمن ، ورجلان من مزينة ، وهما وهب بن قابوس وابن أخيه الحارث بن عتبة بن قابوس ، فيكون جميع من قتل من المسلمين ذلك اليوم أحدا وثمانين رجلا. انتهى(٣).

أقول : الاصوب مامر في الاخبار المعتبرة من أن المقتولين من المسلمين بأحد سبعون. ويحتمل أن يكون السبعون من المهاجرين والانصار ، والباقون ممن لحقهم من خارج المدينة كما عرفت.

٥١ ـ أقول : وروى الكازروني في المنتقى عن ربيعة بن الحارث(٤) قال : أعطى رسول الله (ص) مصعب بن عمير اللواء يوم أحد ، فقتل مصعب ، فأخذه ملك في صورة

___________________

(١) ذكر ابن اسحاق ان جميع من استشهد من المسلمين من المهاجرين والانصار خمسة و ستون رجلا ، وأضاف عليهم ابن هشام اربعة يوجد اسماؤهم جميعا في سيرة ابن هشام ٣ : ٧٥ ـ ٨٠. وذكر ان جميع من قتل من المشركين اثنان وعشرون رجلا. ذكرهم باسمائهم راجع ص ٨١ ـ ٨٣.

(٢) في المصدر : ابوالحكم بن الاخنس.

(٣) شرح نهج البلاغة لابن ابى الحديد ٣ : ٣٩٩ و ٤٠٠ ، واختصر المؤلف ما تقدم من كلام ابن ابى الحديد وأسقط مالا يناسب الباب بطوله.

(٤) في المصدر : روى عبدالله بن الفضل بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب

١٤٣

مصعب فجعل رسول الله (ص) يقول في آخر النهار : تقدم يامصعب ، فالتفت إليه الملك وقال : لست بمصعب ، فعرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه ملك أيد به(١).

٥٢ ـ وقال ابن الاثير في كامل التواريخ : كان الذي قتل أصحاب اللواء علي عليه‌السلام قاله إبو رافع. قال فلما قتلهم أبصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جماعة من المشركين فقال لعلي : احمل عليهم ، فحمل ففرقهم ، وقتل منهم ، ثم أبصر جماعة أخرى فقال له : فاحمل عليهم ، فحمل وفرقهم وقتل منهم ، فقال جبرئيل : يا رسول الله هذه المواساة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنه مني وأنا منه ، فقال جبرئيل : وأنا منكما ، قال : فسمعوا صوتا : لا سيف إلا ذو الفقار ، ولا فتى إلا علي(٢).

قال : وقاتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأحد قتالا شديدا ، وفرمى بالنبل حتى فنى نبله ، وانكسرت سية قوسه ، وانقطع وتره ، ولما جرح رسول الله جعل علي عليه‌السلام ينقل له الماء في درقته من المهراس(٣) ، ويغسله فلم ينقطع الدم ، فأتت فاطمة عليها‌السلام وجعلت تعانقه وتبكي ، وأحرقت حصيرا وجعلت على الجرح من رماده فنقطع الدم ، وقال : وانتهت الهزيمة بجماعة فيهم عثمان بن عفان وغيره إلى الاعوص فأقاموا به ثلاثة ، ثم أتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لهم حين رآهم : لقد ذهبتم فيها عريضة(٤).

وقال في ذكر غزوة حمراء الاسد : وظفر في طريقه بمعاوية بن المغيرة بن أبي العاص وبأبي غرة(٥) الجمحي ، وكان أبوغرة(٦) أسر يوم بدر فأطلقه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لانه شكى إليه فقرا وكثرة العيال ، فأخذ رسول الله (ص) عليه العهود أن لا يقاتله ولا يعين على قتاله ، فخرج معهم يوم أحد ، وحرض على المسلمين ، فلما أتي به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : يا محمد امنن علي ، قال : « المؤمن لا يلدغ من

___________________

(١) المنتقى في مولود المصطفى : ١١٩. الباب الثالث فيما كان سنة ثلاث من الهجرة.

(٢) الكامل ٢ : ١٠٧.

(٣) المهراس هنا : ماء بجنب احد دفن بجنبه حمزة رضي‌الله‌عنه.

(٤) الكامل ٢ : ١٠٩ و ١١٠.

(٥ و ٦) في المصدر : ابوعزة. هو الصحيح كما قدمناه.

١٤٤

جحر مرتين » وأمر به فقتله ، وأما معاوية وهو الذي جدع أنف حمزة ومثل به ، مع من مثل به وكان قد أخطأ الطريق ، فلما أصبح أتى دار عثمان بن عفان ، فلما رآه قال له عثمان أهلكتني وأهلكت نفسك ، فقال : أنت أقربهم مني رحما وقد جئتك لتجيرني ، فأدخله عثمان داره وصيره في ناحية منها ثم خرج إلى النبي (ص) ليأخذ له منه أمانا فسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : إن معاوية في المدينة وقد أصبح بها فاطلبوه ، فقال بعضهم : ما كان ليعدو منزل عثمان فاطلبوه ، فدخلوا منزل عثمان فأشارت أم كلثوم إلى الموضع الذي صيره فيه ، فاستخرجوا من تحت حمارة لهم ، فانطلقوا به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال عثمان حين رآه : والذي بعثك بالحق ما جئت إلا لاطلب له الامان فهبه لي ، فوهبه له ، وأجله ثلاثة أيام ، و أقسم لئن وجد بعدها يمشي في أرض المدينة وما حولها ليقتلنه فخرج عثمان فجهزه واشترى له بعيرا ثم قال له : ارتحل ، وسار رسول الله (ص) إلى حمراء الاسد ، وأقام معاوية إلى اليوم الثالث ليعرف أخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويأتي بها قريشا ، فلما كان في اليوم الرابع قال رسول الله (ص) : إن معاوية أصبح قريبا لم يبعد فاطلبوه ، فأصابوه وقد أخطأ الطريق فأدركوه ، وكان اللذان أسرعا في طلبه زيد بن حارثة وعمار بن ياسر ، فوجداه بالحماء فضربه زيد بالسيف ، فقال عمار : إن لي فيه حقا ، فرماه بسهم فقتلاه ، ثم انصرفا إلى المدينة بخبره.

وروى هذا الخبر ابن إبي الحديد أيضا ، وأكثر اللفظ له ، ثم قال : يقال إنه أدرك على ثمانية أميال من المدينة ، فلم يزل زيد وعمار يرميانه بالنبل حتى مات وهذا كان جد عبدالملك بن مروان لامة انتهى(١).

أقول : هذه القصة كانت سبب قتل عثمان ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما سيأتي شرحه إن شاء الله في مثالبه ، وباب أحوال أولاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وغيرهما.

___________________

(١) الكامل : ٢ : ١١٤ و ١١٥ ، شرح ابن ابى الحديد ٣ : ٣٩٨ وفيه : قال البلاذرى : ويقال : ان عليا عليه‌السلام هو الذى قتل معاوية بن المغيرة.

١٤٥

وقال ابن الاثير : وفيها يعني السنة الثالثة من الهجرة قيل : ولد الحسن بن علي عليهما‌السلام في النصف من شهر رمضان ، وفيها علقت فاطمة بالحسين عليه‌السلام ، وكان بين ولادتها وحملها خمسون يوما(١).

٥٣ ـ وفي الديوان المنسوب إلى علي عليه‌السلام : إن الحارث بن صمة بعثه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في أحد لحاجة فأبطأ فأنشأ أميرالمؤمنين عليه‌السلام :

لاهم إن الحارث بن صمة

كان وفيا وبنا ذا ذمة

أقبل في مهامة مهمة

في ليلة ليلاء مدلهمة(٢)

بين رماح وسيوف جمة

يبغي رسول الله فيها ثمة

لابد من بلية ملمة(٣)

___________________

(١) الكامل ٢ : ١١٥.

(٢) ذكر ابن هشام في السيرة ٣ : ١٥٤ الابيات غير المصرع الاخير وفيه : « كليلة ظلماء مدلهمة » وفيه : « بين سيوف ورماح جمة » قوله. مهامه جمع مهمه وهو الفقر. والمدلهمة : الشديدة السواد.

(٣) الديوان ١٢٥.

١٤٦

١٣

باب

*(غزوة الرجيع وغزوة معونة)*

الآيات آل عمران « ٣ » : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا الآية ١٦٩.

تفسير : قال الطبرسي رحمه‌الله قيل : نزلت في شهداء بئر معونة ، وكان سبب ذلك على ما رواه محمد بن إسحاق بن يسار بإسناده عن أنس وغيره قال : قدم أبوبراء عامر ابن مالك بن جعفر ملاعب الاسنة وكان سيد بني عامر بن صعصعة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة. وأهدى له هدية ، فأبى رسول الله (ص) أن يقبلها ، وقال : «يا أبا براء لا أقبل هدية مشرك فأسلم إن أردت أن أقبل هديتك» وقرأ عليه القرآن فلم يسلم ولم يبعد ، وقال يا محمد : إن أمرك هذا الذي تدعو إليه حسن جميل ، فلو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إني أخشي عليهم أهل نجد» فقال أبوبراء : أنا لهم جار فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك ، فبعث رسول الله (ص) المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة في سبعين(١) رجلا من خيار المسلمين منهم الحارث بن الصمة وحرام بن ملحان وعروة بن أسماء ابن الصلت السلمي ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر وذلك في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد ، فساروا حتى نزلوا بئر معونة(٢) ، فلما نزلوا قال بعضهم لبعض : أيكم يبلغ رسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أهل هذا الماء؟ فقال حرام بن ملحان : أنا ، فخرج بكتاب رسول الله (ص) إلى عامر بن الطفيل ، فلما أتاهم لم ينظر عامر في كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال

___________________

(١) في سيرة ابن هشام : في اربعين رجلا.

(٢) في السيرة : وهى أرض بنى عامر وحرة بنى سليم ، كلا البلدين منها قريب ، وهى إلى حرة بنى سليم اقرب.

١٤٧

حرام : يا أهل بئر معونة ، إني رسول رسول الله إليكم ، وأني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، فآمنوا بالله ورسوله ، فخرج إليه رجل من كسر(١) البيت برمح فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر ، فقال : الله أكبر فزت ورب الكعبة ، ثم استصرخ عامر بن الطفيل بني عامر على المسلمين فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه ، وقالوا : لن نخفر أبا براء ، وقد عقد لهم عقدا وجوارا ، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم : عصية ورعلا وذكوان(٢) ، فأجابوه إلى ذلك فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم ، فلما رأوهم أخذوا السيوف فقاتلوهم حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد فإنهم تركوه وبه رمق فارتث من بين القتلى فعاش حتى قتل يوم الخندق ، وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري(٣) و رجل من الانصار أحد بني عمرو بن عوف(٤) ، فلم ينبئهما(٥) بمصاب أصحابهما إلا الطير ، تحوم حول العسكر ، فقالوا : والله إن لهذا الطير لشأنا ، فأقبلا لينظرا إليه فإذا القوم في دمائهم ، وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة ، فقال الانصاري لعمرو بن أمية : ماذا ترى؟ فقال : أرى أن نلحق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فنخبره الخبر ، فقال الانصاري : لكني ما كنت لارغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو ، ثم قاتل القوم حتى قتل ، وأخذو عمرو بن أمية أسيرا ، فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل ، وجز ناصيته ، وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أبيه(٦) فقدم عمرو بن أمية على رسول الله (ص) وأخبره الخبر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

___________________

(١) الكسر : الجانب من البيت. الشقة السفلى من الخباء أو ما تكسر وتثنى على الارض منها. الناحية.

(٢) في اعلام الورى : وهم الذين قنت عليهم النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله ولعنهم.

(٣) الضميرى خ ل. والمذكور في المتن والسيرة واعلام الورى مثل المتن.

(٤) في نسخة المصنف : حريث وهو وهم. والصحيح : عوف كما في المصدر والسيرة. وفي الاخير : هو المنذر بن محمد بن عقبة بن احيحة بن الجلاح.

(٥) فلم ينبههما خ ل.

(٦) في السيرة والامتاع. على امه.

١٤٨

« هذا عمل أبي براء ، قد كنت لهذا كارها متخوفا » فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه إخفار عامر إياه ، وما أصاب رسول الله (ص) بسببه(١) ، فقال حسان بن ثابت يحرض أبا براء على عامر بن الطفيل :

بني أم البنين ألم يرعكم

وأنتم من ذوائب أهل نجد؟

تهكم عامر بأبي براء

ليخفره وما خطأ كعمد

ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي

فما أحدثت في الحدثان بعدي

أبوك أبوالحروب أبوبراء

وخالك ماجد حكم بن سعد

وقال كعب بن مالك :

لقد طارت شعاعا كل وجه

خفارة ما أجار أبوبراء

بني أم البنين أما سمعتم

دعاء المستغيث مع النساء

وتنويه الصريخ بلى ولكن

عرفتم أنه صدق اللقاء

فلما بلغ ربيعة بن أبي براء قول حسان وقول كعب حمل على عامر بن الطفيل فطعنه فخر عن فرسه ، فقال : هذا عمل أبي براء إن مت فدمي لعمي فلا يبتعن سواي وأن أعش فسأرى فيه الرأي(٢) ، قال : فأنزل الله في شهداء بئر معونة قرانا : « بلغوا عنا قومنا بأنا لقينا(٣) ربنا فرضي عنا ورضينا عنه » ثم نسخت ورفعت بعد ما قرأناها وأنزل الله « ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله » الآية.

بيان : ولم يبعد ، أي ينكر كثيرا ، وفي القاموس : بئر معونة بضم العين : قرب المدينة ، وقال : الكسر ويكسر : جانب البيت ، وقال : خفره وبه خفرا و خفورا : نقض عهده وغدره كأخفره ، وعصية كسمية : بطن من بني سليم ، يقال : ارتث فلان على بناء المجهول ، أي حمل من المعركة جريحا وبه رمق ، قوله في سرح القوم أي عند دوابهم حيث ذهبت للرعي. والتحريض : الحث. وراعه أفزعه. و

___________________

(١) في السيرة : وما اصاب اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لسببه وجواره.

(٢) في المصدر واعلام الورى : فيه رأيى. وفى السيرة : فسأرى رأيى فيما اتى إلى.

(٣) في المصدر : بلغوا قومنا عنا بانا قد لقينا. وفى المناقب والامتاع : انا قد لقينا.

١٤٩

الذؤابة من كل شئ : أعلاه. والتهكم : الاستهزاء ، وما خطأ كعمد ، أي لم يفعل ذلك خطأ ليعفي عنه بل فعله عمدا. وفي القاموس ، المسعاة : المكرمة ، والمعلاة في أنواع المجد.

فما أحدثت استفهام على التعجب ، ويحتمل النفي.

وفي القاموس. ذهبوا شعاعا : متفرقين ، وطار فؤاده شعاعا : تفرقت همومه ، وقال : الخفارة بالضم : الذمة ، وقال : نوهه وبه : دعاه ، وقال : الصريخ : المغيث والمستغيث. وقال : الصدق : الصلب المستوي من الرماح والرجال ، والكامل من كل شئ ، وهي صدقة ، وقوم صدقون ، ونساء صدقات ، ورجل صدق للقاء و النظر انتهى.

وضمير « إنه » لعامر.

أقول : ورى مثل هذه القصة في إعلام الورى(١) وابن شهر آشوب في المناقب(٢) وفي الاول فبعث رسول الله (ص) المنذر بن عمرو بن في بضعة وعشرين رجلا ، وقيل : في أربعين رجلا ، وقيل : في سبعين رجلا من خيار المسلمين.

وفيه : فشق عليه إخفار عامر إياه ، وما أصاب من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونزل به الموت ، فحمل ربيعة بن أبي براء على عامر بن طفيل وهو في نادي قومه ، فأخطأ مقاتله فأصاب فخذه ، فقال عامر : هذا عمل عمي أبي براء إن مت فدمي لعمي لا تطلبوه به.

١ ـ قب ، عم : كانت بعد غزوة حمراء الاسد غزوة الرجيع ، بعث رسول الله (ص) مرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة وخالد بن البكير وعاصم بن ثابت بن الافلج وخبيب بن عدي وزيد بن دثنة وعبدالله بن طارق ، وأمير القوم مرثد ، لما قدم عليه رهط من عضل والديش ، وقالوا : ابعث معنا نفرا من قومك يعلموننا القرآن و يفقهوننا في الدين فخرجوا مع القوم إلى بطن الرجيع وهو ماء لهذيل فقتلهم حي

___________________

(١) اعلام الورى : ٩٦ و ٩٧ ط ٢.

(٢) مناقب ال ابى طالب ١ : ١٦٨ و ١٦٩.

١٥٠

من هذيل يقال لهم : بنو لحيان ، وأصيبوا جميعا.

وذكر ابن إسحاق(١) أن هذيلا حين قتلت عاصم بن ثابت أرادوا رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد ، وقد كانت نذرت حين أصيب ابناها بأحد لئن قدرت على رأسه لتشربن في قحفه(٢) الخمر ، فمنعتم الدبر ، فلما حالت بينهم وبينه قالوا : دعوه حتى نمسي فتذهب عنه ، فبعث الله الوادي فاحتمل عاصما فذهب به ، وقد كان عاصم أعطى الله عهدا أن لا يمس مشركا ولا يمسه مشرك أبدا في حياته ، فمنعه الله بعد وفاته مما امتنع منه في حياته(٣).

بيان : الدبر بالفتح : جماعة النحل.

٢ ـ أقول : قال الكازروني : روى ابن إسحاق عن أشياخه أن قوما من المشركين قدموا على رسول الله (ص) فقالوا : إن فينا إسلاما فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا ويقرؤننا القرآن ويعلموننا شرائع الاسلام ، فبعث معهم عشرة ، منهم عاصم ابن ثابت ، ومرثد بن أبي مرثد وعبدالله بن طارق وخبيب بن عدي وزيد بن الدثنة وخالد بن أبي البكير(٤) ومعقب بن عبيد ، وأمر عليهم مرثدا ، وقيل : عاصما ، فخرجوا حتى إذا كانوا بالرجيع وهو ماء لهذيل غدروا بالقوم واستصرخوا عليهم هذيلا فخرج بنو لحيان فلم يرع القوم إلا رجال بأيديهم السيوف فأخذ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سيوفهم فقالوا لهم : إنا والله ما نريد قتالكم ، إنما نريد أن نصيب بكم من أهل مكة ، ولكم العهد والميثاق أن لا نقتلكم ، فأما عاصم ومرثد وخالد و معقب فقالوا : والله لا نقبل من مشرك عهدا ، فقاتلوهم حتى قتلوا ، وأما زيد وخبيب وابن طارق فاستأسروا وأما عاصم بن ثابت فإنه نثر كنانته وفيها سبعة أسهم فقتل بكل

__________________ (١) في اعلام الورى : وذكر ابان.

(٢) القحف : العظم الذى فوق الدماغ.

(٣) مناقب آل ابى طالب ١ : ١٦٨ ، اعلام الورى : ٩٦ ط ٢ ، واللفظ للاعلام.

(٤) هكذا في الكتاب ومصدره ، والصحيح كما تقدم خالد بن البكير ، ذكره ايضا الجزرى في اسد الغابة.

١٥١

سهم رجلا من عظماء المشركين ثم قال : « اللهم إني حميت دينك صدر النهار فارحم لحمي آخر النهار » ثم أحاط به المشركون فقتلوه وأرادوا رأس عاصم ليبيعوه من سلافة بنت سعد ، وكانت نذرت أن تشرب في قحفه الخمر لانه قتل ابنيها يوم أحد فحمته الدبر : فقالوا : امهلوه حتى يمسي فتذهب عنه ، فبعث الله الوادي فاحتمله ، فسمي حمى الدبر ، وخرجوا بالنفر الثلاثة حتى إذا كانوا بمر الظهران انتزع عبدالله بن طارق يده منهم وأخذ سيفه ، واستأخر عنه القوم فرموه بالحجارة حتى قتلوه ، فقبر بمر الظهران ، وقدموا بخبيب وزيد مكة فابتاع حجير بن أبي أهاب خبيبا لابن أخته عقبة بن الحارث ليقتله بأبيه ، وابتاع صفوان بن أمية زيدا ليقتله بأبيه فحبسوهما حتى خرجت الاشهر الحرم ، ثم أخرجوهما إلى التنعيم فقتلوهما ، و قال قائل لزيد عند قتله : أتحب أنك الآن في أهلك وأن محمدا مكانك؟ فقال : والله ما أحب أن محمدا يشاك بشوكة وإني جالس في أهلي ، فقال أبوسفيان : والله ما رأيت من قوم قط أشد حبا لصاحبهم من أصحاب محمد.

وبإسناده عن أبي هريره قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عشرة عينا وأمر عليهم عاصم بن ثابت حتى إذا كانوا بالهدة بين عسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم : بنو لحيان ، فنفروا إليهم بقريب من مائة رجل رام فاقتصوا آثارهم ، فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجاؤا إلى موضع فأحاط بهم القوم فقاولوا لهم : انزلوا فأعطوا بأيديكم ولكم العهد والميثاق أن لا نقتل منكم أحدا ، فقال عاصم : أيها القوم أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر ، اللهم أخبر عنا نبيك فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما ، فنزل منهم ثلاثة على العهد منهم خبيب وزيد بن الدثنة ورجل آخر ، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها ، قال الرجل الثالث : هذا والله أول الغدر والله لا أصحبكم إن لي بهؤلاء أسوة ، يريد القتلى ، فجروه وعالجوه فأبى أن يصحبهم فقتلوه ، وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة ، بعد وقعة بدر ، فلبث خبيب عندهم أسيرا حتى أجمعوا على قتله ، فاستعار من بعض بنات(١) الحارث موسى

___________________

(١) ذكر اسمها في الامتاع قال : ماوية مولاة بنى عبد مناف.

١٥٢

يستحد بها فأعارته ، فدرج بنى(١) لها وهي غافلة حتى أتاه فوجدته جالسا على فخذه والموسى بيده ، قال : ففزعت فزعة عرفها خبيب ، فقال : أتخشين أن أقتله ما كنت لافعل ذلك ، إن الغدر ليس من شأننا ، قالت : والله ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب ، والله لقد وجدته يوما يأكل قطفا من عنب في يده وإنه لموثق بالحديد ، وما بمكة من ثمرة ، وكانت تقول : إنه لرزق رزقه الله خبيبا ، فلما أخرجوه من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم خبيب : دعوني أصلي ركعتين ، فتركوه فركع ركعتين فقال : « والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزع لزدت ، اللهم احصهم عددا ، واقتلهم بددا ، ولا تبق(٢) منهم أحدا » وقال :

فلست أبالي حين أقتل مسلما

على أي جنب(٣) كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الاله وإن يشأ

يبارك على أوصال شلو ممزع(٤)

فصلبوه حيا فقال : اللهم إنك تعلم أنه ليس لي أحد حوالي يبلغ سلامي رسولك فأبلغه سلامي(٥) ثم قام إليه أبوعقبة بن الحارث(٦) فقتله ، فكان خبيب هو

___________________

(١) في الامتاع : وطلب حديدة فاتته بموسى مع ابنه ابى حسين مولى بنى الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصى ، فقال له ممازحا : وابيك انك لجرئ ، اما خشيت امك غدرى حين بعثت معك بحديدة وانتم تريدون قتلى؟ فقالت ماوية : يا خبيب انما امنتك بامان الله ، فقال : ما كنت لاقتله.

(٢) في الامتاع : ولا تغادر.

(٣) شيئ خ ل.

(٤) في المناقب : ممزق.

(٥) في الامتاع : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو جالس مع اصحابه وقد أخذته غمية : وعليه السلام ورحمة الله ، ثم قال : هذا جبرئيل يقرئنى من خبيب السلام.

(٦) في المصدر : أبوسروعة عقبة بن الحارث. وفى الامتاع : ثم احضروا ابناء من قتل ببدر وهم اربعون غلاما فاعطوا كل غلام رمحا فطنوه برماحهم فاضطرب على الخشبة وانفلت فصار وجهه إلى الكعبة فقال : الحمد لله ، فطعنه ابوسروعة واسمه عقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصى ، حتى اخرجها من ظهره فمكث ساعة يوحد ويشهد ان محمد رسول الله ثم مات رضي‌الله‌عنه.

١٥٣

سن الصلاة لكل مسلم قتل(١) صبرا. قال معاوية بن أبي سفيان : ولقد رأيت أبا سفيان يلقيني إلى الارض فرقا من دعوة خبيب ، وكانوا يقولون : إن الرجل إذا دعي عليه فاضطجع زلت عنه الدعوة ، فلما بلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا الخبر قال لاصحابه : أيكم يختزل خبيبا عن خشبته؟ فقال الزبير أنا يا رسول الله وصاحبي المقداد بن الاسود فخرجا يمشيان بالليل ويكمنان بالنهار حتى أتيا التنعيم ليلا ، وإذا حول الخشبة أربعون من المشركين نيام نشاوى(٢) ، فأنزلاه ، فإذا هو رطب يتثنى لم ينتن منه شئ بعد أربعين يوما ، ويده على جراحته وهي تبض دما ، اللون لون الدم ، والريح ريح المسك ، فحمله الزبير على فرسه وساروا فانتبه الكفار قد فقدوا خبينا فأخبروا قريشا فركب منهم سبعون ، فلما لحقوهم قذف الزبير خبينا فابتعلته الارض فسمي بليع الارض ، فقال الزبير : ماجرأكم علينا يا معشر قريش؟ ثم رفع العمامة عن رأسه ، فقال : أنا الزبير بن عوام(٣) ، وأمي صفية بنت عبدالمطلب ، وصاحبي المقداد بن الاسود أسدان رابضان يدفعان عن أشبالهما ، فإن شئتم ناضلتكم ، وإن شئتم نازلتكم ، وإن شئتم انصرفتم ، فانصرفوا إلى مكة وقدما على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله(٤).

بيان : مرثد كمسكن ، وخبيب كزبير ، والدثنة ككلمة ، والموسى بضم الميم وفتح السين : ما يحلق به ، والاستحداد : الاحتلاق بالحديد ، والشلو بالكسر : العضو ، والجسد من كل شئ ، والتمزيع : التفريق ، وتمزعوه بينهم : اقتسموه.

___________________

(١) في الامتاع : وكان اول من سن الركعتين عند القتل.

(٢) جمع النشوان : السكران.

(٣) في المصدر : العوام.

(٤) المنتقى في مولود المصطفى : ١٢٣ و ١٢٤. الباب الرابع فيما كان سنة اربع من الهجرة. أقول : وفى الامتاع : وحبس زيد بن الدثنة عند نسطاس مولى صفوان بن امية ، وتولى قتله نسطاس.

١٥٤

والمزعة بالضم والكسر : القطعة من اللحم ، أو الشقة منه ، وبض الماء يبض بضا سال قليلا قليلا.

٣ ـ وقال ابن الاثير في الكامل : لما قتل عاصم وأصحابه بعث رسول الله عمرو ابن أمية الضمري إلى مكة مع رجل من الانصار وأمرهما بقتل أبي سفيان ، قال عمرو : فخرجت إنا وصاحبي ومعي بعير لي وبرجل صاحبي علة ، فكنت أحمله على بعيري حتى إذا جئنا ببطن احج(١) فعقلنا بعيرنا في العشب ، وقلت لصاحبي : انطلق بنا إلى أبي سفيان لنقتله ، فإن خشيت شيئا فالحق بالبعير فاركبه والحق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره الخبر ، وخل عني ، فدخلنا مكة ومعي خنجر إن عانقني إنسان ضربته(٢) به ، فقال صاحبي : هل لك أن تبدأ فتطوف وتصلي ركعتين(٣)؟ فقلت : إن أهل مكة يجلسون بأفنيتهم ، وأنا أعرف بها فلم يزل حتى أتينا البيت فطفنا(٤) ثم خرجنا فمررنا بمجلس لهم فعرفني بعضهم فصرخ بأعلى صوته : هذا عمرو بن أمية ، فثار أهل مكة إلينا ، وقالوا : ما جاء إلا لشر وكان فاتكا متشيطنا في الجاهلية فقلت لصاحبي : النجاء هذا الذي كنت أحذر؟ أما أبوسفيان فليس إليه سبيل فانج بنفسك فعدنا حتى صعدنا الجبل فدخلنا في غار ، فبينا نحن فيه ليلتنا(٥) ننتظر أن يسكن الطلب ، قال : فوالله إني لفيه إذ أقبل عثمان بن مالك التيمي بفرس له(٦) فقام على باب الغار فخرجت إليه فضربته بالخنجر فصاح صيحة أسمع أهل مكة ، فأقبلوا إليه ، ورجعت إلى مكاني فوجدوه وبه رمق ، فقالوا : من ضربك؟ فقال : عمرو بن

___________________

(١) في المصدر : يأجج. وهو على ما قيل مكان على ثمانية اميال من مكة وقيل : موضع صلب فيه خبيب بن عدى

(٢) في المصدر : ومعى خنجر قد اعددته ان عاقنى انسان ضربته به.

(٣) في المصدر : هل لك ان نبدأ فنطوف ونصلى ركعتين.

(٤) زاد في المصدر : وصلينا.

(٥) في المصدر : فخرجنا نشتد حتى صعدنا الجبل فدخلنا غارا فبتنا فيه ليلتنا.

(٦) في المصدر : يختل بفرس له.

١٥٥

أمية ثم مات ولم يقدر أن يخبرهم بمكاني ، وشغلهم قتل صاحبهم عن طلبي ، فاحتملوه ومكثنا في الغار يومين حتى سكن(١) الطلب ، ثم خرجا إلى التنغيم ، فإذا خشبة خبيب وحوله حرس فصعدت خشبته فاحتملته على ظهري ، فما مشيت إلا نحوا من أربعين خطوة حتى بدروا بي ، فطرحته فاشتدوا في أثري فأعيوا ورجعوا ، وانطلق صاحبي فركب البعير ، وأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره ، وأما خبيب فلم ير بعد ذلك ، فكان الارض ابتلعته ، قال : وسرت حتى دخلت غار الضجنان(٢) ومعي قوسي و أسهمي فبينا أنا فيه اذ دخل من بني أعور طويل(٣) يسوق غنما له فقال : من الرجل؟ فقلت من بني الدئل ، فاضطجع معي ورفع عقيرته(٤) يتغني ويقول :

ولست بمسلم ما دمت حيا

ولست أدين دين المسلمينا

ثم نام فقتلته ، ثم سرت فإذا رجلان بعثهما قريش يتجسسان أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فرميت أحدهما بسهم فقتلته واستأسرت الآخر ، فقدمت على رسول الله (ص)وأخبرته الخبر فضحك ودعا لي بخير(٥).

___________________

(١) في المصدر : حتى سكن عنا الطلب.

(٢) في المصدر : بضجنان.

(٣) في المصدر : اذ دخل على رجل من بنى الدئل اعور طويل.

(٤) العقيرة : صوت المغنى والباكى.

(٥) الكامل ٢ : ١١٦ و ١١٧ وفيه : فضحك حتى بدت نواجده ودعا لى بخير وفي هذه السنة تزوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله زينب بنت خزيمة ام المساكين من بنى هلال في شهر رمضان ، وكانت قبله عند الطفيل بن الحارث فطلقها ، وولى المشركون الحج في هذه السنة.

١٥٦

١٤

باب

*(غزوة بنى النضير)*

الآيات : الحشر « ٥٩ » : هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر ماظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم و أيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الابصار * ولو لا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار * ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب * ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليجزي الفاسقين « ٢ ».

إلى قوله تعالى : ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لاخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد أنهم لكاذبون * لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الادبار ثم لا ينصرون * لا نتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون * لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون * كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم * كمثل الشيطان إذ قال للانسان اكفر فلما كفر قال إني بري منك إني أخاف الله رب العالمين * فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين ١١ ـ ١٧.

تفسير قال الطبرسي رحمه‌الله : « هو الذي أخرج » قيل : نزلت السورة في إجلاء بني النضير من اليهود ، فمنهم من خرج إلى خيبر ، ومنهم من خرج إلى الشام

١٥٧

عن مجاهد وقتادة ، ذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لما دخل المدينة صالحه بنو النضير على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه ، فقبل ذلك منهم ، فلما غزا رسول الله (ص) بدرا وظهر على المشركين قالوا : والله إنه للنبي(١) الذي وجدنا نعته في التوراة لا ترد له راية ، فلما غزا صلى‌الله‌عليه‌وآله غزاة أحد وهزم المسلمون ارتابوا ونقضوا العهد ، فركب كعب ابن الاشرف في أربعين راكبا من اليهود إلى مكة فأتوا قريشا وحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على محمد (ص) ، ثم دخل أبوسفيان في أربعين ، وكعب في أربعين من اليهود المسجد ، وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين الاستار والكعبة ، ثم رجع كعب بن الاشراف وأصحابه إلى المدينة ونزل جبرئيل وأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بما تعاقد عليه كعب وأبوسفيان ، وأمره بقتل كعب بن الاشراف ، فقتله محمد بن مسلمة الانصاري وكان أخاه من الرضاعة.

قال محمد بن إسحاق خرج رسول الله (ص) إلى بني النضير يستعينهم في دية القتيلين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري وكان بين بني النضير وبين عامر عقد وحلف ، فلما أتاهم رسول الله (ص) يستعينهم في الدية ، قالوا نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت ، ثم خلا بعضهم ببعض فقال(٢) إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حالته هذه ورسول الله (ص) إلى جانب جدار من بيوتهم قاعد فقالوا : من رجل يعلو على هذا البيت ويلقي عليه صخرة؟ ورسول الله ٩ في نفر من أصحابه ، فأتاه الخبر من السماء بما أراد القوم ، فقام وقال لاصحابه : لا تبرحوا ، فخرج راجعا إلى المدينة ، ولما استبطاؤا النبي ٩ قاموا في طلبه فلقوا رجلا مقبلا من المدينة فسألوه عنه فقال : رأيته داخلا المدينة ، فأقبل أصحاب النبي ٩ حتى انتهوا إليه فأخبرهم الخبر بما أرادت اليهود من الغدر ، وأمر رسول الله (ص) محمد بن مسلمة بقتل كعب بن الاشراف ، فخرج ومعه سلكان بن سلامة وثلاثة من بني الحارث ، و خرج النبي (ص) على أثرهم(٣) وجلس في موضع ينتظر رجوعهم ، فذهب محمد بن

__________________

(١) النبى خ ل.

(٢) فقالوا خ ل.

(٣) في اثرهم خ ل.

١٥٨

مسلمة مع القوم إلى قرب قصره ، وأجلس قومه عند جدار ، وناداه : ياكعب ، فانتبه وقال : من أنت؟ قال : أنا محمد بن مسلمة أخوك ، جئتك أستقرض منك دراهم فإن محمدا يسألنا الصدقة وليس معنا الدراهم ، فقال كعب : لا أقرضك إلا بالرهن ، قال : معي رهن انزل فخذه ، وكانت له امرأة بنى بها تلك الليلة عروسا ، فقالت : لا أدعك تنزل لاني أرى حمرة الدم في ذلك الصوت ، فلم يلتفت إليها ، وخرج فعانقه محمد بن مسلمة وهما يتحادثان حتى تباعدا من القصر إلى الصحراء ، ثم أخذ رأسه ودعا بقومه وصاح كعب ، فسمعت امرأته فصاحت وسمع بنو النضير صوتها فخرجوا نحوه فوجدوه قتيلا ورجع القوم سالمين إلى رسول الله (ص) فلما أسفر الصبح أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه بقتل كعب ففرحوا ، وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بحربهم والسير إليهم ، فسار بالناس حتى نزل بهم فتحصنوا منه في الحصن ، وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بقطع النخل والتحريق فيها ، فنادوه ، يا محمد قد كنت تنهى عن الفحشاء ، فما بالك تقطع النخل و تحرقها؟ فأنزل الله سبحانه : « ما قطعتم من لينة أو تركتموها » الآية ، وهي البؤيرة في قول حسان :

وهان على سراة بني لؤي

حريق بالبؤيرة مستطير

والبؤيرة تصغير بؤرة وهي إرة النار أي حفرتها.

وقال ابن عباس : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حاصرهم حتى بلغ منهم كل مبلغ ، فأعطوه ما أراد منهم ، فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم وأن يخرجهم من أرضهم و أوطانهم ، وأن يسيرهم إلى أذرعات بالشام ، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيرا وسقاء ، فخرجوا إلى أذرعات وأريحا(١) إلا أهل بيتين منهم : آل أبي الحقيق ، وآل حي بن أخطب ، فإنهم لحقوا بخيبر ، ولحقت طائفة منهم بالحيرة ، وكان ابن عباس يسمي هذه السورة سورة بني النضير.

___________________

(١) أذرعات بالفتح ثم السكون ، وكسر الراء بلد في اطراف الشام يجاور ارض البلقاء وعمان. واريحا بالفتح ثم الكسر وياء ساكنة مقصورا : لغة عبرانية وهى مدينة الجبارين في الغور من ارض الاردن بالشام ، سميت باريحا بن مالك بن ارفخشد بن سام بن نوح عليه‌السلام.

١٥٩

وعن محمد بن مسلمة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعثه إلى بني النضير ، وأمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاث(١) ليال.

وعن محمد بن إسحاق كان إجلاء بني النضير مرجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من أحد ، و كان فتح قريظة مرجعه من الاحزاب وبينهما سنتان ، وكان الزهري يذهب إلى أن إجلاء بني النضير كان قبل أحد على رأس ستة أشهر من وقعة بدر.

« الذين كفروا من أهل الكتاب » يعني يهود بني النضير من ديارهم بأن سلط الله المؤمنين عليهم ، وأمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بإخراجهم من منازلهم وحصونهم وأوطانهم « لاول الحشر » اختلف في معناه فقيل : كان جلاؤهم ذلك أول حشراليهود إلى الشام ، ثم يحشر الناس يوم القيامة إلى أرض الشام أيضا ، وذلك الحشر الثاني عن ابن عباس والزهري والجبائي ، قال ابن عباس : قال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : اخرجوا ، قالوا : إلى أين؟ قال : إلى أرض المحشر ، وقيل : معناه لاول الجلاء لانهم كانوا أول من أجلي من أهل الذمة من جزيرة العرب ، ثم أجلي إخوانهم من اليهود لئلا يجتمع في بلاد العرب دينان ، وقيل : إنما قال لاول الحشر لان الله فتح على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله في أول ما قاتلهم « ماظننتم أن يخرجوا » أي لم تظنوا أيها المؤمنون أنهم يخرجون من ديارهم لشدتهم وشوكتهم.

« وظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله » أي وظن بنو النضير أن حصونهم لوثاقتها تمنعم من سلطان الله وإنزال العذاب بهم على يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث حصنوها وهيؤا آلات الحرب فيها « فأتاهم الله » أي أتاهم أمر الله وعذابه « من حيث لم يحتسبوا » أي لم يتوهموا أنه يأتيهم لما قدروا في أنفسهم من المنعة « وقذف في قلوبهم الرعب » بقتل سيدهم كعب بن الاشرف « يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين » أي يهدمون بيوتهم بأيديهم من داخل ليهربوا لانهم خربوا ما استحسنوا منها حتى لا يكون للمسلمين ، ويخربها المؤمنون من خارج ليصلوا إليهم ، وقيل :

___________________

(١) بثلاث خ ل.

١٦٠