مناهج المفسرين

الدكتور منيع عبد الحليم محمود

مناهج المفسرين

المؤلف:

الدكتور منيع عبد الحليم محمود


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب المصري
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٢

شيخ الحنفية ببغداد

الجصاص وتفسيره

أبو بكر أحمد بن على الرازى ـ شيخ الحنفية ببغداد الذى انتهت اليه رئاسة المذهب فى زمانه.

عاش الرازى فى عصر ازدهر فيه العلم وكثرت فيه العلماء فى فنون العلم المختلفة وظهر ذلك واضحا فيما انتجته قرائح علماء هذا العصر من تراث كبير ما زال المعين الفياض الذى يفيض على المجتمع الانسانى بما يعود عليه بالنفع فى دينه ودنياه.

وقد لقب بالرازى والجصاص نسبة الى العمل بالجص ـ ولد الرازى سنة خمس وثلاثمائة للهجرة ، وشب على طلب العلم والسعى فى تحصيله وشد الرحال اليه فى أشهر مواطنه.

حيث دخل بغداد سنة خمس وعشرين وثلاثمائة ثم انتقل منها الى الاهواز ليلتقى بمن فيها من علماء العصر.

ويواصل الجصاص الرحلة فيعود الى بغداد مرة أخرى ومنها يخرج الى نيسابور مع الحاكم النيسابورى وكان ذلك برأى شيخه الكبير أبو الحسن الكرخى.

وقد عاد الجصاص من نيسابور الى بغداد سنة أربع وأربعين وثلاثمائة بعد أن مات شيخه الكرخى وقد أفاد الجصاص من الرحلة الى الذين تلقى وروى عنهم من أمثال أبى الحسن الكرخى ـ آنف الذكر ـ وأبى العباس الاحيم

٦١

النيسابورى وعبد الله بن جعفر بن فارس الأصبهاني ، وعبد الباقى بن قانع القاضى وسليمان بن أحمد الطبرانى وغيرهم الكثير ـ لقد أفاد الجصاص منهم علما وسلوكا تمثل فى طهره وعفافه وزهده وورعه وصيانته.

مؤلفاته : ـ

وقد كان من ثمار الرحلة لطلب العلم والجد فى تحصيله تلك الثروة الضخمة التى تركتها لنا قريحة هذا العالم الفذ والتى من أشهرها هذه المصنفات الجليلة :

أحكام القرآن

شرح مختصر شيخه أبى الحسن الكرخى

شرح مختصر الطحاوى

شرح الجامع محمد بن الحسن

شرح الاسماء الحسنى

كتاب فى أصول الفقه

جوابات عن مسائل وردت عليه

أدب القضاء

وكثيرا ما ترى الحصاص مذكورا فى المصنفات المشهورة فيذكر صاحب الطبقات السنية فى طبقات الحنفية نقلا عن صاحب « الغنية » عن أبى بكر جواهر زادة فى مسالة اذا وقع البيع بغبن فاحش قال : ـ

ذكر الجصاص وهو أبو بكر الرازى فى واقعاته أن للمشترى أن يرد وللبائع أن يسترد.

وذكر أيضا قول الشيخ جلال الدين فى « المغنى فى أصول الفقه » فى الكلام فى الحديث المشهور قال : قال الجصاص : أنه أحد قسمى المتواتر ...

٦٢

منصب قضاء القضاة :

ولما ذاع صيت الجصاص وظهر للناس علمه وعرفوا قدره وحسن سيرته وتحليه بالزهد والورع خوطب فى تولى منصب قضاء القضاة ولكنه أبى وتعفف عن قبول هذا المنصب الخطير. وقد نقل صاحب الطبقات السنية فى ذلك.

حدث أبو بكر الابهرى قال : خاطبنى المطيع على قضاء القضاة وكان السفير فى ذلك أبو الحسن بن أبى عمرو الشرابى فأبيت عليه وأشرت بأبى بكر أحمد بن على الرازى. فأحضر للخطاب على ذلك ، وسألنى أبو الحسن بن أبى عمرو معونته عليه فخوطب فامتنع ، وخلوت به فقال لى : تشير على بذلك؟ فقلت : لا أرى لك ذلك ..

ثم قمنا الى بين يدى أبى الحسن بن أبى عمرو ، وأعاد خطابه ، وعدت الى معونته فقال لى : أليس قد شاورتك فأشرت على أن لا أفعل؟

فوجم أبو الحسن بن أبى عمرو من ذلك ، قال : تشير علينا بانسان ثم تشير عليه الا يفعل ..

قلت : نعم ، إمامى فى ذلك مالك بن أنس ، أشار على أهل المدينة أن يقدموا نافعا القارئ فى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأشار على نافع أن لا يفعل ، فقيل له فى ذلك.

فقال : أشرت عليكم بنافع ، لانى لا أعرف مثله ، وأشرت عليه أن لا يفعل لانه يحصل له اعداء وحساد فكذلك أنا أشرت عليكم به لانى لا أعرف مثله وأشرت عليه أن لا يفعل لانه أسلم لدينه.

تلاميذ الجصاص :

وقد كثر تلاميذ الرازى كثرة فائقة وانتفع بعلمه الكثيرون وانتهت الرحلة اليه حيث جمع مآثر من تقدمه فى العلم والورع والزهد والصيانة ، ومن أشهر هؤلاء الذين أخذوا عنه وانتفعوا به :

٦٣

أبو بكر أحمد بن موسى الخوارزمى ، وأبو عبد الله محمد بن يحيى الجرجانى شيخ القدورى ، وأبو الفرج أحمد بن محمد بن عمر المعروف بابن المسلمة وأبو جعفر محمد بن أحمد النسفى ، وأبو الحسن محمد بن أحمد الزعفرانى ، وأبو الحسن بن محمد بن أحمد بن الطيب الكعارى والد اسماعيل قاضى واسط وغيرهم.

تفسير الجصاص « أحكام القرآن ».

يعتبر هذا السفر الذى تركته قريحة الجصاص من أجمع الكتب التى تناولت أحكام القرآن بصورة مفصلة أفاد منها غيره ممن جاء بعده وكتب فى هذه الاحكام من أمثال الكبا الهرامى وابن عربى والقرطبى صاحب التفسير المشهور « الجامع لاحكام القرآن ».

والكتاب يجمع هذه الاحكام فى أبواب مرتبه تجمع شمل الآيات التى تتناول قضية أو حكما عاما يفصل الكلام عليها تفصيلا مشفوعا بأقوال العلماء وقرائهم واستنكاراتهم ونظرة سريعة فى سورة النساء تريك صدق ما نقول عن هذا التبويب الفريد ، ففي مطلع السورة وما بعده تجد هذه الابواب.

باب دفع أموال اليتامى باعيانها ومنعه الوحى من استهلاكها.

باب تزويج الصغار

باب هبة المرأة المهر لزوجها

باب دفع المال الى السفهاء

باب دفع المال إلى اليتيم

باب أكل ولى اليتيم من ماله ـ الى غير ذلك من الابواب ..

نموذج من أحكام القرآن

فى باب الامتنان بالصدقة يذكر الحصاص جمله من الآيات يجمع شملها هذا الباب هى قوله تعالى :

٦٤

( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً » الآية وقوله تعالى :

« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ ».

وقوله تعالى :

« قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً »

( سورة البقرة الآية ٢٦٢ و ٢٦٤ و ٢٦٣ )

وقوله تعالى : « وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ». ( سورة الروم الآية ٣٩ )

ثم يقول الجصاص بعد ذكر هذه الآيات :

« أخبر الله تعالى فى هذه الآيات أن الصدقات اذا لم تكن خالصة لله عارية من منّ واذى فليست بصدقه لان ابطالها هو احباط ثوابها ، فيكون فيها بمنزلة من لم يتصدق ، وكذلك سائر ما يكون سبيله وقوعه على وجه القربة الى الله تعالى :

( وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) ( سورة محمد الآية ٣٣ )

وقال تعالى : ( وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ ) ( سورة البينة الآية ٥ )

[ فما لم يخلص لله تعالى من القرب فغير مثاب عليه فاعله ونظيره أيضا قوله تعالى : ( مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ )

( سورة الشورى الآية ٢٠ )

٦٥

ومن أجل ذلك قال اصحابنا : لا يجوز الاستئجار على الحج وفعل الصلاة وتعليم القرآن وسائر الافعال التى شرطها أن تفعل على وجه القربة.لان أخذ الاجر عليها يخرجها عن أن تكون قربة لدلائل هذه الآيات ونظائرها.

وروى عن الحسن فى قوله تعالى :

( لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ) قال : هو المتصدق يمن بها فنهاه الله عن ذلك وقال ليحمد الله اذ هداه للصدقة

وعن الحسن فى قوله تعالى :

( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) ( سورة البقرة الآية ٢٦٥ ]

قال يتثبتون اين يضعون اموالهم.

وعن الشعبى قال : تصديقا ويقينا من انفسهم

وقال قتادة : ثقة من أنفسهم ، والمن فى الصدقة : أن يقول المتصدق قد أحسنت إلى فلان وأغنيته ـ فذلك ينقصها على المتصدق بها عليه والاذى قوله : انت ابدا فقير : وقد بليت بك وأراحني الله منك ..

ونظيره من القول الذى فيه تعبير له بالفقر فقال تعالى :

« قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى » يعنى والله أعلم ـ ردا جميلا ومغفرة قيل فيها ستر الحالة على السائل.

وقيل العفو عمن ظلمه خير من صدقة يتبعها اذى لانه يستحق الماثم بالمن والأذى ورد السائل بقول جميل فيه السلامة من المعصية.

فأخبر الله تعالى أن ترك الصدقة برد جميل خير من صدقة يتبعها اذى وامتنان وهو نظير قوله تعالى :

« واما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا ..

٦٦

الحاكم النيسابورى وتفسيره

فى حوالى ثلاثمائة وعشرين صحيفة من القطع الكبير جدا جمع الحاكم فى كتابه النفيس المستدرك ما صح عنده من التفسير بالمأثور.

والحاكم هو أبو عبد الله الحاكم محمد بن عبد الله بن محمد ، وعرف بالحاكم لتوليه القضاء ، ولد سنة ( ٣٢١ ه‍ ) وقد عنى أبوه بتربيته عناية فائقة ، فأخذ فى الدرس من زمن مبكر جدا من حياته ، وواصل الليل بالنهار ، وبلغ فى العلم مبلغا عظيما.

قال ابن قاضى شهبة : ـ

« طلب العلم فى صغره ، وأول سماعه سنة ثلاثين ، ورحل فى طلب الحديث ، وسمع على شيوخ يزيدون على ألفى شيخ ، وتفقه على ابن أبى هريرة ، وأبى سهل الصعلوكى وغيرهم ».

أخذ عنه الحافظ أبو بكر البيهقى فأكثر عنه ، وبكتبه تفقه وتخرج ، ومن بحره استمد ، وعلى منواله مشى.

ويذكر صاحب الشذرات : أنه كتب عن نحو ألفى شخص ، وحدث عن الاصم ، وعثمان بن السماك ، وطبقتهما ، وقد درس القراءات وعنى بها عناية فائقة ، ولم يدرسها نظريا فحسب وانما قراه بالفعل على جماعة كثيرة من مشاهير أئمة القراءات.

أما تصانيفه فانها كثيرة ، بل هى من الكثرة بحيث يقول المؤرخون عنه :

« بلغت تصانيفه ألفا وخمسمائة جزء » ، ويلاحظ أنهم لم يقولوا : ألفا وخمسمائة كتاب ، وانما ألفا وخمسمائة جزء ، ما ذا كان حجم الجزء.؟

والذى لا شك فيه أنه كان من المكثرين فى التأليف المستفيضين فى الدراسة ، ويقول عنه صاحب الشذرات : ـ

٦٧

وصنف التصانيف الكثيرة ، ويقول ابن ناصر الدين « له مصنفات كثيرة ».

وكان للحاكم تلاميذ ، وفتن به كثيرون ، انظر الى صاحب الشذرات يقول :

وانتهت إليه رئاسة الفن بخراسان لا بل بالدنيا.

أما عبد الغافر فقد أطنب ـ كما يقول ابن شهبة ـ فى مدحه وذكر فضائله وفوائده ومحاسنه الى أن قال : ـ

مضى الى رحمة الله ولم يخلف بعده مثله.

ويقول عنه أحد مؤرخيه :

أحد أركان الاسلام ، وسيد المحدثين وامامهم فى زمنه ، والرجوع اليه فى هذا الشأن وقدمه الراسخة كانت فى فن الحديث وقد وثقه الكثيرون ، ويقول الخطيب البغدادى عنه : ـ

كان ثقة ، ويقول ابن عماد : « وهو ثقة حجة ».

وقال عنه ابن ناصر الدين : ـ

« وهو صدوق من الاثبات » وهكذا يقولون عنه ويعبرون عن ثقتهم فيه ، ولكنهم يعودون فيقولون مثلا : ـ وكان يميل الى التشيع ، أو : « وكان فيه تشيع » « ابن عماد » هكذا.

كيف يكون ثقة ويتهم بالتشيع فى آن واحد مع آن واحد مع المحدثين ينأون عن كل ذى نزعة أو عصبية ، إن الامام الذهبى يقف معتدلا فى وجه المفتونين بالحاكم ويقف موضحا الامر فى رمى الحاكم بالتشيع فيفسر الامر تفسيرا معقولا ، ويضع كل شىء فى موضعه المستقيم ، قال الذهبى :

هو معظم الشيخين بيقين ولذى النورين ، وانما تكلم فى معاوية فاوذى ،

٦٨

قال : ـ وفى المستدرك جملة وافرة على شرطهما ، وجملة وافرة على شرط أحدهما لكن مجموع ذلك نصف الكتاب وفيه نحو الربع مما صح سنده وفيه بعض الشيء معلل وما بقى وهو الربع مناكير وواهيات لا تصح ، وفى ذلك بعض موضوعات قد علمت عليها لما اختصرته.

وهذا الرأى للذهبى يضع كتاب « المستدرك » فى وضعه الصحيح ويبين أن الحاكم لم يكن شيعيا ، وإنما كان يحب عليا وكان حبه لعلى كرم الله وجهه ورضى الله عنه قد ملك عليه شعوره فتحدث عن معاوية باحاديث لا ترضى أنصاره فوصف لذلك بالتشيع أو بالميل الى التشيع ، وليس ذلك من التشيع فى شىء فكثير من أهل السنة وكثير من المؤرخين منهم يقولون بما يقول به الحاكم وليسوا من التشيع من شىء ، ولان الحاكم لم يكن شيعيا فانهم وصفوه بأنه حجة ثقة وقد توفى الحاكم فجأة عقب خروجه من الحمام فى صفر سنة ٤٠٥ هجرية ، توفى مستحما طاهرا رحمه‌الله رحمة واسعة.

والآن نورد بعض النماذج من تفسيره :

يقول الله تعالى :

( إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ) قال : ـ

حدثنا يحيى بن العلاء عن عمه شعيب بن خالد عن سماك بن حرب ، وقرا :

( إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ).

( سورة آل عمران الآية ٥ )

فقال حدثنى عبد الله بن عميرة عن العباس بن عبد المطلب رضى الله عنه قال : ـ

« كنا جلوسا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى البطحاء فمرت سحابة فقال :

٦٩

أتدرون ما هذا قلنا الله ورسوله أعلم ، فقال : السحاب ، فقلنا : السحاب ، فقال : والمزن ، فقلنا والمزن فقال : والعنان ، فقلنا : والعنان ثم قال أتدرون كم بين السماء والأرض فقلنا : الله ورسوله اعلم قال بينهما مسيرة خمسمائة سنة ومن كل سماء الى السماء التى تليها مسيرة خمسمائة سنة وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة وفوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله ، كما بين السماء والارض ثم فوق ذلك ثمانية أو عال بين ركبهم وأظلافهم كما بين السماء والأرض ثم فوق ذلك العرش بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض ، والله تعالى فوق ذلك ليس يخفى عليه من أعمال بنى آدم شىء.

ونموذج آخر :

يقول الله تعالى : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ ) سورة آل عمران الآية ٩٦ ]

قال : « عن خالد بن عرعرة قال سأل رجل عليا رضى الله تعالى عنه أول بيت وضع للناس للذى بمكة مباركا أهو أول بيت بنى فى الأرض قال :لا ، ولكنه أول بيت وضع فيه البركة والهدى ومقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا وإن شئت انباتك كيف بناه الله عزوجل ، ان الله أوحى الى إبراهيم أن ابن لى بيتا فى الأرض فضاق به ذرعا فأرسل الله اليه السكينة وهى ريح حجوج لها رأس فاتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت ثم تطوقت الى موضع البيت تطوق اليه ، فبنى إبراهيم فكان يبني هو سائقا كل يوم حتى اذا بلغ مكان الحجر قال لابنه ابغنى حجرا فالتمس تمة حجر ثم أتاه به فوجد الحجر الاسود قد ركب فقال : له ابنه من أين لك هذا قال : جاء به من لم يتكل على بنائك جاء به جبريل عليه‌السلام من السماء فاتمه ..

ونموذج ثالث : ـ

يقول الله تعالى : « وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً

٧٠

وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ »

( سورة الأعراف الآية ١٦٣ )

يقول : ـ

حدثنا ابن جريح عن عكرمة قال : دخلت على ابن عباس رضى الله عنهما وهو يقرأ فى المصحف قبل أن يذهب بصره وهو يبكى فقلت ما يبكيك يا ابن عباس جعلني الله فداك؟ فقال هل تعرف ايلة قلت وما ايلة قال قرية كان بها ناس من اليهود فحرم الله عليهم الحيتان. يوم السبت فكانت حيتانهم تأتيهم يوم سبتهم شرعا بيضاء سمانا كامثال المخاض بأفنائهم وابنياتهم فاذا كان فى غير يوم السبت لم يجدوها ولم يدركوها الا فى مشقة ومئونة شديدة فقال بعضهم لبعض أو قال ذلك منهم لعلنا لو اخذناها يوم السبت وأكلناها فى غير يوم السبت ففعل ذلك أهل بيت منهم فاخذوا فشووا فوجد جيرانهم ريح الشوى فقالوا والله ما نرى إلا اصاب بنى فلان شىء فاخذها آخرون حتى فشا ذلك فيهم وكثر فافترقوا فرقا ثلاثا فرقة أكلت وفرقة نهت وفرقة قالت لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا فقالت الفرقة التى نهت انما نحذركم غضب الله وعقابه أن يصيبكم بخسف أو قذف أو ببعض ما عنده من العذاب والله لا نبيت فى مكان أنتم فيه وخرجوا من السور فغدوا عليه من الغد فضربوا باب السور فلم يجبهم أحد فاتوا بسبب فاسندوه إلى السور ثم رقى منهم راق على السور فقال يا عباد الله قردة والله لها أذناب تعاوى ثلاث مرات ثم نزل من السور ففتح السور فدخل الناس عليهم فعرفت القردة أنسابها من الانس ولم يعرف الأنس أنسابهم من القردة قال : فيأتى القرد إلى نسيبه وقريبه من الأنس فيحتك به ويلصق ويقول الإنسان أنت فلان فيشير برأسه أى نعم ويبكى وتأتى القردة إلى نسيبها وقريبها من الأنس فيقول لها أنت فلانة فتشير برأسها أى نعم وتبكى فيقول لهم الأنس أما إنا حذرناكم غضب الله وعقابه أن يصيبكم بخسف أو مسخ أو ببعض ما عنده من العذاب قال ابن عباس فاسمع الله يقول فأنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا

٧١

بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون ، فلا أدرى ما فعلت الفرقة الثالثة ، قال ابن عباس فكم قد رأينا من منكر فلم ننه عنه قال عكرمة فقلت ما ترى جعلنى الله فداك انهم قد انكروا وكرهوا حين قالوا :

« لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً »

( سورة الاعراف الآية ١٤٤ )

فأعجبه قولى ذلك وأمر لى ببردين غليظين فكسانيهما.

٧٢

الامام السلمى وتفسيره

مؤلف هذا التفسير : محمد بن الحسين بن موسى الأزدى أبو عبد الرحمن السلمى جدا ، النيسابورى بلدا. كان شيخ الصوفية ، وعالمهم بخراسان ، ذكره الحافظ عبد الغافر فى السياق فقال :

شيخ الطريقة فى وقته ، الموفق فى جميع علوم الحقائق ، ومعرفة طريق التصوف ، وصاحب التصانيف المشهورة العجيبة فى علم القوم ، وقد ورث التصوف عن أبيه وجده ، وجمع من الكتب ما لم يسبق إلى ترتيبه ، حتى بلغ فهرست تصانيفه المائة أو اكثر.

وكان من المشتغلين بعلم الحديث ، سمع من أبى العباس الأصم ، وابن فارس العمرى البلخى ، والحافظ ابى على الحسين بن محمد النيسابورى وغيرهم من كبار المحدثين ..

وروى كثيرا من مسموعاته ، وممن روى عنه من الأئمة :

الحاكم أبو عبد الله ، وأبو القاسم القشيرى ، وأبو صالح المؤذن ، وكثيرون وقد وثقه فى الحديث علماء اجلاء منهم الخطيب البغدادى والتاج السبكى وغيرهما ، يقول الخطيب :

قدر أبى عبد الرحمن عند أهل بلده جليل ، وكان مع ذلك محمودا صاحب حديث ...

ويقول التاج : أبو عبد الرحمن ثقة ، ولا عبرة بالكلام فيه ..

وقد كان للسلمى بيت كتب جمع فيه من الكتب ما لم يسبق إلى ترتيبه من ذخائر المحدثين والصوفية ، وكان يخلو بهذا البيت ينقطع فيه للقراءة والتأليف.

٧٣

وكان شيوخ نيسابور يستعيرون منه بعض ما يحتاجون إليه من هذه الذخائر ، فيعيرهم إياه ..

وقد ابتدأ أبو عبد الرحمن التصنيف سنة نيف وخمسين وثلاثمائة ، وهذا معناه أن أباه عبد الرحمن ظل يؤلف قريبا من بضعة وخمسين عاما ..

وقد اشتهر أبو عبد الرحمن بأنه نقّال الصوفية ، وراوى كلامهم ، وممن له العناية التامة بتوطئة مذهب المتصوفة وتهذيبه على ما بينه الأوائل.

ولقد كان مدققا فى تعبيره عن مذهب الصوفية ، واختباره لمن سبقه.

بمثل هذا المذهب من الشيخ ، فالإمام الكامل ، الفقيه الأصولي المفسر الأسفرايني الذي اشتهر بالدفاع القوى عن مذهب أهل السنة والرد على البدع وعلى كل ما يخالف مذهب أهل السنة : يقول فى كتابه « التبصير فى الدين » :سادس ما امتاز به أهل السنة هو :

علم « التصوف » والاشارات وما لهم فيها من الدقائق والحقائق ، لم يكن قط لاحد من « أهل البدعة » فيه حظ ، بل كانوا محرومين مما فيه من الراحة والحلاوة ، والسكينة والطمأنينة ، وقد ذكر ابو عبيد الرحمن السلمى من مشايخهم قريبا من ألف ، وجمع اشاراتهم وأحاديثهم. ولم يوجد فى جملتهم قط من ينسب إلى بدع « القدرية » و « الروافض » و « الخوارج ».

وكيف يتصور فيهم من هؤلاء ، وكلامهم يدور على التسليم والتفويض من النفس ، والتوحيد بالخلق والمشيئة.

وأهل البدع ينسبون الفعل والمشيئة ، والخلق والتقدير ، إلى انفسهم وذلك بمعزل عما عليه أهل الحقائق من التسليم والتوحيد.

ولد على المشهور ـ فى رمضان سنة ثلاثين وثلاثمائة ، وقيل : سنة خمس وعشرين وثلاثمائة ..

وكان والده شيخا ، ورعا ، زاهدا ، دام المجاهدة ، له القدم فى علوم

٧٤

المعاملات ، وحينما توفى قام جده لأمه وكان واسع الثراء ـ على رعايته ، فما أن توفى حتى آل إليه من ثروته ما مكنه من التفرغ للكتابة والتأليف ، وكانت تصانيفه مقبولة ، حبيبة إلى الناس ، تباع بأغلى الأثمان.

وفى أخريات أيامه ابتنى للصوفية خانقاه صغيره ، كانت مشهورة فى نيسابور وفى ما جاورها أو بعد عنها من أقاليم مملكة الاسلام ، حتى أن الخطيب البغدادي حين ذهب إلى نيسابور زار هذه الدويرة التي كان يسكنها الصوفية يومئذ ..

أما عن تفسيره فإن له طابعا خاصا هو طابع التفاسير الصوفية الخالصة ، إن كل اتجاهه كان منحصرا فى جمع ما يتيسر من آراء الصوفية حول آيات من القرآن الكريم ، وهو لذلك ليس تفسيرا مفصلا لكل آية من آيات القرآن الكريم ، وليس تحليلا لفظيا أو بيانا لحكم شرعي.

وهو لذلك يمثل فهمّا خاصا لقوم مخصوصين فيما يتصل بتفسير القرآن الكريم ، أو الحديث عن بعض الفهوم المستنبطة منه.

ومثل هذا المنهج فى التأليف قد لا يستسيغه من يقصر الفهم فى القرآن على ظاهر الآيات ، ومن هنا كانت الحملة الشديدة العنيفة على هذا الكتاب ، حتى لقد قال الذهبي ليته لم يصنفه.

وإذا ما تاملنا فى سر هذه الحملة فإننا نجد أن أساسها لا يرجع إلى فساد ما نقله فى نفسه ، وإنما إلى ربطه بالآية كفهم لها أو تعبير عن بعض ما تشير إليه.

قال التاج السبكي : وكتاب حقائق التفسير المشار إليه قد كثر الكلام فيه ، وقيل أنه اقتصر فيه على ذكر تأويلات ومجال الصوفية ينبو عنها ظاهر اللفظ.

ولقد اطلعنا على الكتاب وهو مخطوط لم يطبع بعد ولكن توجد منه نسخ كثيرة ومنها فى مكتبة الأزهر وغيرها فوجدناها لا تخرج عن كلام الصوفية

٧٥

المعتبرين فى فهم الآيات وتنزيلها على إشارات تتعلق بإصلاح السلوك واخلاص العبودية فضلا عما يدور بين الناس من معانيها الظاهرة.

إن ما يقوله الصوفية حول آيات من القرآن الكريم إنما هو الهامات واشراقات بتوفيق الله رائعة ، وهم فى هذا الميدان يسمون الهاماتهم :إشارات ، يعنون بذلك أن الآيات القرآنية لها تفسير بحسب اللغة وأسباب النزول وحوادث التاريخ ، وهو تفسير يتفاوت دقة وجمالا ، ولكنه مع ذلك تفسير لا يستنفد كل ما تعطيه الآيات القرآنية من اشارات ، وما يشع عنها من انوار ، وما يتضوع عنها من عبير طيب ، وينبغى علينا أن نلاحظ أن هذه الاشارات لا تهدف فى قليل ولا فى كثير إلى أن تحل محل التفسير المألوف كما أن هذه الاشارات لا تتعارض مع التفسير المالوف.

انها اشارات وليست تفسيرا ، ومن أجل ذلك فإنه لا تعارض بين الصوفية والمفسرين.

ونستطيع أن نقول : ان نقد الكتاب إنما يتجه لو كان مؤلفه يرى أن ما يقوله هو وحده الذى تفيده الآية. أما إذا اعتقد أن ما ذكره جهد يضاف إلى جهود ، وتسليط للضوء على جانب من الجوانب التى تفيدها الآية ، فإن النقد حينئذ يصبح غير ذى موضوع.

وإليك نماذج من تفسيره لتتمكن من الحكم عليه على بصيرة :

قال تعالى :

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ ) ( سورة الأنفال الآية ٢٧ )

قال أبو عثمان : من خان الله تعالى فى السر هتك ستره فى العلانية ، قال بعضهم : فى هذه الآية خيانة الله تعالى فى الاسرار وحب الرئاسة وإظهار خلاف الاضمار ، وخيانة الرسول عليه‌السلام فى آداب الشريعة ، وترك

٧٦

السنن ، والتهاون بها ، وخيانات الأمانات ، فى المعاملات والأخلاق ، ومعاشرة المؤمنين فى ترك النصيحة لهم.

وقال تعالى :

( يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ ) ( سورة يونس الآية ٥٧ )

قال ابن عطاء : الموعظة للنفوس ، والشفاء للقلوب ، والهدى للأسرار ، والرحمة لمن هذه صفته.

قال جعفر : شفاء لما فى الصدور ، أى راجعة لما فى السرائر ، قيل : شفاء المعرفة ، والصفا ، وقيل شفاء التوبة ، وقيل : شفاء التسليم والرضا ، ولبعضهم شفاء المشاهدة واللقاء.

٧٧
٧٨

متشابه القرآن

للقاضى عبد الجبار بن أحمد الهمدانى

للمعتزلة نزعة معروفة محددة ، إنها النزعة التى تحكم العقل له القياد.وهذا ظاهر فى كل ما يكتبون فى التفسير وفى التوحيد.

ومن أهم الشخصيات التى توضح مذهبهم ـ والتى وجدت تآليفها رواجا وانتشارا : القاضى عبد الجبار.

وقد كان لنشر كتابه : « المغنى » أثر كبير فى التعريف المستفيض بآراء المعتزلة وهو كتاب كبير اجتمع على تحقيق اجزائه الكثيرة طائفة من كبار المحققين فأخرجوه اخراجا متقنا.

ولقد لقى القاضى عناية الكثيرين ممن يهتمون به ، فنشر له كتاب :« الأصول الخمسة » وكتاب : « تنزيه القرآن عن المطاعن ».

ولقد ولد القاضى بخراسان ، ولا نكاد نعرف عن حياته الأولى شيئا ، ولكنه من غير ما شك تعلم على الطريقة التقليدية : الفقه والتفسير والتوحيد والعربية ، وغير ذلك مما كان تقليدا فى زمنه.

لقد خرج إلى البصرة ، واختلف إلى مجالس العلماء.

ولقد نشأ فى أسرة متواضعة ، فنشأ فى تقشف وشظف من العيش ولكن نفسه الطموحة تمردت على ظروفه ، فأبى إلا ان يتابع الطريق العلمى فى غير فتور أو ملل.

وشاءت المقادير أن يتصل بالصاحب بن عباد ، وكان الصاحب بن عباد ذا ميول شيعية وبين الشيعة والمعتزلة شبه كبير ، وخاصة بين المعتزلة والشيعية الزيدية الذين تتلمذ أمامهم زيد على واصل بن عطاء رأس المعتزلة الأول.

٧٩

كان تقدير الصاحب للمعتزلة كبيرا إلى درجة أنه ما كان يولى القضاء إلا من المعتزلة.

كان القاضى عبد الجبار حينئذ صاحب شهرة عريضة ، بل إنه بدأ يحتل مكان الرئاسة للمعتزلة فاستدعاه الصاحب إلى « الرى » واصدر له امرا يتولى رئاسة القضاء فى ( الرى ) ( وقزوين ) وغيرهما ثم ولاه اضافة إلى ذلك جرجان وطبرستان.

وأتته الدنيا راغمة وكثر ماله وخدمه وحشمه ، وما كان ذلك عن انحراف فى طريقه فقد كان مثلا كريما للعدالة والتحرى الدقيق فى الاحكام.

أما تقدير الصاحب وحبه له فقد فاق كان وصف :

لقد وصل به الأمر أن كان يقول عنه : افضل أهل الأرض.

ويقول عنه : أعلم أهل الأرض.

وما من شك أنه كان صاحب خلق فاضل ، وصاحب علم عزيز.

وبيما القاضى فى اوج الشهرة : إذا بالصاحب ينتهى أجله ، ويذهب للقاء ربه.

وهنا بدأت مشكلة فى غاية العمق تختلف فيها الأنظار فى كل زمن ، وقد اختلفت فيها الأنظار اختلافا كبيرا إذا ذاك ، ولعل الكثيرين يتفقون معنا فى انها تحتاج حقيقة إلى تامل.

لقد أحسن الصاحب إلى القاضى كل الإحسان واحبه وقدره وغمره بالمال والمناصب ثم مات الصاحب ودعى القاضى للصلاة عليه وهنا وقف القاضى بين أمرين كلاهما مر أحدهما مبدؤه ـ مبدأ القاضى ـ وهو مبدأ الاعتزال ، وهذا المبدأ يقتضى التوبة الصادقة لأن مرتكب الكبيرة فاسق فإذا لم يتب فلا صلاة عليه ، هل يصلى عليه ويخالف فى ذلك مبدأه ويصغر فى عين نفسه ويصبح بمخالفته مبدأه مهرجا أو مزيفا.

٨٠