مناهج المفسرين

الدكتور منيع عبد الحليم محمود

مناهج المفسرين

المؤلف:

الدكتور منيع عبد الحليم محمود


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب المصري
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٢

ولعل هذا يكشف لنا جانبا هاما من جوانب الإمام القاسمى لقد كان يعجب بقدر وكان يتحكم فيما يختار ولا ينساق وراء الآراء تبعا لشهرة قائلها وانتشارها بين الناس.

ومن المعالم البارزة فى هذا التفسير اعتناء المفسر بالربط بين الآيات المختلفة والكشف عن مظاهر الحكمة فى ترتيب القرآن .. ففي سورة البقرة مثلا يتحدث عن الانتقال من قصة آدم ودعوة بنيه إلى الدين إلى الحديث عن بنى إسرائيل فى قوله تعالى :

( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ).

( البقرة : ٣٨ ، ٣٩ ، ٤٠ )

يتحدث عن الصلة بين الآيات فيقول :

ولما قدم الله تعالى دعوة الناس عموما وذكر مبدأهم .. دعا بنى إسرائيل خصوصا وهم اليهود ـ لانهم كانوا أولى الناس ـ بالإيمان بالنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنهم يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل فدعاهم تارة بالملاطفة وتارة بالتخويف وتارة بإقامة الحجة وتوبيخهم على سوء أفعالهم.

ونعود فنقول : إن التفسير تعبير حى عن الشيخ القاسمى فى سعة علمه ووفرة مراجعه وحسن انتقائه وسلامة منهجه ودقته فى التعبير واقتصاره على قدر الحاجة ـ وقد ضم عصارات الأفكار وخلاصة آراء العلماء فى كثير من الآفاق العلمية والفكرية والعملية كما عبر عنها القرآن.

ومما يلاحظ على الإمام القاسمى فى تفسيراته إن استمداده من الإمام ابن كثير بلغ حدا كبيرا .. انه يكاد يشبه تفسير الإمام ابن كثير فى كثير من

٣٠١

الموضوعات فى صورة تكاد تكون متقنة .. ومع ذلك فإن هذا التشابه القوى بينه وبين ابن كثير لا ينزله عن أصالته فإن هذا التشابه آت من اتحاد الرأى وتشابه الأفكار لا من النقل والتقليد.

وكما قلنا فالكتاب نخبة ممتازة يضم الأفكار القيمة والآراء الصحيحة فى كل ما يتصل بالتفسير.

نموذج من تفسير القاسمى

قال تعالى :

( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ).

( أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ).

( وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ).

( وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ ).

( سورة المؤمنون : ٧١ ، ٧٢ ، ٧٣ ، ٧٤ )

( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ ).

أى لو كان ما كرهوه من الحق الذى هو التوحيد والعدل المبعوث بهما الرسول صلوات الله وسلامه عليه موافقا لا هوائهم المتفرقة فى الباطل الناشئة عن نفوسهم الظالمة المظلمة لفسد نظام الكون لأن مناط النظام ليس إلا ذلك وفيه من شأن الحق والتنبيه على سمو مكانه ما لا يخفى « بل أتيناهم بذكرهم »

٣٠٢

اضراب عن توبيخهم بكراهته وانتقال إلى لومهم بالنفور عما ترغب فيه كل نفس من خيرها أى ليس مكروها بل هو عظة لهم لو اتعظوا أو فخرهم أو متمناهم لأنهم كانوا يقولون لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا من عباد الله المخلصين « فهم عن ذكرهم معرضون » أى بالنكوص عنه وأعاد الذكر تفخيما واضافة لهم لسبقه وفى سورة الأنبياء ( ذكر ربهم ) لاقتضاء ما قبله له « أم تسألهم خرجا » أى جعلا على أداء الرسالة فلا جل ذلك لا يؤمنون « فخراج ربّك خير » أى عطاؤه « وهو خير الرازقين وانك لتدعوهم إلى صراط مستقيم وان الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون ».

أى منحرفون ـ قال القاشاني : الصراط المستقيم الذى يدعوهم إليه هو طريق التوحيد المستلزم لحصول العدالة فى النفس ووجود المحبة فى القلب وشهود الوحدة والذين يحتجبون عن عالم النور بالظلمات وعن القدس بالرجس إنما هم منهمكون فى الظلم والبغضاء والعداوة والركون إلى الكثرة فلا جرم أنهم عن الصراط ناكبون منحرفون إلى ضده فهو فى واد وهم فى واد وقال الزمخشرى : قد الزمهم الحجة فى هذه الآيات وقطع معاذيرهم وعللهم بأن الذى أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله مخبور سره وعلنه خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم وأنه لم يعرض له حتى يدعى بمثل هذه الدعوى العظيمة بباطل ولم يجعل ذلك مسلما إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام الذى هو الصراط المستقيم مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو اخلالهم بالتدبر والتأمل واستئثارهم بدين الآباء الضلال من غير برهان وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق وثبات التصديق من الله بالمعجزات والآيات النيرة وكراهتهم للحق واعراضهم عما فيه حظهم من الذكر.

٣٠٣
٣٠٤

الإمام محمد عبده وتفسيره

لعل خير ما يعرف بالشيخ محمد عبده ما كتبه عن نفسه ونقله عنه صاحب المنار فى كتاب خاص سماه : تاريخ الاستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ، وفيه يقول :

عرفت أنى ابن عبده خير الله ، من سكان قرية محلة نصر بمركز شبراخيت من مديرية البحيرة ، ووقر فى نفسى احترام والدى ، ونظرت إليه أجل الناس فى عينى ، ومسكن من هيبته فى قلبى ما لا أجده لأحد من الناس اليوم عندى.

ويقول وجدت والدى يقرى الضيف ، ويؤوى الغريب ، ويفتخر باكرام النزيل وذلك كان يزيد منزلته من نفسى علوا ، وأنا لا أفهم من هذا إلا أنه شىء يفتخر به بدون أن أعقل له علة .. وبالجملة كنت أعتقد أن والدى أعظم رجل فى القرية وكل من فيها دونه ، وهو بذلك كان أعظم رجل فى الدنيا فإن الدنيا عندى لم تكن أوسع من قرية محلة نصر.

أما والدتى فكانت منزلتها بين نساء القرية لا تنزل عن مكانة والدى ، وكانت ترحم المساكين وتعطف على الضعفاء ، وتعد ذلك مجدا وطاعة لله وحمدا ، ولم أزل أجد أثر ما وعيت من ذلك فى نفسى إلى اليوم ..

أما عن تدرجه فى التعليم والطلب فيقول :

تعلمت القراءة والكتابة فى منزل والدى ، ثم انتقلت إلى دار حافظ قرآن قرأت عليه وحدى جميع القرآن أول مرة ، ثم اعدت القراءة حتى اتممت حفظه جميعه فى مدة سنتين ، بعد ذلك حملنى والدى إلى طنطا حيث كان أخى لأمى الشيخ مجاهد رحمه‌الله لا جود القرآن فى المسجد الأحمدى لشهرة

٣٠٥

قرائه بفنون التجويد ، وكان ذلك فى سنة ١٢٧٩ هجرية .. ثم فى سنة احدى وثمانين جلست فى دروس العلم وقضيت سنة ونصفا لا أفهم شيئا لرداءة طريقة التعليم ، فادركنى اليأس من النجاح ، وهربت من الدرس وحاول أخى اكراهى على طلب العلم فأبيت ، وانتهى الجدال بتغلبى عليه ، فأخذت ما كان لى من ثياب ومتاع ، ورجعت إلى محلة نصر على نية أن لا أعود إلى طلب العلم وتزوجت فى سنة ١٢٨٢ على هذه النية.

ثم يواصل الحديث عن تدرج حياته فى التعليم فيقول :

بعد أن تزوجت بأربعين يوما جاءنى والدى ضحوة نهار وألزمنى بالذهاب إلى طنطا لطلب العلم ، وبعد احتجاج وتمنع وإباء لم أجد مندوحة عن اطاعة الأمر ..

ولم يواصل السير إلى طنطا ، لقد تغلبت عليه نزعة الهرب من طلب العلم والعزوف عن تحصيله فتخلف فى قرية بها عدد كثير من أقاربه ، وانطلق مع أقرانه من الشباب يلهو ويلعب وفى هذه القرية التقى بأحد أخوال أبيه وهو الشيخ درويش.

وكان الشيخ درويش قد أخذ عن بعض الشيوخ طريقة الشاذلية ، وكان يحفظ الموطأ ، وبعض كتب الحديث ، ويجيد حفظ القرآن وفهمه ، ثم رجع من أسفاره إلى قريته هذه ، واشتغل بما يشتغل به الناس من فلح الأرض ، وكسب الرزق بالزراعة.

وتدرج معه الشيخ درويش فى ترويضه على العلم ، والعودة به إلى رحاب المعرفة فأعطاه كتابا يحتوى على رسائل كتبها السيد محمد المدنى إلى بعض مريديه بالأطراف وسأله أن يقرأ له فيها شيئا لضعف بصره ، وما زال به حتى قرأ بضعة أسطر فاندفع يفسر له معانى ما قرأ بعبارة واضحة غلبت اعراضه وسبقت إلى نفسه ، وقاومت نزعته إلى اللعب واللهو.

وان هى الا أيام قليلة حتى صار أبغض شىء إليه ما كان يحبه من لعب ولهو

٣٠٦

وفخفخة وزهو وعاد أحب شىء إليه ما كان يبغضه من مطالعة وفهم .. ثم سأل الشيخ عن الطريقة فقال : الاسلام وعن الورد فقال : القرآن ، ولم تمض أيام حتى رأى نفسه يطير فى عالم آخر غير الذى كان يعهد ، فاتسع له ما كان ضيقا ، وصغر عنده من الدنيا ما كان كبيرا ، وعظم عنده من أمر العرفان والنزوع بالنفس إلى جانب القدس ما كان صغيرا وتفرقت عنه جميع الهموم ولم يبق إلا هم واحد وهم أن يكون كامل المعرفة ، كامل أدب النفس.

ويتابع الشيخ حديثه فيقول :

وفى منتصف شوال من تلك السنة ذهبت إلى الازهر ، وداومت على طلب العلم على شيوخه ، مع محافظتى على العزلة والبعد عن الناس ، حتى كنت استغفر الله إذا كلمت شخصا كلمة لغير ضرورة وفى اواخر كل سنة دراسية كنت اذهب إلى ( محلة نصر ) لا قيم بها شهرين ـ من منتصف شعبان إلى منتصف شوال وكنت عند وصولى إلى البلد أجد خال والدى الشيخ درويش قد سبقنى إليه فكان يستمر معى بدراستى القرآن والعلم إلى يوم سفرى.

كان الشيخ يدارسه ويسأل ما ذا قرأت؟ ثم يوجهه إلى دراسة علوم أخرى إلى جانب ما يدرس بالأزهر كالمنطق والحساب والهندسة ، واستجابة لتوجيهه كان يلتمس هذه العلوم عند من يعرفها فتارة كان يخطئ فى الطلب وأخرى يصيب إلى أن جاء السيد جمال الدين الأفغانى إلى مصر أواخر سنة ١٢٨٦ ، فوجد عنده ما ابتغاه من العلوم وشاركه فى الدعوة إلى الاصلاح ثم عرض نفسه على مجلس الامتحان فى سنة ١٢٩٤ هجرية للحصول على العالمية فخرج منه بالدرجة الثانية ، وصار مدرسا من مدرسى الجامع الأزهر ، وأخذ يقرأ العلوم الكلامية والمنطقية وغيرها.

ومع ما وصل إليه فى العلوم ظل يطلب العلم ، ويتحدث عن ذلك فيقول :

بدأت بتعلم اللغة الفرنسية عند ما كانت سنى أربعا وأربعين سنة ، فبحثت عن معلم فوجدت استاذا لا بأس به ، فتعلمت مبادئ اللغة الفرنسية ،

٣٠٧

وحصلت منها ما كان يمكننى من القراءة والفهم ، لكن ما كنت استطيع الكلام .. سافرت بعد ذلك إلى فرنسا وإلى سويسرا عدة مرات فى أيام العطلة فى كلية جنيف ، وبهذه الطريقة تعلمت اللغة الفرنساوية فى أوقات الفراغ مع اشتغالى بالقضاء فى المحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف.

ونشط الشيخ فى التأليف والتدريس بالأزهر وغير الأزهر فذاع صيته وطارت شهرته وعم النفع به ..

تفسيره

لم يكن التفسير عند الاستاذ الإمام بالشىء السهل ، بل كان من أصعب الأمور وأهمها .. ووجه الصعوبة فيه ـ فيما يرى الإمام من وجوه أهمها :

إن القرآن كلام سماوى تنزل عن حضرة الربوبية على قلب أكمل الأنبياء وهو يشتمل على معارف عالية ، ومطالب سامية ، لا يشرف عليها إلا أصحاب النفوس الزاكية والعقول الصافية ..

وكان الإمام فى تصديه للتفسير راغبا بث الدعوة إلى أمرين عظيمين : الأول : تحرير الفكر عن قيد التقليد ، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف ، والرجوع فى كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى ، واعتباره من ضمن موازين العقل البشرى التى وضعها الله لترد من شططه ، وتقلل من خلطه وخبطه ، لتتم حكمة الله فى حفظ نظام العالم الإنسانى ، وأنه على هذا الوجه يعد صديقا للعلم باعثا على البحث فى أسرار الكون ، داعيا إلى احترام الحقائق الثابتة مطالبا بالتعديل عليها فى أدب النفس واصلاح العمل.

الثانى : إصلاح أساليب اللغة العربية فى التحرير ، سواء كان فى المخاطبات الرسمية بين دواوين الحكومة ومصالحها ، أو فيما تنشره الجرائد على الكافة منشئا أو مترجما من لغات أخرى أو فى المراسلات بين الناس.

٣٠٨

وللتفسير فى نظر الإمام وجوه شتى :

أحدها : النظر فى أساليب الكتاب ومعانيه وما اشتمل عليه من أنواع البلاغة ، ليعرف به : علو الكلام وامتيازه على غيره من القول .. سلك هذا المسلك الزمخشرى ، ونحا نحوه آخرون.

ثانيها : الاعراب .. وقد اعتنى بهذا أقوام توسعوا فى بيان وجوهه وما تحتمله الألفاظ منها ..

ثالثها : تتبع القصص ، وقد سلك هذا المسلك أقوام زادوا فى قصص القرآن وما شاءوا من كتب التاريخ والإسرائيليات ، ولم يعتمدوا على التوراة والإنجيل والكتب المعتمدة عند أهل الكتاب وغيرهم ، بل أخذوا جميع ما سمعوه عنهم من غير تفريق بين غث وثمين ولا تنقيح لما يخالف الشرع ولا يطابق العقل ...

رابعها : غريب القرآن.

خامسها : الأحكام الشرعية من عبادات ومعاملات والاستنباط منها.

سادسها : الكلام فى أصول العقائد ومقارعة الزائغين ، وصحابة المختلفين ، وللإمام الرازى العناية الكبرى بهذا النوع ..

سابعها : المواعظ والرقائق ، وقد مزجها الذين ولعوا بها بحكايات المتصوفة والجهاد ، وخرجوا ببعض ذلك عن حدود الفضائل والآداب التى وضعها القرآن ..

ثامنها : ما يسمونه بالإشارة ، وقد اشتبه على الناس فيه كلام الباطنية الصوفية ..

ومن ذلك التفسير الذى ينسبونه للشيخ الأكبر محيى الدين بن عربى ، وإنما هو للقاشانى الباطنى الشهير ، وفيه من النزعات ما يتبرأ منه دين الله وكتابه العزيز.

وإذا كان الاكثار فى مقصد خاص من هذه المقاصد يخرج الكثيرين عن المقصود من الكتاب الالهى ، ويذهب بهم فى مذاهب تبهم معناه الحقيقى ،

٣٠٩

فإن ما كان يعنى الإمام من التفسير هو فهم الكتاب من حيث هو دين ، وهداية من الله للعالمين ، جامعة بين بيان ما يصلح به أمر الناس فى هذه الحياة الدنيا ، وما يكونون به سعداء فى الآخرة ، ويتبعه ـ بلا ريب ـ بيان وجوه البلاغة بقدر ما يحتمله المعنى ، وتحقيق الإعراب على الوجه الذى يليق بفصاحة القرآن وبلاغته عند الحاجة إلى ذلك.

وللتفسير فى نظر الإمام مراتب :

أدناها : أن يبين بالإجمال ما يشرب القلب عظمة الله وتنزيهه ، ويصرف النفس عن الشر ، ويجذبها إلى الخير ، وهذه التى تتيسر لكل أحد ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ).

وأما المرتبة العليا فهى لا تتم إلا بأمور :

أحدها : فهم حقائق الألفاظ المفردة التى أودعها القرآن بحيث يجد المفسر ذلك من استعمالات أهل اللغة ، غير مكتف بقول فلان وفهم فلان.

ثانيها : الأساليب ، فينبغى أن يكون عنده من علمها ما يفهم به هذه الأساليب الرفعية ، وذلك يحصل بممارسة الكلام البليغ ومزاولته ، مع التفطن لنكته ومحاسنة ، والعناية بالوقوف على مراد المتكلم منه.

ثالثها : علم أحوال البشر ، فقد ورد فى القرآن من الحديث عن أحوال الخلق وقصص الأمم والسنن الالهية فى البشر ما يجعل العلم بأطوار البشر وأدوارهم ومناشئ اختلاف أحوالهم من ألزم الأمور.

رابعها : العلم بوجه هداية البشر كلهم بالقرآن بمعرفة ما كان عليه الناس فى عصر النبوة من العرب وغيرهم وما كانوا عليه من العوائد.

خامسها : العلم بسيرة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وما كانوا عليه من علم وعمل وتصرف فى الشئون دينويها وأخرويها.

والغرض الأول الذى دعا إليه فى قراءة التفسير ، استجماع تلك الشروط لأجل ان تستعمل لغايتها وهى محاولة فهم المراد من القول ، وحكمة التشريع فى

٣١٠

العقائد والأحكام على الوجه الذى يجذب الأرواح ، ويسوقها إلى العمل والهداية المودعة فى الكلام ... فالمقصد الحقيقى وراء كل تلك الشروط والفنون هو الاهتداء بالقرآن .. وفى سنة ١٣١٥ اتصل بالشيخ محمد عبده :

ان القرآن لا يحتاج إلى تفسير كامل من كل وجه ، ولكن الحاجة شديدة إلى تفسير بعض الآيات ..

ولم يزل به الشيخ رشيد رضا حتى اقنعه بقراءة التفسير فى الأزهر ، وبدأ بالدروس فى غرة المحرم سنة ١٣١٧ ه‍ وانتهى منه فى منتصف المحرم سنة ١٣٢٣ ه‍ عند تفسير قوله تعالى : ( وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً ) من سورة النساء.

وعلى الرغم مما فى تفسير الشيخ محمد عبده من محاسن ، فإنه يحتاج إلى تعقيب ، ونكتفى هنا بمثال على ذلك :

اننا جميعا نجل الشيخ محمد عبده ، ونحترمه ، وندين له بكثير من تخليص الدين عن الخرافات والأساطير ولكن حينما نقرأ له تفسير قصة آدم ، فنراه لا يضع احتمال أنها تمثيل متساءل : لم ذكر الشيخ محمد عبده هذا الاحتمال؟

حينما نتساءل حقيقة عن السر العميق ـ فى الشعور وفى اللاشعور ـ نجد أن الشيخ محمد عبده رأى أن فكرة التطور منتشرة فى جميع أرجاء أوربا ، بل والعالم ، وهى فيما يرى بظاهرها تتعارض مع التعاليم التى تنبئ أن آدم هو أول البشر ، وهو الذى خلقه الله وسواه ، وخاطب الملائكة فى شأنه وأمرهم أن يسجدوا له.

رأى الشيخ محمد عبده أن كل ذلك لا يتلاءم كثيرا مع فكرة التطور المزعومة فما ذا صنع؟ ذكر هذا الاحتمال ، وبذلك يمكننا أن نؤولها كيفما شئنا ، وما كنا نود أن يجيز ذلك إذ أنه يفتح للناس باب التأويل فى صورة من الاستفاضة الضارة ..

كما رأى الشيخ محمد عبده أن يفسر اختلاف رسالات الرسل وتعاقبها :

٣١١

موسوية وعيسوية وإسلامية بتطور الإنسانية.

الآن الإنسانية ـ حسبما برى ـ حسية فى زمن موسى ، فكانت رسالة سيدنا موسى حسية.

ثم تطورت الإنسانية من الحس إلى العاطفة ، فكانت رسالة سيدنا عيسى عاطفية.

ثم تطورت الإنسانية من الحس والعاطفة الى العقل ، فكانت رسالة سيدنا محمد عقلية.

ورأيي أن الإنسانية لم تتطور هذا التطور وأن الإنسانية لم تتطور هذا التطور هذا التطور وأن الإنسانية أينما سرنا وعند أى فرد رأينا ، فى أى مجتمع شاهدنا ، فإنما يتمثل فيها جوانب ثلاثة : الحسى والعاطفة والعقل ..

ولكن فكرة التطور ، وأن الإنسانية متطورة ، انتهت بأن أصبحت مسيطرة على الكثيرين فانقادوا لها ، وأدخلوها فى المحيط الدينى ، فأفسدت كثيرا من القضايا ..

ومن تفسيره :

قال تعالى :

( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها ، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها ، وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها ، وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها ، أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها ، وَالْجِبالَ أَرْساها ، مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ ).

( سورة النازعات : ٢٧ ، ٢٨ ، ٢٩ ، ٣٠ ، ٣١ ، ٣٢ ، ٣٣ )

أأنتم أشدّ خلقا : عود إلى خطاب أولئك المكذبين المغرورين لتقريعهم وتسفيه أحلامهم ، فى استبعاد ما يوعدون به من البعث وما يتبعه ، أو استبطاء أخذ الله لهم فى هذه الدنيا مع أنه هو الذى انشاهم وخلقهم أول مرة فإن كانوا

٣١٢

قد غفلوا عن أنه هو خالقهم فلينظروا إلى السماء وإلى الأرض ، فيعلموا أن من خلقهما وأنشأهما لا يصعب عليه خلقهم ، ولا يسعهم إنكار أن خالق السماء والأرض هو الله ، فكيف ينكرون أنه خالقهم ، وأنه القادر على إعادتهم كما بدأهم؟ ( أشدّ خلقا ) أصعب انشاء ..

( بناها ) بيان لكيفية خلق السماء ، والبناء ضم الأجزاء المتفرقة بعضها إلى بعض مع ربطها بما يمسكها حتى يكون عنها بينة واحدة ، وهكذا صنع الله بالكواكب وضع كل منها على نسبة من الآخر مع ما يمسك كلا فى مداره حتى كان منها عالم واحد فى النظر سمى باسم واحد وهو السماء التى تعلونا ، وهى معنى قوله :

( رفع سمكها فسوّاها ) والسمك قامة كل شىء ، فقد رفع اجرامها فوق رءوسنا.

( فسوّاها ) عدلها بوضع كل جرم فى موضعه ( أغطش الليل ) أظلمه ، وغطش الليل أظلم ونسبة الليل إلى السماء لأنه يكون بعقيب كواكبها ( ضحاها ) نورها وضوء شمسها ، قال تعالى والشمس وضحاها أى ضوؤها ، وتعاقب الليل والنهار واختلاف الفصول التابع لحركة بعض السيارات يهيئ الأرض للسكنى ، وهو معنى قوله ( والأرض بعد ذلك ) تسوية السماء على الوجه السابق وابراز الأضواء ( دحاها ) أى مهدها وجعلها قابلة للسكنى ، وذلك بأن ( أخرج منها ماءها ) بتفجير الينابيع والعيون والأنهار ، ( ومرعاها ) أى رعيها ، وهو النبات الذى يأكل منه الناس والدواب ، وتثبيت الجبال وجعلها مانعة من اضطراب الأرض من تتمة التمهيد واعداد الأرض لسكنى الأحياء ، وهو متأخر عن الاستعداد الأول لا نبات النبات وإن كان برور الجبال سابقا على ذلك ، وقد جعل الله ذلك كله ليتمتع به الناس والأنعام أفلا يكون صانع ذلك كله هو صانعكم؟ أفلا يكون خالقكم وواهبكم ما به تحبون ورافع السماء فوقكم وممهد الأرض تحتكم ، قادرا على بعثكم ، وهل يليق به أن يترككم سدى بعد أن دبركم هذا التدبير ، ووفر لكم هذا الخير الكثير؟

٣١٣
٣١٤

الأستاذ رشيد رضا وتفسيره

أحد رجال الاصلاح الاسلامى : محمد رشيد بن على رضا بن محمد شمس الدين القلمونى المنشأ البغدادى الاصل الحسينى النسب ، من الكتاب العلماء بالحديث والادب والتاريخ والتفسير ، وهو صاحب مجلة المنار المشهورة التى كانت منارا للفكر والاصلاح الاجتماعى فى العصر الحديث.

نشأ صاحبنا وترعرع فى بلدة القلمون ـ من أعمال طرابلس الشام ـ ودرج فيها طالبا للعلم ساعيا فى تحصيله فيها وفى مدينة طرابلس وجاشت عاطفته فى صباه بالشعر وظهرت كتاباته فى الصحف والمجلات فلمع نجمه وعرف من بين الكتاب.

وكانت مصر كنانة الله فى أرضه منارا خاصا بأشهر العلماء ومنهم الإمام الأستاذ محمد عبده وطبقته من العلماء المشهورين فى ذلك الوقت حتى إذا كان العام الخامس عشر بعد الألف والثلاثمائة للهجرة رحل الشيخ محمد رشيد رضا إليها واتصل بعلمائها وتتلمذ على الشيخ محمد عبده الذى كان ثورة كبيرة بعلمه وآرائه الخلاقة فى الاصلاح والاجتماع ، ثم أصدر المجلة المشهورة التى عرفت بالمنار وذلك لبث آرائه فى الاصلاح الدينى والاجتماعى وأصبح الشيخ مرجع الفتيا فى التأليف بين الشريعة الاسلامية الغراء والأوضاع العصرية المتجددة.

وعند ما أعلن الدستور العثمانى سنة ١٣٢٦ زار الشيخ بلاد الشام لتسير آراءه وابداء وجهة النظر الاسلامية فى كثير من المسائل الهامة ، وقد اعترضه ـ وهو على منبر الجامع الأموى بدمشق ـ أحد أعداء الاصلاح فكادت تكون فتنة كبيرة لو لا حكمة الشيخ الذى عاد فى ذلك الوقت إلى مصر.

٣١٥

وفى مصر نشطت حركته فأنشأ ( مدرسة الدعوة والارشاد ) وأمدها بروحه القوية وكرس جهوده لخدمتها ، ثم قصد سورية فى أيام الملك فيصل بن الحسين وانتخب رئيسا للمؤتمر السورى فيها ثم غادرها على أثر دخول الفرنسيين إليها سنة ١٩٢٠ فأقام فى مصر مدة رحل بعدها إلى الهند والحجاز واروبا وعاد فاستقر بمصر إلى أن توفى فجأة فى سيارة كان راجعا فيها من السويس إلى القاهرة ودفن بالقاهرة عام أربع وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة النبوية.

مؤلفاته وآثاره : ـ

لقد غصت المكتبة العربية بمؤلفات الشيخ رشيد رضا الكثيرة ومن أشهرها :

مجلة « المنار » وقد أصدر منها ٣٤ مجلدا.

تفسير القرآن ـ فى ١٢ مجلدا.

تاريخ الاستاذ الامام الشيخ عبده فى ثلاثة أجزاء.

نداء للجنس اللطيف.

الوحى المحمدى.

يسر الاسلام وأصول التشريع العام.

الخلافة.

الوهابيين والحجاز.

محاورات المصلح والمقلد.

ذكرى المولد النبوى

شبهات النصارى وحجج الاسلام.

٣١٦

هذا وقد ألف الامير شكيب أرسلان كتابا فى سيرة الشيخ محمد رشيد رضا سماه « السيد رشيد رضا ، أو أخا أربعين سنة »

منهجه فى تفسيره :

للشيخ رشيد رضا منهج واضح فى تفسيره غايته فهم القرآن ومعرفة اهدافه وأغراضه والانتفاع بها كما اراد الله لهذه الامة حتى تكون خير امة اخرجت للناس وعلى ذلك فالذين يفيدون من القرآن فقها وعلما طائفة خاصة من الناس هم من يقول عنهم صاحب المنار :

« إنما يفهم القرآن ويتفقه فيه من كان نصب عينه ووجهه قلبه فى تلاوته فى الصلاة وفى غير الصلاة ما بينه الله تعالى فيه من موضوع تنزيله وفائدة ترتيله وحكمة تدبره من علم ونور ، وهدى ورحمة وموعظة وعبرة وخشوع وخشية وسنن فى العالم مطردة ، فتلك غاية انذاره وتبشيره ويلزمها عقلا وفطرة تقوى الله تعالى بترك ما نهى عنه ، وفعل ما أمر به بقدر الاستطاعة ، فإنه كما قال : ( هدى للمتقين ).

ثم ينعى الشيخ رشيد رضا على المسلمين حظهم بسبب ما اشتملت عليه كثير من التفاسير مما ابعدها عن مقاصد القرآن أساسا فيقول :

« كان من سوء حظ المسلمين أن أكثر ما كتب فى التفسير يشغل قارئه عن مقاصد القرآن العالية ، والهداية السامية ، فمنها ما يشغله عن القرآن به لبحث الاعراب وقواعد النحو ونكت المعانى ومصطلحات البيان ، ومنها ما يصرفه عنه بجدل المتظلمين ، وتخريجات الاصوليين واشتباكات الفقهاء المقلدين وتأويلات المتصوفين وتعصب الفرق والمذاهب بعضها على بعض وبعضها يلفته عنه بكثرة الروايات ، وما مزجت به من خرافات الاسرائيليات ...

نعم ان أكثر ما ذكر من وسائل فهم القرآن ، فنون العربية لا بدّ منها واصطلاحات الاصول وقواعده الخاصة بالقرآن ضرورية أيضا كقواعد النحو

٣١٧

والمعانى ، وكذلك معرفة الكون وسنن الله تعالى فيه كل ذلك يعين على فهم القرآن.

ثم يقول ـ مبينا ما وقع فيه غيره من المفسرين عن خرافات واضاليل اجتنبها هو فى تفسيره.

وأما الروايات المأثورة عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وعلماء التابعين فى التفسير ، فمنها ما هو ضرورى أيضا ، لأن ما صح من المرفوع لا يقدم عليه شىء ، ويليه ما صح عن علماء الصحابة فيما يتعلق بالمعانى اللغوية أو عمل عصرهم ، والصحيح من هذا وذاك قليل ، واكثر التفسير المأثور قد سرى إلى الرواة من زنادقة اليهود والفرس ومسلمة أهل الكتاب كما قال الحافظ ابن كثير وجل ذلك فى قصص الرسل مع اقوامهم ، وما يتعلق بكتبهم ومعجزاتهم ، وفى تاريخ غيرهم كأصحاب الكهف ومدينة أرم ذات العماد وسحر بابل ... وفى أمور الغيب من اشراط الساعة وقيامتها وما يكون فيها وبعدها ، وجل ذلك خرافات ومفتريات صدقهم فيها الرواة .. وكان الواجب جمع الروايات المفيدة فى كتب مستقلة كبعض كتب الحديث وبيان قيمة اسانيدها ، ثم يذكر فى التفسير ما يصح منها بدون سند كما يذكر الحديث فى كتب الفقه لكن يعزى إلى تخرجه كما نفعل ثم يقول :

وغرضنا من هذا كله أن أكثر ما روى فى التفسير حجاب على القرآن وشاغل لنا فيه عن مقاصده العالية المزكية للانفس المنورة للعقول ، الفضول للتفسير المأثور لهم شاغل عن مقاصد القرآن بكثرة الروايات التى لا قيمة لها اسنادا ولا موضوعا ، كما أن المفضلين لسائر التفاسير لهم صوارف أخرى كما تقدم.

فكانت الحاجة شديدة إلى تفسير تتوجه العناية الأولى فيه إلى هداية القرآن على الوجه الذى يتفق مع الآيات الكريمة المنزلة فى وصفه ، وما أنزل لا جله من الانذار والتبشير والهداية والاصلاح ... ثم العناية إلى مقتضى حال هذا

٣١٨

العصر فى سهولة التعبير ، ومراعاة اقبال صنوف القارئين ، وكشف شبهات المشتغلين بالفلسفة والعلوم الطبيعية وغيرها إلى غير ذلك مما تراه قريبا هو ما يسره الله بفضله لهذا العاجز ...

والناظر فى تفسير الشيخ رشيد رضا يجد فيه روح الشيخ الإمام محمد عبده وكلامه وآراءه ووقفاته الكريمة لفهم كتاب الله الحكيم.

رحم الله الشيخ رشيد رضا واستاذه الامام محمد عبده وجزاهما عن المسلمين خير الجزاء.

نموذج من تفسيره

قال فى قوله : ( أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )

( سورة البقرة : ٥ )

هاهنا إشارتان ، والمشار إليه عند الجمهور واحد وهو ما فى الآيتين السابقتين ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ) ( سورة البقرة : ٣ ) والذين يؤمنون بما انزل ( إليك ) ، من غير أهل الكتاب والمؤمنين منهم ، وكرر الاشارة للاعلام بأنه لا بدّ عن تحقيق الوصفين لتحقق الحكم بأنهم على هدى وأنهم هم المفلحون ، كما قال بعضهم وهو تكلف ظاهر وكذا قولهم : ان تنكير « هدى » هنا للتعظيم ، وشيخنا قد جعل الاشارتين لنوعى المؤمنين المذكورين فى الآية السابقة بأسلوب اللف والنشر المرتب.

قال : ان الاشارة الأولى ( أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ ) فى هذه الآية للفرقة الولى : وهم الذين ينتظرون الحق لانهم على شىء منه ـ كما يدل عليه تنكير « هدى » الدال على النوع ، وينتظرون بيانا من الله تعالى ليأخذوا به

٣١٩

وكذلك تقبلوه عند ما جاءهم ، فقد أشعر الله قلوبهم الهداية بما آمنوا به من الغيب ، وأقاموا الصلاة بالمعنى الذى سبق وانفقوا مما رزقهم الله.

وأما الفرقة الثانية : وهم المؤمنون بما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعلى هدى تشترك فيه تلك الفرقة الاولى لكن على وجه أكمل .. لأنها مؤمنة بالقرآن وعاملة به.

وقوله « على هدى » تعبير يفيد التمكن من الشيء كمتمكن المستقر عليه كقولهم : ركب هواه ، ولقد كان افراد تلك الفرقة ( أي الأولى ) على بصيرة وتمكن من نوع الهدى الذى كانوا عليه ، فان كان هذا غير كاف لإسعادهم وفلاحهم فهو كاف لا عدادهم وتأهيلهم لهما بالايمان التفصيلى المنزل ولذلك قبلوه عند ما بلغتهم دعوته.

والى الفرقة الثانية وقعت الاشارة الثانية وأولئك هم المفلحون كما هو ظاهر ، وهم المفلحون بالفعل لاتصافهم بالايمان الكامل بالقرآن ، وبما تقدمه من الكتب السماوية واليقين بالآخرة ـ لا مطلق الايمان بالغيب اجمالا .. ويرشد إلى التغاير بين مرجع الاشارتين ترك ضمير الفصل « هم » فى الأولى وذكره فى الثانية ولو كان المشار إليه واحدا لذكر الفعل فى الأولى لأن المؤمنين بالقرآن هم الذين على الهدى الصحيح التام فهو خاص بهم دون سواهم لكنه اكتفى عن التنصيص على تمكنهم من الهدى بحصر الفلاح فيهم.

ومادة الفلح تفيد فى الأصل معنى الشق والقطع .. ويطلق الفلاح والفلح على الفوز بالمطلوب ، ولكن لا يقال : افلح الرجل إذا فاز بمرغوبة عفوا من غير تعب ولا معاناة ، بل لا بد فى تحقيق المعنى اللغوى لهذه المادة من السعى إلى الرغبة والاجتهاد لإدراكها ، فهؤلاء ما كانوا مفلحين إلا بالإيمان بما أنزل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أنزل من قبله ، واتباع هذا الايمان بامتثال الأوامر واجتناب النواهى التى نيط بها الوعد والوعيد فيما انزل إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع اليقين بالجزاء على جميع ذلك فى الآخرة ويدخل فى هذا كله ترك الكذب والزور وتزكية النفس من سائر الرذائل كالشر ، والطمع والجبن والهلع والبخل والجود والقسوة وما

٣٢٠