مناهج المفسرين

الدكتور منيع عبد الحليم محمود

مناهج المفسرين

المؤلف:

الدكتور منيع عبد الحليم محمود


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب المصري
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٢

أما الأمر الثانى : فهو الوفاء الذى يقتضيه الصلاة على الصاحب والشكر وعدم التنكر له بعد انتقاله إلى ربه وعدم نكران الجميل.

المبدأ أو الوفاء.

وآثر القاضى : المبدأ.

ورفض الصلاة على الصاحب.

وهنا ثار الناس عليه ثورة عارمة ورموه ينكران الجميل ، وبعدم الوفاء ، ونقم عليه فخر الدولة وقبض عليه ، وعزله من منصبه وصادر امواله.

أكان القاضى على حق ، أكان مخطئا ذلك ما نتركه للقارئ.

ولقد طال عمر القاضى حتى ليقول ابن الأثير :

« وقد جاوز التسعين » ومات فى ذى القعدة سنة خمس عشرة وأربعمائة.

والكتاب الذى نتحدث عنه هو كتاب :

« متشابه القرآن » وعنوانه يدل على محتواه ، فهو تفسير للآيات المتشابهة.

والمتشابه يختلف الناس فى معناه ولكنهم مهما اختلفوا فإن القاضى عرض للآراء المختلفة فى المتشابه ، والمتشابه ـ فيما يرى ـ هو الذى على صفة تشتبه على السامع من حيث خرج ظاهره على أن يدل على المراد به لشىء يرجع إلى اللغة أو التعارف ، ويضرب القاضى مثالا لذلك :

بقول تعالى : ـ

( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ ) ( سورة الأحزاب الآية ٥٧ )

فإن هذه الكلمة القرآنية وما شاكلها ظاهرها محال على الله تعالى ، فالمراد مشتبهه ويحتاج فى معرفته إلى الرجوع إلى غيره من المحكم.

٨١

وتفسير القاضى للمتشابه بهذا النحو يجعل دائرة المتشابه واسعة تشمل كل الآراء التى قيلت فى المتشابه.

أما المحكم فهو الذى لا يحتمل إلا المعنى الظاهر فى أصل اللغة أو بالتعارف أو بشواهد العقل ، وذلك نحو قوله تعالى :

( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ، اللهُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) ( سورة الإخلاص )

ونحو قوله تعالى :

( إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً ) ( سورة يونس الآية ٤٤ )

والكتاب مسائل ، يعرض المؤلف الآية فى صورة مسألة ، ويفسرها بما يتناسب مع الجو الإسلامى وخصوصا مع جو الاعتزال ، ومن أمثلة ذلك ما يلى :

مسألة قالوا : ثم ذكر تعالى بعد ذلك ما يدل على إنه خص المؤمن بالهدى دون غيره.

فقال :

( فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ )

( سورة البقرة الآية ٢١٣ )

والجواب عن ذلك : قد تقدم انا قد بينا أن تخصيصه المؤمن بأن هداه لا يدل على إنه لم يهد غيره ، وإنما خصه ، لانه الذى انتفع بالهدى دون غيره.

« وبينا أنه قد يخص المؤمن بالهدى الذى هو بمعنى الثواب ، أو طريقه

٨٢

المؤدى إليه ، إلا أن المراد فى هذا الموضع : الدلالة ، ولذلك علق الهدى بالحق فما اختلفوا فيه.

وقوله تعالى من بعد :

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ) ( سورة النساء الآية ٢٩ و ٣٠ )

فدل تعالى على أن من يفعل أكل المال بالباطل وقتل النفس يدخله النار لا محالة وقد يوصف بذلك الفاسق من أهل الصلاة ، كالكافر ، فيجب حمل الآية على العموم ، ومعقول من حال الكلام أنه يريد النهى عن أن يأكل بعضنا أموال بعض ، والوعيد وارد عليه على الحد الذى وقع النهى.عنه ، فليس لاحد أن يتعلق بذلك فاما قتل النفس فالنهى يتناول فيه أن يقتل بعضنا بعضا أو أن يقتل نفسه وكلاهما سواء فى صحة النهى فيهما ، فإن حمل على الامرين ورد الوعيد عليهما جميعا.

وإنما قال : العلماء إن المراد به : ولا يقتل بعضكم بعضا ، من حيث ثبت أن الإنسان ملجأ إلى أن يقتل نفسه ، فلا يصح وحاله هذه أن ينهى عن القتل ، فيجب إذا صرف النهى إلى الوجه الثانى ، والوعيد إنما ورد على هذا الحد.

مسألة : قالوا : ثم ذكر بعده ما يدل على أنه هو الخالق لانصراف المؤمن عن اتباع الشيطان ، فقال :

( وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً ) ( سورة النساء الآية ٨٣ )

٨٣

والجواب عن ذلك : ان ظاهره يقتضى انه لو لا فضله لا قدمنا على المعصية ، وليس فيه بيان ذلك الفضل ، والمراد به الالطاف والتاييد وسائر ما يصرف المرء عن اتباع الشيطان والمعاصى ، وبين تعالى أن ذلك الفضل لو لم يفعله لكان فيهم من لا يتبع الشيطان مبينا بذلك أن المعلوم من حال كثير منهم أنه يؤمن ويتصرف عن اتباع الشيطان وإن لم يلطف له ، وهذا يصدق قولنا فى اللطف أنه قد يختص بمكلف دون مكلف.

وإن حملت الكلام على أنه لو لا فضله على الكل لا تبعوا الشيطان إلا قليلا منهم فإنهم مع فضله عليهم يتبعونه ، فإنه يدل على مثل ما قدمناه فى أن اللطف قد يختص ، وقد يختص ، وقد يفعل بمكلفين فيكون لطفا لاحدهما دون الآخر ، كما أن رفق الوالد بأحد ولديه قد يكون لطفا له فى التعليم ، ولا يكون لطفا فى الآخر.

وبعد : فإن هذا الكتاب فى غاية النفاسة إذا نظرنا إلى مذهب المعتزلة أما إذا نظرنا إلى مذهب أهل السنة ، فإن فيه الكثير من التفانى ، ولكن فيه أيضا ، الكثير مما يمكن المناقشة فيه والجدل ، وهو على كل حال كتاب للخاصة.

٨٤

الإمام القشيرى وتفسيره

لطائف الإشارات

يمثل الإمام القشيرى اتجاها خاصا فى العلوم الإسلامية ، إنه الاتجاه الصوفى فى أدق مظاهره وأنقى صوره : اتباع للسنة ، وكشف لدقائق الطريق ، ورد لما نسب إلى التصوف من مظاهر ، وما التصق به من رسوم ..

والإمام القشيرى هو أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك زين الإسلام القشيرى نسبة إلى قبيلة بنى قشير العربية الأصيلة.

ولد فى قرية من نواحى نيسابور ومات أبوه وهو صغير ، فاتجهت اسرته نحو العلم ، فسمع من كبار الشيوخ ، وتلقى عن كثير من العلماء ومن أهم هؤلاء الذين أثروا فى تكوين شخصيته العلمية وحياته الفكرية ابن فروك وأبو إسحاق الأسفرائني وغيرهم.

ثم ارادت المقادير أن يحضر درس : الأستاذ ابن على الدقاق ، ليرى اخلاصا ، ويرى تقوى ، ويرى نورا يرتسم على وجهه ، ويشرق من كلماته فينير قلوب السامعين ، وبجذبهم إلى الله ، وكانت فطرة القشيرى النقية على استعداد تام لسلوك الطريق ، ورأى الإمام أبو على الدقاق فيه النجابة ، فقبله فى زمرة مريديه ، ثم اصطفاه فى زمرة أخصائه ، وزوجه ابنته ، مع كثرة أقاربها ..

وتأثر القشيرى بالشيخ الدقاق ، وكان ذا شخصية قوية فيما يتصل بالتصوف والصوفية ، دقيق البحث عميق الفكرة ، رائد السلوك ، يقول المناوى عنه :

كان لسان وقته ، وإمام عصره ، فارها فى العلم ، محمود السيرة ، مجهود السريرة ، جنيدى الطريقة سرى الحقيقة ، أخذ مذهب الشافعى عن القفال

٨٥

والحصرى وغيرهما ، وبرع فى الأصول وفى الفقه وفى العربية حتى شدت إليه الرحال فى ذلك ، ثم أخذ فى العمل ، وسلك طريق التصوف ، وأخذ عن النصرآباذي .. قال ابن شهبة : ( وزاد عليه حالا ومقالا ، وعنه أخذ القشيرى صاحب الرسالة ، وله كرامات ظاهرة ومكاشفات باهرة ...

وكما استفاد القشيرى من أساتذته تأثر بمن عاصره من العلماء ، كما أثر فيهم ، ومن أشهر هؤلاء : ( السلمى وأبى المعالى الجويني إمام الحرمين ).

وقد ألف الإمام القشيرى عددا من المؤلفات الهامة تدور فى مجملها حول التصوف ، سواء أكان تحديدا لماهيته ، أم فهما للقرآن على ضوئه ، أو مناقشة للأمور التي تلازمه كالذكر ونحوه ... ومن أهم هذه المؤلفات :

١ ـ الرسالة القشيرية ، كتبها المؤلف فى سنة سبع وثلاثين وأربعمائة إلى جماعة الصوفية ببلدان الإسلام.

كتبها تصحيحا لأوضاع كثيرة انحرفت ، وبيانا لما ينبغى أن يكون عليه المريد الصادق.

لقد كانت هناك جوانب كثيرة فى الاجواء التي تزعم أنها صوفية قد دب إليها الفساد ، وسلك بعض المدعين مسالك لا تمت إلى الدين ولا إلى التصوف بصلة ، كما هو الشأن دائما فى المدعين المزيفين الذين يوجدون فى كل عصر وفى كل ميادين ، فأشفق الإمام القشيرى على القلوب أن تحسب أن هذا الأمر ـ أى أمر التصوف ـ على هذه الجملة قد بنى قواعده ، وعلى هذا النحو سار سلفه ...

وقاده هذا الاشفاق إلى أن يكتب هذه الرسالة مبينا فيها جانبين :

الجانب الأول : سيرة رجال التصوف وبعض أقوالهم ، وذكر فى هذا الجانب كثيرا من أعلام الصوفية كنماذج يسير المريد على هديهم ...

أما الجانب الثاني : فإنه مبادئ السلوك ومناهجه ..

٢ ـ تفسيره المشهور : لطائف الاشارات « وسنتحدث عنه بالتفصيل ».

٨٦

٣ ـ التيسير فى التفسير ، مخطوط فى النهد ولندن.

٤ ـ حياة الأرواح والدليل على طريق الصلاح والفلاح ، مخطوط بالاسكوريال.

٥ ـ المعراج وقد حققه الدكتور على حسن عبد القادر.

٦ ـ شكابة أهل السنة ، ذكرها السبكى فى طبقات الشافعية كاملة ..

٧ ـ الفصول ، وهو مخطوط بالقاهرة.

٨ ـ الوحيد النبوى ، مخطوط بالقاهرة.

٩ ـ اللمع ، مخطوط بالقاهرة.

١٠ ـ شرح أسماء الله الحسنى ، وقد طبعه مجمع البحوث الإسلامية ..

وهذه المؤلفات انما تدل على تمكن صاحبها من علوم الشريعة والحقيقة ، ورعايته فى الحديث لما يقتضيه كل من العلمين ، فلم يكن فى حديثه عن التصوف إلا معبرا عن الشريعة ، ولم يكن فى حديثه عن الشريعة إلا موضحا لها ببعض المفاهيم الصوفية ..

وانتهى الأمر بالقشيرى إلى أن أصبح كما يقول عنه الإمام عبد الغافر :

الإمام مطلقا ، الفقيه ، المتكلم ، الاصولي ، المفسر ، الاديب ، النحوى ، الكاتب ، الشاعر لسان عصره ، وسيد وقته ، وسر الله بين خلقه ، مدار الحقيقة ، وعين السعادة ، وقطب السيادة ، من جمع بين الشريعة والحقيقة ، كان يعرف الأصول على مذهب الاشعرى ، والفروع على مذهب الشافعى ..

ولقد ترجم له صاحب كتاب « دمية القصر » أبو الحسن الباخرزى فقال :

جامع لأنواع المحاسن ، تنقاد له صعابها ذلل المراسين ، فلو قرع الصخر بصوت تخديره لذاب ، ولو ربط ابليس فى مجلس تذكيره لتاب ، وله فصل الخطاب فى فصل المنطق المستطاب ، ماهر فى التكلم على مذهب الاشعرى ، خارج فى احاطته بالعلوم عن الحد البشرى كلماته للمستفيدين فوائد وفوائد ،

٨٧

واعتاب منبره للعارفين وسائد ثم إذا عقد بين مشايخ الصوفية حبوته ، ورأوا قربته من الحق وحظوته : تضاء لوا بين يديه ، وتلاشوا بالإضافة إليه وطواهم بساطه فى حواشيه ، وانقسموا بين النظر والتفكير فيه ، وله شعر يتوج به رءوس معاليه ، إذا ختمت به أذناب أماليه ».

وتوفى يوم الاحد فى السادس عشر من شهر ربيع الأول عام ٤٦٥ ه‍ خمس وستين وأربعمائة بمدينة ( نيسابور ) ودفن بجوار شيخه أبى على الدقاق رحمهما‌الله رحمة واسعة.

قدم الإمام القشيرى لتفسيره بمقدمة تشير إلى منهجه ، وتبين طريقته فى تأليفه فقال :

الحمد الله الذى شرح قلوب أوليائه بعرفانه ، وأوضح نهج الحق بلائح برهان لمن أراد طريقه ، وأتاج البصيرة لمن ابتغى تحقيقه ، وأنزل الفرقان هدى وتبيانا على صفيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله معجزة وبيانا ، وأودع صدور العلماء معرفته وتأويله ، وأكرمهم بعلم قصصه ونزوله ، ورزقهم الإيمان بمحكمة ومتشابهه وناسخه ، ووعده ووعيده ، وأكرم الاصفياء من عباده بفهم ما أودعه من لطائف اسراره وأنواره ، لاستبشار ما ضمنه من دقيق اشاراته ، وخفى رموزه بما لوح لاسرارهم من مكنونات ، فوقفوا بما خصوا به من أنوار الغيب على ما استتر عن أغيارهم ، ثم نطقوا على مراتبهم وأقدارهم والحق سبحانه وتعالى يلهمهم بما به يكرمهم فهم به عنه ناطقون وعن لطائفه مخبرون وإليه يشيرون ، وعنه يفصحون والحكم إليه فى جميع ما يأتون به ويذرون.

وقال الإمام أبو القاسم القشيرى رحمه‌الله :

وكتابنا هذا يأتى على ذكر طرف من اشارات القرآن على لسان أهل المعرفة اما من معانى مقولهم ، أو قضايا أصولهم سلكنا فيه طريق الاقلال خشية الملال ، مستجدين من الله تعالى عوائد المنة ، متبرئين من الحول والمنة ، مستعصمين من الخطإ والخلل ، مستوفقين لاصوب القول والعمل ملتمسين أن

٨٨

يصلى على سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليختم لنا بالحسنى بمنته وافضاله ، وتيسر الاخذ فى ابتداء هذا الكتاب فى شهور سنة اربع وثلاثين وأربعمائة ، وعلى الله إتمامه إن شاء الله تعالى عزوجل.

لقد بين فى هذه المقدمة أن كتابه إنما هو ذكر لطرف من اشارات القرآن على لسان أهل المعرفة ، وهذه الاشارات دقيقة محكمة مختصرة ، وهى وإن كانت تعبر عن الحقيقة فإنها لا تخالف الشريعة ، فكل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فغير مقبول ، وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فغير محصول.

إن هذا التفسير يمثل مرحلة أخرى فوق مرحلة التفسير العادى الذى يعتمد على قواعد اللغة وألوان العلوم التى يحتاج إليها المفسر .. إنه كشف لذوق ، وإبراز لا حساس تحصل من المجاهدة ، وساعد عليه فضل الله تعالى الذى فجر ينابيع الفهوم ..

ومن هنا يعد مكملا لغيره من ألوان التفاسير لا مباينا لها ، ويتعاون الجميع كل فى مجاله على فهم آيات القرآن الكريم.

ومن نماذج هذا التفسير :

قوله جل ذكره :

( وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ )

( سورة آل عمران الآية ١٤٦ )

« إن الذين درجوا على الوفاء ، وقاموا بحق الصفاء ، ولم يرجعوا عن الطريق وطالبوا نفوسهم بالتحقيق ، وأخذوا عليها بالتضييق والتدقيق ، وجدوا محبة الحق سبحانه ميراث صبرهم ، وكان الخلف عنهم الحق عند نهاية أمرهم ، فما زاغوا عن شرط الجهد ، ولا زاغوا فى حفظ العهد ، وسلموا

٨٩

تسليما وخرجوا عن الدنيا وكان كل منهم للعهد مقيما مستديما ، وعلى شرط الخدمة والوداد مستقيما .. »

قوله جل ذكره : ( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) ( سورة الانفطار الآية ٦ ) أى ما خدعك وما سول لك حتى عملت بمعاصيه؟ ويقال : سأله وكأنما فى نفس السؤال لقنه الجواب ، يقول : غرنى كرمك بى ولو لا كرمك لما فعلت ، لأنك رأيت فسترت ، وقدرت فأمهلت ..لا استحلالا له ولكن طول حلمه عنه حمله على سوء خصاله وكما قلت :

يقول مولاى : أما تستحى

مما أرى من سوء أفعالك

قلت : يا مولاى رفقا فقد

جرأنى كثرة أفضالك

قوله جل ذكره : ( الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ، فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ ) أى ركب أعضاءك على الوجوه الحكمية فى أى صورة ما شاء ، من الحسن والقبح والطول والقصر ، ويصح أن تكون الصورة هنا بمعنى الصفة وفى بمعنى على فيكون معناه : على أى صفة شاء ركبك : من السعادة أو الشقاوة ، والإيمان أو المعصية »

هذا وقد قام الدكتور إبراهيم بسيونى بجهد مشكور فى تحقيق هذا التفسير واخراجه على صورة طيبة حازت إعجاب الجميع ، فشكر الله له جهده ، ونفع بهذا التفسير ..

٩٠

شيخ الشافعية ببغداد

الكيا الهراس وتفسيره

الإمام شمس الإسلام عماد الدين أبو الحسن على بن محمد الطبرى المعروف بالكياالهراس الملقب : عماد الدين.

« والكيا » بهمزة مكسورة ولام ساكنة ، ثم كاف مكسورة بعدها ياء مثناة من تحت معناه الكبير بلغة الفرس.

« الهراس » براء مشددة وسين مهملة ـ قال ابن العماد فى الشذرات :( لا نعلم تبعيته لأي شىء ) ولد الهراس خامس ذى القعدة سنة خمسين وأربعمائة للهجرة ونشأ طالبا للعلم جادا فى تحصيله ورحل فى سبيله إلى نيسابور فى الثامنة عشرة من عمره قاصدا ساحة العالم الجليل والإمام المشهور إمام الحرمين الذى كان حسن الوجه مليح الكلام فحصل طريقته وتخرج وصار من ائمة اصحابه ، وبرز فى الفقه والأصول وغيرهما من العلوم ، وأصبح من رءوس المعيدين فى الدرس ـ وكان هو وأقرانه ـ الغزالي والخوافي ـ أبرز تلاميذ إمام الحرمين وأنبغ من تخرج به.

ومما يدل على جده فى تحصيل العلم وحفظه ما قاله عن نفسه :

وكان فى مدرسة « سرهنگ » قناة لها سبعون درجة وكنت إذا حفظت الدرس انزل القناة وأعيد الدرس كل درجة فى الصعود والنزول ، وكذا كنت افعل فى كل درس حفظته .. ».

وقد واصل الهراس الرحلة إلى بيهق ودرس بها زمنا ثم تحول بعد ذلك إلى مدينة العلم وحاضرة العصر وموطن العلم والعلماء مدينة بغداد. وقد انتهى به الأمر فى هذه المدينة إلى ان تبوأ بها منزلة رفيعة فى العلم وشأنا عظيما بين العلماء حيث تولى التدريس بالمدرسة النظامية بها فى ذى الحجة سنة ثلاث وتسعين

٩١

وأربعمائة واستمر مدرسا بها إلى ان توفى فى أول شهر المحرم سنة أربع وخمسمائة للهجرة.

مكانته وثناء العلماء عليه :

لقد بلغ الهراس منزلة سامية ومحلا مرموقا فى العلم وبين العلماء وقد استفاض العلماء فى بيان مكانته والتعريف بمنزلته فقال عبد الغفار بن اسماعيل الفارس عنه :

« الإمام البالغ فى النظر مبلغ الفحول ».

وقال السبكى عنه :

أحد فحول العلماء ورءوس الأئمة فقها وأصولا وجدلا وحفظا لمتون احاديث الاحكام.

وقال الاسنوى :

كان اماما نظارا ، قوى البحث ، دقيق الفكر ، ذكيا فصيحا ، جهورى الصوت حسن الوجه جدا وكان فى مناظرته قوى الحجة بين الدلالة واضح الرأى له لطافة وعذوبة.

يقول السبكى :

وكانت فيه لطافة عند مناظرته ، ربما ناظر بعض علماء العراق فأنشد :

ارفق بعيدك ان فيه يبوسه

جبلية ولك العراق وماؤه

قيل : انشد هذا البيت فى مناظرته مع أبى الوفاء بن عقيل الحنبلى ـ وكان أبو الوفاء مشهورا بتمسكه بالاصول وشدته فى الرأى ، وقد نقل عنه الجوزى فى كثير من كتبه عن كتبه محتجا بآرائه ولا سيما فى كتاب « تلبيس ابليس ».

ومما يدل على هذه المكانة السامية ومنزلته بين علماء عصره ، ما حكاه الاسنوى قائلا :

٩٢

« وكان ممن حضر جنازته الشريف أبو طالب الزيوبى. وقاضى القضاة أبو الحسن بن الدامغانى مقدما أصحاب الحنفية ، وكانت بينه وبينهما منافسة فوقف احدهما عند رأس قبره والآخر عند رجليه ، وأنشد ابن الدامغانى :وما تغنى النوادب والبواكى وقد أصبحت مثل حديث أمس

وأنشد الشريف : ـ

عقم النساء فلم يلدن شبيهه

ان النساء بمثله عقم

وقد رثاه خادمه أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان العزى الشاعر المشهور حيث قال :

بكى على شمسه الاسلام اذا فلت

بأدمع قل فى تشبيهها المطر

حبر عهدناه طلق الوجه مبتسما

و البشر احسن ما يلقى به البشر

احيا ابن ادريس درسا كنت تورده

تحار فى نظمه الآذان والفكر

من فاز منه بتعليق فقد علقت

يمينه بشهاب ليس ينكدر

رحم الله الهراس الذى كان محبا لأهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والسنة قولا وعملا حتى قال عنه ابن خلكان : كان محدثا يستعمل الأحاديث فى مناظراته ومجالساته ونقل عنه قوله :

« إذا جالت الأحاديث فى ميادين الكفاح طارت رءوس المقاييس فى مهاب الرياح ».

فتاويه : ـ

وللهراس كثير من الفتاوى المنثورة فى امهات المراجع ونقلها عنه تلاميذه المشهورون ، ومنها ما نقله عنه الحافظ أبى طاهر السلفى إذ قال :

« استفتيت شيخنا الكيا الهراس : ما يقوله الإمام ـ وفقه الله تعالى ـ فى رجل أوصى بثلث ماله للعلماء والفقهاء ، أتدخل كتبه الحديث هذه الوصية أم لا؟

٩٣

فكتب الشيخ تحت السؤال : نعم ، كيف لا وقد قال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

« من حفظ على أمتى أربعين حديثا من أمر دينها بعثه الله يوم القيامة فقيها عالما ».

مؤلفاته : ـ

كثرت مؤلفات الهراس فى فنون مختلفة شملت القرآن والحديث وعلوم الشريعة الغراء ، ومن اشهر هذه المؤلفات :

أحكام القرآن ـ وسنتناوله بالحديث بعد ذلك ( لوامع الدلائل فى زوايا المسائل ) و ( شفاء المسترشدين فى مباحث المجتهدين ).

و ( نقد مفردات الإمام أحمد ).

و ( كتاب فى أصول الفقه ).

٩٤

أحكام القرآن

يعتبر كتاب احكام القرآن الذى ألفه الهراس واحدا من اشهر التآليف التى تعنى بآيات الاحكام فهما واستنباطا واستخراجا للأصول منها حيث تظهر الثروة الكبيرة فى مجال الفقه والتشريع الاسلامى.

وقد راعى مؤلفه فيه الايجاز والاختصار والاقتصار على اللباب فجاء كتابه وافيا فى بابه نافعا لقارئه.

والكتاب يعد من أول الكتب المؤلفة فى أحكام القرآن على مذهب الإمام الشافعى حيث استخدم منهجه وسلك مسلكه وسار على طريقته فضم بذلك ـ إلى جانب ما ألفه غيره من أتباع أبى حنيفة ومالك رحمهما‌الله نظرة تكاد تكون متكاملة على الجانب التشريعى للقرآن الكريم.

يقول الهراس اثناء مقدمته لهذا الكتاب:

« وبعد : فإنى لما تأملت مذاهب القدماء المعتبرين ، والعلماء المتقدمين والمتأخرين ومذاهبهم وآراءهم ولحظت مطالبهم وأبحاثهم ، رأيت مذهب الشافعى رضى الله عنه وأرضاه اسدها وأقواها وأرشدها وأحكمها حتى كان نظره فى كبر آرائه ومعظم ابحاثه يترقى عند حد الظن والتخمين إلى درجة الحق واليقين.

ولم أجد لذلك سببا أقوى وأوضح وأو فى من تطبيقه مذهبه على كتاب الله تعالى :

(الذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ). ( سورة فصلت الآية ٤٢ )

وأنه اتيح له درك غوامض معانيه ، والغوص على تيار بحره لاستخراج

٩٥

ما فيه. وان الله فتح عليه من أبوابه ويسر عليه من اسبابه ورفع له من حجابه ما لم يسهل لمن سواه ، ولم يأت لمن عداه فكان على ما اخبر الله تعالى عن ذى القرنين فى قوله : ( آتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً ).

( سورة الكهف الآية ٨٤ )

ولما رأينا الأمر كذلك اردت أن اصنف فى احكام القرآن كتابا اشرح فيه ما انتزعه الشافعى رضى الله عنه من أخذ الدلائل فى غوامض المسائل وضممت إليه ما نسجته على منواله ، واحتذيت فيه على مثاله على قدر طاقتى وجهدى ومبلغ وسعى وجدى ..

ثم يقول : ـ

ولن يعرف قدر هذا الكتاب وما فيه من العجب العجاب إلا من وفر حظه من علوم المعقول والمنقول. ومتبحر فى الفروع والأصول ثم اكب على مطالعة هذه الفصول بمسكة صحيحة وقريحة نقية غير قريحة ..

وأعوذ بالله من الاعجاب بالابداع والميل بالهوى إلى بعض الآراء فى مظان النزاع ، وأسأله أن يجعل مجامع مساعينا وجل متابعنا فى طلب مرضاته إنه ولى قدير وبالاجابة جدير فأقول :

لما رأيت أقاويل المفسرين فى أحكام القرآن متجاوزة حد البيان آخذة بطرفى الزيادة والنقصان ، جررت فى سرجها هذه الفصول المتضمنة من اللفظ والمعنى شفاء كل عليل مع انتخابى فيها قصد السبيل ، وتوقى التعليل والتطويل ...

وقد انتفع بهذا الكتاب الكثيرون من العلماء واثنوا عليه الثناء المستطاب واعتمدوا عليه فى تأليفهم بعده حتى قال عنه ابن العربى الذى جاء بعده فى مقدمة كتابه أحكام القرآن.

« إن مؤلفه أتى فيه بالعجب ، ونثر فيه لباب الألباب وفتح فيه لكل من جاء بعده إلى معارفة الباب ، فكل أحد غرف منه على قدر انائه ..

٩٦

نموذج من « أحكام القرآن »

قوله تعالى : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها ). ( سورة البقرة الآية ١١٤ )

قوله « منع » نزل فى شأن المشركين حين منعوا المسلمين من ذكر الله تعالى فى المسجد الحرام وسعيهم فى خرابه بمنعهم من عمارته بذكر الله وطاعته وقوله « أولئك ما كان لهم ان يدخلوها إلا خائفين ».

يدل على ان المسلمين اخرجوهم منها إذ دخلوها.

ويدل على مثل ذلك قوله تعالى :

( ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ ).

وعمارتها تكون ببنائها واصلاحها والثانى حضورها ولزومها ، كما يقال : ـ

فلان يعمر مسجد فلان ؛ أى يحضره ويلزمه.

قوله عزوجل :

( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ). ( سورة البقرة الآية ١١٥ )

ويدل على جواز التوجه إلى الجهات فى النوافل ، وللمجتهد جواز التعبد بالجميع ..

قوله تعالى : ـ

( وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ ).

٩٧

دلت على أن التنظف ونفى الأوساخ والاقذار عن الثياب والبدن مأمور به وقد قال سليمان بن فرج أبو واصل اتيت أبا أيوب فصافحته فرأى فى أظافرى طولا فقال : جاء إلى النبى عليه‌السلام رجل يسأل عن اخبار السماء فقال : يجيء أحدكم يسأل عن خبر السماء وأظفاره كأنها اظفار الطير يجتمع فيها الوسخ والتفث؟

قوله تعالى : ـ ( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ).

الامام : من يؤتم به فى امر الدين كالنبى عليه‌السلام والخليفة والعالم اخبر الله تعالى إبراهيم انه جاعله للناس اماما ، وسأل إبراهيم ربه أن يكون ابناؤه أئمة فقال تعالى :

( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ). ( سورة البقرة الآية ١٢٤ )

ودل قوله تعالى :

( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ).

على ان الاجابة قد وقعت له فى ان من ذريته ائمة ولكن لا امامه لظالم حتى لا يقتدى به ، ولا يجب على الناس قبول قوله فى امر الدين.

نعم : كان يجوز ان تظهر المعجزة على يد فاسق ظالم ، ويجب قبول قوله لوجود الدليل ، وان لم يجب قبول قول الفاسق لعدم ظهور الصدق وعدمه عقلا غير ان العصمة وجبت للانبياء سمعا.

ويجوز عقلا وجوب قبول قول الفاسق ولكن دلت هذه الآية على ان عهد الله تعالى لا ينال الظالمين.

فيحتمل أن يكون ذلك النبوة ، ويحتمل أن يكون ما اراد لهم من امر دينه ، وأجاز قولهم فيه ، وأمر الناس بقبوله منهم.

٩٨

ويطلق العهد على الأمر قال الله تعالى.

( إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا ). ( سورة آل عمران الآية ١٨٣ )

يعنى امرنا وقال :

( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ ). ( سورة يس الآية ٦٠ )

يعنى ألم اقدم إليكم الأمر به :

وإذا كان عهد الله هو اوامره ، فقوله : ( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) لا يريد به انهم غير مأمورين لأن ذلك خلاف الاجماع ، فدل على ان المراد به أن يكونوا بجملة من تقبل منهم أوامر الله ، ولا يؤمنون عليها.

٩٩
١٠٠