العقائد الاسلامية - ج ٤

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية

العقائد الاسلامية - ج ٤

المؤلف:

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-121-4 /
ISBN الدورة:
964-319-117-6

الصفحات: ٥٢٥

الوجه الثالث : لم يقل أي واحد من التابعين لأصحابه إن التوحيد ينقسم الى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية ، فلو اجتمع معه الثقلان على اثباته عن أي واحد منهم لا يستطيعون.

الوجه الرابع : لم يقل أي صحابي من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ورضي عنهم إن التوحيد ينقسم الى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وأن من لم يعرف توحيد الألوهية لا يعتد بمعرفته لتوحيد الربوبية ، لأن هذا يعرفه المشركون ، وإني أتحدى كل من له إلمامٌ بالعلم أن ينقل لنا هذا التقسيم المخترع عنهم ، ولو برواية واهية.

الوجه الخامس : لم يأت في سنة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الواسعة التي هي بيان لكتاب الله عز وجل من صحاح وسنن ومسانيد ومعاجم ، أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول لأصحابه ويعلمهم أن التوحيد ينقسم الى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وأن من لم يعرف توحيد الألوهية لا يعتد بمعرفته لتوحيد الربوبية ، لأن هذا يعرفه المشركون !! فلو اجتمع معه الثقلان على إثبات هذا الهذيان عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بإسناد ولو واهياً لا يستطيعون.

الوجه السادس : بل كتب السنة طافحةٌ بأن دعوته صلى الله عليه وسلم الناس الى الله كانت الى شهادة أن لا الَه إلا الله وأن محمدا رسول الله وخلع عبادة الأوثان ، ومن أشهرها حديث معاذ بن جبل لما أرسله النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الى اليمن فقال له : ( أدعهم الى شهادة أن لا الَه إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإن هم أطاعوا لذلك فأخبرهم أن عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة .. الحديث ).

وروى الخمسة وصححه ابن حبان أنه صلى الله عليه وسلم أخبره أعرابي برؤية الهلال ، فأمر بالصيام ولم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم إلا عن الاقرار بالشهادتين وكان اللازم على هذيانه هذا أن يدعو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جميع الناس الى توحيد الألوهية الذي جهلوه ، وأما توحيد الربوبية فقد عرفوه ! ويقول لمعاذ

٣٨١

ادعهم الى توحيد الألوهية ! ويقول للأعرابي الذي رأى هلال رمضان هل تعرف توحيد الألوهية ؟!

الوجه السابع : لم يأمر الله في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه عباده بتوحيد الألوهية ، ولم يقل لهم إن من لم يعرفه لايعتد بمعرفته لتوحيد الربوبية ، بل أمر وهو :

الوجه الثامن : بكلمة التوحيد مطلقة ، قال الله تبارك وتعالى مخاطباً نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ( فاعلم أنه لا الَه إلا الله ) وهكذا جميع آيات التوحيد المذكورة في القرآن ، مع سورة الاخلاص التي تعدل ثلث القرآن.

الوجه التاسع : يلزم على هذا الهذيان على الله تبارك وتعالى لعباده حيث عرفوا كلهم توحيد الربوبية ولم يعرفوا توحيد الألوهية ـ أن يبينه لهم ولا يضلهم ولا يعذبهم على جهلهم نصف التوحيد ولا يقول لهم ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) نعوذ بالله من زلقات اللسان وفساد الجنان.

الوجه العاشر : الالَه هو الرب والرب هو الالَه ، فهما متلازمان يقع كل منهما في موضع الآخر ، وكتاب الله تعالى طافحٌ بذلك ، وكذلك سنته عليه الصلاة والسلام ، قال الله تبارك وتعالى ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ) وكان اللازم ـ على زعمه ـ حيث كانوا يعرفون توحيد الربوبية ولا يعرفون توحيد الألوهية أن يقول الله ( اعبدوا إلَهكم ) !!

وقال الله تعالى ( ألم تر الى الذي حاج ابراهيم في ربه ـ الآية ).

وكان اللازم على زعمه حيث كان النمرود يعرف توحيد الربوبية ويجهل توحيد الألوهية ـ أن يقول الله تعالى ( ألم تر الى الذي حاج ابراهيم في إلَهه ) !!

وكان اللازم على زعمه أن يقول الله في قوله تعالى ( ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ) اتقوا إلَهكم !!

٣٨٢

وكان اللازم على زعمه أن يقول الله في قوله تعالى ( إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ) ، هل يستطيع إلَهك.

وكان اللازم على زعمه أن يقول الله في قوله تعالى ( ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ) ثم الذين كفروا بإلَههم يعدلون ! لأن الرب يعرفونه ، وهو شيء كثير في القرآن ...

الوجه الثلاثون : جعله التوسل والاستغاثة عبادةً للمتوسل به والمستغاث به والمستعان به !! ...

قوله ( وهم مع ذلك يعبدون غيره ) فاسدٌ أيضاً ، ومعناه يقول أحمد بن تيمية الملبس بلفظ ( الطائفة ) والملبس أيضاً المدعي أنه ( من السلف ) للمالكية والشافعية والحنفية ومستقيمي العقيدة من الحنابلة ( من خلق السموات والأرض فيقولون الله ) وهم مع اعترافهم بتوحيد الربوبية مشركون في رأيه لأنهم ( يعبدون غيره ) أي يتوسلون بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وبالصالحين من أمته ويستغيثون ويستعينون بهم ، وكل من التوسل والاستعانة والاستغاثة عبادة غير الله تعالى في زعمه !!

وقد اعتمد في تكفير المسلمين بهذه الألفاظ على إرادة نفع جاه المتوسل به أو المستغاث به مثلاً ، قياساً على عبدة الأوثان بجامع الإرادة المذكورة في كل ، وهو قياسٌ فاسد من ستة أوجه :

الأول : جهله حقيقة العبادة ، فإن العبادة لغة : أقصى نهاية الخضوع والتذلل بشرط نية التقرب ، ولا يكون ذلك إلا لمن له غاية التعظيم.

فقد تبين منه أن العبادة لغةً لا تطلق إلا على العمل الدال على الخضوع المتقرب به لمن يعظمه باعتقاد تأثيره في النفع والضر ، أو اعتقاد الجاه العظيم الذي ينفعه في الدنيا والآخرة ، وهي التي نهى الله سبحانه وتعالى عن أن تقع لغيره ، وكفَّر من لم ينته عنها ، وما قصر عن هذه المرتبة لا يقال فيه عبادة لغير الله.

وشرعاً : امتثال أمر الله كما أمر على الوجه المأمور به من أجل أنه أمر ، مع

٣٨٣

المبادرة بغاية الحب والخضوع والتعظيم ، فاعتبر فيها ما اعتبر في اللغوية من الخضوع والتذلل والتعظيم.

فاللغوية غير مقيدة بعمل مخصوص ، والشرعية مقيدة بالأعمال المأمور بها فكانت جاريةً على الأعم الأغلب في الحقائق الشرعية من كونها أخص من اللغوية.

ومن أجل اختصاصها بالمأمور به خرجت عبادة اليهودي مثلاً لأنه وإن تمسك بشريعة إلا أنها لما كانت منسوخة كانت كأن لم تكن ، وعبادة المبتدع في الدين ما ليس منه ، فالله سبحانه لما نهى الكفار عما هم مشتغلون به من عبادة غيره ، ووبخهم على وضع الشيء في غير محله وتعظيمهم غير أهله ، وبين لهم بالدلائل الواضحة عدم صلوحية ما اتخذوه من دونه لما اتخذوه اليه ، وكان الحامل لهم على ذلك اتباع أهوائهم ، والاسترسال مع أغراضهم ، وذلك منافٍ لعبوديتهم ، إذ العبد لا يتصرف في نفسه بمقتضى شهوته وغرضه ، وإنما يتصرف على مقتضى أمر سيده ونهيه ، قصد سبحانه أن يخرجهم عن داعية أهوائهم واتباع أغراضهم ، حتى يكونوا عبيداً لله تعالى اختياراً كما هم عبيد له اضطراراً ، فوضع لهم الشريعة المطهرة وبين لهم الأعمال التي تعبدهم بها ، والطرق التي توصلهم الى منافعهم ومصالحهم على الوجه الذي ارتضاه لهم ، ونهاهم عن مجاوزة ما حد لهم ...

وعلى هذا فشرط كونها عبادة نية التقرب للمعبود ، فالسجود لا يكون عبادة ولا كفراً إلا تبعاً للنية ، فسجود الملائكة عليهم الصلاة والسلام لآدم عليه الصلاة والسلام عبادة لله ، لأنه امتثال لأمره وتقربٌ وتعظيم له.

والسجود للصنم كفرٌ إذا قصد به التقرب اليه إذ هو عبادة لغير الله ، وكذا يحكم عليه به عند جهل قصده أو إنكاره لأنه علامة على الكفر.

والسجود للتحية معصيةٌ فقط في شرعنا ، وقد كان سائغاً في الشرائع السابقة بدليل سجود يعقوب وبنيه ليوسف عليهم الصلاة والسلام.

فتحقق من تعريفي العبادة لغةً وشرعاً أن العبادة التذلل والتعظيم للمعبود ، وعليه

٣٨٤

فليس كل تعظيم عبادة ، وأن ضابط التعظيم المقتضي للعبادة هو أن يعتقد له التأثير في النفع والضر ، أو يعتقد له الجاه التام والشهادة المقبولة بحيث ينفع في الآخرة ويستنزل به النصر والشفاء في الدنيا.

والتوسل لا يسمى عبادةً قطعاً ولا يقال فيه عبادة ، وإنما هي وسيلةٌ اليها ، وسيلة الشيء غيره بالضرورة.

الثاني : الوسيلة لغةً كل ما يتقرب به الى الغير ، وسل الى الله تعالى توسيلاً عمل عملاً تقرب به اليه ، فتحقق منه أن التوسل لا يسمى عبادةً قطعاً ، ولا يقال فيه عبادة وإنما هو وسيلةٌ اليها ، ووسيلة الشيء غيره بالضرورة وهو واضح ، فإن التوسل لا تقرب فيه للمتوسل به ولا تعظيمه غاية التعظيم ، والتعظيم إذا لم يصل الى هذا الحد لا يكون الفعل المعظم به عبادة ، فلا يطلق اسم العبادة على ما ظهر من الاستعمال اللغوي إلا على ما كان بهذه المثابة من كون العمل دالاً على غاية الخضوع منوياً به التقرب للمعبود تعظيماً له بذلك التعظيم التام.فاذا اختل شيء منها منع الاطلاق.

أما الدلالة على نهاية الخضوع فظاهر ، لأن مناط التسمية لم يوجد ، ولأن الناس من قديم الزمان الى الآن يخضعون لكبرائهم ورؤسائهم بما يقتضيه مقامه الدنيوي عندهم ويحيونهم بأنواع التحيات ، ويتذللون بين أيديهم ، ولا يعدون ذلك قربة ، ولا يطلقون عليه اسم العبادة ، وإنما يرونه من باب الأدب ، وما ذاك إلا لكون ذلك الخضوع لم يبلغ نهايته والعظيم الناشيء عنه لم يبلغ غايته.

وبهذا ظهر الفرق بين التوسل والعبادة. على أن عبد يتعدى بنفسه وتوسل يتعدى بحرف الجر.

وقد أوغل ابن تيمية في بيداء القياس الفاسد دفعتين ، قياسه معاني هذا الألفاظ ـ توسل استعان ، استغاث ، تشفع ـ على العبادة ، وقياسه المؤمنين المتوسلين بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم مثلاً على عبدة الأوثان من دون الله ، بجامع إرادة الجاه في كل.

فلينظر اللبيب الى أين رماه جهله باللغة العربية ، فإنه لو تأمل في قول القائل : اللهم

٣٨٥

اللهم إني أتوسل اليك بفلان ، وأجراه على ما تدل عليه اللغة لوجد معناه ، اللهم إني أتقرب اليك وأتحبب اليك ، فهو دالٌ بجوهره على أن التقرب لله لا لمن يراد جاهه !!

ومن جَهِل الفرق بين عبد وتوسل ، كيف يصح له القياس في دين الله ، وإلحاق بعض الفروع ببعض ، والقياس أصعب أنواع الاجتهاد ، لكثرة ما يعتبر في أركانه من الشروط ، وما يرد عليه من المعارضات والمناقضات وغير ذلك من أنواع الاعتراضات ، فلا يصفو مشربه إلا لأهل الاجتهاد ومن أحاط بمداركهم على اختلاف مراتبهم ، ومن قصر عن تلك المراتب لا يسوغ له الجزم بالحكم المأخوذ منه في دانق ، فكيف بالحكم المأخوذ منه في تكفير المسلمين ؟!!

الثالث : وحيث تحقق الفرق بين العبادة والتوسل ، فالعبادة فيها معنى زائدٌ يناسب إناطة الحكم به ، وهو اشتمالها على الإعراض عن الله وإطلاق الالَهية على غيره وإقامته مقامه ، وخدمته بما يستحق أن يخدم ، وقد أشار الى هذا المعنى بعض فضلاء أهل السنة ، وملخص كلامه :

أن الشبهة الحاملة لعبدة الأوثان على عبادتها هي أنهم استصغروا أنفسهم فاستعظموا أن يعبدوا الله مباشرة ، ورأوا من سوء الأدب أن يشتغل الحقير من أول وهلة بخدمة العظيم ، وقربوا ذلك بأمر مستحسن في العادة وهو أن الحقير لا ينبغي له أن يخدم الملك حتى يخدم عماله ألى أن يترقى لخدمته ، وقال : وهذه هي الحاملة على التوسل الى الله تعالى بمن له جاه عنده.

إلا أن الشرع أذن في التوسل ولم يأذن في العبادة ، فكانت حاجة الكفار تندفع بما شرعه الله ، إلا أن الله تعالى أعمى بصائرهم ، ولو تنبهوا لأمر عادي آخر لأرشدهم ، فإن الملك من ملوك الدنيا إذا استجاه له أحد بعظيم من وزرائه وتشفع له بذلك ، ربما أقبل عليه وأخذ بيديه وقضى ما أراده منه. أما إذا عظم ذلك الوزير بما يعظم به الملك وعامله بمعاملته وأقامه في مقامه فيما يختص به الملك عن غيره ، رجاء أن يقضي ذلك الوزير حاجته من الملك ، فإن الملك إذا علم بصنيعه يغضب أشد

٣٨٦

الغضب ، ولا يقتصر في العقوبة على قطع الرجاء من الحاجة ، بل يفتك به وبالوزير إن أحب ذلك !

فمثال التوسل الأول ، ومثال العبادة الثاني.

فتأمل هذا المثال فإنه وافٍ بواقعة الحال ، وبالله التوفيق والاعتصام.

الرابع : القاعدة المشهورة المطردة وهي : أن استواء الفعلين في السبب الحامل على الفعل لا يوجب استواءهما في الحكم ، يدل على هاته القاعدة دلالةً قطعيةً أنه لو لم يكن الأمر كذلك بأن كان الاستواء في الحامل يوجب الاستواء في الحكم كما ادعاه ابن تيمية وقرره في قياسه التوسل على العبادة والمتوسل على عابد الوثن .. للزم إبطال الشريعة وتساوي الأعمال في الأحكام ، واللازم باطلٌ بالاتفاق ، وهو ضروري غني عن الاستدلال!!

وقال في ص ٩٦ :

وقد انتهيت بتوفيق الله من إبطال كثير من كلام ابن تيمية وابن القيم وبعض كلام ابن عبد الوهاب ، في توحيد الربوبية والألوهية والعبادة وملحقاتهما في هذا الفصل ، وأختمه بما كتبه العلامة المحقق المرحوم الشيخ ( يوسف الدجوي ) المتوفي سنة خمس وستين وثلاثمائة وألف في توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية قال رحمه‌الله :

جاءتنا رسائل كثيرة يسأل مرسلوها عن توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية ما معناهما ، وما الذي يترتب عليهما ، ومن ذا الذي فرق بينهما ؟

وما هو البرهان على صحة ذلك أو بطلانه ؟

فنقول وبالله التوفيق : إن صاحب هذا الرأي هو ابن تيمية الذي شاد بذكره قال : إن الرسل لم يبعثوا إلا لتوحيد الألوهية ، وهو إفراد الله بالعبادة ، وأما توحيد الربوبية وهو اعتقاد أن الله رب العالمين المتصرف في أمورهم فلم يخالف فيه أحد من المشركين والمسلمين بدليل قوله تعالى ( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله ).

ثم قالوا : إن الذين يتوسلون بالأنبياء ويتشفعون بهم وينادونهم عند الشدائد هم

٣٨٧

عابدون لهم ، قد كفروا باعتقادهم الربوبية في تلك الأوثان والملائكة والمسيح سواء بسواء ، فإنهم لم يكفروا باعتقادهم الربوبية في تلك الأوثان وما معها بل بتركهم توحيد الألوهية بعبادتها ، وهذا ينطبق على زوار القبور المتوسلين بالأولياء المنادين لهم المستغيثين بهم الطالبين منهم ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى !!!

بل قال محمد بن عبد الواهاب ( إن كفرهم أشنع من كفر عباد الأوثان ، وإن شئت ذكرت لك عبارته المحزنة الجريئة ) فهذا ملخص مذهبهم مع الإيضاح ، وفيه عدة دعاوى ...

وقال في ص ١٠٠ :

ولكن نقول لهم بعد هذا على فرض أن هناك فرقاً بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية كما يزعمون ، فالتوسل لا ينافي توحيد الألوهية فإنه ليس من العبادة في شيء لا لغةً ولا شرعاً ولا عرفاً ، ولم يقل أحد إن النداء أو التوسل بالصالحين عبادة ، ولا أخبرنا الرسول صلى الله تعالى وسلم بذلك !!

ولو كان عبادةً أو شبه عبادة ، لم يجز بالحي ولا بالميت.

ومن المعلوم أن المتوسل لم يطلب إلا من الله تعالى بمنزلة هذا النبي أو الولي ، ولا شك في أن لهما منزلةً عند الله تعالى في الحياة وبعد الممات.

فإن تشبث متشبثٌ بأن الله أقرب الينا من حبل الوريد فلا يحتاج الى واسطة.

قلنا له : ( حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء ... ) فإن رأيك هذا يلزمه ترك الأسباب والوسائط في كل شيء ، مع أن العالم مبني على الحكمة التي وضعت الأسباب والمسببات في كل شيء !!

ويلزمه عدم الشفاعة يوم القيامة وهي معلومة من الدين بالضرورة ، فإنها على هذا الرأي لا حاجة اليها ، إذ لا يحتاج سبحانه وتعالى الى واسطة ، فإنه أقرب من الواسطة ويلزم خطأ عمر بن الخطاب في قوله ( إنا نتوسل اليك بعم نبيك العباس الخ .. ) !!

وعلى الجملة يلزم سد باب الأسباب والمسببات والوسائل والوسائط ، وهو

٣٨٨

خلاف السنة الالَهية التي قام عليها بناء هذه العوالم كلها من أولها الى آخرها ، ولزمهم على هذا التقدير أن يكونوا داخلين فيما حكموا به على المسلمين ، فإنه لا يمكنهم أن يدعوا الأسباب أو يتركوا الوسائط ! بل هم أشد الناس تعلقاً واعتماداً عليها.

ولا يفوتنا أن نقول : إن التفرقة بين الحي والميت في هذا المقام لا معنى لها ، فإن المتوسل لم يطلب شيئاً من الميت أصلاً ، وإنما طلب من الله متوسلاً اليه بكرامة هذا الميت عنده أو محبته له أو نحو ذلك ، فهل في هذا كله تأليهٌ للميت أو عبادةٌ له ؟! أم هو حق لا مرية فيه ، ولكنهم قوم يجازفون ولا يحققون !!

كيف وجواز التوسل بل حسنه معلوم عند جميع المسلمين. وانظر كتب المذاهب الأربعة ( حتى مذهب الحنابلة ) في آداب زيارته صلى الله عليه وسلم تجدهم قد استحبوا التوسل به الى الله تعالى ، حتى جاء ابن تيمية فخرق الاجماع وصادم المركوز في الفطر ، مخالفاً في ذلك العقل والنقل. انتهى.

٣٨٩

كتاب ( شفاء السقام ) للامام السبكي

وهو من كبار علماء مصر المعاصرين لابن تيمية ، وذكروا أن ابن تيمية كان يحترمه كثيراً ، ولعله كان يهابه فلم يرد على كتابه !!

وقد طبع كتاب السبكي مرات في مصر ، ثم نشرته مكتبة ايشيق في استانبول ، وحققه أخيراً ونشره العلامة السيد محمد رضا الجلالي.

والمحور الأصلي للكتاب رد بدعة ابن تيمية في تحريم زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفيه فصل في رد تحريمه التوسل والاستشفاع والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وآله.

قال السبكي في ص ٥٩ من شفاء السقام :

أما بعد ، فهذا كتاب سميته ( شفاء السقام في زيارة خير الأنام ) ورتبته على عشرة أبواب :

الأول : في الأحاديث الواردة في الزيارة.

الثاني : في الأحاديث الدالة على ذلك وإن لم يكن فيها لفظ ( الزيارة ).

الثالث : فيما ورد في السفر اليها.

الرابع : في نصوص العلماء على استحبابها.

الخامس : في تقرير كونها قربة.

السادس : في كون السفر اليها قربة.

السابع : في دفع شبه الخصم وتتبع كلماته.

الثامن : في التوسل والاستغاثة.

التاسع : في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

العاشر : في الشفاعة ، لتعلقها بقوله ( من زار قبري وجبت له شفاعتي ).

وضمنت هذا الكتاب الرد على من زعم : أن أحاديث الزيارة كلها موضوعة ! وأن السفر اليها بدعة غير مشروعة !

وهذه المقالة أظهر فساداً من أن يرد العلماء عليها ، ولكني جعلت هذا الكتاب مستقلاً في الزيارة وما يتعلق بها مشتملاً من ذلك على جملة يعز جمعها على طالبها.

٣٩٠

وقال في ص ٢٩١ :

اعلم أنه يجوز ويحسن التوسل ، والاستغاثة ، والتشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم الى ربه سبحانه وتعالى.

وجواز ذلك وحسنه من الأمور المعلومة لكل ذي دين ، المعروفة من فعل الأنبياء والمرسلين ، وسير السلف الصالحين ، والعلماء والعوام من المسلمين.

ولم ينكر أحد ذلك من أهل الأديان ، ولا سمع به في زمن من الأزمان ، حتى جاء ابن تيمية ، فتكلم في ذلك بكلام يلبس فيه على الضعفاء الأغمار ، وابتدع ما لم يسبق اليه في سائر الأعصار.

وحسبك أن إنكار ابن تيمية للاستغاثة والتوسل قولٌ لم يقله عالم قبله وصار بين أهل الإسلام مثلةً !!

وقد وقفت له على كلام طويل في ذلك رأيت من الرأي القويم أن أميل عنه الى الصراط المستقيم ، ولا أتتبعه بالنقض والابطال ، فإن دأب العلماء القاصدين لإيضاح الدين وإرشاد المسلمين تقريب المعنى الى أفهامهم وتحقيق مرادهم وبيان حكمه ، ورأيت كلام هذا الشخص بالضد من ذلك ، فالوجه الاضراب عنه.

وأقول : إن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم جائز في كل حال : قبل خلقه وبعد خلقه ، في مدة حياته في الدنيا ، وبعد موته ، في مدة البرزخ وبعد البعث في عرصات القيامة والجنة ، وهو على ثلاثة أنواع :

النوع الأول : أن يتوسل به ، بمعنى أن طالب الحاجة يسأل الله تعالى به أو بجاهه أو ببركته. فيجوز ذلك في الاحوال الثلاثة ، وقد ورد في كل منها خبر صحيح :

حديث توسل آدم عليه‌السلام بالنبي صلى الله عليه وآله

أما الحالة الأولى : قبل خلقه فيدل على ذلك آثار عن الأنبياء الماضين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، اقتصرنا منها على ما تبين لنا صحته وهو ما رواه الحاكم أبو عبدالله بن البيع في ( المستدرك على الصحيحين أو أحدهما ) قال : ثنا أبو سعيد

٣٩١

عمرو بن محمد بن منصور العدل ، ثنا أبو الحسن محمد بن اسحاق ابن ابراهيم الحنظلي ، ثنا أبو الحارث عبدالله بن مسلم الفهري ، ثنا اسماعيل ابن مسلمة ، أنا عبدالرحمان بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن جده ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لما اقترف آدم عليه‌السلام الخطيئة ، قال : يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي.

فقال الله : يا آدم وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه ؟

قال : يا رب لأنك لما خلقتني بيدك ، ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً : لا الَه إلا الله محمد رسول الله ، فعرفت أنك لم تضف الى اسمك إلا أحب الخلق اليك.

فقال الله : صدقت يا آدم ، إنه لأحب الخلق الي ، وإذ سألتني بحقه فقد غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك.

قال الحاكم : هذا حديث صحيح الاسناد ، وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمان بن زيد بن أسلم في هذا الكتاب.

ائل النبوة ، وقال : تفرد به عبد الرحمان.

وذكره الطبراني وزاد فيه ( وهو آخر الأنبياء من ذريتك ).

توسل عيسى عليه‌السلام بالنبي صلى الله عليه وآله

وذكر الحاكم مع هذا الحديث أيضاً ... عن ابن عباس قال : أوحي الله الي عيسى عليه‌السلام : يا عيسى آمن بمحمد وأمر من أدركه من أمتك أن يؤمنوا به ، فلولا محمد ما خلقت آدم ، ولولاه ما خلقت الجنة والنار ، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه : لا الَه إلا الله فسكن.

قال الحاكم : هذا حديث حسن صحيح الاسناد ولم يخرجاه ، انتهى ما قاله الحاكم.

٣٩٢

والحديث المذكورلم يقف عليها بن تيمية بهذا الاسناد ولا بلغه أن الحاكم صححه. فإنه قال أعني ابن تيمية : أما ما ذكره في قصة آدم من توسله فليس له أصل ولا نقله أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد يصلح الاعتماد عليه ، ولا الاعتبار ولا الاستشهاد.

ثم ادعى ابن تيمية أنه كذب ، وأطال الكلام في ذلك جداً بما لا حاصل تحته بالوهم والتخرص ! ...

ونحن نقول : قد اعتمدنا في تصحيحه على الحاكم ، وأيضاً : عبد الرحمان بن زيد بن أسلم لا يبلغ في الضعف الى الحد الذي ادعاه.

وكيف يحل لمسلم أن يتجاسر على منع هذا الأمر العظيم الذي لا يرده عقل ولا شرع؟ وقد ورد فيه هذا الحديث ؟!

توسل نوح وابراهيم وسائر الأنبياء بنبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله

وأما ما ورد من توسل نوح وابراهيم وغيرهما من الأنبياء فذكره المفسرون ، واكتفينا عنه بهذا الحديث لجودته وتصحيح الحاكم له.

* *

ولا فرق في هذا المعنى بين أن يعبر عنه بلفظ التوسل أو الاستغاثة أو ( التشفع ) أو ( التجوه ). والداعي بالدعاء المذكور وما في معناه : متوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه جعله وسيلة لاجابة الله دعاءه.

ومستغيث به ، والمعنى أنه استغاث الله به على ما يقصده فالباء ها هنا للسببية ، وقد ترد للتعدية ، كما تقول : ( من استغاث بك فأغثه ). ومستشفع به ، ومتجوه به ، ومتوجه ، فإن التجوه والتوجه راجعان الى معنى واحد.

فإن قلت : المتشفع بالشخص مَن جاء به ليشفع ، فكيف يصح أن يقال يتشفع به؟

قلت : ليس الكلام في العبارة وإنما الكلام في المعني وهو سؤال الله بالنبي صلى

٣٩٣

الله عليه وسلم كما ورد عن آدم ، وكما يفهم الناس من ذلك ، وإنما يفهمون من التشفع والتوسل والاستغاثة والتجوه ذلك ، ولا مانع من إطلاق اللغة بهذه الألفاظ على هذا المعنى.

s والمقصود جواز أن يسأل العبد الله تعالى بمن يقطع أن له عند الله قدراً أو مرتبة.

ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم له عند الله قدر على ومرتبة رفيعة ، وجاه عظيم. وفي العادة أن من كان له عند الشخص قدرٌ بحيث أنه إذا شفع عنده قبل شفاعته فإذا انتسب اليه شخص في غايته وتوسل بذلك وتشفع به ، فإن ذلك الشخص يجيب السائل إكراما لمن انتسب اليه وتشفع به ، وإن لم يكن حاضراً ولا شافعاً.

وعلى هذا التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل خلقه.

ولسنا في ذلك سائلين غير الله تعالى ولا داعين إلا إياه ، ويكون ذكر المحبوب أو العظيم سبباً للاجابة. كما في الأدعية الصحيحة المأثورة ( أسألك بكل اسم لك وأسألك بأسمائك الحسنى ، وأسألك بأنك أنت الله ، وأعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك ، وبك منك ).

وحديث الغار الذي فيه الدعاء بالأعمال الصالحة وهو من الأحاديث الصحيحة المشهورة.

فالمسؤول في هذه الدعوات كلها هو الله وحده لا شريك له والمسؤول به مختلف ولم يوجب ذلك إشراكاً ، ولا سؤال غير الله.

كذلك السؤال بالنبي صلى الله عليه وسلم ليس سؤالاً للنبي بل سؤ ال لله به.

وإذا جاز السؤال بالأعمال وهى مخلوقة فالسؤال بالنبي صلى الله عليه وسلم أولى.

ولا يسمع الفرق بأن الأعمال تقتضي المجازاة عليها ، لأن استجابة الدعاء لم تكن عليها ، وإلا لحصلت بدون ذكرها ، وإنما كانت على الدعاء بالأعمال.

٣٩٤

وليس هذا المعني مما يختلف فيه الشرائع حتى يقال : إن ذلك شرع من قبلنا فإنه لو كان ذلك مما يخل بالتوحيد لم يحل في ملة من الملل ، فإن الشرائع كلها متفقة على التوحيد.

وليت شعري ما المانع من الدعاء بذلك ؟! فإن اللفظ إنما يقتضي أن للمسؤول به قدراً عند المسؤول ، وتارة يكون المسؤول به أعلى من المسؤول ، أما الباري سبحانه وتعالى كما في قوله ( من سألكم بالله فأعطوه ) وفي الحديث الصحيح في حديث أبرص وأقرع وأعمى ( أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن ) الحديث .. وهو مشهور. وإما بعض البشر ، ويحتمل أن يكون من هذا القسم قول عائشة لفاطمة : أسألك بما لي عليك من الحق.

وتارةً يكون المسؤول أعلى من المسؤول به ، كما في سؤال الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه لا شك أن للنبي قدراً عنده. ومن أنكر ذلك فقد كفر.

فمتى قال : ( أسألك بالنبي صلى الله عليه وسلم ) فلا شك في جوازه.

وكذا إذا قال ( بحق محمد ) والمراد بالحق الرتبة والمنزلة ، والحق الذي جعله الله على الخلق أو الحق الذى جعله الله بفضله له عليه ، كما في الحديث الصحيح قال : فما حق العباد على الله ؟

وليس المراد بالحق الواجب ، فإنه لا يجب على الله شيء ، وعلى هذا المعنى يحمل ما ورد عن بعض الفقهاء في الامتناع من اطلاق هذه اللفظة.

الحالة الثانية : التوسل به بذلك النوع بعد خلقه صلى الله عليه وسلم في مدة حياته : فمن ذلك ما رواه أبو عيسى الترمذي في جامعه في كتاب الدعوات ، قال ... عن عثمان بن حنيف : أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ... وقد كفانا الترمذي والبيهقي رحمهما الله بتصحيحهما مؤونة النظر في تصحيح هذا الحديث ، وناهيك به حجة في المقصود.

فإن اعترض معترض : بأن ذلك إنما كان لأن النبي صلى الله عليه وسلم شفع فيه

٣٩٥

فلهذا قال له أن يقول ( إني توجهت اليك بنبيك ).

قلت : الجواب من وجوه :

أحدها : سيأتي أن عثمان بن عفان وغيره استعملوا ذلك بعد موته صلى الله عليه وسلم ، وذلك يدل على أنهم لم يفهموا اشتراط ذلك.

الثاني : أنه ليس في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم بين له ذلك.

الثالث : أنه ولو كان كذلك لم يضر في حصول المقصود وهو جوار التوسل الى الله بغيره بمعنى السؤال به كما علمه النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك زيادة على طلب الدعاء منه ، فلو لم يكن في ذلك فائدة لما علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأرشده اليه ، ولقال له : إني قد شفعت فيك ، ولكن لعله صلى الله عليه وسلم أراد أن يحصل من صاحب الحاجة التوجه وبذل الاضطرار والافتقار والانكسار ، ومستغيثاً بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فيحصل كمال مقصوده.

ولا شك أن هذا المعنى حاصلٌ في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وغيبته حياته وبعد وفاته ، فإنا نعلم شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ورفقه بهم ورحمته لهم ، واستغفاره لجميع المؤمنين وشفاعته ، فإذا انضم اليه توجه العبد به حصل هذا الغرض الذي أرشد النبي صلى الله عليه وسلم الأعمى اليه.

التوسل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد موته

الحالة الثالثة : أن يتوسل بذلك بعد موته صلى الله عليه وسلم لما رواه الطبرانيرحمه‌الله في المعجم الكبير في ترجمة عثمان بن حنيف ... أن رجلاً كان يختلف الى عثمان بن عفان ... ورواه البيهقي باسناده عن أبي جعفر المديني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف...

والاحتجاج من هذا الأثر لفهم عثمان رضي الله عنه ومن حضره الذين هم أعلم بالله ورسوله وفعله.

٣٩٦

النوع الثاني : التوسل به بمعنى طلب الدعاء منه وذلك في أحوال :

إحداها : في حياته صلى الله عليه وسلم ، وهذا متواتر والأخبار طافحة به ، ولا يمكن حصرها ، وقد كان المسلمون يفزعون اليه ويستغيثون به في جميع ما نابهم كما في الصحيحين ... والإحاديث والاثار في ذلك أكثر من أن تحصى ، ولو تتبعتها لوجدت منها ألواناً.

ونص قوله تعالى : ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول ... الآية ، صريح في ذلك.

* وكذلك يجوز ويحسن مثل هذا التوسل بمن له نسبة من النبي صلى الله عليه وسلم ، كما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ قحط استسقى بالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وقال : اللهم إنا كنا إذا قحطنا توسلنا بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل اليك بعم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فاسقنا.

وكذلك يجوز مثل هذا التوسل بسائر الصالحين ، وهذا شيء لا ينكره مسلم بل متدين بملة من الملل.

فإن قيل : لم توسل عمر بن الخطاب بالعباس ، ولم يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بقبره ؟

قلنا : ليس في توسله بالعباس إنكار للتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بالقبر. وقد روي عن أبي الجوزاء قال : قحط أهل المدينة قحطاً شديداً فشكوا الى عائشة رضي الله عنها فقالت : فانظروا قبر النبي صلى الله عليه وسلم فاجعلوا منه كوى الى السماء ، حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف. ففعلوا فمطروا حتى نبت العشب وسمن الابل حتي تفتقت من الشحم فسمى ( عام الفتق ) ...

فإن قال المخالف : أنا لا أمنع التوسل والتشفع لما قدمتم من الآثار والأدلة ، وإنما أمنع إطلاق ( التجوه ) و( الاستغاثة ) لأن فيهما إيهام أن المتجوه به والمستغاث به أعلى من المتجوه عليه والمستغاث عليه.

٣٩٧

قلنا : هذا لا يعتقده مسلم ولا يدل لفظ ( التجوه ) و( الاستغاثة ) عليه ، فإن التجوه من الجاه والوجاهة ، ومعناه علو القدر والمنزلة ، وقد يتوسل بذي الجاه الى من هو أعلى جاهاً منه.

و ( الاستغاثة ) طلب الغوث ، فالمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث من غيره ، وإن كان أعلى منه.

فالتوسل والتشفع والتجوه والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والصالحين ليس لها معنى في قلوب المسلمين غير ذلك ، ولا يقصد بها أحد منهم سواه ، فمن لم ينشرح صدره لذلك فليبك على نفسه ، نسأل العافية.

وإذا صح المعنى فلا عليك في تسميته ( توسلاً ) أو ( تشفعاً ) أو ( تجوهاً ) أو (استغاثة ).

ولو سلم أن لفظ ( الاستغاثة ) تستدعي النصر على المستغاث منه ، فالعبد يستغيث على نفسه وهواه والشيطان وغير ذلك مما هو قاطع له عن الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والصالحين ، متوسلاً بهم الى الله تعالى ليغيثه علي من استغاث منه من النفس وغيرها ، والمستغاث به في الحقيقة هو الله تعالى والنبي صلى الله عليه وسلم واسطة بينه وبين المستغيث.

وإذ قد تحررت هذه الأنواع والأحوال في الطلب من النبي صلى الله عليه وسلم وظهر المعنى ، فلا عليك في تسميته ( توسلاً ) أو ( تشفعاً ) أو ( استغاثةً ) أو ( تجوهاً ) أو ( توجهاً ) لأن المعنى في جميع ذلك سواء ...

إذا عرف ذلك فمعنى ( تجوه ) توجه بجاهه ، وهو منزلته وقدره عند الله تعالى اليه. وأما الاستغاثة فهي طلب الغوث ، وتارة يطلب الغوث من خالقه وهو الله تعالى وحده كقوله تعالى : إذ تستغيثون ربكم. وتارة يطلب ممن يصح إسناده اليه على سبيل الكسب ، ومن هذا النوع الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذين القسمين.

وتعدي الفعل تارة بنفسه ، كقوله تعالى : إذ تستغيثون ربكم ، فاستغاثه الذي من

٣٩٨

شيعته. وتارة بحرف الجر ، كما في كلام النحاة في المستغاث به ، وفي كتاب سيبويه رحمه‌الله : فاستغاث بهم ليشتروا له كليباً. فيصح أن يقال : استغثت النبي صلى الله عليه وسلم ، وأستغيث بالنبي بمعنى واحد ، وهو طلب الغوث منه بالدعاء ونحوه ، على النوعين السابقين في التوسل من غير فرق ، وذلك في حياته وبعد موته.

ولا فرق في هذا المعنى بين أن يستعمل الفعل متعديا بنفسه أو لازما أو متعديا بالباء ...

وقال في ص ٣١٩ :

رتبنا الكلام في هذا الباب على فصول :

الفصل الأول : فيما ورد في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

صنف الحافظ أبو بكر البيهقي رحمه‌الله في ذلك جزء وروى فيه أحاديث منها ( الأنبياء صلوات الله عليهم أحياء في قبورهم يصلون ).

ورواه ابن عدي في الكامل ... عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الأنبياء صلوات الله عليهم أحياء في قبورهم يصلون ).

قال ابن عدي : وللحسن بن قتيبة هذا أحاديث غرائب حسان ، فأرجو أنه لا بأس به.

ومما يدل على ذلك ما ساق إسناده الى أوس بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أفضل أيامكم يوم الجمعة وفيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثروا على من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة ).

قالوا وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ـ يقولون : بليت ـ ؟

فقال : إن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء. أخرجه أبو داود.

قال البيهقي : وله شواهد منها ... عن أبي مسعود الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( أكثروا الصلاة عليّ في يوم الجمعة فإنه ليس يصلي عليّ أحد يوم الجمعة إلا عرضت عليّ صلاته ).

وحديث ( ما من أحد يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد ).

قال البيهقي : وإنما أراد ـ والله أعلم ـ إلا وقد رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه.

٣٩٩

وقد ثبت في الصحيح في حديث الاسراء أنه صلى الله عليه وسلم وجد آدم في السماء الدنيا وقال فيه ( فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يسارة أسودة ، فإذا نظر قبل يمينه ضحك ، وإذا نظر قبل شماله بكي ، فقال مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح ).

ومن الأحاديث الصحيحة المتفق عليها نداؤه صلى الله عليه وسلم أهل البئر وقوله : ( ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ).

وأما الادراك : فيدل له مع ذلك الأحاديث الواردة في عذاب القبر وهي أحاديث صحيحة متفق عليها رواها البخاري ومسلم وغيرهما ، وأجمع عليها وعلى مدلولها أهل السنة. والأحاديث في ذلك متواترة.

ومن أحسنها ما رواه أبو داود الطيالسي ... عن أبي بكرة قال : بينما أنا أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي رجل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي بيننا إذ أتى على قبرين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن صاحبي هذين القبرين ليعذبان الآن في قبورهما ، فأيكما يأتيني من هذا النخل بعسيب ؟ ).

فاستبقت أنا وصاحبي فسبقته وكسرت من النخل عسيباً فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فشقه نصفين من أعلاه فوضع على أحدهما نصفاً وعلى الآخر نصفاً وقال ( إنه يهون عليهما ما دام فيهما من بلوتهما شيء ، إنهما يعذبان في الغيبة والبول ... وفي هذه الرواية النص على أن العذاب الآن وأنه في القبور.

وقد أجمع أهل السنة على إثبات الحياة في القبور ، قال إمام الحرمين في الشامل : اتفق سلف الأمة على إثبات عذاب القبر واحياء الموتى في قبورهم ، ورد الأرواح في أجسادهم.

وقال الفقيه أبو بكر بن العربي في الأمد الاقصى في تفسير أسماء الله الحسنى :

إن إحياء المكلفين في القبر وسؤالهم جميعاً لا خلاف فيه بين أهل السنة.

وقال سيف الدين الآمدي في كتاب أبكار الإفكار : اتفق سلف الأمة قبل ظهور المخالف وأكثرهم بعد ظهوره ، على إثبات إحياء الموتى في قبورهم ومسألة

٤٠٠