العقائد الاسلامية - ج ٤

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية

العقائد الاسلامية - ج ٤

المؤلف:

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-121-4 /
ISBN الدورة:
964-319-117-6

الصفحات: ٥٢٥

وأصفيتهم وجعلتهم هداة مهديين وائتمنتهم على وحيك وعصمتهم عن معاصيك ورضيتهم لخلقك وخصصتهم بعلمك واجتبيتهم وحبوتهم وجعلتهم حججا على خلقك وأمرت بطاعتهم ولم ترخص لاحد في معصيتهم وفرضت طاعتهم على من برأت ، وأتوسل اليك في موقفي اليوم أن تجعلني من خيار وفدك.

وفي بحار الأنوار : ٩٩ / ١٦٩ :

ثم قال السيد رحمه‌الله ، دعاء يدعى به عقيب الزيارة لسائر الأئمة عليهم‌السلام : اللهم إني زرت هذا الإمام مقراً بإمامته ، معتقداً لفرض طاعته ، فقصدت مشهده بذنوبي وعيوبي ، وموبقات آثامي ، وكثرة سيئاتي وخطاياي ، وما تعرفه مني ، مستجيراً بعفوك ، مستعيذاً بحلمك ، راجياً رحمتك ، لاجياً الى ركنك ، عائذاً برأفتك ، مستشفعاً بوليك وابن أوليائك ، وصفيك وابن أصفيائك ، وأمينك وابن أمنائك ، وخليفتك وابن خلفائك ، الذين جعلتهم الوسيلة الى رحمتك ورضوانك ، والذريعة الى رأفتك وغفرانك.

وفي بحار الأنوار : ٢٤ / ٢ :

كنز : روى شيخ الطائفة رحمه‌الله بإسناده الى الفضل بن شاذان ، رفعه الى أبي جعفر عليه‌السلام قال : إن الله عز وجل يقول : ماتوجه الى أحدٌ من خلقي أحب الى من داع دعاني يسأل بحق محمد وأهل بيته. وإن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه قال : ( اللهم أنت وليي في نعمتي ، والقادر على طلبتي ، وقد تعلم حاجتي ، فأسألك بحق محمد وآل محمد إلا ما رحمتني وغفرت زلتي ) فأوحى الله اليه : يا آدم أنا ولي نعمتك ، والقادر على طلبتك ، وقد علمت حاجتك ، فكيف سألتني بحق هؤلاء ؟

فقال : يا رب انك لما نفخت فيَّ الروح رفعت رأسي الى عرشك ، فإذا حوله مكتوبٌ : لا الَه إلا الله محمد رسول الله ، فعلمت أنه أكرم خلقك عليك ، ثم عرضت علي الأسماء ، فكان ممن مرّ بي من أصحاب اليمين آل محمد وأشياعهم ، فعلمت أنهم أقرب خلقك اليك.

قال : صدقت يا آدم.

* *

٣٢١
٣٢٢

الفصل الرابع

تفسير الآيات الثلاث في التوسل

الآية الأولى

قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا اليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون. المائدة ـ ٣٥

فقد أمرت هذه الآية الكريمة باتخاذ ( وسيلة ) الى الله تعالى ، ولكنها لم تبين ما هي ، وهذا يعني أن الله تعالى ترك بيانها للرسول صلى الله عليه وآله.

عمل المفسرين السنيين لابعاد الوسيلة عن النبي !

يلاحظ الباحث أن الرواة والمفسرين السنيين سعوا حثيثاً لابعاد ( الوسيلة المأمور بها في القرآن ) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله !!

فمن ناحية ، لم يرووا شيئاً في تفسيرها عن النبي وآله ، بل تبرعوا بالبيان من عندهم وفسروها بالقربة ، وغاية ما رووا فيها رواية مقطوعة عن حذيفة تقول إن الوسيلة هي القربة! كما في مستدرك الحاكم : ٢ / ٣١٢ !

٣٢٣

مع أنه لا يعقل أن يكون الأمر الإلَهي نزل الى الأمة بأن يبتغوا الى ربهم الوسيلة ، ولم يبينها لهم الرسول الذي أرسله الله ليبين للناس ؟!

أما تفسيرهم لها بالقربة فهو تفسير الماء بالماء ! لإن القربة كلمة مجملة تحتاج الى تفسير كالوسيلة !!

فهل تختص الوسيلة بالأعمال الصالحة ، أم تشمل ابتغاء التوسل بالأنبياء والأوصياء والأولياء .. الخ.

قال السيوطي في الدر المنثور : ٢ / ٢٨٠ :

أخرج عبد بن حميد والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله :

وابتغوا اليه الوسيلة ، قال : القربة.

وأخرج الحاكم وصححه عن حذيفة في قوله وابتغوا اليه الوسيلة قال : القربة.

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله : وابتغوا اليه الوسيلة قال : تقربوا الى الله بطاعته والعمل بما يرضيه.

وأخرج عبد بن حميد عن أبي وائل قال : الوسيلة في الايمان.

وأخرج الطستي وابن الأنباري في الوقف والابتداء عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له : أخبرني عن قوله عز وجل : وابتغوا اليه الوسيلة ، قال : الحاجة.

قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟

قال : نعم ، أما سمعت عنترة وهو يقول :

إن الرجال لهم اليـك وسيلة

أن يأخذوك ، تكحلي وتخضبي. انتهى.

وتفسير ابن عباس للوسيلة بالحاجة إن صح عنه فلا يصح ، لأن مقصود عنترة أن يقول لتلك المرأة : إن الرجال سيجدون وسيلة لأخذك ولو بالخطيفة فاستعدي ! على أنه لا يبعد أن يكون معنى الحاجة في زمن ابن عباس هو المعنى الذي يستعمله أهل مصر اليوم ، وهو عام يشمل الوسيلة.

٣٢٤

وفي حلية الأولياء : ٤ / ١٠٥ :

عن منصور عن أبي وائل في قوله تعالى : وابتغوا اليه الوسيلة ، قال : القربة في الأعمال. انتهى.

وهكذا ساروا على ما أسسه المفسرون الأمويون من تفسير الآية بالقربة وإبعادها عن النبي وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذين هم الوسيلة التي أمر الله بها في كتابه !

ولم يكتفوا بتفسير الوسيلة المطلقة بالقربة المطلقة ، حتى ضيقوا مفهوم القربة وأبعدوه عن كثير من التقربات المرتبطة بشخص النبي وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقبورهم الشريفة !!

وسوف ترى أن الاتجاه الأموي أخذ شكلاً حاداً على يد ابن تيمية وأتباعه !

وبذلك اتجه السؤال بالتهمة اليهم بأنهم راعوا سياسة الخلافة القرشية في تقليلها من حاجة المسلمين الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى في إيمانهم ، وخاصة في الأمور التي لابد أن تكون ممتدةً بعده بأهل بيته الطاهرين.

وفي اعتقادي أن ذلك يرجع الى يوم أعلنت الخلافة القرشية الأحكام العرفية في كل مايتعلق بالقبر النبوي ، لأنها خشيت أن يستجير به أهل بيته ويطالبوا بالخلافة ! فمنعت التجمع عنده والصلاة والتوسل والتبرك .. وأكثر مظاهر الاحترام الطبيعية التي تقوم بها الأمم تجاه قبر نبيها !!

فصار ذلك فقهاً وعقيدة ، وقامت الخلافة الأموية بتركيزه وتبريره .. ولم يخرج عنه إلا المتصوفة ، ولكنهم حاولوا أن يفسروا الوسيلة الى الله تعالى بمشايخ طرقهم !!

وقد حاول الفخر الرازي أن يستدل على إبعاد الوسيلة عن الواسطة في تلقي الدين والسلوك الديني ، فقال في تفسيره : ٦ جزء ١١ / ٢٢٠ :

المسألة الثالثة ، الوسيلة : فعيلة ، من وسل أي تقرب اليه ، قال لبيد الشاعر :

أرى الناس لا يدرون ماقدر أمرهم

ألا كـل ذي لـب الـى الله واسل

أي متوسل ، فالوسيلة هي التي يتوسل بها الى المقصود.

قالت التعليمية : دلت الآية على أنه لا سبيل الى الله تعالى إلا بمعلم معرفته ،

٣٢٥

ومرشد يرشدنا الى العلم به ، وذلك لأنه طلب الوسيلة اليه مطلقاً ، والايمان به من أعظم المطالب وأشرف المقاصد ، فلا بد فيه من الوسيلة.

وجوابنا : أنه تعالى أمر بابتغاء الوسيلة اليه بعد الايمان به ، والايمان به عبارة عن المعرفة به ، فكان هذا أمراً بابتغاء الوسيلة اليه بعد الايمان به ومعرفته ، فيمتنع أن أن يكون هذا أمراً بطلب الوسيلة اليه في معرفته ! فكان المراد طلب الوسيلة اليه في تحصيل مرضاته ، وذلك بالعبادات والطاعات. انتهى كلام الرازي.

وغرضه أن يقول إن الآية تخاطب المؤمنين بعد إيمانهم بأن يتوسلوا بالطاعات ، ولا تطلب من الناس أن يتوسلوا بشخص الى الايمان.

ولكنه نسي قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله ) النساء ـ ١٣٦

فقد طلب الله من المؤمنين أن يؤمنوا بالله ورسوله ! ونسي قوله تعالى ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ) الحجرات ـ ١٤ ، فلا مانع أن يخاطب تعالى المؤمنين بعد إيمانهم أن يبتغوا اليه الوسيلة عن طريق رسوله ؟!

بل حتى لو سلمنا أن الآية ناظرةٌ الى ما بعد الايمان ، فأي مانع في أن يطلب الله تعالى من المؤمنين أن يرتقوا بإيمانهم الى درجة أعلى ، فيجعلوا الرسول قدوتهم ووسيلتهم الى ربهم؟!!

ولكن غرض الرازي أن يحصر الوسيلة المأمور بها بالأعمال ، ويبعدها عن شخص النبي وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله !

كما أن غرض التعليمية الذين ذكرهم الرازي أن يبعدوها عن الرسول وآله صلوات الله عليهم ، ويثبتوا حاجة المسلم في إمانه الى شيخ طريقة يكون وسيلته الى ربه !!

* *

أما المفسرون الشيعة فقد تأثر بعضهم بالجو العام للتفسير السني ، ففسروا الوسيلة مثلهم بالقربة بلا تعيين ، بينما فسرها بعضهم بما ورد عن أهل البيت عليهم‌السلام ، من أن الوسيلة هي النبي أو وصيه من بعده ..

٣٢٦

قال الطوسي في تفسير التبيان : ٣ / ٥٠٩ :

خاطب الله في هذه الآية المؤمنين وأمرهم أن يتقوه ، ومعناه أن يتقوا معاصيه ويجتنبوها ، ويبتغوا اليه معناه يطلبون اليه ، الوسيلة وهي القربة في قول الحسن ومجاهد وقتادة وعطاء والسدي وابن زيد وعبد الله بن كثير وأبي وابل.

وهي على وزن فعيلة ، من قولهم : توسلت اليك ، أي تقربت. قال عنترة بن شداد :

إن الـرجال لهم اليك وسيلةٌ

أن يأخذوك تكحلي وتخضبي

وقال الآخر :

إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا

وعـاد التصافي بيننا والوسائل

يقال : منه سلت أسال ، أي طلبت ، وهما يتساولان ، أي يطلب كل واحد منهما من صاحبه. والأصل الطلب والوسيلة التي ينبغي أن يطلب مثلها. انتهى.

والظاهر أن منهج الشيخ الطوسي رحمه‌الله في تفسير التبيان أن يكتب ما يتحمله القارىَ السني. وكذا فعل المقداد السيوري في فقه القرآن : ١ / ٣٦٩ ، والبلاغي في إملاء مأمن به الرحمن : ١ / ٢١٤

أما التفاسير الروائية عن أهل البيت عليهم‌السلام ، فقد فسرت الوسيلة التي أمر الله بها بالنبي والأئمة من بعده صلى الله عليه وعليهم.

ففي تفسير القمي : ١ / ١٦٨ :

وقوله ( اتقوا الله وابتغوا اليه الوسيلة ) فقال : تقربوا اليه بالامام. انتهى.

والمتأمل في الآية يلاحظ أنها : أمر إلَهي نزل في آخر سورة من القرآن ، بعنصر جديد كلف الله به المسلمين هو ( البحث .. عن .. الوسيلة ) ! وهو تكليف مجملٌ ، والمصدر الوحيد لبيانه هو الرسول صلى الله عليه وآله.

أما نحن فنروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بين أن الوسيلة هو وأهل بيته ، فالأمة مكلفةٌ أن تتعبد لله تعالى بمعرفتهم في كل عصر وإطاعتهم ..

٣٢٧

بينما لم يرو السنييون بيانها ، ورووا عن غير النبي تفسيرها بالقربة ، وهو لا يصح لأنه تفسيرٌ مجملٌ مثلها ! ولأنه يلغي العنصر الجديد الذي نزلت به الآية ، ويجعل معناها تكراراً تأكيدياً لمثل قوله تعالى ( أطيعوا الله ورسوله ) ، وبذلك لا يبقى معنى لاستعمال مصطلح الوسيلة وابتغائها ، ولا لنزول الآية !!

الآية الثانية

قال الله تعالى : ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيما. النساء ـ ٦٤

ورد تفسير المجيء الى الرسول فيها عن أهل البيت عليهم‌السلام ، أنه يشمل المجيَ اليه صلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته ، والمجيء الى قبره الشريف بعد وفاته. وقد وافقتهم على ذلك روايات في مصادر السنيين.

ففي الكافي : ٤ /٥٥٠ :

عن معاوية بن عمار ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : إذا دخلت المدينة فاغتسل قبل أن تدخلها أو حين تدخلها ثم تأتي قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم تقوم فتسلم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم تقوم عند الأسطوانة المقدمة من جانب القبر الأيمن عند رأس القبر عند زاوية القبر ، وأنت مستقبل القبلة ومنكبك الأيسر الى جانب القبر ، ومنكبك الأيمن مما يلي المنبر ، فإنه موضع رأس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتقول :

أشهد أن لا الَه إلا الله وحده لاشريك له و ، أشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وأشهد أنك رسول الله ، وأشهد أنك محمد بن عبدالله ، وأشهد أنك قد بلغت رسالات ربك ونصحت لأمتك ، وجاهدت في سبيل الله ، وعبدت الله مخلصاً حتى أتاك اليقين ، وأديت الذي عليك من الحق ، وأنك قد رؤفت بالمؤمنين ، وغلظت على الكافرين ، فبلغ الله بك أفضل شرف محل المكرمين.

الحمد الله الذي استنقذنا بك من الشرك والضلالة.

٣٢٨

اللهم فاجعل صلواتك وصلوات ملائكتك المقربين وعبادك الصالحين وأنبيائك المرسلين وأهل السماوات والأرضين ، ومن سبح لك يارب العالمين من الأولين والآخرين على محمد عبدك ورسولك ونبيك وأمينك ونجيك وحبيبك وصفيك وخاصتك وصفوتك وخيرتك من خلقك.

اللهم أعطه الدرجة والوسيلة من الجنة وابعثه مقاماً محموداً يغبطه به الأولون والآخرون.

اللهم إنك قلت : ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيما. وإني أتيت نبيك مستغفراً تائباً من ذنوبي وإني أتوجه بك الى الله ربي وربك ليغفرلي ذنوبي.

وإن كانت لك حاجة فاجعل قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خلف كتفيك واستقبل القبلة وارفع يديك واسأل حاجتك ، فإنك أحرى أن تقضى إن شاء الله.

ورواه في تهذيب الأحكام : ٦ /٥

ونحوه في من لا يحضره الفقيه : ٢ / ٥٦٧ ، وفيه :

اللهم وأعطه الدرجة والوسيلة من الجنة ، وابعثه مقاماً محموداً يغبطه بن الأولون والآخرون ، اللهم إنك قلت وقولك الحق : ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيما. وإني أتيت نبيك مستغفراً تائباً من ذنوبي.

يا رسول الله إني أتوجه بك الى الله ربي وربك ليغفر لي ذنوبي. انتهى.

وفي الدر المنثور : ١ / ٢٣٨ :

وأخرج البيهقي عن أبي حرب الهلالي قال حج أعرابي فلما جاء الى باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أناخ راحلته فعقلها ثم دخل المسجد حتى أتى القبر ووقف بحذاء وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال :

بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، جئتك مثقلاً بالذنوب والخطايا ، مستشفعاً بك

٣٢٩

على ربك ، لأنه قال في محكم كتابه : ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيما.

وقد جئتك بأبي أنت وأمي مثقلاً بالذنوب والخطايا ، أستشفع بك على ربك أن يغفر لي ذنوبي ، وأن يشفع في.

ثم أقبل في عرض الناس وهو يقول :

يا خير من دفنت في الترب أعظمه

فطـاب مـن طيبهن القاع والأكم

نفسي الفـداء لقبـر أنـت ساكنه

فيـه العفاف وفيـه الجود والكرم

ورواه في كنز العمال : ٤ / ٢٥٨ ، وقال في هامشه : وذكر ابن كثير في تفسيره : ٢ / ٣٢٩

وقصة هذا الأعرابي تدل على أن العربي الصافي الفطرة يفهم بفطرته أن قوله تعالى ( جاؤوك ) يشمل المجيء الى الرسول في حياته ، والى قبره بعد وفاته.

وقال الشرنبلاني في نور الإيضاح / ١٥٦ :

ثم يعود ويقف عند رأس سيدنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الشريف مستقبله كالأول ويقول : اللهم إنك قلت وقولك الحق : ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيما. وقد جئناك سامعين قولك طائعين أمرك مستشفعين بنبيك اليك. اللهم ربنا اغفر لنا ولآباءنا وأمهاتنا وإخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلاّ للذين آمنوا ، ربنا إنك رؤوف رحيم.

وفي الدر المنثور : ٢ / ٢١٩ :

وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود قال : من قرأ هاتين الآيتين من سورة النساء ثم استغفر غفر له : ومن يعمل سوءً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيما. ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستفغرواالله واستغفر لهم الرسول..الآية.

وفي الدر المنثور : ٢ /١٧٠ :

وأخرج هناد عن ابن مسعود قال : أربع آيات في كتاب الله عز وجل أحب الى من حمر النعم وسودها :

٣٣٠

في سورة النساء قوله : إن الله لا يظلم مثقال ذرة .. الآية.

وقوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به .. الآية.

وقوله : ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك .. الآية.

وقوله : من يعمل سوءً أو يظلم نفسه .. الآية.

وفي الدر المنثور : ٢ /١٨٠ :

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال :

الاستغفار على نحوين ، أحدهما في القول والآخر في العمل.

فأما استغفار القول فإن الله يقول : ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول.

وأما استغفار العمل فإن الله يقول وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ، فعنى بذلك أن يعملوا عمل الغفران. انتهى.

جاؤوك ، تشمل المجيء الى قبر النبي والمجيء الى وصيه

في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة خطاباتٌ وأحكامٌ خاصة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فما حكمها بعد وفاته ؟

قالت مذاهب الخلافة القرشية : من هذه الأحكام ما هو من شأن النبوة ، فينتهي بوفاة النبي ، والباقي يصير المخاطب به الخليفة الذي حل محل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله !

وبدأت الخلافة بتنفيذ ذلك في الخمس والأمور المالية ، فقالت صار أمرها الى الخليفة ... الخ.

ولكن هذه الخطابات والأحكام أوسع وأعمق من أن ينهض بها أمثال الخلفاء الذين حكموا بعد النبي صلى الله عليه وآله .. وللبحث في هذا الموضوع مكانٌ آخر ، ويدخل منه في بحثنا فتح باب الغفران الالَهي بالمجيء الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهل هو حكم مستمرٌ بعده في وصيه أم لا ؟

٣٣١

دلت أحاديثنا الصحيحة على أن هذا المقام الرباني ثابتٌ للوصي عليه‌السلام ، وهو الذي يساعد عليه استمرار الإسلام ، ووراثة الكتاب الالَهي ، ونصوص وصية النبي لعترته الطاهرين ، صلى الله عليه وعليهم.

ففي الكافي : ١ / ٣٩١ :

علي بن ابراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن ابن أذينة ، عن زرارة أو بريد ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال : لقد خاطب الله أمير المؤمنين عليه‌السلام في كتابه قال : قلت : في أي موضع ؟ قال : في قوله : ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيما. فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ، فيما تعاقدوا عليه لئن أمات الله محمداً ألا يردوا هذا الأمر في بني هاشم ، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ، عليهم من القتل أو العفو ، ويسلموا تسليما.

وفي الكافي : ٨ / ٣٣٤ :

علي بن ابراهيم ، عن أبيه ومحمد بن اسماعيل ، وغيره ، عن منصور بن يونس عن ابن أذينة ، عن عبد الله بن النجاشي قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول في قول الله عز وجل : أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغا. يعني والله فلاناً وفلاناً.

وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيما.

يعني والله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلياً مما صنعوا ، أي لو جاؤوك بها يا علي فاستغفروا الله مما صنعوا ، واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيما.

فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم. فقال أبو عبد الله : هو والله عليٌّ بعينه ، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ، على لسانك يا رسول الله يعني به من ولاية علي ، ويسلموا تسليما ، لعلي.

٣٣٢

وفي تفسير القمي : ١/ ١٤٢ :

وقوله : ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله ، فإنه حدثني أبي ، عن ابن أبي عمير ، عن ابن أذينة ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك يا علي فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيما. هكذا نزلت. ثم قال : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك ، يا علي ، فيما شجر بينهم ، يعني فيما تعاهدوا وتعاقدوا عليه من خلافك بينهم وغصبك. ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت عليهم يا محمد على لسانك من ولايته ، ويسلموا تسليماً لعلي عليه‌السلام. انتهى.

ومعنى قول الإمام الباقر عليه‌السلام ( هكذا نزلت ) أي هذا هو المعنى المقصود فيها الذي أنزله الله تعالى.

وقد يكون القول بتعميم الخطاب للوصي ثقيلاً على بعضهم ، ولكنه لا بد منه إذا أردنا أن لا نعطل معنى الآيات والأحاديث والأحكام المتعلقة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله !

مع ما يستلزمه تعطيلها من نقصان الدين بعد كماله وتمامه !!

* *

الآية الثالثة

قال الله تعالى : وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ، ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا. قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا. أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا. الاسراء ٥٥ ـ ٥٧

وهذه الآية تدل على مشروعية التوسل الى الله تعالى بالأشخاص الأقرب اليه ، فمن المتفق عليه بين المفسرين أن قوله تعالى : يبتغون الى ربهم الوسيلة أيهم أقرب مدحٌ لهؤلاء المؤمنين بأنهم يطلبون التوسل الى الله تعالى .. وإن اختلفوا في تعيين هؤلاء المتوسلين ، والمتوسل بهم. كما سيأتي.

٣٣٣

تفسيرنا للآيتين الكريمتين

معنى الآيات :

قل لهم فليدعوا الذين يزعمون لكشف الضر عنهم ، فلا مجيب !! لأنهم في الحقيقة لا يدعون شيئاً !

ولكن المؤمنين هم الذين يدعون من هو أهلٌ لكشف الضر سبحانه ، فتراهم يبتغون اليه الوسيلة ، ويبحثون عن أقرب عباده اليه وسيلة فيتوسلون به اليه ، فيستجيب دعاءهم.

فـ ( أولئك ) في مطلع الآية الثانية استئنافٌ قصد به المؤمنون عبر التاريخ ، وقد مدحهم الله تعالى بدعائهم ربهم الحق ، وبتوسلهم بمن هو أقرب منهم اليه من عباده .. وذلك في مقابل المشركين الذين يدعون هباء ! ويتوسلون بما لم يأذن به الله !!

أما المفسرون السنيون فقد أرجعوا الضمير في أولئك الى المعبودين المزعومين من دون الله. وبعضهم كالجبائي أرجعه الى الأنبياء ، ولكنه وافقهم في أن ( أيهم أقرب ) صفة للمتوسلين لا للمتوسل بهم ، كما سيأتي.

وأما المفسرون الشيعة غير المحدثين ، فقد راعوا التفسير السني ، ولم يخرجوا عنه إلا قليلا.

قال الطوسي في تفسير التبيان : ٦ / ٤٩٠ :

ثم قال لنبيه : قل لهم ادعوا الذين زعمتم من دونه ، يعني الذين زعمتم أنهم أرباب وآلهة من دون الله ، ادعوهم إذا نزل بكم ضرر ، فانظروا هل يقدرون على دفع ذلك أم لا.

وقال ابن عباس والحسن : الذين من دونه ، الملائكة والمسيح وعزير.

وقال ابن مسعود : أراد به ماكانوا يعبدون من الجن : وقد أسلم أولئك النفر من الجن ، لأن جماعة من العرب كانوا يعبدون الجن ، فأسلم الجن وبقي الكفار على عبادتهم.

٣٣٤

وقال أبو علي : رجع الى ذكر الأنبياء في الآية الأولى ، والتقدير أن الأنبياء يدعون الى الله يطلبون بذلك الزلفة لديه ويتوسلون به اليه والى رضوانه وثوابه ، أيهم كان أفضل عند الله ، وأشد تقرباً اليه بالأعمال.

ثم قال : فلا يملكون ، يعني الذين تدعون من دون الله ، كشف الضر ، والبلاء عنكم ، ولا تحويله الى سواكم.

ثم قال : أولئك الذين يدعون يبتغون ... أولئك : رفع بالابتداء ، والذين ، صفة لهم ويبتغون الى ربهم خبر الابتداء ، والمعنى الجماعة الذين يدعون يبتغون الى ربهم.

أيهم رفع بالابتداء ، وأقرب خبره. والمعنى يطلبون الوسيلة ينظرون أيهم أقرب فيتوسلون به ، ذكره الزجاج.

وقال قوم : الوسيلة هي القربة والزلفة.

وقال الزجاج : الوسيلة والسؤال والسؤل والطلبة واحد ، والمعنى أن هؤلاء المشركين يدعون هؤلاء الذين اعتقدوا فيهم أنهم أرباب ، ويبتغي المدعوون أرباباً الى ربهم القربة والزلفة ، لأنهم أهل إيمان به.

والمشركون بالله يعبدونهم من دون الله ، أيهم أقرب عند الله بصالح أعماله واجتهاده في عبادته ، فهم يرجون بأفعالهم رحمته ويخافون عذابه بخلافهم إياه.انتهى.

وقد اقتصر الشيخ الطوسي على ذكر أقوال السنيين ، كما رأيت.

وأما الطبرسي في مجمع البيان : ٦ / ٤٢٢ ، فقد مال الى قول أبي علي الجبائي ، فقال : ثم قال سبحانه لنبيه ( ص ) :

قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله : أدعوا الذين زعمتم من دونه أنهم آلهة عند ضر ينزل بكم ليكشفوا ذلك عنكم أو يحولوا تلك الحالة الى حالة أخرى.

فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا ، للحالة التي تكرهونها الى حالة تحبونها يعني تحويل حال القحط الى الخصب والفقر الى الغنى والمرض الى الصحة.

٣٣٥

وقيل معناه لا يملكون تحويل الضر عنكم الى غيركم ، بين سبحانه أن من كان بهذه الصفة فانه لايصلح للالهية ، ولا يستحق العبادة.

والمراد بالذين من دونه الملائكة والمسيح وعزير عن ابن عباس والحسن.

وقيل هم الجن ، لأن قوماً من العرب كانوا يعبدون الجن عن ابن مسعود ، قال وأسلم أولئك النفر من الجن وبقي الكفار على عبادتهم.

قال الجبائي : ثم رجع سبحانه الى ذكر الأنبياء في الآية الاولى فقال : أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة ، ومعناه أولئك الذين يدعون الى الله تعالى ويطلبون القربة اليه بفعل الطاعات.

أيهم أقرب ، أي ليظهر أيهم الأفضل والأقرب منزلة منه.

وتأويله أن الأنبياء مع علو رتبهم وشرف منزلتهم إذا لم يعبدوا غير الله ، فأنتم أولى أن لا تعبدوا غير الله. وإنما ذكر ذلك حثاً على الاقتداء بهم.

وقيل إن معناه أولئك الذين يدعون ويعبدونهم ويعتقدون أنهم آلهة من المسيح والملائكة يبتغون الوسيلة والقربة الى الله تعالى بعبادتهم ، ويجتهد كل منهم ليكون أقرب من رحمته ، أو يطلب كل منهم أن يعلم أيهم أقرب الى رحمته أو الى الاجابة ، ويرجون رحمته ويخافون عذابه ، أي وهم مع ذلك يستغفرون لأنفسهم فيرجون رحمته إن أطاعوه ويخافون عذابه إن عصو ، ويعلمون عمل العبيد. انتهى.

ومع أنه رحمه‌الله مال الى تفسير الجبائي ، ولكنه لم يخرج عن التفسير الأساسي للمفسرين السنيين ، ولم يبحث النسبة بين الآية وبين أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام الصحيحة التي تنص على أن الوسيلة للناس جميعاً هم محمد وآله صلى الله عليهم.

وأما الطباطبائي فقد ذكر أقوال المفسرين السنيين في الآية ، ولم يجزم بشيء منها ! قال في تفسير الميزان : ١٣ / ١٣٠ :

قوله تعالى : أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ، الى آخر الآية.

٣٣٦

أولئك مبتدأ ، والذين صفة له ، ويدعون صلته ضميره عائد الى المشركين. ويبتغون خبر أولئك ، وضميره وسائر ضمائر الجمع الى آخر الآية راجعة الى أولئك.

وقوله : أيهم أقرب ، بيان لابتغاء الوسيلة لكون الابتغاء فحصاً وسؤالا في المعنى. هذا ما يعطيه السياق.

والوسيلة على ما فسروه هي التوصل والتقرب ، وربما استعملت بمعنى ما به التوصل والتقرب ، ولعله هو الأنسب بالسياق بالنظر الى تعقيبه بقوله : أيهم أقرب. والمعنى والله أعلم :

أولئك الذين يدعوهم المشركون من الملائكة والجن والانس يطلبون ما يتقربون به الى ربهم يستعلمون.

أيهم أقرب : حتى يسلكوا سبيله ويقتدوا بأعماله ليتقربوا اليه تعالى كتقربه.ويرجون رحمته ، من كل ما يستمدون به في وجودهم.

ويخافون عذابه فيطيعونه ولا يعصونه.

إن عذاب ربك كان محذورا. يجب التحرز منه والتوسل الى الله ببعض المقربين اليه ، على ما في الآية الكريمة ، قريب من قوله : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا اليه الوسيلة ، غير ما يرومه المشركون من الوثنيين ، فإنهم يتوسلون الى الله ويتقربون بالملائكة الكرام والجن والأولياء من الانس ، فيتركون عبادته تعالى ولا يرجونه ولا يخافونه ، وإنما يعبدون الوسيلة ويرجون رحمته ويخافون سخطه ثم يتوسلون الى هؤلاء الأرباب والآلهة بالأصنام والتماثيل فيتركونهم ويعبدون الأصنام ، ويتقربون اليهم بالقرابين والذبائح.

وبالجملة ، يدعون التقرب الى الله ببعض عباده أو أصنام خلقه ، ثم لا يعبدون إلا الوسيلة مستقلة بذلك ، ويرجونها ويخافونها مستقلة بذلك من دون الله ، فيشركون بإعطاء الاستقلال لها في الربوبية والعبادة.

والمراد بأولئك الذين يدعون : إن كان هو الملائكة الكرام والصلحاء المقربون من الجن والأنبياء والأولياء من الانس ، كان المراد من ابتغائهم الوسيلة ورجاء الرحمة

٣٣٧

وخوف العذاب ظاهره المتبادر.

وإن كان المراد بهم أعم من ذلك حتى يشمل من كانوا يعبدونه من مردة الشياطين وفسقة الانسان كفرعون ونمرود وغيرهما ، كان المراد بابتغائهم الوسيلة اليه تعالى ما ذكر من خضوعهم وسجودهم وتسبيحهم التكويني ( ! )

وكذا المراد من رجائهم وخوفهم لذواتهم. انتهى.

ثم ذكر صاحب الميزان رحمه‌الله وجوهاً أخرى في رجوع الضمائر ولم يتبن منها شيئاً !

تفسير السنيين للآيتين الكريمتين

قال المحدثون والمفسرون السنيون إن المقصود ب ( أولئك ) في الآية ، المعبودون المزعومون من دون الله الذين يؤلههم بعض الناس ، فالمعبودون مؤمنون يعبدون الله تعالى ويبتغون اليه الوسيلة ... وعابدوهم مشركون.

ورووا عن ابن مسعود وابن عباس أن هؤلاء المعبودين من مؤمني الجن ، أو الملائكة ، أو أنهم المسيح وعزير والشمس والقمر !

قال البخاري في صحيحه : ٥ / ٢٢٧ :

عن أبي معمر عن عبد الله ( ابن مسعود ) : الى ربهم الوسيلة ، قال : كان ناس من الانس يعبدون ناسا من الجن ، فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم. زاد الاشجعي : عن سفيان عن الأعمش : قل ادعوا الذين زعمتم.

باب أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة .. الآية :

عن أبي معمر عن عبدالله رضي الله عنه في هذه الآية : الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة ، قال : ناس من الجن يعبدون ، فأسلموا.

ورواه مسلم : ٨ / ٢٤٤ ، عن عبد الله أيضاً ، وفيه قال : كان نفرٌ من الإنس يعبدون نفراً من الجن ، فأسلم النفر من الجن ، واستمسك الإنس بعبادتهم فنزلت : أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة.

ورواه الحاكم بنحوه : ٢ / ٣٦٢ ، عن عبد الله أيضاً.

٣٣٨

وقال السيوطي في الدر المنثور : ٤ / ١٨٩ :

أخرج عبدالرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، والبخاري ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الدلائل ، عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله : قل ادعوا الذين زعتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا ، قال : كان نفر من الإنس يعبدون نفراً من الجن فأسلم النفر من الجن وتمسك الإنسيون بعبادتهم ، فأنزل الله : أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة. كلاهما بالياء.

وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي ، معاً في الدلائل ، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : نزلت هذه الآية في نفر من العرب كانوا يعبدون نفراً من الجن ، فأسلم الجنيون والنفر من العرب لا يشعرون ذلك.

وقال في الدر المنثور : ٤ / ١٩٠ :

وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : كان قبائل من العرب يعبدون صنفاً من الملائكة يقال لهم الجن ، ويقولون هم بنات الله ، فأنزل الله : أولئك الذين يدعون .. الآية.

وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية قال : كان أهل الشرك يعبدون الملائكة والمسيح وعزيراً.

وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : فلا يملكون كشف الضر عنكم ، قال : عيسى وأمه وعزير.

وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : أولئك الذين يدعون ، قال : هم عيسى وعزير والشمس والقمر. انتهى.

وقال الفخر الرازي في تفسيره : ٢٠ / ٢٣١ :

فنقول : إن قوماً عبدوا الملائكة فنزلت هذه الآية فيهم.

٣٣٩

وقيل إنها نزلت في الذين عبدوا المسيح وعزيراً.

وقيل إن قوماً عبدوا نفراً من الجن فأسلم النفر من الجن ، فبقي أولئك من الناس متمسكين بعبادتهم ، فنزلت هذه الآية. انتهى.

وعلى هذا المنوال نسج المفسرون الباقون .. ومنهم ابن تيمية ، الذي أهمل كغيره أن الآية في مدح المتوسلين ، وأخذ منها ذم الذين الذين عبدوا المتوسلين !

قال في رسالة فتيا في نية السفر / ٤٣٠ :

فالآية تتناول كل من دعا من دون الله من هو صالح عند الله من الملائكة والإنس والجن ! قال تعالى : هؤلاء الذين دعوتموهم لا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه ، إن عذاب ربك كان محذورا.

قال أبو محمد عبد الحق بن عطية في تفسيره : أخبر الله تعالى أن هؤلاء المعبودين يطلبون التقرب اليه والتزلف اليه ، وأن هذه حقيقة حالهم ، والضمير في ربهم للمبتغين أو للجميع ، والوسيلة هي القربة ، وسبب الوصول الى البغية ، وتوسل الرجل إذا طلب الدنو والنيل لأمر ما ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم من سأل الله لي الوسيلة .. الحديث.

وهذا الذي ذكره ذكر سائر المفسرين نحوه ، إلا أنه برز به على غيره فقال : وأيهم ابتداء وخبره أقرب ، وأولئك يراد بهم المعبودون ، وهو ابتداء وخبره يبتغون. والضمير في يدعون للكفار ، وفي يبتغون للمعبودين ، والتقدير نظرهم وذكرهم أيهم أقرب !! وهذا كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث الراية بخيبر فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها ؟ أي يتبارون في طلب القرب !!

قال رحمه‌الله : وطفف الزجاج في هذا الموضع فتأمله.

ولقد صدق في ذلك فإن الزجاج ذكر في قوله أيهم أقرب وجهين كلاهما في غاية الفساد. وقد ذكر ذلك عنه ابن الجوزي وغيره ، وتابعه المهدوي والبغوي وغيرهما ،

٣٤٠