العقائد الاسلامية - ج ٤

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية

العقائد الاسلامية - ج ٤

المؤلف:

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-121-4 /
ISBN الدورة:
964-319-117-6

الصفحات: ٥٢٥

ولكن ابن عطية كان أقعد بالعربية والمعاني من هؤلاء وأخبر بمذهب سيبويه والبصريين ، فعرف تطفيف الزجاج مع علمه رحمه‌الله بالعربية وسبقه ومعرفته بما يعرفه من المعاني والبيان ! وأولئك لهم براعة وفضيلة في أمور يبرزون فيها على ابن عطية ، لكن دلالة الألفاظ من جهة العربية هو بها أخبر ، وإن كانوا هم أخبر بشيء آخر من المنقولات أو غيرها !!

وقد بين سبحانه وتعالى أن المسيح وإن كان رسولاً كريماً فإنه عبد الله ، فمن عبده فقد عبد ما لا ينفعه ولا يضره !

قال تعالى : لقد كفر الذين قالوا إنّ الله هو المسيح بن مريم ، وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم ، إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ، وما للظالمين من أنصار. انتهى.

مناقشة تفسيرهم للآيات

يلاحظ على تفسيرهم للآيات :

أولاً : أنهم ابتعدوا عن سياق الآية ومصبها ، وهو المقابلة بين المشركين الذين يدعون من يزعمون ، وبين المؤمنين الذين يدعون ربهم ويبتغون اليه الوسيلة !!

فقد قال سبحانه لرسوله ( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا ).

ثم مدح الذين يقابلونهم فقال ( أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه ) ...

فالسياق تحدٍ للمشركين بأن آلهتهم المزعومة لا تستطيع أن تكشف الضر عنهم وأنهم بالحقيقة لايدعون من دون الله شيئاً ، بل أوهاماً ..

ثم قابلهم بالذين يدعون الله تعالى ويتوسلون اليه ، فهؤلاء الذين يدعون الحق بحق ، وعبر عنهم بأولئك تعظيماً لهم.

٣٤١

وبذلك تتم المقابلة وتكون ( أولئك ) استئنافاً جديداً تاماً ، والضمير فيها للشأن ، ولا ربط له بالآية السابقة ، حتى يعود على شيء منها ، كما تمحلوا !!

أما هم فقد جعل التقابل بين المشركين وبين بعض من يعبدونهم من الأنبياء .. وهو تقابلٌ ضعيفٌ بعيدٌ !! لو سلم من الاشكالات لا يتبادر الى الذهن.

وقول الجبائي إن المقصود ب ( أولئك ) هم الأنبياء المذكورون في الآية السابقة ، أقرب من أقوالهم الى الصحة ، ولكن لفظ ( أولئك ) مطلقٌ شاملٌ لكل العابدين لله ، ولا دليل على حصره بالأنبياء عليهم‌السلام ، وإن كانوا سادتهم.

ثانياً : إرجاعهم ضمير ( أولئك ) الى المعبودين المزعومين من دون الله خلاف الظاهر ، لأن ضمير هؤلاء المزعومين خفي ، والضمير البارز فيها ضمير العابدين المخاطبين ، فلو كان يريد المزعومين لقال ( أولئك الذين تدعونهم أو تزعمونهم ) أو ذكر إشارةً تدل على قصدهم ، وعدم قصد العابدين المخاطبين !

ثالثاً : أن المعبودين المزعومين فيهم الصالح والطالح والجماد ، ففيهم الأنبياء مثل عزير وعيسى ، وفيهم الملائكة والجن ، والشمس والقمر والنجوم والأصنام ، وبقية المعبودات .. وصفات المدح لـ ( أولئك ) تمنع رجوع الضمير الى المعبودين جميعاً ! وكيف يصح عود الضمير على بعض العام المعهود بدون قرينة ؟!

ولعمري إن هذا الضعف في إرجاع الضمائر لا وجود له في القرآن ، ولا في كلام فصحاء العرب !! وهو كاف لتضعيف ما روي عن ابن مسعود وغيره !

رابعاً : ما رووه عن ابن مسعود وغيره من أن قوماً من العرب كانوا يعبدون الجن فآمن الجن وبقي عبَّادهم مشركين .. الخ .. فنزلت الآية..

هذه الوجوه ليست حديثاً بل هي أقوالٌ لو تم سندها لبقي تعارضها !

ولو سلمنا ارتفاع تعارضها ، فهي سببٌ لنزول الآية لا أكثر ، والسبب الخاص لا يخصص الوارد العام ، وصيغة الآية عامة ( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه .. ) وهو يشمل كل الذين زعموا ، فلا مبرر لتخصيصها ببعضهم !

٣٤٢

خامساً : إن ضمير العاقل في ( أيهم أقرب ) ينقض تفسيرهم ، فقد جعلوا أيهم بدل جزء من كل من الفاعل ، ليبعدوه عن المتوسل بهم ويجعلوه صفةً للمتوسلين ، فصار المعنى عندهم : يبتغي الوسيلة منهم من كان أقرب وسيلةً الى ربه ، فكيف بالأبعد وسيلة !!

وذلك كمن يقول ( أولئك يقاتلون عدوهم حقاً أيهم أشجع من غيره ! ) ويقصد القائل أن الأشجع منهم يقاتل ، فكيف بالأضعف !! وهو كلام بعيدٌ عن البلاغة بل عن الفصاحة حتى في كلام المخلوقين ، فكيف نسبوه الى كلام الخالق سبحانه ؟!!

ولعل هذا هو السبب في أن بعض مفسريهم كالفخر الرازي هرب من تفسير ( أيهم أقرب ) ومر عنها كأنها لا وجود لها !!

سادساً : أن ضمير ( أيهم ) يعود على ( أولئك ) وما داموا أرجعوا ضمير أولئك على المعبودين المزعومين ، فيجب أن يرجعوا ضمير أيهم اليهم !

فيكون المعنى عندهم : أن المتوسل بهم الممدوحين هم من بين المعبودين المزعومين ، فيكون التوسل بالإشخاص ممدوحاً ، ويكون منحصراً بالأنبياء المعبودين كعيسى وعزيراً ! وهذا خلاف مذهبهم !!

سابعاً : أن فعل ( يبتغون ) ينقض تفسيرهم ، لأنه يدل على البحث والتحري ، ويطلب مفعولاً ! و( أيهم أقرب ) هو أقرب مفعول اليه ، فحق ( أي ) أن تكون منصوبة على المفعولية ، لا مرفوعة بدلاً عن الفاعل بدل جزء من كل كما زعموا !

ولكنهم أغمضوا عيونهم عن ( يبتغون ) وتركوها بلا مفعول ، ليحصروا التوسل بالأعمال دون الذوات !!

وهكذا .. يتضح لك أن التفسير الذي قدمناه هو الوحيد الخالي عن الإشكال .. وهو نصٌّ في مشروعية التوسل بالأشخاص الأقرب وسيلة الى ربهم ، وأنه من صفات المؤمنين عبر التاريخ وسيرتهم .. وهذا إقرارٌ شرعي له في الإسلام.

٣٤٣

وهو يتفق مع أحاديثنا الصحيحة التي تنص على أن الله تعالى جعل الوسيلة اليه في هذه الأمة بل قبلها ، محمداً وآله صلى الله عليهم.

علي أقرب الخلق وسيلة الى الله

أقرب الخلق وسيلة الى الله تعالى هو سيد المرسلين محمدٌ ، ومعه آله الذين أمرنا بالصلاة عليهم معه ، صلى الله عليه وعليهم.

ولذلك لا تجد في جميع مصادر الحديث السنية والشيعية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وصف أحداً بأنه أقرب الخلق وسيلةً الى الله تعالى بعده ، إلا علياً عليه‌السلام ، وهي حقيقةٌ مهمة شاء الله تعالى أن ترويها عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله !!

قال القاضي النعمان في شرح الأخبار : ١/ ١٤١ :

عن مسروق ، قال : دخلت على عائشة فقالت لي : يا مسروق : إنك من أبرِّ ولدي بي ، وإني أسألك عن شيء فأخبرني به.

فقلت : سلي يا أماه عما شئت.

قالت : المخدج من قتله ؟

قلت : علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

قالت : وأين قتله ؟

قلت على نهر يقال لأعلاه تامرا ، ولأسفله النهروان بين أحافيف ( أخافيق ) وطرق.

فقالت : لعن الله فلاناً ، تعني عمرو بن العاص فإنه أخبرني أنه قتله على نيل مصر !

قال مسروق : يا أماه فإني أسألك بحق الله وبحق رسوله وبحقي فإني ابنك ، لما أخبرتني بما سمعت من رسول الله فيهم.

قالت : سمعته يقول فيهم ( أهل النهروان ) : هم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة ، وأقربهم الى الله وسيلة.

٣٤٤

قال مسروق : وكان الناس يومئذ أخماساً ، فأتيتها بخمسين رجلاً عشرة من كل خمس ، فشهدوا لها أن علياً قتله !!

وقال في هامشه :

وفي المناقب لابن شهر آشوب ٣ / ٦٧ : عن الدارمي بإسناده عن الأصبغ بن نباتة وعن جميع التميمي كليهما عن عائشة : أنها لما روت هذا الخبر ، قيل لها : فلم حاربتيه ؟ قالت : ما حاربته من ذات نفسي إلا حملني طلحة والزبير. وفي رواية : أمرٌ قدر وقضاءٌ غلب.

وذكر فضل بن شاذان المتوفي ٢٦٠ هـ في الإيضاح / ٨٦ : عن أبي خالد الأحمر عن مجالد عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت : لعن الله عمرو بن العاص ما أكذبه ! لقوله : أنه قتل ذا الثدية بمصر.

وروى البحراني في غاية المرام / ٤٥١ الباب الأول الحديث ٢١ نقلاً من كتاب صفين للمدائني عن مسروق : أن عائشة قالت له ـ لما عرفت ـ : من قتل ذي الثدية ؟ لعن الله عمرو بن العاص ، فإنه كتب إليَّ يخبرني أنه قتله بالاسكندرية ، إلا أنه ليس يمنعني ما في نفسي أن أقول ما سمعته من رسول الله ، سمعته يقول : يقتله خير أمتي من بعدي.

ورواه في شرح الأخبار : ١ / ٤٣٠ ، وفي هامشه :

رواه ابن المغازلي في المناقب / ٥٥ عن أحمد بن محمد بن عبدالوهاب بن طاوان ، عن الحسين بن محمد العلوي ، عن أحمد بن محمد الجواربي ، عن أحمد بن حازم ، عن سهل بن عامر البجلي ، عن أبي خالد الأحمر ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : قالت عائشة : يا مسروق إنك من ولدي ، وإنك من أحبهم إليّ ، فهل عندك علم من المخدج ؟

قال قلت : نعم ، قتله علي بن أبي طالب على نهر يقال لأعلاه تامرا ولأسفله النهروان ، بين أحفاق وطرفاء.

٣٤٥

قالت : إبغني على ذلك بينة ، فأتيتها بخمسين رجلاً من كل خمسين بعشرة ـ وكان الناس إذ ذاك أخماساً ـ يشهدون أن علياً عليه‌السلام قتله على نهر يقال لأعلاه تأمرا ولأسفله النهروان بين أخفاق وطرقاء.

فقلت : يا أمه ، أسألك بالله وبحق رسول الله وبحقي فإني من ولدك ، أي شيء سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول فيه ؟

قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : هم شر الخلق والخليقة ، يقتلهم خير الخلق والخليقة ، وأقربهم الى الله وسيلة. انتهى.

ورواه في شرح الأخبار : ٢ / ٥٩ ، وفيه :

قال : ثم ذكرت لها أن علياً عليه‌السلام استخرج ذا الثدية من قتلى أهل النهروان الذين قتلهم ، فقالت : أذا أتيت الكوفة فاكتب إليّ بأسماء من شهد ذلك ممن يعرف من أهل البلد.

قال : فلما قدمت الكوفة ، وجدت الناس أسباعاً ، فكتبت من كل سبع عشرة ممن شهد ذلك ممن نعرفه ، فأتيتها بشهادتهم.

فقالت : لعن الله عمرو بن العاص ، فإنه زعم هو قتله على نيل مصر. انتهى.

وقال المفيد في الارشاد : ١ / ٣١٧ :

وقال عليه‌السلام وهو متوجه الى قتال الخوارج : لولا أني أخاف أن تتكلوا وتتركوا العمل لأخبرتكم بما قضاه الله على لسان نبيه فيمن قاتل هؤلاء القوم مستبصراً بضلالتهم. وإن فيهم لرجلاً مودون اليد له ثدي كثدي المرأة ، وهم شر الخلق والخليقة وقاتلهم أقرب خلق الله الى الله وسيلة.

ولم يكن المخدج معروفاً في القوم ، فلما قتلوا جعل عليه‌السلام يطلبه في القتلى ويقول : والله ما كذبت ولا كذبت ! حتى وجد في القوم وشق قميصه ، وكان على كتفه سلعة كثدي المرأة عليها شعرات ، إذا جذبت انجذبت كتفه معها ، وإذا تركت رجع كتفه الى موضعه ، فلما وجده كبَّر وقال : إن في هذا لعبرةً لمن استبصر.

٣٤٦

وفي بحار الأنوار : ٣٨ / ٩ :

تاريخ الخطيب : روى الأعمش ، عن عدي ، عن زر ، عن عبيدالله ، عن علي عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من لم يقل علي خير البشر فقد كفر.

وعنه في التاريخ بالاسناد عن علقمة عن عبدالله قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : خير رجالكم علي بن أبي طالب ، وخير شبابكم الحسن والحسين ، وخير نسائكم فاطمة بنت محمد. الطبريان في الولاية والمناقب بإسنادهما الى مسروق عن عائشة : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : هم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة وأقربهم الى الله وسيلة. أي المخدج وأصحابه.

وفي هامش اختيار معرفة الرجال : ١/ ٢٣٩ :

ومن المتفق عليه لدى الجميع أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال في المخدج ذي الثدية : يقتله خير الخلق والخليفة.

وفي رواية يقتله خير هذه الأمة ، وفي روايات جمة عن عائشة قالت : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : هم ـ أي المخدج وأصحابه ـ شر الخلق والخليقة ، يقتله خير الخلق والخليقة ، وأقربهم الى الله وسيلة.

رواه الحافظ نور الدين في مجمع الزوائد ٦ / ٢٣٩ ، راجع في ذلك :

إحقاق الحق : ٨ / ٤٧٥ ـ ٥٢٢ ، ومسلم في صحيحه ٣ / ١١٢ طبعة محمد علي ، وأحمد بن حنبل في مسنده ٣ /٥٦ ، والبخاري في صحيحه ٤ / ٢٠٠ الطبعة الأميرية ، والنسائي في الخصائص : ٤٣ طبعة مصر.

ومن طرق عديدة عنها عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، هم شر الخلق والخليقة يقتلهم سيد الخلق والخليقة ، وفي أخبار كثيرة أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعلي عليه‌السلام : وإنك أنت قاتله يا علي.

ثم قد أطبقت الأمة على أن علياً عليه‌السلام قد قتله يوم النهروان ، وأخبر الناس بذلك ، وقد كان عليه‌السلام يخبر به وبصفته من قبل ، ثم استخرجه من تحت القتلى فوجدوه على ما كان يذكر فيه من صفته ، فكبر الله وقال : صدق الله ورسوله وبلغ رسوله.

٣٤٧

وفي صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما من صحاحهم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال فيه : إن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يقرؤون الكتاب لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، يخرجون على خير فرقة من الناس.

وكان أبو سعيد الخدري يقول : أشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وقتلهم وأنا معه ، ثم من بعد القتال استخرجوا من بين القتلى من هذه صفته فجاؤوا به اليه ، فشاهدت فيه تلك الصفات. انتهى.

الترابط بين الوسيلة والوصية

في بصائر الدرجات / ٢١٦ :

حدثنا أبو الفضل العلوي قال : حدثني سعيد بن عيسى الكربزي البصري ، عن ابراهيم بن الحكم بن ظهير ، عن أبيه ، عن شريك بن عبد الله ، عن عبد الأعلى الثعلبي ، عن أبي تمام ، عن سلمان الفارسي رحمه‌الله ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في قول الله تبارك وتعالى : قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ، فقال : أنا هو الذي عنده علم الكتاب ، وقد صدقه الله وأعطاه. والوسيلة في الوصية ولا تخلو أمةٌ من وسيلة الى الله ، فقال : يا أيها الذين آمنو اتقوا الله وابتغوا اليه الوسيلة.

الشيعة وسيلة الى الله يوم القيامة

في علل الشرائع : ٢ / ٥٦٤ :

باب العلة التي من أجلها يكره تكليف المخالفين للحوائج :

حدثنا أبي قال : حدثنا أحمد بن ادريس ، عن حنان ، قال سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : لا تسألوهم فتكلفونا قضاء حوائجهم يوم القيامة.

وبهذا الاسناد قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : لا تسألوهم الحوائج ، فتكونوا لهم الوسيلة الى رسول الله يوم القيامة. انتهى. ورواه في بحار الأنوار : ٨ / ٥٥

٣٤٨

ما ورد في مصادرهم من تشويش على الأحاديث المتقدمة

وفي مقابل رواية عائشة عن شهادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حق علي عليه‌السلام نلاحظ وجود رواية أكثرت من نقلها المصادر السنية ، تصف عبد الله بن مسعود بأنه أقرب الناس أو من أقربهم وسيلة الى الله !

ولكنها والحمد لله ليست رواية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل عن حذيفة !!

وحتى لو صحت عن حذيفة وفسرناها بأي تفسير ، فهي لا ترقى الى معارضة حديث عائشة وغيرها في علي عليه‌السلام.

وإذا أحسنا الظن بهذه الرواية فهي تدل على أن مصطلح ( الأقرب وسيلة الى الله تعالى ) كان معروفاً بين المسلمين من عصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأن حذيفة أو واضع الحديث على لسانه ، أراد أن يمدح به عبد الله بن مسعود.

وإن أسأنا الظن بها قلنا إنها محاولةٌ للتعتيم على الحديث النبوي البليغ في علي عليه‌السلام ، وإعطاء هذه الصفة لعبد الله بن مسعود ! وطالما فعلوا ذلك !

روى أحمد في مسنده : ٥ / ٣٩٤ :

عن شقيق قال كنت قاعداً مع حذيفة فأقبل عبدالله بن مسعود ، فقال حذيفة : إن أشبه الناس هدياً ودلاً برسول الله صلى الله عليه وسلم من حين يخرج من بيته حتى يرجع ، فلا أدري ما يصنع في أهله كعبد الله بن مسعود. والله لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن عبد الله من أقربهم عند الله وسيلةً يوم القيامة.

وروى نحوه الحاكم في : ٢ / ٣١٢ ، ورواه في : ٣ / ٣١٥ ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. انتهى.

ومن الملفت في الموضوع أن الراوي نفى العبارة التي فيها الوسيلة من النص وقال إنه لم يسمعها من عبد الرحمن بن يزيد !

وأن عبد الله بن مسعود كان قصيراً صغير الجثة جداً !! فكيف يكون شبيهاً سمتاً ودلاً بالنبي صلى الله عليه وآله.

٣٤٩

قال أحمد في مسنده : ٥ / ٣٩٥ :

ولم نسمع هذا من عبد الرحمن بن يزيد لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن أم عبد من أقربهم الى الله عز وجل وسيلة !!

وفي الغدير : ٩ / ٩ :

أخرج الترمذي بإسناد رجاله ثقات ، من طريق حذيفة بن اليمان : أن أشبه الناس هدياً ودلاً وسمتاً بمحمد صلى الله عليه وسلم عبد الله.

وفي لفظ البخاري : ما أعرف أحداً أقرب سمتاً وهدياً ودلاً برسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن أم عبد.

وزاد الترمذي : ولقد علم المحفوظون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابن ام عبد أقربهم الى الله زلفى.

وفي لفظ أبي نعيم : أنه من أقربهم وسيلة يوم القيامة.

وفي لفظ أبي عمر : سمع حذيفة يحلف بالله ما أعلم أحداً أشبه دلاً وهدياً برسول الله من حين يخرج من بيته الى أن يرجع اليه من عبدالله بن مسعود ، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنه من أقربهم وسيلة الى الله يوم القيامة.

وفي لفظ علقمة : كان يشبه بالنبي في هديه ودله وسمته.

راجع صحيح البخاري كتاب المناقب. مسند أحمد ٥ : ٣٨٩ ، المستدرك ٣ : ٣١٥ ، ٣٢٠

حلية الأولياء ١ : ١٢٦ ، ١٢٧ ،

الإستيعاب ١ : ٣٧٢ ،

مصابيح السنة ٢ : ٢٨٣ ،

صفة الصفوة ١ : ١٥٦ ، ١٥٨ ،

تاريخ ابن كثير ٢ : ١٦٢ ،

تيسير الوصول ٣ : ٢٩٧

٣٥٠

الإصابة ٢ : ٣٦٩ ،

كنز العمال ٧ : ٥٥. انتهى.

وقد ذكرنا أن هذا النص حتى لو صح عن حذيفة ، فهو لا يصلح معارضاً ولا مقللاً من قيمة الحديث الشريف الذي روته عائشة وغيرها في أن علياً عليه‌السلام أقرب الخلق وسيلةً الى الله بعد رسول الله صلى الله عليه وآله.

* *

آيات مؤيدة لآيات التوسل :

وردت آيات متعددة في طلب المؤمنين من الأنبياء عليهم‌السلام أن يتوسطوا لهم عند الله تعالى ، ويدعوه لهم بالمغفرة وبالخير .. وهذا نوعٌ من التوسيط يدل على أن باب الطلب من الله تعالى بواسطة الغير أمرٌ طبيعي في دين الله تعالى وشرائعه !

وأنه لو كان التوسيط منافياً للتوحيد كما يزعم ابن تيمية ، لوجب أن يطلب كل إنسان لنفسه بنفسه مباشرة ، ووجب تحريم كل طلب من الله تعالى بواسطة !! إذ لا فرق في أصل الواسطة بين التوسط والتوسل بدعاء الغير ، وبين أنواع التوسيط الأخرى !

منها ، قوله تعالى :

قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين. قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم. يوسف ـ ٩٨

وروى الصدوق في علل الشرائع : ١/ ٥٤ :

حدثنا محمد بن ابراهيم بن اسحاق الطالقاني رضي الله عنه قال : حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني مولى بني هاشم قال : أخبرنا المنذر بن محمد قال : حدثنا اسماعيل بن ابراهيم الخزاز ، عن اسماعيل بن الفضل الهاشمي قال : قلت لجعفر بن محمد عليه‌السلام : أخبرني عن يعقوب لما قال له بنوه : يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين ، قال سوف أستغفر لكم ربي ، فأخر الاستغفار لهم.

٣٥١

ويوسف عليه‌السلام لما قالوا له : تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين ؟ قال : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين.

قال : لأن قلب الشاب أرق من قلب الشيخ ، وكانت جناية ولد يعقوب على يوسف ، وجنايتهم على يعقوب إنما كانت بجنايتهم على يوسف ، فبادر يوسف الى العفو عن حقه ، وأخر يعقوب العفو ، لأن عفوه إنما كان عن حق غيره ، فأخرهم الى السحر ليلة الجمعة. ورواه وغيره في تفسير نور الثقلين : ٢ / ٤٦٥

وفي تفسير التبيان : ٦ / ١٩٥ :

وروي عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : أخرهم الى ليلة الجمعة. وقال ابن مسعود وابراهيم التيمي ، وابن جريج وعمر وبن قيس : إنه أخرهم الى السحر ، لأنه أقرب الى إجابة الدعاء. انتهى.

وروى نحوه الترمذي في سننه : ٥ /٢٢٣ ، عن ابن عباس ، والحاكم : ١ / ٣١٦ ، والدر المنثور : ٤ / ٣٦ ، وكنز العمال : ٢ / ٥٩ ، وغيرها.

ومنها ، قوله تعالى :

ولما وقع عليهم الرجز قالوا ياموسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل. الأعراف ـ ١٣٤

وقد قبل موسى عليه‌السلام طلبهم ، ودعا الله لهم ، فدل ذلك قبوله على أنه طلبهم بواسطته أمرٌ مشروع ، الى آخر الآيات والأحاديث التي تدل على توسيط الغير الى الله تعالى.

* *

٣٥٢

الفصل الخامس

شذوذ الوهابيين عن إجماع المسلمين

في التوسل والاستشفاع

من المسائل التي شذ فيها ابن تيمية وتبعه ابن عبد الوهاب ، تحريم السفر لزيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل تحريم الزيارة التي نوي لها السفر !

وكذلك تحريم التوسل والإستشفاع به صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بحجة أنه ميتٌ ولا يجوز التوسل بالميت.

وكذا تحريم الاستغاثة به صلى‌الله‌عليه‌وآله لأن المستغيث بزعمه يعبد المستغاث به .. الخ.!!

قال الشيخ محمود سعيد ممدوح في كتابه ( رفع المنارة لتخريج أحاديث التوسل والزيارة ) المطبوع في دار الإمام النووي بعمان ـ سنة ١٤١٦ :

وهو ـ التوسل ـ السؤال بالنبي أو بالولي أو بالحق أو بالجاه أو بالحرمة أو بالذات وما في معنى ذلك.

وهذا النوع لم ير المتبصر في أقوال السلف من قال بحرمته أو أنه بدعةٌ ضلالة ، أو شدد فيه وجعله من موضوعات العقائد ، كما نرى الآن.

٣٥٣

لم يقع هذا إلا في القرن السابع وما بعده ! وقد نقل عن السلف توسلٌ من هذا القبيل.

قال ابن تيمية في التوسل والوسيلة ص ٩٨ : هذا الدعاء ( أي الذي فيه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ) ونحوه قد روي أنه دعا به السلف ، ونقل عن أحمد بن حنبل في منسك المروزي التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء. اهـ ، ونحوه في ص ١٥٥ من الكتاب المذكور.

وقال في ص ٦٥ : ( والسؤال به ( أي بالمخلوق ) فهذا يجوزه طائفة من الناس ونقل في ذلك آثار عن بعض السلف ، وهو موجود في دعاء كثير من الناس. ) اهـ.

وذكر أثراً فيه التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم لفظه : ( اللهم إني أتوجه اليك بنبيك محمد نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم تسليما. يا محمد إني أتوجه بك الى ربك وربي يرحمني مما بي ).

قال ابن تيمية : فهذا الدعاء ونحوه روى أنه دعا به السلف ، ونقل عن أحمد بن حنبل في منسك المروزي التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء. اهـ.

وهذا هو نص عبارة أحمد بن حنبل ، فقال في منسك المروزي بعد كلام مانصه : وسل الله حاجتك متوسلاً اليه بنبيه صلى الله عليه وسلم ، تقض من الله عز وجل. اهـ. هكذا ذكره ابن تيمية في الرد على الأخنائي ص ١٦٨ !!

والتوسل به صلى الله عليه وسلم معتمدٌ في المذاهب ومرغبٌ فيه ، نص على ذلك الأئمة الأعلام ، وكتب التفسير والحديث والخصائص ودلائل النبوة والفقه طافحةٌ بأدلة ذلك بدون تحريم وهي بكثرة ...

كان ابن تيمية يرى منع التوسل بالأنبياء والملائكة والصالحين ، وقال : التوسل حقيقته هو التوسل بالدعاء ـ دعاء الحي فقط ـ وذكر ذلك في مواضع من كتابه التوسل والوسيلة ص ١٦٩. انتهى كلام الممدوح.

٣٥٤

وقال ابن تيمية في كتابه زوار المقابر / ٤٣٣ :

قال عامة المفسرين كابن عباس ومجاهد وعطاء والفراء : الوسيلة القربة ، قال قتادة : تقربوا الى الله بما يرضيه.

قال أبو عبيدة : توسلت اليه أي تقربت.

وقال عبد الرحمن بن زيد : تحببوا الى الله.

والتحبب والتقرب اليه إنما هو بطاعة رسوله ، فالايمان بالرسول وطاعته هو وسيلة الخلق الى الله ، ليس لهم وسيلة يتوسلون بها البتة إلا الايمان برسوله وطاعته.

وليس لأحد من الخلق وسيلة الى الله تبارك وتعالى إلا بوسيلة الايمان بهذا الرسول الكريم وطاعته.

وهذه يؤمر بها الانسان حيث كان من الأمكنة وفي كل وقت. وما خص من العبادات بمكان كالحج ، أو زمان كالصوم والجمعة ، فكل في مكانه وزمانه.

وليس لنفس الحجرة من داخل فضلاً عن جدارها من خارج اختصاص بشيء في شرع العبادات ولا فعل شيء منها ، فالقرب من الله أفضل منه بالبعد عنه باتفاق المسلمين ! والمسجد خص بالفضيلة في حياته صلى الله عليه وسلم ، قبل وجود القبر. فلم تكن فضيلة مسجده لذلك ، ولا استحب هو صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه ، ولا علماء أمته أن يجاور أحد عند قبر ولا يعكف عليه ، لا قبره المكرم ولا قبر غيره ، ولا أن يقصد السكنى قريباً من قبر أي قبر كان.

وسكنى المدينة النبوية هو أفضل في حق من تتكرر طاعته لله ورسوله فيها أكثر كما كان الأمر لمَّا كان الناس مأمورين بالهجرة إليها فكانت الهجرة إليها والمقام بها أفضل من جميع البقاع مكة وغيرها.

بل كان ذلك واجباً من أعظم الواجبات ، فلما فتحت مكة قال النبي صلى الله عليه وسلم لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ، وكان من أتى من أهل مكة وغيرهم ليهاجر ويسكن المدينة يأمره أن يرجع ! انتهى.

٣٥٥

وخلاصة كلامه : أن التوسل محصورٌ بالايمان بالرسول وطاعته ، وبدعائه في حال حياته.

أما التوسل به في حياته وبعد موته ، ومجاورة قبره الشريف والعكوف عنده ، فليس من الطاعة ، لأن الصحابة لم يفعلوه ، والأصل في كل ما لم يفعلوه عدم المشروعية ، حتى يقوم عليه دليل !!

وهو كما ترى تحكم لا دليل عليه :

فحصره التوسل المأمور به في القرآن بالايمان بالرسول وطاعته ، لا دليل عليه ! وميزانه فيما جعله جزءً من الايمان بالرسول أو نفى جزئيته عنه ، لا دليل عليه !

وكذا ما جعله طاعة للرسول ، أو نفى كونه طاعة له !

فلماذا لا يكون التوسل بزيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله والتبرك به والسكنى عنده من الايمان به ، ومن طاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!!

ثانياً ، دعوى أن القاعدة والأصل في الأشياء الحرمة حتى تثبت حليتها ، لا دليل عليه أيضاً. بل الأصل في الأشياء الحلية حتى يثبت دليل الحرمة ويصل الى المكلف ، فقد قال الله تعالى ( وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ).

ثالثاً ، دعوى أن كل ما لم يفعله الصحابة فهو حرامٌ حتى يقوم عليه دليل ، تحكمٌ بلا دليل أيضاً ، فإن كثيراً من الأمور لم يفعلها الصحابة وهي حلال حتى بفتوى ابن تيمية ، كالوسائل المعيشية المتجددة !!

وقد ألف الحافظ الصديق المغربي رسالة في عدم دلالة الترك على التحريم ، كما ذكر تلميذه الممدوح.

أما عندنا فإن فعل الصحابي ليس حجة إذا لم يكن معصوماً ، فضلاً عن تركه !

تلبيس ابن تيمية من أجل تحريم التوسل والاستشفاع

يفترض ابن تيمية مسبقاً أن المتوسل أو المستغيث بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ( يدعوه ) أي يطلب منه ، لا من الله تعالى !

٣٥٦

وهذا مصادرةٌ على المطلوب وتبطينٌ للحكم المتنازع فيه في لفافة ، على أنه جزء من مقدمة مسلمة عند الطرف الآخر !

فابن تيمية يقول للمتوسل أو المستغيث : إنك اعترفت أنك دعوت الرسول أو الولي بدل الله !! فأنت إذن كافر !!

مع أن المتوسل لم يدع النبي بدل الله تعالى ! بل توسل به واستغاث به واستشفع به الى الله تعالى !!

ومثال ذلك في أمور الدنيا : أن يتوسل شخص الى رئيس مكتب الملك ، ليتوسط له عند الملك !

فيقول له ابن تيمية : إنك تعديت على شرعية الملك ، وجعلت الملك الشرعي رئيس مكتبه ! وهذا خروج على الملك ونظامه ، تستحق به الاعدام !!

وقد حاول ابن تيمية أن يستدل على هذه المصادرة المفضوحة فقال إن المستغيث يطلب من الرسول أو الولي مالا يقدر عليه إلا الله تعالى ، وهذا يستلزم أنه يؤلهه !!

ولكن هذا اللزوم ممنوع.

بل هو على مذهبهم ممنوعٌ حتى لو صحت الملازمة ، لأنهم يزعمون أن لازم المذهب ليس بمذهب !!

قال الشيخ سليمان حفيد ابن عبد الوهاب في تيسير العزيز الحميد ص ٢٠٩ :

فحديث الأعمى شيء ، ودعاء غير الله تعالى والاستغاثة به شيء آخر.

فليس في حديث الأعمى شيء غير أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له ويشفع له ، فهو توسل بدعائه وشفاعته ، ولهذا قال في آخره : اللهم فشفعه فيَّ ، فعلم أنه شفع له. وفي رواية أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له فدل الحديث على أنه صلى الله عليه وسلم شفع له بدعائه ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره هو أن يدعو الله ، ويسأله قبول شفاعته.

فهذا من أعظم الأدلة أن دعاء غير الله شرك ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره

٣٥٧

أن يسأل قبول شفاعته ، فدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعى ، ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يقدر على شفائه إلا بدعاء الله له. فأين هذا من تلك الطوام ؟!

والكلام إنما هو في سؤال الغائب أو سؤال المخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله.

أما أن تأتي شخصاً يخاطبك فتسأله أن يدعو لك فلا إنكار في ذلك على ما في حديث الأعمى.

فالحديث سواء كان صحيحاً أو لا ، وسواء ثبت قوله فيه يا محمد أو لا ، لا يدل علي سؤال الغائب ولا على سؤال المخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله ، بوجه من وجوه الدلالات. ومن ادعى ذلك فهو مفتر على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم !! انتهى.

فتراه يشكك في حديث الأعمى الذي صححه علماء المذاهب ، وقبله إمامه ابن تيمية ، ثم تراه يفترض أن المستشفع ( يدعو ) النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويطلب من النبي نفسه ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى .. !! كل ذلك ليثبت أن المسلم المستغيث الى الله برسوله قد كفر واستبدل عبادة الله بعبادة الرسول ! ويستحل بذلك دمه وماله !!

وإن سألته عن دليله على أن المتوسلين والمستشفعين يدعون الرسول من دون الله .. فإنك تطلب منهم ما لايقدر عليه إلا الله تعالى ، وتكون على مذهبه عبدته من دونه تعالى!!!

هدف ابن تيمية من نقل التوسل من فروع الفقه الى أصول العقائد !

ماذا يحدث لو نقلنا مادةً جزائية من القانون التجاري الى مواد القانون الجنائي ، أو الى مواد مخالفات الدستور ، ومحكمة أمن الدولة ؟

طبعاً سيكون الفرق على مرتكبها كبيراً ، لأن التهمة الجنائية أصعب من التهمة الجزائية ، وأصعب منهما تهمة الاخلال بالدستور !!

إن ما فعله ابن تيمية من اتهام المتوسلين بمخالفة الشرع ، شيء لا يذكر أمام نقله تهمتهم الى الاخلال بأصول الدين وارتكاب الشرك !! فبذلك حكم عليهم بالكفر واستحل دماءهم وأعراضهم وأموالهم !!!

٣٥٨

فبدل أن يقول مثلاً إنهم مخلصون ولكنهم يتخيلون أنهم يتقربون الى الله بالتوسل بالنبي الميت ، فهم مخطئون يرتكبون معصية ! قال إنهم يشركون بالله ويستحقون القتل !!

وهكذا .. فقد كانت مسألة التوسل والاستشفاع والاستغاثة لمدة ثمانية قرون مسألةً فقهية ، وكان فقهاء المذاهب الأربعة ، والخمسة والستة ، يبحثونها في باب الحج والزيارة وغيرهما ، فيذكرون صورها ، ويفتي مفتيهم بجواز بعض فروعها وحرمة بعضها ، أو التوقف فيه .. حتى جاء عالم حراني نصبه الحاكم الشركسي المصري لمدة قليلة شيخاً للاسلام في الشام ، فأبدع في عمله أيما إبداع ، وقدم للأجيال أكبر خدمة ، فكفر مسلمي عصره والعصور المتقدمة ، لأنهم يتوسلون بنبيهم الميت !!!

هل تراجع ابن تيمية أمام القاضي أو في سجنه عن تحريم التوسل ؟!

المعروف عن ابن تيمية أنه تراجع عن تحريم التوسل ، عندما عقدوا له مجلس علماء لمحاكمة آرائه الشاذة ، ومنها تحريم التوسل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله !!

وقد اعتمد الذين نسبوا اليه هذا القول على أمرين :

الأول ، ما اعترف به في مصر ، حيث شاع اعتقاده بعدم جواز التوسل والاستشفاع بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فاستنكر المسلمون ذلك ، وعقد القضاة مجلساً للنظر في قوله..

قال السقاف في كتابه ( البشارة والاتحاف بما بين ابن تيمية والألباني في العقيدة من الاختلاف )

١٣ ـ فصل : أما مسألة التوسل فقد اختلف آراء دعاة السلفية فيه بشكل ملحوظ مع أن الموجودين في الساحة منهم اليوم يقولون بأن هذه المسألة من مسائل العقائد وليست كذلك قطعاً.

أما ابن تيمية فقد أنكر في كتابه ( قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ) التوسل ـ ومرادنا التوسل بالذوات ـ ثم رجع عن ذلك كما نقل تلميذه ابن كثير في البداية

٣٥٩

والنهاية ١٤ / ٤٥ حيث قال : قال البرزالي ( هو الحافظ ابو محمد القاسم بن البهاء محمد الدمشقي البرزالي ترجم في طبقات الحفاظ للسيوطي ص ٢٥٦ ) : وفي شوال منها شكى الصوفية بالقاهرة على الشيخ تقي الدين ـ وكلموه في ابن عربي وغيره ـ الى الدولة فردوا الأمر في ذلك الى القاضي الشافعي ، فعقد له مجلس وادعى عليه ابن عطاء بأشياء فلم يثبت عليه منها شيء ، لكنه قال : لا يستغاث إلا بالله ، لا يستغاث بالنبي استغاثة بمعنى العبارة ـ ولعلها العبادة ـ ولكن يتوسل به ويتشفع به الى الله ، فبعض الحاضرين قال ليس عليه في هذا شيء ، ورأى القاضي بدر الدين بن جماعة أن هذا فيه قلة أدب ) انتهى. فتأمل !!

وأما الشوكاني فقد أجاز التوسل في كتابه ( تحفة الذاكرين ) كما يعلم ذلك القاصي والداني ، ففي صحيفة ٣٧ من كتاب الشوكاني ( تحفة الذاكرين ) ( طبع دار الكتب العلمية ) عقد باباً سماه : ( وجه التوسل بالأنبياء وبالصالحين ) ثم قال ( قوله ويتوسل الى الله سبحانه بأنبيائه والصالحين ) أقول : ومن التوسل بالأنبياء ما أخرجه الترمذي. انتهى.

وأصرح من هذا ما ذكره الشوكاني ص ١٣٨ في ( باب صلاة الضر والحاجة ) حيث قال ما نصه : ( وفي الحديث دليل على جواز التوسل برسول الله الى الله عز وجل مع اعتقاد أن الفاعل هو الله سبحانه وتعالى ) انتهى.

وقد نص الشوكاني أيضاً على جواز التوسل ، ورد على ابن تيمية في كتابه ( الدر النضيد في اخلاص كلمة التوحيد ) فليرجع اليه من شاء.

وأما الألباني فمنع ذلك واعتبره من الضلال في كتابه ( التوسل أنواعه وأحكامه ) كما هو مشهور ومعلوم ، مع أنه قال في مقدمة ( شرح الطحاوية ص ٦٠ الطبعة ٨ ) إن مسألة التوسل ليست من مسائل العقيدة ، وهذا خلاف ما يقوله كثير من أدعياء السلفية. فتأملوا ياذوي الأبصار !! انتهى كلام السقاف.

٣٦٠