مناهج المفسرين

الدكتور منيع عبد الحليم محمود

مناهج المفسرين

المؤلف:

الدكتور منيع عبد الحليم محمود


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب المصري
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٢

ضياء الاكوان للشيخ احمد سعد العقاد

حينما تحدث علماء التفسير عن شروط المفسر فإنهم رأوا أن من بينها :أن يكون المفسر تقيا. وما من شك أن التقوى من مصادر الالهام والفهم الصافى ، حينما تتوافر الشروط الاخرى فى المفسر ، وقد نشأ مؤلفنا فى بيئة دينية صالحة تقية. فقد كان من سلالة علماء صالحين اتقياء.

ولد بمدينة الفيوم عام ١٣٠٧ ه‍ وتوفى عام ١٣٧٣ ه‍.

وبعد أن درس فى بلدته القرآن حفظا وتجويدا وأخذ حظا من علوم العربية ، أخذ أهبته إلى مركز النور والمعرفة : الأزهر ـ الذي كان محط أنظار الطامعين المؤمنين واجتهد فى الدراسة فكان مرموقا لجده وذكائه.

وأرادت العناية الالهية به أن يلتقى بالعارف بالله السيد محمد ماضى أبو العزائم فوجهه نحو الاستقامة التي نشأ فى رحابها مؤلفنا وأصبحت الاستقامة بالنسبة له فطرة وتعليما ، سلوكا ودراسة ، ونشأ مؤلفنا اذن نشأة الشاب الذى لا صبوة له.

ولما انتهت الدراسة بالأزهر عينته وزارة الأوقاف أماما وخطيبا فى مسجد من كبار المساجد فاشتغل فيه بالتدريس للعامة وشرح كتاب الله وتعليم الفقه وغير ذلك من العلوم ، وكان يقيد ما يدرس فخرج من ذلك بمجموعة كبيرة من الكتب فى العلوم الإسلامية.

منها ما طبع ، ومنها ما زال مخطوطا ، لم يطبع :

١ ـ الدين النصيحة.

٢ ـ كنوز العارفين فى ميراث الأنبياء والمرسلين.

٣ ـ كتاب الهجرة النبوية.

٣٦١

٤ ـ كتاب مواهب الإنسان.

٥ ـ الأنوار القدسية فى شرح أسماء الله الحسنى.

٦ ـ السعادة فى الدخول من باب التوبة.

ومن كتبه التى ما زالت مخطوطة :

١ ـ الفقه على المذاهب الأربعة.

٢ ـ ريحان العارفين فى حكمة أحكام الدين.

٣ ـ الشرف الأعلى فى اسراء من « دنا فتدلى ».

٤ ـ الإنسان الكامل.

٥ ـ مقامات أهل اليقين.

وأجل كتبه هو ما تقدمه اليوم : « ضياء الأكوان فى تفسير القرآن ».

يقول فى مقدمته :

« فقد عزمت بحول الله تعالى وقوته على كتابة تفسير للقرآن الكريم يكون سهل العبارة ريق الإشارة يجمع بين جمال تفسيره وأسرار تأويله ، متحريا فى ذلك الصحيح من الأقوال مجتنبا الحشو والتطويل.

وان الكثير من التفاسير فيه أقوال ضعيفة وتواريخ مكذوبة ، وآراء متعارضة ، وسأتحرى بمشيئة الله ما يوافق الشرع ويتمشى مع العقل.

وقد وضع المؤلف لكتابه مقدمة : « تكشف لقارئها بعض أسرار القرآن ».

ومن هذه المقدمة يقول تحت عنوان : « الآيات القرآنية » :

كل آية فى القرآن بمنزلة دواء مستقل أو كنز للسعادة ، منها آيات يخاطب الله بها العقول على قدرها بقوله :

( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) ( الروم : ٢٤ )

والعقل هو الذى يتقبل الآيات بالموازين والقوانين ويحكم على الأشياء بقدر ما وهب له من الاستعداد النورانى ، ويخاطب الله الألباب بقوله :( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ ).

٣٦٢

واللب هنا هو الروح التى بها حياة القلب التى بها الاستعداد للتلقى عن الله ، ومنها آيات يخاطب الله بها الفكر فى قوله تعالى :

( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) ( الروم : ٢١ )

والفكر قوة تتجول فى الآثار وترجع بالمعلومات وتعرضها على العقل فيثبت منها ما شاء فهو وزير العقل.

ومن الآيات ما يخاطب الله به القوة الذاكرة ، وهى المعبر عنها بالحافظة فى قوله : إنّ فى ذلك لآيات لقوم يتذكّرون.

والذاكرة قوة تبحث عن معلوماتها الأولية التى اشتغلت عنها بالمظاهر الحسية ، فبالتذكر يصل العبد إلى ذكر العهود الأولية ، وذكر النعم الالهية الظاهرة والباطنة.

ولم ترد آية فى القرآن تقول : إن فى ذلك لآيات لقوم يتخيلون أو لقوم يتوهمون فما أوقع الناس فى التيه والغرور الا شيطان الوهم وزخارف الخيال والقرآن يتكلم فى صميم الحقائق والرجل من تباعد عن الخيالات والأوهام وتمسك بالحقائق الناصعة.

ومن الآيات ما يخاطب بها أهل العلم والعرفان بقوله :

( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ ) ( الروم : ٢٢ )

ويخاطب أهل الإيمان بقوله :

( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) ( الروم : ٣٧ )

والإيمان قوة فى القلب تفتح له عيونا يشرف بها على معانى الهيبة الالهية والجلال فيؤمن بالغيب ويرى أن كل السمعيات التى وردت عن الشارع الحكيم كأنها مشهودة أمامه ويخاطب الله أهل السمع بقوله :

( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ) ( الروم : ٢٣ )

٣٦٣

والسمع الحقيقى اذن واعية فى القلب صاغية لنداء الرب ، والاذن الحسية بمنزلة السماعة التى توصل للقلب الخطاب.

ومن الآيات ما يخاطب الله بها أهل الكشف النورانى والذوق الروحانى بقوله : ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) ( الحجر : ٧٥ )

والمتوسم هو الذى يعرف العوالم بسيماهم ويكشف ما وراء استار المادة بالنور الالهى فى ضميره.

ومن لآيات ما يخاطب الله بها أهل اليقين بقوله :

إنّ فى ذلك لآيات لقوم يوقنون.

واليقين قوة الهية تكسب العبد رسوخا وثباتا وتكشف عنه الحجب.

ويخاطب الله المحسنين : والإحسان قوة فى القلب تجعل العبد يحسن ألفاظه وأعماله ونيته ، ويلاحظ أن الله معه بسمعه ويراه. قال تعالى :

( إِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) ( آخر أية فى سورة العنكبوت )

ويخاطب الله أولى الأبصار بقوله :

( إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ ).

والبصر ما يدرك ظواهر الكون ويوصلها الى حدقة عين القلب ، والبصيرة ما تدرك الأمور الخافية ولا يكمل العبد إلا إذا كان يتدبر فى الآيات الظاهرة ويتجول في الآيات الباطنة.

فإذا قال الله ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) فإنه يقول :يا أهل العقول اننى أتحدث معكم الآن فتدبروا واعتبروا ، وإذا قال :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) ( الروم : ٣٧ )

كأنه يقول : يا أهل الإيمان سلموا تسعدوا ، وإذا قال لقوم يتفكرون قال : يا أهل التفكير تجولوا فى الآثار فتغنموا ، فانزل كل آية فى رتبتها الخاصة وتناول دواءها الخاص حتى تعرف الأدوية الروحية القرآنية « والله أعلم » ا. ه.

٣٦٤

والآن نأتى بنموذج من تفسيره :

قوله : ( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) ( البقرة : ٤٥ )

أراد الحق تعالى أن يصف دواء نافعا للامراض القلبية فبين دواء مركبا من عنصرين :

الأول : الصبر ، وهو حبس النفس عن شهواتها طلبا للثواب من الله تعالى ، والصبر أساس كل فضيلة ، وما وصل إنسان إلى المعالى الاعلى معراج الصبر ، والصبر أقسام :

ـ صبر على طاعة الله وجهاد النفس ، وصبر عن معصية الله ومحارمه.

ـ وهناك صبر مذموم وهو الصبر عن حبيبك وهو الله تعالى فتنساه وتتسلى بغيره ...

ومتى تعود العبد الصبر وتخلق به صار صبورا والصابر يعطى أجره بغير حساب. قال تعالى : ( إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ ).

والصوم من الصبر لأنه يمنع النفس عن شهواتها.

قوله : « والصلاة » هى الخضوع والخشوع لله بالقلب والجوارح ، ومتى تمكن العبد من الصبر فى طوايا نفسه والخشوع فى ضميره وجوارحه فقد استعان على تزكية نفسه وتطهيرها واقبالها على الله ، وكأن النفس وحظوظها كجيش محارب والسلاح الذى يقهرها هو الاستعانة التى وصى بها الله بالصبر والصلاة.

قوله : ( وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ ) يعنى الصلاة كبيرة يعنى ثقلية على النفوس.

قوله : ( إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ ) يعنى الاستعانة بالصلاة سهلة لذيذة على أهل الخشوع وهم الذين عرفوا الله وطلبوا رضاه واعتقدوا أن الدنيا دار سفر فصبروا على مشاقها وأن الصلاة قرة أعينهم لأنها تدخلهم فى حضرة مولاهم وتؤنسهم بجنابه ، أ. ه وتنبهت القلوب وكأنها قالت : يا رب بين أهل الخشوع لنعرفهم. فقال تعالى :

٣٦٥

( الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ ) ( البقرة : ٤٦ )

يعنى يوقنون ويعلمون علم يقين أنهم سيلقون الرب تعالى ومعنى لقاءه تعالى ـ هو كشف الستائر الحاجبة للعبد عن الله فيراه قريبا مجيبا محيطا ، العارفون بالله يكرمهم الله بلقائه هنا ، فتشهد عيون أرواحهم أنوار وجهه الجميل ، وأسرار تجلياته فيأنسون به فى كل مشهد ومظهر ، وإنما عبر هنا بيظنون ولم يقل يوقنون رحمة بعباده فإنهم يشهدون من تجلياته على قدرهم ، والحقيقة فى غيب الغيب والحق تعالى يقول فى الحديث القدسى :

« أنا عند حسن ظن عبدى بى » فالظن منك فى شهود الأنوار يقين عند الله واليقين هو كشف الأمر على ما هو عليه وهو لا يتمكن منه أى مخلوق عند مواجهة الحقيقة ولقاء الله الحق عند الخاصة يكون كرامة لهم هنا بعيون الروح لا بعيون الرأس ، وفى الآخرة يكون بالعينين.

قال تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ).

( القيامة : ٢٢ ، ٢٣ )

قوله : ( وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ ) يعنى بالموت ومفارقة الحياة :

ينسلخون من الغواشى والهيكل وتتخلص أرواحهم من الظلمات وترجع إلى أصلها ، وهو النور فيتجلى لها النور جل جلاله ، أ. هـ.

ونموذج آخر :

( وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ ) ( البقرة : ١٢٤ )

سبق فى علمه تعالى أن يبتلى العباد ، والابتلاء هو الاختيار والامتحان الذى يكشف مكنون النفوس ويوضح غوامض الضمائر ولم يكن الامتحان لتجديد علم بل الحق تعالى يعلم ضمائر الخلق ، ويرى الملبى والمخالف ولكن قدر ذلك لتظهر تلك الحقائق مشهودة للخلق فتكون شرفا للمطيع وحجة وسندا للمؤمن وتكون بلية على العاصى وإظهارا للكامن فى نفسه من الخبث والقساوة

٣٦٦

والجحود والامتحان قدره الله على الملائكة فى خلق آدم وعلى ابليس فى السجود لآدم وعلى الأنبياء فى تحمل البلايا ، وعلى الأولياء فى القيام بالجهاد الشديد للنفس والدنيا وقدره على بنى الإنسان أجمع ليقف كل إنسان عند حده فلا يدعى الولاية الشديدة مخالف ولا يدعى التقوى عاص ، حكمة بالغة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « أشدكم بلاء الأنبياء ، ثم الأولياء ، ثم الأمثل ، فالامثل » والذى يثبت فى الامتحان وينال شهادة من الله بها رفعة شأنه وعلو قدره واحترامه فى الدنيا والآخرة والكلمات هى الأوامر الالهية التى كلف الله بها خليله وقدرها عليه فصبر وثبت ورضى ، فمن ذلك : ابتلاه بالرمى فى النار ، ومن ذلك ابتلاه بأخذ السيدة هاجر وابنها إسماعيل والتوجه بهما إلى أرض الحجاز بجوار الكعبة حيث لا ماء ولا ظل ولا أنيس ، فثبت وسلم ولده وزوجته لله تعالى فهو أرحم من إبراهيم بولده وزوجته ، ومن ذلك ابتلاه بذبح ولده إسماعيل وكلفه ببناء البيت والقيام بإرشاد الحق له بأعمال الفطرة الحنيفة فنفذ الخليل كل ذلك ، فشهد له الحق بقوله ( فاتمهن ) يعنى قام بالواجب بصدر رحب وعزم صادق فلما وفى نال مقام الوفاء فمنحه الله مقام الصفاء وأعلى ذكره فى القرآن وبشره بعد الثبات فى الامتحان بقوله : « قال إنى جاعلك للناس إماما » يعنى صيرتك قدوة للعباد ، والسيد إبراهيم محبوب عند كل طوائف الامم ومعناه أب رحيم وهو من ذرية سام ابن نوح عليه‌السلام ، وكأن الحق تعالى يقول إننى لم أمنح خليلى رتبة التقدم والامامة إلا بعد الامتحان والنجاح فيه وقد امتحن الله المؤمنين بقوله :

( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ).

( العنكبوت : ٢ )

ولما بسط الحق بساط الانس والمال للخليل وبشره بالبشرى التى تشرح الصدور بقوله ( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ) طمع الخليل فى وسعة الحق وكرمه فطلب منه نفحة لذريته بقوله ( قالَ : وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ) يعنى اجعلهم ائمة للعالم ، فقال الحق ( قالَ : لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ( البقرة :

٣٦٧

٢٤ ) يعنى لا يدعوك تلطفى معك وأنك بعطفى أن أغير شيئا مما فى علمى فاجعل الظالم مقدما محترما فإن كل مخالف من ذريتك لا ينال عهدى يعنى مودتى وكرمى ورحمتى ونعمى ، وفى هذا الرد على الخليل من الحق ما يجعل قلوب العارفين تخشع وتمتلئ بالهيبة من جلال الحق ، وقد قال العارفون : اذ انبسط لك الحق بجماله فانقبض وتأدب معه وإذا تجلى لك بجلاله فانهض وافرح ، فى حضرته فمهما أعطاك فكن على حذر فالسيد الخليل مع جلالة قدره طلب لذريته مطالب فأجابه فى البعض ولم يجبه فى الآخر فلا تركن الى أبيك وشرفه ومجده وانظر هل أنت ظالم لنفسك أم عادل؟

٣٦٨

تفسير محمد فريد وجدى

مفسرنا هو الاستاذ الجليل محمد فريد بن مصطفى وجدى ، من أعلام العصر الحديث ومن مشاهير العلماء والفلاسفة ورجال الصحافة.

برز نشاطه فى كل مجال من المجالات ، وثبتت أقدامه على طريق الحياة الطويل فى دنيا الفكر والتأليف الذى قضى فيه ما يزيد على الخمسين عاما.

ولد الاستاذ وجدى بمدينة الاسكندرية ، وانتقل منها إلى دمياط فامضى بها فترة الشباب ، ثم انتقل إلى السويس فأصدر بها مجلة الحياة ، ثم انتقل إلى القاهرة فأنشأ مطبعة فى حياة البحث والتأليف حتى انتهت به الحياة.

كان حار الدفاع عن الحق ، شديد التمسك بما يعتقده صوابا ، سلس الأسلوب واضح الفكرة ، بعيدا بهدفه فى الحياة. ولقد تحدث عن العوامل التى أثرت فى فكره ، ورسمت معالم شخصيته فقال :

كنت فى سن السادسة عشرة ، طالبا بالمدرسة التحضيرية ، وكان أبى ( مصطفى وجدى ) موظفا فى الحكومة المصرية ، وحدث أن اختير وكيلا لمحافظة دمياط ، فكان لا بدّ من انتقالى مع عائلتى إلى هذه المدينة التى اشتهر أهلها الدماثة لا خلاق والتفقه فى الدين.

ولما نزلنا هذه البلدة مع أبى أقبل علماؤها وكبار أهلها يرحبون به ، فكان يجتمع فى دارنا عدد كبير منهم وكنت إذا ناقشت أحد العلماء فى مسألة تتعلق بالكون والخلق أسرع إلى قفل باب المناقشة ، وأمرنى الا أخوض فى المسائل الدينية أو أبدى فيها رأيا فامتعضت لذلك وقلت فى نفسى ، : لا بدّ أن يكون ما يدرسونه من الكتب عقيما ومن هنا تزلزلت عقيدتى ، وشرع الشك يتسرب إلى نفسى حتى صرت لا أرتاح إلى رأى واحد يتضمنه كتاب ، ولا انتصر على

٣٦٩

فكرة معينة يجتهد بعض العلماء فى اثباتها بما أدلى من قوة الحجة وساطع البرهان.

وجعلت أتناول بالقراءة والدرس جميع الكتب الدينية والكونية والاجتماعية وسائر ما يتعلق منها بعلم النفس ، واكببت على ذلك عدة سنين ، فاكتسبت علما غزيرا ، واتسع أمامى نطاق الحياة ، وجال نظرى فى الكائنات جولات أفادتنى فيما أتناوله بالحديث والدرس حتى صرت لا أقتنع بفكرة دون أن أعتنى بدرسها وتمحيصها معتمدا فى ذلك على تجاربى الذهنية التى مرت بى ، وقد أفادنى هذا استقلالا فى الفكر واعتمادا على النفس ، ورغبة فى استيعاب ما يقع بين يدى من الكتب على اختلاف أنواعها بمصر كما افادنى دقة فى البحث حتى ازال الشك عنى وارتاحت نفسى إلى عقيدة ثابتة.

وبدأ طريق الحياة العلمية الجادة على أسس قوية من العقل والروية والتفكير وفى سنة ١٩٠١ م اصدر كتابه « الاسلام فى عصر العلم » وهو كتاب فى جزءين مناسبين فى وضوح أن الاسلام حث على العلم وأشاد به ، ودفع المسلمين إليه وأنه لا تعارض مطلقا بين الاسلام والعلم وما وصل إليه العلم فى العصر الحاضر من آفاق مادية وحضارة صناعية ، فان ذلك كله لا يتعارض منه شىء مع الاسلام ، بل أن ذلك كله يؤيده الاسلام وكلما تقدم العلم كان تأييدا للاسلام.

وتفرغ للبحث والتأليف فغطى الصحف اليومية الشهيرة بمقالات وبحوث ، ومن أبرز هذه الصحف : الاهرام ، والجهاد ، ثم اشتغل بتحرير مجلة الأزهر وظل رئيسا لتحريرها حتى وافاه الموت فى فبراير سنة ١٩٥٤ م سنة ١٣٧٣ ه‍.

والناظر فى حياة مفسرنا الجليل يجد أن نشاطه العلمى كان يمثل تيارا دافقا بالحياة ، وأنه قضى حياته الطويلة يدافع عن اهداف محدودة يوضحها ويشرحها ويدفع عنها كل تحريف أو اتهام. وهذه الاهداف : هى الاسلام ، والدين ، والروحية.

٣٧٠

ولعل أهم ما شغل فكره وظهر فى نتاجه الكبير قضية الروحية والمادية والدفاع عن الروحية تجاه المادية ، واقامة الادلة على الروح ، وما إلى ذلك مما هو نابض فى كل مؤلف من مؤلفاته.

ولقد استطاع تطويع اللغة العربية للتعبير عن النواحى الفلسفية والافكار العلمية بأسلوب بارع رشيق ، حتى لقد صاغ بعض أفكاره ومناقشاته فى صورة مقامات كمعلقات بديع الزمان الهمذانى ومقامات أبى القاسم الحريرى وغيرهم ، وقد جمعت تلك المقامات فى كتاب باسم الوجديات ، وقال فى مقدمته بعد أن ذكر بعض من كتب بهذا الاسلوب من الادباء والعلماء فرأينا أن نحتذى مسالكهم ونترسم خطواتهم بوضع مقامات أدبية ترمى لاغراض تعليمية وزدنا على متقدمينا بأن جعلنا الصفة الفلسفية فيها تغلب على سواها حرصا منا على الغرض الرئيسى الذى حدانا لنشرها.

ويبين غرضه من تأليفها فيقول :

تصوير مثل عليا للحياة الفاضلة ، وامداد النفوس بالقوى الادبية الضرورية لها.

وقد أثمر كفاحه العلمى الطويل عدة مؤلفات قيمة من ابرزها :

١ ـ دائرة معارف القرن العشرين فى عشرين مجلدا ، وأتمها فيما يقرب من ثلاث سنين وهو عمل تنوء به طائفة كثيرة من العلماء ، ولكنه يدل على هذه العزيمة القوية النادرة التى تحلي بها وجدى وعلى ما تحلى به أيضا من تنظيم دقيق لوقته وعلى ما تحلى به من ذاكرة واعية لما يقرأ ومن حسن تصرف فيما يقرأ وقدرة على الانتفاع به إلى أكبر مدى من الانتفاع.

٢ ـ السيرة المحمدية تحت ضوء العلم والفلسفة وهو كتاب جميل حاول به فريد وجدى أن يقرب حقائق السيرة إلى اذهان شبابنا وأن يحببهم فيها ليتخذوها مثلا أعلى يحتذونه وهذا هدف شريف ، ولقد قام به فى أسلوب رصين ، وفى دراسة تتسم بروح العصر وبأسلوبه.

٣٧١

٣ ـ « الاسلام دين عام خالد » بين فيه الاسس والاصول والمبادئ التى قام عليها الاسلام فى صورة من الاسلوب الرائع والعرض السهل.

٤ ـ نقد كتاب فى الشعر الجاهلى للدكتور طه حسين.

٥ ـ فضلا عن العديد من الابحاث والمقالات فى كثير من الجرائد والمجلات ، وقد ترجم كتاب على اطلال المذهب المادى ، وهو إن كان ترجم اجمل وأدق ما تكون الترجمة فإنه احتوى على كثير من آراء فريد وجدى الشخصية تعليقا وشرحا. بل ان الكتاب كله يمثل رأى فريد وجدى نفسه وتسرى روحه فى كل جزء منه.

٦ ـ وكان تفسيره صفوة العرفان فى تفسير القرآن المعروف بالمصحف الميسر من أعماله السامية.

ملامح من حياته :

عاش وجدى ما يزيد على خمسة وسبعين عاما ، قضى أكثرها فى البحث والتأليف ، وقد امتاز فى حياته بالجدية ومتانة الخلق ووضوح الهدف والتأنى فى تحقيقه.

حكى الاستاذ العقاد أنه عطل جريدة الدستور لعسر حالته ، وباع آلاتها لتسديد أجور العمال مليما بمليم ، ورفض فى نفس الوقت عرضا سخيا من حكومة تركيا الفتاة ليكون لسان حالها وناشرا لافكارها فى بلاد الشرق.

وكان معتنيا بصحته ، مراعيا لسلامة الجسم والنفس عاملا بما يقول :نموذجا طيبا بسلوكه كما كان نموذجا طيبا فى تفكيره وتأليفه وكان نباتيا.

وكانت وفاته بعد حياة حافلة ١٩٥٤ ، سنة ١٩٧٣ ه‍ بمصر.

ولقد دخل فريد وجدى فى الحياة الفكرية الاسلامية فى عصره دخولا حكيما.

٣٧٢

لقد درس مشكلات العصر وكتب فى الكثير منها كتابات مستفيضة سواء تعلقت بإصلاح المجتمع أو المسائل الفلسفية أو أو الجوانب الروحية.

ولقد اضطره ذلك إلى أن يدخل فى جدل مستفيض مع الذين يرى أنهم ليسوا على الحق لقد دخل فى جدل طويل مع المرحوم الشيخ رشيد رضا ، واستمر النزاع بينهما فترة طويلة من الزمن ودخل فى جدل مع المرحوم الشيخ عبد الواحد يحيى الذى كان يرى أن تحضير الارواح تعامل مع الجن ، أو مع كائنات أخرى ، من كائنات لا صلة لها بالارواح حقيقة ، وثار نزاع ونقاش بينهما فى المجلة التى كانت تصدر فى سنة ثلاثين بعنوان « المعرفة ».

ولم يهدأ فريد وجدى طيلة حياته بحثا وعرضا لآرائه ومناقشة لخصومه وبيانا لوجهة نظره التى يرى أنها الحق.

وكان من عاداته الجميلة أنه كان يستقبل زائريه كل ليلة فى بيته بعد صلاة المغرب مباشرة إلى وقت صلاة العشاء. يجيب عن استفساراتهم ويوضح مشكلاتهم ، ويبين الحق فيما يثور من جدل فى الصحف والمجلات.

ولو قيض الله سبحانه وتعالى لهذه الجلسات من سجلها لا بانت عن كثير من الحقائق فى مسائل مختلفة من العلم والاجتماع.

وبعد : فان فريد وجدى يقول :

« يجب على أن أنبه إلى أنى استخلصت هذا التفسير من الآراء المجمع عليها لدى أئمة المفسرين وأقطاب أهل السنة فلم أخرج به عن سنتهم قيد شعرة ليوافق مذهبا من المذاهب أو يؤيد رأيا من الآراء الفردية ، ولو اضطرنى الكلام ببعض الآيات على أن أورد لى ، أو لاحد من غير أهل السنة نبهت إليه وعزوته لقائله حتى يكون القارئ على بينه من أمره ».

وهذا النهج الذى أتبعه فريد وجدى هو النهج المستقيم الذى يجب اتباعه فيما يتعلق بالتفسير.

٣٧٣

والمنهج الذى ذكره وجدى للتفسير حاول تحقيقه خصوصا فيما يتعلق بسهولة التعبير ويسر الشرح والعناية بمعانى الالفاظ ، وكل صحيفة من القرآن فى هذا التفسير يحيط بها هامشان أحدها للمعنى والآخر للالفاظ ، وخير لهذا التفسير أن نأتى بصحيفة كاملة من القرآن الكريم توضح لنا فى صورة دقيقة منهجه وطريقته.

وقد طبع هذا التفسير عدة طبعات وظن الناس أن فريد وجدى لم يقم فى تفسير القرآن وبيان اهدافه الا بهذا الكتاب الذى بين أيديهم.

وهذه الفكرة ليست بصواب ، وهى تصوير خطأ لعمل فريد وجدى فى تفسير القرآن وذلك أن فريد وجدى قبل أن يفسر القرآن كتب مقدمة مستفيضة تعتبر وحدها كتابا نفسيا ، بين هذه المقدمة المستفيضة ما يستفيض فيه الباحثون من مسائل القرآن كالبعث مثلا والجنة والنار ، والالوهية والنبوة ، يقول فريد وجدى عنها :

هذه المقدمة طبعها فريد وجدى من عشرات السنين ونفدت طبعتها من زمن بعيد ولم يطبعها الذين طبعوا المصحف المفسر ، فاعتقد الناس أن هذا هو العمل الوحيد لفريد وجدى فيما يتعلق بتفسير القرآن.

والواقع أن هذه المقدمة ضرورية لكل قارئ لتفسير وجدى ، وأنها هى والتفسير عمل متكامل ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يشرح صدور الطابعين لهذا التفسير لطبع المقدمة معه فى الطبعات التالية.

أما ما يؤخذ على تفسير وجدى وعلى وجدى نفسه ، فهو أن صلته بالحديث لم تكن وثيقة ، ومن أجل ذلك نجد فى كتاباته من آن لآخر ، وعلى قلة الأحاديث الضعيفة ، وكنا نتمنى أن لو كانت صلته بالحديث أوثق.

كما أنه لم يخل فى كتاباته من أن يوطئ بعض النواحى الدينية للتيارات الفلسفية فيحاول فى رفق شرحها بحسب الوضع الفلسفى ، والوضع الفلسفى وضع بشرى لا يثبت على حال.

٣٧٤

ومن نماذجه :

يقول الله تعالى : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ، يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ، وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ، قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ ). ( سورة سبأ الآيات ١ ـ ٢ )

تفسير الألفاظ :

( ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ ) أى ما يدخل فى الأرض يقال : ولج يلج ولوجا ، أى دخل ، والذى يلج فى الأرض هو الغيث وما يدفن فيها من مقتنيات وموتى.

( وَما يَخْرُجُ مِنْها ) كالنباتات والمعادن والعيون .. ( وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ ) كالملائكة والوحى والأرزاق.

( وَما يَعْرُجُ فِيها ) كالملائكة وأعمال العباد .. الخ يقال : عرج يعرج عروجا ، أى صعد.

« بلى » حرف جواب قد تأتى رد النفى كما فى هذه الآية أو جوابا لسؤال منفى نحو قوله تعالى : « أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا : بَلى » : « لا يَعْزُبُ » أى لا يغيب يقال : عزب عنه الشيء يعزب ، ويعزب عزوبا بعد وغاب وخفى ، أما عزب الرجل يعزب عزبة وعزوبة ، فمعناه صار عزبا ، أى بلا زوج « فى كتاب » هو اللوح المحفوظ الذى فيه ما كان ويكون إلى يوم القيامة.

٣٧٥

تفسير المعاني :

الحمد الله الذى له ما فى السموات والأرض خلقا وإبداعا ، وله الحمد فى الآخرة على جميل احسانه ورحمته وهو الحكيم الخبير ، يعلم ما يدخل فى جوف الأرض وما يخرج منها ، وما يهبط من السماء وما يصعد إليها ، لا تخفى عليه صغيرة ولا كبيرة مما يحصل فى ملكه الذى لا ينتهى إلى حد وهو الرحيم والغفور.

وأنكر الذين كفروا مجىء يوم القيامة ، قل : بلى والله عالم الغيب ، لتجيئنكم لا يخفى عليه ثقل ذرة من هباء فى السموات والأرض ، ولا أصغر ولا أكبر منها ، إلا فى كتاب مبين هو اللوح المحفوظ. ا ه.

٣٧٦

التفسير الواضح للشيخ محمد محمود حجازى

رحم الله الشيخ محمد حجازى ـ لقد عرفناه واحببناه ، احببناه لخلقه السمح وادبه الجم. وعلمه الغزير ، اما عن خلقه فإنه كان سمحا صفوحا لا تستثيره المهاترات : انه كان يعرض عنها وكان قلبه طاهرا طهر الماء الصافى لا بجمل حقدا لاحد ، ولا ضغينة لانسان وكان من الذين اذا مروا باللغو مروا كراما ، ولذلك قل اعداؤه وانكمش هؤلاء الذين ينفسون على العالم علمه وعلى المؤلف تأليفه ، وعاش حياته فى هدوء نسبى متفرغا للعلم ، دائبا على الدراسة.

ولد الشيخ فى محافظة الشرقية عام ١٩١٤ ودرس العلم فى معهد الزقازيق وكان مثالا للطالب المجد الذى لا شأن له يغير ما قدم اليه وهو العلم ، ولم تكن مغريات الحياة قد انتشرت فى مدينة الزقازيق ، فلم تجذبه زينة الحياة الدنيا ، وكان المعهد يأخذ طلبته بالجد الصارم فانصرف الطالب الى التحصيل.

ولما انتهى من دراسته فى معهد الزقازيق يمم وجهه شطر القاهرة دارسا بكلية اللغة العربية ، ولم يشغله زخرف القاهرة فجد حتى نال العالمية ، ثم عين مدرسا بمعهد الزقازيق الذى تخرج منه والقريب من بلده.

لقد عاد الى المعهد الذى درس فيه طالبا : عاد اليه شيخا مدرسا وكانت سعادته عظيمة وفرحته لا تحد حين مشى بسمته الازهرى الجميل فى فناء هذا المعهد ، واخذت عيناه تفحصان الأمكنة التى مشى فيها ، او جرى نحوها ، او لعب فيها ، او تلقى الدرس فى رحابها وها هو يتحدث سعيدا مع بعض طلبة المعهد من بلدته ، الذين كانوا قد انتسبوا الى المعهد حين اوشك هو على مغادرته ، او الذين انتسبوا اليه من بعده ، لقد كان ابناء بلدته يعتزون به ، ويعتز هو بهم ، فيوجه اليهم النصح فى صورة صديق وفى صورة أخ اكبر.

٣٧٧

وكانوا يحمدون فيه تواضعه وعاطفته الجياشة بحب الازهر ويحب ابناء بلدته.

واخذ فى السنوات الاولى من التخرج يعد نفسه لمستقبل علمى زاهر ، واتجه على الخصوص الى التفسير.

كتب الشيخ حجازى تفسيره وهو ما زال مدرسا بمعهد الزقازيق ، وكان طموحه ان يكون بين اعلام اساتذة كلية اصول الدين ، فاخذ يعد رسالة لنيل الدكتوراة واختار لها موضوعا دقيقا عميقا ، هو : « الوحدة الموضوعية فى القرآن الكريم ».

ولعل اختياره لهذا الموضوع لم يكن اختيارا بالمعنى العادى للكلمة ، وذلك انه يشبه ان يكون قد فرض نفسه ،

انه يقول فى مقدمة رسالة الدكتوراة :

« ولقد راعنى وانا اكتب « التفسير الواضح » هذا النسق العجيب فى سور القرآن وترتيبها فى المصحف ، فهذه سورة مدنية بجوار سورة مكية ، وهذه سورة مدنية وسط عدد من السور المكية وهكذا.

ثم اذا نظرت الى نفس السورة وآياتها تجد العجب العجاب ، تجد السورة وقد جمعت آيات متعددة ، وإن تكن متناسبة ومتلائمة ، ولكنك تجد السورة تتحدث من موضوع خاص ، فما ذا قرأت غيرها تجدها تحدثت هى الأخرى عن نفس الموضوع ، ولكن بشكل خاص ونسق يلتئم مع جو السورة التى قيل فيها ، هذه ظاهرة استرعت البحث والنظر ، اما السابقون فتخلصوا من هذا بالقول بالنسخ فالآية المتأخرة نسخت التقدمة وهكذا.

واما نحن فقد هدانا الله الى القول بنظرية « الوحدة الموضوعية فى القرآن الكريم ».

لهذا كانت تلك النظرية جديدة على الاسماع فرفضها البعض وحاول منع نقاشها بجامعة الازهر ، ولكن الحق يظهر دائما ولا بد ان يبدو الصبح لذى

٣٧٨

عينين واما المنصفون والمعتدلون فطالبوا بالدليل ، والبيان ، وضرب الامثلة ، مع الحجة والبرهان.

ثم هم بعد ذلك طالبونى بتعميم الفائدة ، ونشر هذه الرسالة فاجبت الطلب والله المستعان.

ثم يقول فى تواضع جم :

وبعد : فهذه رسالة أتقدم بها الى كلية اصول الدين بجامعة الازهر لنيل الدكتوراة وعنوانها : ( الوحدة الموضوعية فى القرآن الكريم ).

والحق يقال : إننى لست من رجال هذه الابحاث الدقيقة العميقة المتصلة بالقرآن الكريم ، ولكنها محاولة ، دفعنى اليها حب البحث فى كل ما يتعلق بكتاب الله ، فان اصبت فذلك الفضل من الله والا فهى محاولة.

والله يهدى الى الحق وهو نعم النصير أ. ه.

اما عن التفسير فإنه بعد محاولات عدة وتجارب فى الوان التفسير استقر رأيه على كتابة تفسير للقرآن يكون مختصرا واضحا متأسيا فى ذلك بما كان الامر عليه فى الصدر الأول للإسلام وذلك ان المسلمين فى الصدر الأول من الإسلام كانوا يختصرون فى التفسير الى درجة انهم كانوا يقتصرون تقريبا على تفسير الكلمة او على تفسير الآية بكلمات قليلة او تفسيرها بحديث من الاحاديث الشريفة او بأثر عن صحابى جليل.

واثر الشيخ محمد حجازى هذا المنهج واقتنع بحكمة القدماء فى ترك القرآن دائما غضا نضرا تتفهم النفس منه مباشرة الهداية والرشاد ، وترتفع معه النفس الى الافق السامى الذى احبه الله للمسلمين وبينه فى القرآن الكريم ، وقد اهدى التفسير الى : « الى الذين اذا ذكروا الله وجلت قلوبهم ، واذا تليت عليهم آياته زادتهم ايمانا الى الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه ، الى اخواننا المسلمين فى مشارق الارض ومغاربها اهدى هذا واحسب اجرى عند الله أ. ه.

٣٧٩

ويقول فى مقدمته للطبعة الاولى :

« وبعد فهذا هو القرآن الكريم بل هذا هو الهدى والنور ، كتاب شرحه بلغة سهلة واضحة لا تعمق فيها ولا ابعاد ، خالية من المصطلحات العلمية الفنية تفسر للشعب كل ما فيه من صوغ المعنى الاجمالى للآية ، بلغة العصر مع البعد عن الحشو والتطويل والخرافات الإسرائيلية والاعتدال فى الرأى ، فلم يهدم كل قديم ، ولم يرفع كل جديد ، وان يكن لكل فارس كبوة.

ولا طاقة للناس الآن بالاطالة فيما لا شأن له باصل الغرض من التفسير اذ لهم ان يفهم القرآن اكبر عدد ممكن من المسلمين.

ألم يأن للحق ان يدحض الباطل كما دحضه فى صدر الاسلام ، وقد يكون ما تراه من الجمعيات الاسلامية والمؤاخاة الدينية جذوة فيها ضوء يسطع ليبصر من اراد ان يسعد عاجلته وآجلته وفيها نار تحرق هؤلاء الشياطين الذين لم يستمعوا من الله ، ولا من الحق فجعلوا من جاههم ونفوذهم حربا على الاسلام ابقاء على زخرف كاذب وفرارا من حقوق اخوانهم فى الدين والانسانية قبلهم.

وها نحن الآن قد عزمنا « والعون من الله وحده » على الكتابة فى التفسير على ان يخرج الجزء الاول ثم الذى يليه وهكذا. فان كان للعمر بقية ومن الله تأييد ، ثم هذا العمل الذى نقصد به وجه الله.

ولا انكر انه عمل ضخم ليس لمثلى ان يتعرض له ولكن : ـ

واكذب النفس اذا حدثتها

ان صدق النفس يزرى بالامل

وسنظل والحمد لله ندفع بايدينا وبالسنتنا وباقلامنا عن حمى هذا الدين حتى يظهره الله او نهلك دونه ، ولن يضيعنا الله.

وصدق الله اذ يقول : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ ) ( محمد : ٧ )

٣٨٠