مناهج المفسرين

الدكتور منيع عبد الحليم محمود

مناهج المفسرين

المؤلف:

الدكتور منيع عبد الحليم محمود


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب المصري
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٢

وقد طبع تفسيره وتاريخه وشطر من كتاب اختلاف الفقهاء ومختارات من ذيل المذيل ..

وقد استفاض العلماء فى الحديث عن ملامح شخصيته ومعالم حياته فى شتى الجوانب ومختلف الاتجاهات.

وقال الخطيب :

كان ابن جرير أحد الأئمة. يحكم بقوله ، ويرجع إلى رأيه ، لمعرفته وفضله ، جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره ، فكان حافظا لكتاب الله بصيرا بالمعانى فقيها فى أحكام القرآن ، عالما بالسنن وطرقها ، صحيحها وسقيمها. وناسخها ومنسوخها. عارفا بأقوال الصحابة والتابعين ، ومن بعدهم من المخالفين فى الأحكام ، ومسائل الحلال والحرام عارفا بأيام الناس وأخبارهم.

وقال أبو العباس بن سريج :

( محمد بن جرير الطبرى فقيه العالم ) : أما عن تفسيره فقد ظهر فيه :

١ ـ تحرزه قبل تأليفه.

٢ ـ ونشاطه فى إعداده.

٣ ـ وسروره بإتمامه.

لقد ظهر تحرزه فى قوله استخرت لله تعالى فى عمل كتاب التفسير ، وسألته العون على ما نويته ثلاث سنين قبل أن أعمله ، فأعاننى ..

وذكر المؤرخون أنه حدث نفسه بهذا التفسير وهو صبى ، واستخار الله فى عمله ، وسأله العون على ما نواه ثلاث سنين قبل أن يعمله ، فأعانه سبحانه.

ثم لما أراد أن يملى تفسيره قال لأصحابه :

( أتنشطون لتفسير القرآن؟ ) ...

قالوا وكم يكون قدره؟ ..

٤١

فقال : ثلاثون ألف ورقة.

فقالوا : هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه ،

فاختصره لهم فى ثلاثة آلاف ورقة ..

والناظر فى هذا التفسير يلمح ما بذله ابن جرير من جهد كبير فى إتمامه ، لقد اعتنى فيه بجمع الآثار ، وتحقيق الأخبار ، ومدلولات اللغة ، وأحكام الشرع ، وأبدى رأيه مرجحا وموضحا وفاتحا المجال للاجتهاد والاختيار ..

وقد قدم لتفسيره بعد الحمد والثناء والصلاة على خاتم الأنبياء فقال : ثم أما بعد : فإن من جسيم ما خص الله به أمة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الفضيلة ، وشرفهم به على سائر الأمم من المنازل الرفيعة ، وحباهم به من الكرامة السنية ، حفظه ما حفظ عليهم ـ جل ذكره وتقدست أسماؤه ـ من وحيه وتنزيله ، الذى جعله على حقيقة نبوة نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم دلالة ، وعلى ما خصه به من الكرامة علامة واضحة ، وحجة بالغة ، أبانه به من كل كاذب ومفتر ، وفصل به بينهم وبين كل جاحد وملحد وفرق بينهم وبين كل كافر ومشرك ، الذى لو اجتمع جميع من بين أقطارها جنها وإنسها ، وصغيرها وكبيرها ، على أن يأتوا بسورة من مثله لم يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .. فجعله لهم فى دجى الظلم نورا ساطعا ، وفى سدف الشبه شهابا لامعا وفى مضلة المسالك دليلا هاديا وإلى سبل النجاة والحق حاديا ...

( يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ).

( سورة المائدة الآية ٦١ )

حرسه بعين منه لا تنام ، وحاطه بركن منه لا يضام ، لا تهى على الأيام دعائمه ولا تبيد على طول الأزمان معالمه ، ولا يجوز عن قصد المحجة تابعه. ولا يضل عن سبل الهدى مصاحبه ، من اتبعه فاز وهدى ومن حاد عنه ضل وغوى ، فهو موئلهم الذى إليه عند الاختلاف يئلون ومعقلهم الذى

٤٢

إليه فى النوازل يعقلون ، وحصنهم الذى به من وساوس. الشيطان يتحصنون وحكمة ربهم التى إليها يحتكمون ، وفصل قضائه بينهم الذى إليه ينتهون ، وعن الرضا به يصدرون وحبله الذى بالتمسك به من الهلكة يعتصمون ..

ثم تحدث عن بعض مهمات تتعلق بالقرآن بين يدى تفسيره ..

فتحدث عن إتقان معانى اى القرآن ومعانى منطق من نزل بلسانه القرآن من وجه البيان والدلالة على أن ذلك من الله تعالى ذكره هو الحكمة البالغة ، مع الإبانة عن فضل المعنى الذى به باين القرآن سائر الكلام.

ثم فصل القول فى البيان عن الأحرف التى اتفقت فيها ألفاظ العرب وألفاظ غيرها من بعض أجناس الأمم ..

ثم تكلم عن اللغة التى نزل بها القرآن من لغات العرب.

ثم تحدث عن قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنزل القرآن من سبعة أبواب الجنة وذكر الأخبار الواردة بذلك .. ثم فصل القول فى الوجوه التى من قلبها يوصل إلى معرفة تأويل القرآن.

ثم ذكر بعض الأخبار التى رويت بالنهى عن القول فى تأويل القرآن بالرأى.

ثم ذكر الأخبار التى رويت فى الحض على العلم بتفسير القرآن ومن كان يفسره من الصحابة ..

ثم ذكر الأخبار التى غلط فى تأويلها منكرو القول فى تأويل القرآن.

ثم ذكر الأخبار عن بعض السلف فيمن كان من قدماء المفسرين محمودا علمه بالتفسير ومن كان منهم مذموما علمه به فمن المحمودين ابن عباس يقول عبد الله بن مسعود : « نعم ترجمان القرآن ابن عباس ». ومن المحمودين أيضا مجاهد يقول الثورى : « إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسك به » أما الذين لم يكن لهم فى التفسير قدم راسخة فمنهم الكلى وكنت أمر عليه طرفى النهار

٤٣

ولم أكتب عنه ومنهم ابو صالح باذان ، كان الشعبى رضى الله عنه يمر به.فيأخذ بأذنه فيعركها ويقول :

[ تفسر القرآن وأنت لا تقرأ القرآن ].

ثم ذكر القول فى تأويل أسماء القرآن وسوره وآية.

وانتقل بعد ذلك إلى التفسير.

وهو فى تفسيره يبدى رأيه ثم يستشهد عليه بالآثار والأخبار مستعينا فى ذلك بقواعد وأقوال السابقين ..

فعن تأويل قوله تعالى :

( يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ). ( سورة البقرة الآية ٢١ )

قال : فأمر جل ثناؤه الفريقين اللذين أخبر الله عن أحدهما أنه ...

( سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ).

( سورة البقرة الآية ٦ )

لطبعه على قلوبهم وعلى سمعهم.

وعن الآخر أنه يخادع الله والذين آمنوا بما يبدى بلسانه من قبله : آمنا بالله وباليوم الآخر ، مع استبطانه خلاف ذلك ، ومرض قلبه ، وشكه فى حقيقة ما يبدى من ذلك وغيرهم من سائر خلقه المكلفين .. بالاستكانة والخضوع له بالطاعة ، وأفراد الربوبية له والعبادة دون الأوثان والأصنام والآلهة ، لأنه جل ذكره هو خالقهم وخالق من قبلهم من آبائهم وأجدادهم ، وخالق أصنامهم وأوثانهم وآلهتهم فقال لهم جل ذكره : فالذى خلقكم وخلق آباءكم أجدادكم وسائر الخلق غير كم وهو يقدر على ضركم ونفعكم أولى بالطاعة ممن لا يقدر لكم على نفع ولا ضر.

وكان ابن عباس فيما روى لنا عنه يقول فى ذلك نظير ما قلنا فيه ، غير أنه

٤٤

كان يقول فى معنى « اعبدوا ربكم ». : وحدوا ربكم ... وقد دللنا على أن معنى العبادة الخضوع لله بالطاعة والتذلل بالاستكانة ... والذى أراد ابن عباس ـ ان شاء الله ـ بقوله فى تأويل قوله ( اعبدوا ربكم ) وحدوه ، أى أفردوا الطاعة والعبادة لربكم دون سائر خلقه.

حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن أبى محمد عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال الله :

( يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ) للفريقين جميعا من الكفار والمنافقين ، أى وحدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم ..

ثم قال :

وهذه الآية من أدل دليل على فساد قول من زعم أن تكليف ما لا يطاق إلا بمعونة الله غير جائز إلا بعد إعطاء الله المكلف المعونة على ما كلفه ، وذلك أن الله أمر من وصفنا بعبادته والتوبة من كفره بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون ، وانهم عن ضلالتهم لا يرجعون.

وقوله ( لعلكم تتقون ) تأويله : لعلكم تتقون بعبادتكم ربكم الذى خلقكم وطاعتكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه وافراد كم له العبادة لتتقوا ، سخطه وغضبه أن يحل عليكم ، وتكونوا من المتقين الذين رضى عنهم ربهم :

وكان مجاهد يقول فى تأويل قوله : « لعلكم تتقون » تطيعون ..

حدثنا ابن وكيع قال : حدثنى أبى عن سفيان عن ابن أبى نجيح عن مجاهد فى قوله ( لعلكم تتقون ) قال : لعلكم تطيعون ..

قال أبو جعفر : والذى أظن أن مجاهدا أراده. بقوله هذا لعلكم أن تتقوا ربكم بطاعتكم إياه ، وإقلاعكم عن ضلالتكم ....

من هنا استحق كتاب جامع البيان عن تأويل القرآن للطبرى ثناء العلماء ، فقال ابن خزيمة :

٤٥

نظرت فيه من أوله إلى آخره وما أعلم على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير ولقد ظلمته الحنابلة.

وقال أبو حامد الأسفرائني :

لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل له كتاب تفسير ابن جرير لم يكن ذلك كثيرا وقال القفطى :

لم ير أكبر من تفسير الطبرى ولا أكثر فوائد.

وقال السيوطى :

كتاب الطبرى فى التفسير أجل التفاسير وأعظمها فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال وترجيح بعضها على بعض وللإعراب وللاستنباط ، فهو يفوق بذلك تفاسير الأقدمين.

وقال السيوطى :

( جمع فى تفسيره بين الرواية والراى ) ولم يشاركه فى ذلك أحد قبله ولا بعده.

وانتهت به الحياة كما قال ابن كامل عشية الأحد ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلاثمائة ، ودفن فى دار برحبة يعقوب ، ولم يغير شيبه ، وكان السواد فى رأسه ولحيته كثيرا ، وكان أسمر إلى الأدمة أعين ، نحيف الجسم مديد القامة فصيحا ، واجتمع عليه من لا يحصيه إلا الله تعالى ، وصلى على قبره عدة شهور ليلا ونهارا ، ورثاه خلق كثير من أهل الدين والأدب قال ابن دريد :

إن المنية لم تتلف به رجلا

بل أتلفت علما للدين منصوبا

كان الزمان به تصفو مشاربه

و الآن أصبح بالتكدير مقطوبا

كلا وأيامه الغر التى جعلت

للعلم نورا وللتقوى محاريبا

« رحم الله ابن جرير الطبرى ، ونفع بعلمه :

٤٦

معانى القرآن للزجّاج

بدأ القرآن بالبحث عن العلم ، وكانت أول كلمة فى الوحى هى :« اقرأ ».

وأخذ المسلمون يندفعون حول العلم اتباعا لتوجيه القرآن الكريم ، حتى ولو لم يكن عند البعض منهم الجو المهيأ لدراسة العلم.

وهذا واحد هو نموذج لفئة كبيرة من أمثاله ، لم تكن ظروفهم الأولى مواتية للتفرغ للعلم ، ولكنه جاهد وثابر ، وبذل كل ما يستطيع حتى احتل المكانة التى يتمتع بها العلماء من جاه وثراء.

إنه أبو إسحاق الزجاج :

نشأ فى بيئة متواضعة فى القرن الثالث ، الهجرى سنة إحدى وأربعين ومائتين من الهجرة ، ولكنها ذات خلق كريم فاضل ، وهيأته البيئة الأولى إلى أن يعمل فى الزجاج ، ومن هنا كانت نسبته المشهورة « الزجاج » التى يعرف بها بين كبار العلماء والأعلام.

كان يخرط الزجاج ، وقبل ذلك كان قد حصل شيئا من العلم ، فكان يشتغل أثناء فراغه بالتعليم ، ولاحظ فى نفسه ميلا شديدا إلى دراسة النحو فكان يقتصد من قوته ، ويشترى من الوراقين بعض ما يمكنه من إرواء رغبته فى كتب النحو ، يسهر فى دراستها ليله ، ويقرأ فيها أثناء فراغه نهارا.

ولما رأى نفسه معدة للفهم والتلقى عن العالم الكبير أحمد بن يحيى المعروف بثعلب « النحو » على مذهب أهل الكوفة ـ فأخذ الزجاج ينظم وقته بحيث يحضر درس هذا العالم الشهير.

ثم بعد ذلك انتقل إلى عالم كبير هو أبو العباس المبرد صاحب كتاب

٤٧

الكامل الذى صارت شهرته فى الآفاق ـ وثقف الزجاج من ثقافته الواسعة حتى أخذ فى الظهور واتسعت شهرته لعلمه الغزير ولخلقه الكريم ، وأدبه الجم ، وعقيدته السليمة.

وقد استدعاه الوزير عبيد الله سليمان بن وهب ، وتحدث إليه فرأى علما غزيرا ، وأدبا رفيعا ، ونفسا متواضعة فلم يزده علمه إلا تواضعا وأدبا. إنه العلم النافع.

وأخذ الوزير يستدعيه من آن لآخر ، وفى كل مرة يزداد إعجابه حتى إذا ما وثق به تماما وكل إليه تعليم ابنه القاسم ـ فن الأدب العربى.

ومضت السنوات ، وجاء الوقت الذى تولى الوزارة فيه : القاسم بن عبيد الله تلميذ الزجاج الوفى ـ فأغدق على الزجاج ما جعله ينعم بحياة أكثر ترفا ونعيما.

ولم تصرف هذه الحياة الزجاج عن الاستمرار فى طلب العلم ، بل ربما مكنته من الإزدياد فى طلبه ، وكان شعاره هو الشعار الإسلامى :

( رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ). ( سورة طه الآية ١١٤ )

وأخذت ـ لذلك ـ شهرته تنتشر وتذيع ، حتى طلبه الخليفة العباسى المكتفى بالله وانخرط الزجاج فى مجلس المكتفى بالله ، ورأى المكتفى منه ما رآه الوزير من علم غزير وأدب كريم فجعله نديما من ندمائه.

وأقبلت على الزجاج الدنيا من أوسع أبوابها ، ولكن ذلك لم يصرف الزجاج عن وجهته ، وإنما كان يجلس مدرسا ، والتف حوله العلماء يسمعون ويستفيدون ، وتتلمذ له كبار العلماء.

وكان من تلاميذه : أبو على الفارسى ، صاحب الشهرة الكبيرة فى اللغة والأدب ، وتتلمذ عليه الكثيرون الذين كان لهم الأثر البالغ فى النحو واللغة.

ومن أنفس ما ألفه الزجاج هو كتابه فى تفسير القرآن :

لقد كتبه فى فترة بلغ فيها قمة النضج الفكرى من حياته ، واستغرق هذا التفسير حوالى ست سنوات وتفسيره هذا يمتاز بأمرين :

٤٨

أحدهما : أنه تفسير بالمأثور ، وذلك أن الزجاج يذكر الآية ، ثم يروى فيها ما أثر عن أسلافنا رضوان الله عليهم ، ولكنه لا يذكر ما روى فيها دون اختيار وانتقاء ، وإنما يختار الأحسن والأوفق الذى يتفق مع ما يراه يتمشى مع الأسلوب العربى السليم ومع الجو الإسلامى العام ، فتفسيره بالمأثور لم يكن مجرد جمع عن السابقين ، وإنما كان إيرادا على روية وتدبير وتفكير.

أما الأمر الثانى الذى برع فيه الزجاج فهو : التخريج النحوى للآيات الكريمة التى تحتاج إلى إيضاح نحوى ، ومن هنا كان الزجاج يروى رغبته فى استمتاع بادائها ..

والكتاب يطبع الآن لاول مرة فى طبعة محققة تحقيقا متقنا ، وذلك ما يقوم به الدكتور عبد الجليل شلبى من علماء الأزهر ، وقد أخرج منه جزءين كبيرين ، وسيخرج الباقى تباعا إن شاء الله وكان لهذا التفسير أثره الكبير فيمن أتى من المفسرين من بعد :

لقد تأثر به مثلا صاحب كتاب « الكشاف » « الذى كان معنيا بالنحو والبلاغة.

وكما ناقش الزجاج من كتبوا قبله من معانى القرآن ، أو كتبوا فى مجازه وبلاغته ، فإن تلميذ الزجاج الامام : أبو على الفارسى قد أخذ نفسه ـ مع إعجابه باستاذه ـ يتتبع كل ما أرى أن استاذه أخطأ فيه ، سواء كان الخطأ صريحا أو خلاف الأرجح.

ثم أخذ يعرضها مسألة مسألة ، ثم يعرض رأيه هو فيها محللا وناقدا لها.

وقد سمى كتابه اسما له مغزاه ، لقد سماه : « الاغفال » وكان مؤدبا فى التسمية مراعاة إلى استاذه ، أنه يريد أن يقول :

إن ما لاحظه مجرد إغفال من استاذه ، وقال فى أوائل هذا الكتاب « الاغفال » هذه الكلمات المهذبة :

هذه مسائل من كتاب أبى إسحاق فى اعراب القرآن ذكرناها لما اقتضت

٤٩

عندنا من الايضاح عنها للإغفال الواقع فيها ... ، ونحن ننقل كلامه فى كل مسألة من هذه المسائل بلفظه وعلى جملته عن النسخة التى سمعناها منه فيها ثم نتبعه بما عندنا ... »

ومع هذا الأسلوب المهذب قد يتساءل إنسان فيقول :

ما دام أبو على الفارسى سمع التفسير من الزجاج فلم لم يناقشه اثناء الشرح والسماع؟ والجواب عن ذلك :

قد تكون هيبة الزجاج هى التى منعته من ذلك ولكن الأقرب فى الإجابة أن الفارسى لم يكن إذ ذاك قد وصل فى النضج العلمى إلى الدرجة التى تمكنه من الملاحظات على استاذه فلما نضج بمرور الزمن رأى من الوفاء عليه لاستاذه أن ينبه على « الاغفال » وها هى نماذج من تفسيره : لقوله عزوجل :

( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ ) ( سورة البقرة الآية رقم ٢٦٩ )

معنى « يؤتى » يعطى ، والحكمة فيها قولان : قال بعضهم هى النبوة ، ويروى عن ابن مسعود أن الحكمة هى القرآن ، وكفى بالقرآن حكمه ، لان الأمة به صارت علماء جيلا بعد جيل ، وهو وصلة إلى كل علم يقرب من الله عزوجل ، وذريعة إلى رحمته ، ولذلك قال الله تعالى :

( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً )

( سورة البقرة الآية رقم ٢٦٩ )

ومعنى

( وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ )

أي ما يفكر فكرا يذكر به ما قص من آيات القرآن إلا أولوا الألباب ، أى ذووا العقول.

٥٠

وقوله عزوجل : ( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ )

هذا من نعت أولى الألباب ، أى فهؤلاء يستدلون على توحيد الله ـ عزوجل ـ بخلقه السموات والأرض وأنهم يذكرون الله فى جميع أحوالهم « قياما وفعودا وعلى جنوبهم ».

معناه ومضطجعين ، وصلح فى اللغة أن يعطف بعلى على « قياما وقعودا » لان معناه ينبئ عن حال من أحوال تصرف الإنسان ، تقول :

أنا أسير إلى زيد ماشيا وعلى الخيل. المعنى ماشيا وراكبا فهؤلاء المستدلون على حقيقة توحيد الله يذكرون الله فى سائر هذه الأحوال.

وقد قال بعضهم : ( يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ ) ( سورة آل عمران الآية ١٩١ ). أى يصلون على جميع هذه الأحوال على قدر امكانهم فى صحتهم وسقمهم.

وحقيقته عندى ـ والله أعلم ـ انهم موحدون الله فى كل حال.

٥١
٥٢

تحصيل نظائر القرآن

للحكيم الترمذى

إننا نعجل فنورد فى مطلع الحديث عن الحكيم الترمذى قوله :

( ما صنفت حرفا عن تدبير ، ولا لينسب إلى شىء من المؤلفات ، ولكن كان إذا اشتد على وقتى اتسلى به .. ).

لقد تثقف فى اللغة والدين والحكمة كأحسن ما يكون التثقيف ، والتزم العبودية لله سبحانه وتعالى أخلص ما تكون العبودية ، لما توفر له العاملان الأساسيان لكل مرب ومصلح : الثقافة وتزكية النفس ، وأخذ يجاهد فى سبيل الله ، داعيا العبيد الآبقين إلى الدخول من جديد فى ساحة الرضوان ، ليتكفل الله بهم ، وليرعاهم ، وليسعدوا فى دنياهم وفى آخرتهم :

وفاضت عنه الحكمة جذابة وضاءة زكية ، فاضت عنه حديثا ، وفاضت عنه سلوكا وفاضت عنه كتابة وبحثا وتأليفا فى مختلف الميادين الدينية ، يقول عنه الإمام الشعرانى : وهو من كبار مشايخ خراسان ، وله التصانيف المشهورة وكتب الحديث ..

ثم يروى الإمام الشعرانى بعض أقواله : نذكر منها قوله : دعا الله الموحدين للصلوات الخمس رحمة منه عليهم ، وهيأ لهم فيها ألوان الضيافات لينال العبد من كل قول وفعل شيئا من عطاياه سبحانه وتعالى ، فالأفعال كالأطعمة والأقوال كالأشربة ، وهم عرش الوحدانية.

وكان رضى الله عنه يقول :

( صلاح الصبيان فى المكتب ، وصلاح قطاع الطريق فى السجن ، وصلاح النساء فى البيوت ).

أما الإمام القشيرى فإنه يقول عنه :

٥٣

( من كبار الشيوخ ، وله تصانيف فى علوم القوم ).

الواقع أنه لم يكن له التصانيف فى علوم القوم ( والقوم هنا هم الصوفية ) فحسب ، وإنما كانت له كتب كثيرة فى كثير من الفنون المختلفة.

ومنذ زمن بعيد والناس ـ كبارا وصغارا ـ متأثرون به نقدا أو إعجابا.

ومن الكتب التى كان يدرسها الإمام ابو الحسن الشاذلى والإمام أبو العباس المرسى كتاب : « ختم الأولياء ».

وكتاب ختم الأولياء للحكيم الترمذى ، كتاب أقام الجو الثقافى وأقعده حين صدوره وكان سببا فى صعوبات كثيرة اعترضت المؤلف بسبب الآراء التى احتوى عليها.

وهو كتاب أثار اهتمام الإمام الأكبر محيى الدين بن عربى اثارة كبرى.فافرد له كتابا خاصا ثم افرد له صفحات من كتاب الفتوحات وحاول ان يجيب على ما ورد فيه من اسئلة ووضع نفسه بهذا موضع ، الاختبار وهو من هو فلسفة وحكمة وعلما وتصوفا ، ووضع نفسه بهذا موضع التحدى وكانه يقول :

ها أنا ذا أجيب على الاسئلة متحديا فيما يتعلق بصحة الإجابة.

لقد كان الشاذلى يلقى دروسا فى شرح هذا الكتاب ولقد بلغ من روعة هذه الدروس ان كان ابو العباس المرسى يحرص كل الحرص على حضورها لما كان لها فى نظره من الأهمية وحينما يكون على سفر فى شأن من شئون الدعوة ، فإنه يلتمس كل وسيلة تمكنه من حضورها.

ولقد كان كتاب ختم الأولياء مفقودا إلى عهد قريب ، ثم عثر الأستاذ عثمان يحيى عليه فطبعه فى بيروت طبعة محققة مع دراسة عن الترمذى.

ويقول ابن عطاء الله السكندرى ـ رضى الله عنه ـ عن أبى العباس المرسى :

( وكان هو والشيخ أبو الحسن كل مهما يعظم الإمام الربانى محمد ابن على الترمذى ، وكان لكلامه عندهما الخطوة التامة .. وكانا يقولان أنه أحد الأوتاد الأربعة ).

٥٤

ومن كتبه التى أثارت ضجة كبرى أيضا كتاب : ( علل العبودية .. أو علل الشريعة ).

ومن الناس من يقول : ان الأحكام لا تعلل ، وإن الله سبحانه يذكر الأحكام معللا لها أحيانا ، فنعرف علتها نصا ، ويترك سبحانه فى الأغلب الأعم التعليل ، فنأخذ بالأحكام ولا نتساءل عن التعليل ، والعبودية التزام ما أتى به الوحى : التزامه دون فتور أو تباطؤ ، أو تردد ودون محاولات للتعليل.

فلما أخرج الإمام الحكيم هذا الكتاب ثار عليه هؤلاء ورموه بالانحراف.

وألقى الحكيم بنفسه فى معركة الفكر السائدة فكتب من الكتب فى ذلك :

١ ـ الرد على الرافضة ، فأثار الرافضة ضده ـ ( الرافضة هم الشيعة )

٢ ـ الرد على المعطلة ، والمعطلة هم المعتزلة ، فأثار المعتزلة ضده.

وكتب كتبا كثيرة متعددة ، أثارت جدلا ونقاشا ، وثورة فكرية فى المجتمع الإسلامي ، ومن الكتب التي لها صلة بكتابنا الذي نقدمه الآن كتاب : ( الفروق ومنع الترادف ).

وفكرة الكتاب تقوم على أن الترادف غير موجود فى اللغة العربية ، فليس هناك لفظتان بمعنى واحد ، وهذا رأى يخالفه فيه كثيرون ، وليس هو الرأى العادى ، ولم يبال الترمذى بما يشيع عنه الناس ، وإنما كتب فى ذلك مبرهنا ، ممثلا ، فاثار بذلك أيضا جدلا فى الأوساط اللغوية.

والكتاب الذى نقدمه هو تفسير للقرآن فى زاوية خاصة جدا هى زاوية بيان أن القرآن خال من المترادفات ، وان كل كلمة فيه لها أصلها اللغوى الذى يختلف عن الأصل اللغوى للكلمات التى تشابهها.

وطريقته : إن يأتى بالأصل اللغوى للكلمة ثم يورد ما يمكن أن يكون فى تيارها من كلمات قريبة المعنى منها ، مبينا الفرق ولو كان يسيرا.

ولقد أتى من أجل ذلك بمجموعة من المصطلحات القرآنية ، وأخذ فى تفسيرها وبيان أصلها وما تختلف به عما يشابهها من الكلمات وحديثنا النظرى

٥٥

هذا عن الكتاب يوضحه الأمثلة التى نوردها وهاك نموذجا من تفسيره يقول :

١ ـ المال : وإنما صار الخير فى هذا المكان « المال » لأنه خير الدنيا ونعيمها ، فالاختيار واقع عليه ولذلك سمى ( خيرا ).

٢ ـ الايمان والإسلام : وانما سمى الخير « الإسلام والايمان » فى مكان آخر : لأنه مختاره للآخرة.

٣ ـ الوفاء والإمامة : إنما صار الخير : الوفاء والإمامة فى مكان آخر.فذاك لاختيار الله اياه.

٤ ـ السعة والغنى : وإنما صار الخير « السعة والغنى » فى مكان آخر فذاك مختاره للدنيا.

٥ ـ السرور : وإنما صار الخير « السرور » فى مكان آخر : لأنه مختاره على الأشياء. أ. ه. ونموذج آخر من تفسيره : يقول :

« الهدى » فقد جاءت على ثمانية عشر وجها. فالحاصل من هذه الكلمة : كلمة واحدة فقط ، وذلك ان الهدى : هو الميل ، ويقال فى اللغة :رأيت فلانا يتهادى فى مشيته ، أى يتمايل. ومنه قوله تعالى :

( إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ ) ( سورة الاعراف الآية رقم ١٥٦ )

أى ملنا اليك ، ومنه سميت الهدية : هدية : لأنها تميل بالقلب الى مهديها. وأن القلب امير على الجوارح ، فاذا هداه الله لنوره ، أى اماله إليه لنوره : اهتدى ، أى : استمال ، وقد قال فى تنزيله.

( يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ ) ( سورة النور الآية ٣٥ )

فهذا أصل الكلمة ، ثم وجدنا تفسير الهدى :

١ ـ البيان : فانما صار الهدى بيانا فى ذلك المكان ، لأن البيان اذا أوضح على القلب بنور العلم : مد ذلك النور القلب إلى ذلك الشيء وأماله إليه.

٢ ـ الاسلام : وانما صار الهدى فى المكان الآخر ( الإسلام ) لأنه اذا

٥٦

مال القلب بذلك النور الى ذلك الشيء الذى تبين له : انقاد العبد وأسلم ومد عنفا إلى قبوله.

٣ ـ التوحيد : وانما صار الهدى التوحيد فى المكان الآخر ، لأنه إذا مال القلب إلى ذلك النور سكن عن التردد ، واطمأن إلى ربه فوحد.

٤ ـ الدين : وانما صار الهدى « الدين » فى مكان آخر ، لأنه إذا مال القلب إلى ذلك النور : دان الله ، أى : خضع ، والدين : هو الخضوع ، ومنه قيل للشيء المتضع : « دون ».

٥ ـ الدعاء : وإنما صار الهدى فى مكان آخر « الدعاء » لأنه إذا دعا إلى الله بقلب مستنير : مالت القلوب إلى ذلك النور ، لأن على ذلك الكلام نورا ، لأنه خرج من قلب مستنير.

٦ ـ بصيرة : وإنما صار الهدى « بصيرة » فى مكان آخر ، لأنه إذا دعا الداعى بقلب ذى نور : ولج الكلام مع النور فى الاسماع فاستنارت الصدور من المستمعين ، فابصرت عيون نفوسهم ، وهى بصائرها ، فتلك بصيرة النفس ، فان للفؤاد بصرا ، وللنفس بصيرة كلاهما بصيران فى الصدر ، لأن الصدر : ساحة القلب ، وساحة النفس ، وقد اشتركا فى هذه الساحة ، ومنه تصدر الأمور ، ولذلك سمى صدرا لأنه مصدر الأمور ، والأعمال منه تصعد إلى الاركان : ما دبر القلب ، وما دبرت النفس ، اتفقا ، أو اختلفا فتنازعا.فالاركان لأيهما غلب بجنوده ، فإذا كانت النفس ذات بصيرة : بايعت القلب فى الحق والصواب الذى هو كائن من القلب ، لأن فى القلب المعرفة :والعقل معها ، والحفظ معها ، والفهم معها ، والعلم معها ، فهؤلاء كلهم حزب واحد ، فاذا كانت النفس ذات بصيرة : تابعت القلب وجنوده ، واذا عميت : فانما تعمى لغلبة الشهوات ... ودخان الهدى ، نازعت القلب بجنودها ، فغالب ومغلوب ، وذلك قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

حدثنا بذلك عمر بن أبى عمر العبدى ، قال حدثنا محمد بن الوعيى ، قال حدثنى يعلى بن الاشدق الطائفي ، قال سمعت عمى عبد الله بن جراد

٥٧

يقول :

سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : ( ليس الأعمى من يعمى بصره ، انما الأعمى من تعمى بصيرته ).

ومن قوله تعالى : ( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) ( سورة القيامة الآية ١٤ ) فكل آدمى على بصيرة ، فما دام لا تغلب على بصيرته الشهوات فهو مستقيم ، فاذا غلبت الشهوات عليها عميت ، فاذا عميت استمرت لشدتها وتجلب على القلب شدتها حتى يتابعها القلب ، فاذا تابعها عمى القلب ، قال الله تبارك اسمه :

( فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ ) ( سورة الحج الآية ٤٦ ).

٧ ـ المعرفة : وانما صار الهدى المعرفة فى مكان آخر ، لأنه إذا استنار الصدر : انشرح وانفسح ، فعرف القلب ما يأتى وما يذر ، فى ذلك الضوء.

٨ ـ القرآن : وانما صار الهدى « القرآن ».

٩ ـ والرسول : فى مكان آخر ، لأن القلب اذا عقل ما فى القرآن مال إلى ما فيه من الأمر والنهى والوعظ.

١٠ ـ الرشد : وانما صار الهدى « الرشد ».

١١ ـ والصواب : فى مكان آخر ، لأنه إذا مال القلب إلى ذلك النور فقد رشد.

١٢ ـ التقوى : وانما صار الهدى « التقوى » لأنه اذا مال القلب إلى ذلك النور فقلبه صار فى الوقاية ، والتقوى هى الوقاية من النار.

١٣ ـ التوفيق : وانما الهدى « التوفيق » لأنه اذا مال القلب إلى ذلك النور وفقه الله للصواب.

١٤ ـ التوبة : وانما صار الهدى « التوبة » لأنه اذا مال القلب إلى ذلك النور. تاب ، والتوبة هى الرجوع إلى الله.

٥٨

١٥ ـ الممر : وانما صار الهدى « الممر » لأنه الممر طريق العباد إلى الله ، فاذا مال القلب إلى ذلك النور ، فقد أصاب الممر.

فمرجع هذه الأشياء التى حيرت وجوها ذات شعب : الى كلمة واحدة ..لأن الهدى : هو ميل القلب إلى الله بذلك النور الذى أشرق به الصدر فانشرح وانفسح وهو قوله تعالى : ( أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه ).

هذه الأصالة الفكرية وهذه السعة فى المعارف ، وهذه الجرأة فى اعلان ما يرى أنه الحق هى التى اطلقت على أبى عبد الله الترمذى : الحكيم ، وهذا الوصف يميزه عن الامام الترمذى المحدث الكبير ، ولكنها هى نفسها التى عرضته لفتنة أثارها اعداؤه وحاسدوه.

ان الله سبحانه وتعالى يقول : ( وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا ) ( سورة الأنعام الآية ١١٢ ).

ولم يكن للترمذى عدو واحد ، وانما كان له أعداء من الرافضة ومن المعطلة ومن المحدثين ومن الفقهاء وقد اثر هؤلاء على العامة ، فكان له أعداء من العامة أيضا والناس على دين ملوكهم ، أما الناس هنا فهم العامة ، وأما ملوكهم فهم أصحاب الأقلام والألسنة.

ولكن العجب العجاب أنه أيضا تعرض للاضطهاد من الصوفية أنفسهم.

ولكن الحق الذي تقوله : أنه لم يخل من المسئولية فى ذلك فإنه هاجم دون رفق أو هوادة أو مجاملة كل انحراف :

انظر إليه يقول عن الصوفية :

تمل للمفتونين ( بعض الصوفية ) يقول لكم محمد بن على ( هو الحكيم نفسه ) حرام على قلوبكم الوصول إلى منار القرية حتى تؤدوا الفرائض على

٥٩

ما وصفت ، ثم حرام على قلوبكم بعد ذلك درجات الوسائل ، حتى تميتوا مشيئاتكم ، ثم حرام على قلوبكم بعد ذلك الدرجة العظمى فى ملك الملوك بين يديه حتى تنقطع عن قلوبكم مشيئة الوصول إليه.

وتالب عليه جميع اعدائه فاخذوا يتهمونه ( وهو الصوفى العالم الحكيم ) بهم لا تخطر له على بال ، حتى رموه فى النهاية بالزندقة.

وأخذ الحكيم الترمذى الى الوالى وتحدث اليه الوالى فوجد عقلا وحكمة.ولكنه من جانب آخر وجد هياجا شديدا ضد الحكيم ، ما ذا يصنع؟

انه أخذ على الحكيم تعهدا أن لا يتحدث فى الحب وكان الحديث فى الحب من التهم التى اتهموه بها ، ولم تسكن الفتنة ، فاخرج الحكيم من ترمذ فسافر الى بلخ فكرمه أهلها وقدروه واعتزوا به.

وهدأت الفتنة فى ترمذ وعاقب الله تعالى كل من أساء اليه فعاد الى ترمذ معززا مكرما ومات بها سنة ٣٢٠ ه‍ ـ على ارجح الاقوال.

٦٠