مناهج المفسرين

الدكتور منيع عبد الحليم محمود

مناهج المفسرين

المؤلف:

الدكتور منيع عبد الحليم محمود


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب المصري
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٢

الإمام البيضاوى ومنهجه فى التفسير

هو الإمام عبد الله بن عمر بن محمد بن على الشيرازى ، أبو سعيد أبو الخير ناصر الدين البيضاوى من قرية يقال البيضاء لها من بلاد فارس ولى القضاء بشيراز وفسر القرآن ، وألف فى كثير من الفنون وتيسر له هذا المنصب بعد حادثة دلت على نبوغه ، وكشفت عن عبقريته ..

لقد دخل تبريز ، فصادف دخوله إليها مجلس درس قد عقد بها لبعض الفضلاء ، فجلس القاضى ناصر الدين فى اخريات القوم ، بحيث لم يعلم به أحد فذكر المدرس نكتة زعم أن أحدا من الحاضرين لا يقدر على جوابها ، وطلب من القوم حلها ، والجواب عنها ، فإن لم يقدر فالحل فقط فان لم يقدر فإعادتها فلما انتهى من ذكرها شرع القاضى ناصر الدين فى الجواب فقال له :لا اسمع حتى اعلم أنك فهمتها ، فخيره بين اعادتها بلفظها أو معناها ، فبهت المدرس ، وقال : اعدها بلفظها ، فاعادها ثم حلها وبين أن فى ترتيبه اياها خللا ، ثم اجاب عنها ، وقابلها فى الحال بمثلها ، ودعا المدرس إلى حلها ، فتعذر عليه ذلك ، فاقامه الوزير من مجلسه ، وادناه إلى جانبه وسأله من انت؟ فاخبره انه البيضاوى ، وأنه جاء فى طلب القضاء بشيراز ، فاكرمه ، وخلع عليه فى يومه ، ورده وقد قضى حاجته ..

كان إماما علامة ، عارفا بالفقه والتفسير وأصول الفقه وأصول الدين والعربية والمنطق وكان عالما بفنون المناظرة وآداب المناقشة ، صالح السلوك ، مجتهدا فى العبادة ، زاهدا فى متاع الدنيا الفانى ، شافعى المذهب ..

٢٤١

قال ابن شهبة فى طبقاته عنه صاحب المصنفات ، وعالم اذربيجان ، وشيخ تلك الناحية

وقال السبكى : كان إماما مبرزا نظارا صالحا معبدا ..

وقال ابن حبيب : تكلم كل من الأئمة بالثناء على مصنفاته ، ولو لم يكن له غير المنهاج الوجيز لفظه المحرر لكفاه ..

صنف الكتب المهمة فى شتى الفنون الدينية ، فصنف مختصر الكشاف ، والمنهاج فى علم الاصول وشرح مختصر ابن الحاجب فى الاصول وشرح المنتخب فى الاصول للإمام فخر الدين ، وشرح المطالع فى المنطق ، والايضاح فى أصول الدين ، والغاية القصوى فى الفقه ، والطوالع فى الكلام ، وشرح الكافية لابن الحاجب ، وشرح المصابيح ولب اللباب فى علم الاعراب ما زال مخطوطا ، والغاية القصوى فى دراسة الفتوى فى فقه الشافعية ، وما زال فى عداد المخطوطات ..

ومن أهم مصنفاته تفسيره المشهور الذى قدم له فقال بعد الحمد والثناء.

وبعد : فان أعظم العلوم مقدارا ، وارفعها شرفا ومنارا ، علم التفسير الذى هو رئيس العلوم الدينية ورأسها ، ومبنى قواعد الشرع واساسها ، لا يليق لتعاطيه والتصدى للتكلم فيه إلا من برع فى العلوم الدينية كلها ـ اصولها وفروعها ، وفائق فى الصناعات العربية والفنون الادبية بانواعها ، ولطالما أحدث نفسى أن اصنف فى هذا الفن كتابا يحتوى على صفوة ما بلغنى من عظماء الصحابة ، وعلماء التابعين ، ومن دونهم من السلف الصالحين ، وينطوى على نكت بارعة ، ولطائف رائعة ، استنبطتها أنا ومن قبلى من افاضل المتاخرين ، واماثل المحققين ، ويعرب عن وجوه القراءات المعزية إلى الأئمة الثمانية المشهورين ، والشواذ المروية عن القراء المعتبرين إلا أن قصور بضاعتى يثبطنى عن الاقدام ، ويمنعنى عن الانتصاب فى هذا المقام ، حتى سنح لى بعد الاستخارة ما صح به عزمى على الشروع فيما اردته ، والاتيان بما قصدته ، ناويا ان اسميه بعد ان اتممه بـ « انوار التنزيل ، وأسرار التأويل ».

٢٤٢

ثم شرع فى التفسير : ـ

والمتأمل فى تفسيره يجد أنه قد نحا فيه نحو الاختصار ، وركز فيه الافكار ، ووجه الانظار إلى ما تشتمل عليه الآيات فى كثير من نواحى الاعراب والفقه والاصول ونحو ذلك ، معتمدا على ما سبقه من التفاسير كتفسير الكشاف والرازى ونحوهما ..

وقد افاض العلماء فى الحديث عن هذا الكتاب محللين ومبينين ، فقال السيوطى فى حاشيته عليه : ـ

إن القاضى ناصر الدين البيضاوى لخص هذا الكتاب فاجاد ، وأتى بكل مستجاد وماز فيه أماكن الاعتزال ، وطرح موضع الدسائس وازال ، وحرر مهمات ، واستدرك تتمات ، فظهر كأنه سبيكة نضار ، واشتهر اشتهار الشمس فى رابعة النهار ، وعكف عليه العاكفون ، ولهج بذكر محاسنه الواصفون ، وذاق طعم دقائقه العارفون ، فاكب عليه العلماء تدريسا ومطالعة ، وبادروا إلى تلقيه بالقبول رغبة فيه ومسارعة ..

وقال صاحب كشف الظنون : ـ

تفسيره ـ أى البيضاوي ـ كتاب عظيم الشأن ، غنى عن البيان ، لخص فيه من الكشاف ما يتعلق بالاعراب والمعانى والبيان ، ومن التفسير الكبير ـ رأى الرازى ـ ما يتعلق بالحكمة والكلام ، ومن تفسير الراغب ما يتعلق بالاشتقاق وغوامض الحقائق ولطائف الاشارات ، وضم إليه ما ورى زناد فكره من الوجوه المعقولة ، فجلا رين الشك عن السريرة ، وزاد فى العلم بسطة وبصيرة كما قال مولانا المنشى ..

اولوا الالباب لم ياتوا

بكشف قناع ما يتلى

ولكن كان للقاضى

يد بيضاء لا تبلى

ولكونه متبحرا فى ميدان فرسان الكلام فاظهر مهارته فى العلوم حسبما يليق بالمقام كشف القناع تارة عن وجوه محاسن الاشارة وملح الاستعارة ، وهتك

٢٤٣

الاستار الاخرى عن اسرار المعقولات بيد الحكمة ولسانها ، وترجمان المناطقة وكيزانها ، فحل ما اشكل على الانام ، وذلل لهم صعاب المرام ، واورد فى المباحث الدقيقة ما يدحض بعض الشبه المضلة ، واوضح لهم مناهج الادلة والذى ذكره من وجوه التفسير ثانيا أو ثالثا أو رابعا بلفظ قبل فهو ضعيف ضعف المرجوح أو ضعف المردود ..

وأما الوجه الذى تفرد فيه وظن بعضهم انه مما لا ينبغى أن يكون من الوجوه التفسيرية السنية كقوله :

وحمل الملائكة العرش وخفيفهم حوله مجاز عن حفظهم وتدبيرهم له ، ونحوه فهو ظن من لعله يقصر فهمه عن تصور مبانيه ، ولا يبلغ علمه الا الاحاطة بما فيه ، فمن اعترض بمثله على كلامه كأنه ينصب الحبالة للعنقاء ، ويروم أن يصيد نسر السماء ، لانه مالك زمام العلوم الدينية ، والفنون اليقينية ، على مذهب أهل السنة والجماعة ، وقد اعترفوا له قاطبة بالفضل المطلق ، وسلموا إليه قصب السبق ، فكان تفسيره يحتوى على فنون من العلم وعرة المسالك ، وانواعا من القواعد المختلفة الطرائق ، وقل من برز فى فن الأوصدة عن سواه وشغله ، والمرء عدو لما جهله ، حتى يسلم من الغلط والزلل ، ويقتدر على رد السفسطة والجدل ..

واستطرد صاحب كشف الظنون فى الثناء على الكتاب وعلى صاحب الكتاب ، حتى قال بحق :

ثم ان هذا الكتاب رزق من عند الله سبحانه وتعالى بحسن القول عند جمهور الافاضل والفحول ، فعكفوا عليه بالدرس والتحشية ، فمنهم من علق تعليقته على سورة منه ، ومنهم من حشى تحشية تامة ، ومنهم من كتب على بعض مواضع منه ..

ومن أشهر الحواشى عليه حاشية قاضى زاده ( مطبوعة ) وحاشية الشهاب الخفاجى ( مطبوعة ) وحاشية القونوى ..

٢٤٤

هذا هو تفسير البيضاوى مختصر فى غير خلل ، ومشتمل على الوان من العلم النافع ، والخير الغزير ، ويتضح ذلك بذكر نماذج منه :

قوله تعالى : ( قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) ..

( سورة الأنعام : ١٦١ و ١٦٢ و ١٦٣ )

( قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) بالوحى والارشاد إلى ما نصب من الحجج. ( دينا ) بدل من محل « الى صراط » إذ المعنى : هدانى صراطا ، كقوله : ويهديكم صراطا مستقيما ، أو مفعول فعل مضمر دل عليه الملفوظ ، ( قيما ) فعل من قام كسيد من ساد ، وهو ابلغ من المستقيم باعتبار الزنة « الوزن » والمستقيم باعتبار الصيغة ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائى : « قيما » على أنه مصدر ، وكان قياسه قوما كعوض فاعل الاعلال فعله كالقيام ، ( مِلَّةَ إِبْراهِيمَ ) عطف بيان لدينا ( حَنِيفاً ) حال من إبراهيم ( وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) عطف عليه ..

( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي ) عبادتى كلها ، أو قرباتى ، أو حجى ( وَمَحْيايَ وَمَماتِي ) وما انا عليه فى حياتى واموت عليه من الايمان والطاعة ، او طاعات الحياة والخيرات والمضافة إلى الممات كالوصية والتدبير ، أو الحياة والممات أنفسهما ، وقرا نافع : محياى باسكان الياء اجراء للوصل مجرى الوقف لله رب العالمين لا شريك له ، خالصة لا اشرك فيها غيره ، ( وَبِذلِكَ ) القول أو الاخلاص ( أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) لانه إسلام كل نبى متقدم على إسلام امته ..

٢٤٥
٢٤٦

الدر المنثور فى التفسير بالمأثور

للحافظ جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن أبى بكر السيوطى

ولد الإمام السيوطى فى أول رجب سنة ٨٤٩ ه‍ وكانت وفاته فى جمادى الأول سنة ٩١١ ودفن فى حوش قوصون خارج باب القرافة بالقاهرة.

أفرد الحافظ الداودى ـ وهو تلميذ الامام السيوطى ـ ترجمة كتاب مستقل عن أستاذه الحافظ السيوطى ، وقد ترجم الحافظ السيوطى لنفسه فى كثير من كتبه يذكر فى أحدها ما لم يذكره فى الآخر ، وترجم له كثيرون من محبيه ومن خصومه ، ومن المعتدلين بين هؤلاء وممن ترجم له من القدماء ابن اياس فى تاريخه ، وصاحب الكواكب السائرة ، وعبد الغنى النابلسى.

وترجم له من المحدثين العالم المحقق الثبت السيد عبد الحى الكناني.

ولقد كان السيوطى قمة من القمم التى أثارت الكثير من الحديث عنها فيما بين ذام ومادح ، وقد كان خصبا فى التأليف ، وكان صاحب ذاكرة قوية وجد واجتهاد منذ صغره ، فحفظ القرآن الكريم وما بلغ الثامنة من عمره بعد.

ودرس على مشايخ وتتلمذ على أساتذة ، وصل بعضهم بعددهم إلى ستمائة ، أما مشايخه فى الرواية سماعا واجازة فقد وصل إلى مائة وخمسين.

وكتبه بلغ تقديرها أكثر من خمسمائة ، وهذه الكتب منها المؤلف الأصيل ، ومنها ما هو مختصر من كتب سابقيه ومنها ما هو جمع أو تنسيق ، والسيوطى فى كل ذلك له طابعه الموجود فى كل كتبه ، وأعنى به طابع السهولة ، فكتبه لا تعقيد فيها ، سواء أكانت تأليفا أم جمعا وتنسيقا.

٢٤٧

يقول ابن العماد فى الشذرات :

« ان تلميذه الحافظ الداودى استقصى أسماء مؤلفاته الحافلة الكبيرة الكاملة الجامعة فنافت عدتها على خمسمائة مؤلف ، وقد أشتهر أكثر مؤلفاته فى أقطار الأرض شرقا وغربا وكان آية كبرى فى سرعة التأليف ، قال تلميذه الداودى :

عاينت الشيخ وقد كتب فى يوم واحد ثلاث كراريس تأليفا وتحريرا ، وكان مع ذلك يملى الحديث ، ويجيب عن المتعارض منه بأجوبة حسنة » أ. ه.

ويقول أبو الحسنات : محمد عبد الحى اللكنوى فى فى حواشيه على الموطأ بعد أن ذكر السيوطى :

« وتصانيفه كلها مشتملة على فوائد لطيفة ، وفوائد شريفة ، تشهد كلها بتبحره وسعة نظره ودقة فكره ، وأنه حقيق بأن يعد من مجددى الملة المحمدية فى بدء المائة العاشرة ، وآخر التاسعة ، كما ادعاه بنفسه ، وشهد بكونه حقيقا به من جاء بعده ، كعلى القارى المكى فى المرآة شرح المشكاة.

ويقول السيد محمد عبد الحى الكنانى :

« وقد ظفرت » فى مصر بكراسة من تأليف السيوطى عدد فيها تآليفه إلى سنة ٩٠٤ قبل موته بسبع سنين اوصل فيها عدد مؤلفاته إلى ٥٣٨ ، فعدد ما له فى علم التفسير ٧٣ ، وفى الحديث ٢٠٥ ، والمصطلح ٣٢ ، والفقه ٧١ ، وأصول الفقه ، والدين والتصوف ٢٠ ، واللغة والنحو والتصريف ٦٦ ، والمعانى والبيان والبديع ٦ والكتب الجامعة من فنون ٨ الطبقات والتاريخ ٣٠ ، الجميع ٣٧ ، أ. ه.

وفى فترة من فترات حياته كان له مثل عليا يجب أن يصل إلى مكانة علمية تماثلها :

فهو يتحدث قائلا : انه لما حج شرب من ماء زمزم لأمور منها.

٢٤٨

١ ـ أن يصل فى الفقه إلى رتبة الشيخ سراج الدين البلقينى.

٢ ـ وفى الحديث إلى رتبة الحافظ بن حجر.

ولكن السيوطى فيما بعد كتب يقول :

« وقد كملت عندى الآن آلات الاجتهاد بحمد الله تعالى ، أقول ذلك تحدثا بنعمة الله تعالى لا فخرا ولو شئت أن أكتب فى كل مسألة مصنفا بأقوالها وادلتها النقلية ومداركها ونقوحها وأجوبتها والموازنة بين اختلاف المذاهب فيها والقدرة على ذلك من فضل الله لا بحولى ولا بقوتى فلا حول ولا قوة إلا بالله ».

ومن استكمل آلات الاجتهاد ولا يكون مثله الأعلى فى الفقه الشيخ سراج الدين البلقينى وفى الحديث الحافظ بن حجر ، وذلك أن من استكمل آلات الاجتهاد يكون قد تربع على القمة فى مختلف الفنون.

ورتبة الاجتهاد قد ادعاها الامام السيوطى فجرت عليه مشاكل وأثارت حوله جدلا واضطر هو أن يدافع ويهاجم ، وأن يدخل معركة تتعلق بجدارته وكفاءته كان فى غنى عنها ، لقد قال بعضهم ـ وهو قول باطل ـ ان من يبلغ رتبة الاجتهاد لا بدّ وأن يكون عالما محققا فى فن المنطق ، والسيوطى ليس من أئمة المنطق فهو ليس مجتهدا.

ورغم أن هذه الدعوى باطلة وذلك أن الكثير من أئمة الاجتهاد توفاهم الله قبل أن يترجم المنطق الأرسطى إلى اللغة العربية ، وكثير من أئمة الاجتهاد نأوا بأنفسهم عن المنطق بعد أن ترجم ولم يتهمهم أحد بنقص فى اجتهادهم.

ولكن بمجرد أن وجه هذا النقد إلى الامام السيوطى كتب يرد عن نفسه وفى كتابه الجميل :

« صون المنطق والكلام » عن : « فنى المنطق والكلام »

أخذ يدافع عن نفسه ويعلن أنه اتقن علم المنطق اتقان ائمته وأنه لذلك مستوف شرائط الاجتهاد ، ولكن السيوطى لم يدع الاجتهاد فحسب ، وأنما ادعى أنه مجدد القرن العاشر.

٢٤٩

لقد روى أبو داود وغيره بسند صحيح عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

« ان الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ».

والناس من قديم يتنازعون فى شخصية المجدد لكل قرن ، ويختلفون على اسمه ، وقد أرضى الامام بن كثير أغلب العلماء حين عمم فى الموضوع وجعله شاملا لكثيرين. انه يقول :

« وقد ادعى كل قوم فى امامهم أنه المراد بهذا الحديث ، والظاهر أنه يعم جملة من العلماء من كل طائفة وكل صنف ومن مفسر ومحدث وفقيه ونحوى ولغوى وغيرهم ».

وعن ذلك وعن تقدير الامام السيوطى القارى فى شرح المشكاة :

« شيخ شيوخنا السيوطى هو الذى أحيا علم التفسير فى الدر المنثور ، وجمع جميع الاحاديث المتفرقة فى جامعه المشهور ، وما ترك فنا الا فيه له متن أو شرح مسطور ، بل وله زيادات ومخترعات يستحق أن يكون هو المجود فى القرن العاشر كما ادعاه وهو فى دعواه مقبول ومشكور.

ونختم هذا بقول العارف بالله الشيخ الحافظ التيجانى أطال الله فى عمره :

« ولما بلغ العلامة السيوطى أربعين سنة من عمره أخذ فى التجرد للعبادة والانقطاع إلى الله تعالى والاشتغال به صرفا والاعراض عن الدنيا وأهلها كأنه لم يعرف أحدا منهم وشرع فى تحرير مؤلفاته التي سبقت الاشارة إليها وترك الافتاء والتدريس واعتذر عن ذلك فى مؤلف ألفه فى ذلك وسماه بالتنفيس ، وأقام فى روضة المقياس فلم يتحول منها إلى أن مات ، ولم يفتح طاقات بيته التى على النيل من سكناه ، وكان الأمراء والأغنياء يأتون إلى زيارته ويعرضون عليه الأموال النفيسة فيردها وأهدى إليه القوم خصيا وألف دينار فرد الألف وأخذ الخصى فأعتقه وجعله خادما فى الحجرة النبوية ، وقال لقاصد

٢٥٠

السلطان : لا تعد تأتينا قط بهدية ، فان الله تعالى أغنانا عن مثل ذلك ، وكان لا يتردد إلى السلطان ، ولا إلى غيره وطلبه مرارا فلم يحضر إليه ، وقيل له : ان بعض الأولياء كان يتردد إلى الملوك والامراء فى حوائج الناس فقال : اتباع السلف فى عدم التردد عليهم أسلم لدين المسلم » أ. ه.

ونأتى الآن إلى السيوطى والتفسير لقد ذكر السيوطى أنه ألف فى التفسير وما يتعلق به ٧٣ رسالة وكتابا ، ويقول الامام السيوطى فى مقدمة كتابه : « الدر المنثور »

« وبعد : فلما ألفت كتاب ترجمان القرآن وهو التفسير المسند عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه رضى الله عنهم ، وتم بحمد الله فى مجلدات فكان ما أوردته فيه من الآثار بأسانيد الكتب المخرج منها رأيت قصور أكثر الهمم عن تحصيله ورغبتهم فى الاقتصار على متون الاحاديث دون الاسناد وتطويله فلخصت منه هذا المختصر مقتصرا فيه على متن الأثر مصدرا بالعزو والتخريج إلى كل كتاب معتبر ، وسميته : بالدر المنثور فى التفسير بالماثور »

والله أسأل أن يضاعف لمؤلفاته الأجور ويعصمه من الخطأ والزور ، بمنه وكرمه أنه البر الغفور ».

والدر المنثور هو أجمع كتاب للتفسير بالمأثور ، لم يبد فيه الامام السيوطى رأيا ، ولم يقل فيه كلمة مفسرة أو جملة شارحة ، وأنما التزم التزاما كاملا أن يكون تفسيره جمعا لأحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الآية وسردا لبعض أقوال الصحابة رضى الله عنهم.

وهو فى جمعه هذا لم يلتزم صحة الاحاديث والنقل ، ومن أجل ذلك فان هذا الكتاب الجليل فى حاجة ماسة إلى عمل متقن ، فى التحقيق والتخريج ، وبيان الصحيح من الاحاديث والحسن منها والضعيف.

ونورد الآن نموذجا يغنى عن غيره :

يقول فى قول الله تعالى : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ( سورة الفاتحة )

٢٥١

« أخرج ابن جرير عن ابى حاتم عن ابن عباس فى قوله : « إياك نعبد » ويعنى إياك نوحد وتخاف ونرجو ربنا لا غيرك ، « وإياك نستعين » على طاعتك وعلى أمورنا كلها ، وأخرج وكيع والفرياني عن ابن رزين قال سمعت عليا قرأ هذا الحرف كان قرشيا عربيا فصيحا « إياك نعبد وإياك نستعين » اهدنا ، برفعهما جميعا.

وأخرج الخطيب فى تاريخه عن أبى رزين أن عليا قرأ : إياك نعبد وإياك نستعين « فهمز ومد وشد » وأخرج أبو القاسم البغوى والماوردى معا فى معرفة الصحابة والطبرانى فى الأوسط وأبو نعيم فى الدلائل عن انس بن مالك عن أبى طلحة قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى غزوة فلقى العدو فسمعته يقول :

« يا مالك يوم الدين ، إياك نعبد وإياك نستعين » قال : فلقد رأيت الرجال تصدع تضربها الملائكة من بين يديها ومن خلفها »

٢٥٢

الإمام أبو السعود وتفسيره

الإمام أبو السعود محمد بن مصطفى العمارى الحنفى صاحب التفسير المشهور ، وصل إلى مرتبة عالية فى العلوم الدينية ، بعد أن قرأ على أبيه وعلى كبار علماء عصره ، وتنقل فى المدارس المتنوعة.

وأهلته هذه الدراسة الجادة مع ما منح من ميزات شخصية لتقلد أرقى المناصب الدينية الهامة ـ فتقلد القضاء فى عدد من البلاد التركية ، كان آخرها قضاء العسكر فى ولاية روم « أيلى » ودام عليه مدة ثمان سنين.

ولما توفى مفتى تركيا سعد الله بن عيسى بن أمير خان تولى الفتيا مكانه ، فكان له فيها أطيب الأثر ، وأجمل الذكر ، سارت بفتاويه الركبان ، وأشبع حاجة السائلين ، واتسع عمله لاجابة الطالبين ـ وسجلت آراؤه السديدة بأسلوبه اللطيف ، الذى صبغت حقائقه العلمية فى أساليب ادبية طيبة ، ومما ذكر فى ذلك أنه سئل عن شخص لا هو مريض ولا هو صحيح ولا حى ولا ميت ولا عاقل ولا مجنون ، ولا نائم ولا يقظان ، فأجاب متكلما بقوله : أن كان لهذا وجود فهو الترياق.

وسئل عن شرب القهوة قبل أن يكمل اشتهارها بعد ما قرر له اجتماع الفسقة على شربها ، فأجاب بقوله : ما أكب أهل الفجور على تعاطيه ، فينبغى أن يجتنبه من يخشى الله ويتقيه.

لقد حرمها بسبب اجتماع الفساق على تعاطيها وان كانت فى نفسها حلالا ، لأن اجتماع الفسقة على شىء ، ينقل خبثهم إليه ، ويخرجه عما هو عليه من السلامة إلى الضياع ..

٢٥٣

وقد كثر ثناء العلماء عليه ، فقال صاحب شذرات الذهب :

وكان من الذين قعدوا من الفضائل والمعارف على سنامها وغاربها ، وضربت له نوبة الامتياز فى مشارق الأرض ومغاربها.

تفرد فى ميدان فضله ولم يجاره أحد ، وانقطع عن القرين والمماثل فى كل بلد ، وحصل له من المجد والاقبال والشرف والافضال ، ما لا يمكن شرحه بالمقال.

ويقول صاحب الكواكب السائرة :

وكان المولى أبو السعود عالما ، واماما كاملا ، شديد التحرى فى فتاويه ، حسن الكتابة عليها ، حسن المحاورة ، وافر الانصاف ، دينا خيرا ، سالما ابتلى به كثير من موالى الروم ، من أكل المكيفات ، سالم الفطنة جيد القريحة ، لطيف العبارة ، حلو النادرة.

أما صاحب الاعلام فيقول عنه :

وأضيف إليه الافتاء سنة ١٩٥٢ ه‍ ، وكان حاضر الذهن ، سريح البديهة ، كتب الجواب مرارا فى يوم واحد على ألف رقعة باللغات العربية والفارسية والتركية تبعا لما يكتبه السائل.

وقد عاقه الدرس والفتوى ، والاشتغال بما يقتضيه المنصب ، عن التفرغ للتصنيف ، غير أنه ـ كما قال صاحب شذرات الذهب ـ اختلس فرصا ، وصرفها إلى التفسير الشريف ، وقد أتى فيه بما لم تسمح به الأذهان ، ولم تقرع بمثله الاذان ويتحدث الإمام أبو السعود عن ظروف اعداد هذا التفسير مبرزا ظروف حياته فى لمحات خاطفة فيقول :

وكنت اتردد فى ذلك بين اقدام واحجام ، لقصور شأنى وعزة المرام ، أين الحضيض من الذرى؟ شتان بين الثريا وهيهات اصطياد العنقاء بالشباك ، واقتياد الجوزاء من بروج الافلاك فمضت عليه الدهور والسنون ، وتغيرت الاطوار وتبدلت الشئون ، فابتليت بتدبير مصالح العباد ، برهة فى قضاء

٢٥٤

البلاد ، وأخرى فى قضاء العساكر والاجناد ، فحال بيني وبين ما كنت أخال ، تراكم المهمات وتزاحم الاشغال ، وجموح العوارض والعلائق ، وهجوم الصوارف والعوائق والتردد إلى المغازى والأسفار ، والتنقل من دار إلى دار .. وكنت فى تضاعيف هاتيك الامور ، أقدر فى نفسى أن انتهز نهزه من الدهور ، ويتسنى لى القرار ، وتطمئن بى الدار ، وأظفر حينئذ بوقت خال ، أتبتل فيه جانب ذى العظمة والجلال ، وأوجه إليه وجهتى ، وأسلم له سرى وعلانيتى ، وأنظر إلى كل شيء بعين الشهود ، وأ تعرف سر الحق فى كل موجود ، تلافيا لما قد فات ، واستعداد لما هو آت ، وأتصدى لتحصيل ما عزمت إليه ، وأتولى لتكميل ما توجهت إليه ، برفاهة واطمئنان ، وحضور قلب وفراغ جنان ، فبينما أنا فى هذا الخيال ، إذ بدا لى ما لم يخطر بالبال تحولت الاحوال والدهر فوقعت فى أمر أشق من الأول : أمرت بحل مشكلات الأنام ، فيما شجر بينهم من النزاع والخصام ، فلقيت معضلة طويلة الذيول ، وصرت كالهارب من المطر إلى السول .. فاضحيت فى ضيق المجال وسعة الاشغال أشهر ممن يضرب بها الامثال ، فجعلت أتمثل بقول من قال :

لقد كنت أشكو والحوادث برهة

واستمرض الأيام وهي صحائح

إلى أن تغشتنى وقيت حوادث

تحقق أن السالفات منائح

فلما انصرمت عرى الآمال عن الفوز بفراغ البال عزمت على انشاء ما كنت أنويه ، توجهت إلى املاء ما ظلت أبتغيه ناويا أن اسميه عند تمامه بتوفيق الله وأنعامه :

( ارشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم )

فشرعت فيه مع تفاقم المكاره على ، وتزاحم المشادة بين يدي ، متضرعا إلى رب العظمة والجبروت خلاق عالم الملك والملكوت ، فى أن يعصمنى عن الزيغ والزلل ، ويقيني مصارع السوء فى القول والعمل ويوفقني لتحصيل ما أروي وأرجوه ويهديني إلى تكميله على أحسن الوجوه ..

٢٥٥

وتلمح من ذلك ما كان لأبي السعود من شخصية اجتماعية ممتازة ، وما كان يتحلى به من إيمان قوى وروح طيبة واستمساك صادق بعرى الدين.

ومن ملامح العبقرية عند أبى السعود اشارته الواضحة إلى ما فى أسرار الخلق والايجاد من آيات بينات ، ثم قوله :

لكن الاستدلال بتلك الآيات والدلائل ، والاستشهاد بتلك الامارات والمخايل ، والتنبيه لتلك الاشارات السرية والتفطن لمعانى تلك العبارات العبقرية وما فى تضاعيفها من رموز أسرار القضاء والقدر ، وكنوز آثار التعاجيب والعبر ، مما لا يطيق به البشر ، إلا بتوفيق خلاق القوى والقدر ، اذن مدار المراد ليس إلا كلام رب العباد ، اذ هو المظهر لتفاصيل الشعائر الدينية ، والمفسر لمشكلات الآيات التكوينية ، والكاشف عن خفايا حظائر القدس ، والمطلع على خبابا سرائر الانس ، وبه تكتسب الملكات الفاخرة وبه يتوصل إلى سعادة الدنيا والآخرة.

ثم يبين أنه قرأ عن القرآن الكتب الكثيرة ، فاغرم بتفسيرى الكشاف وأنوار التنزيل فقام بخلده نظم درر فرائدهما وترتيب غرر فوائدهما وأن يضيف إليهما ما فى غيرهما من جواهر الحقائق وزواهر الدقائق فكان هذا الكتاب.

ولم يقتصر نشاط أبو السعود على تأليف هذا الكتاب بل ألف غيره من الكتب على ضيق وقته ، واتساع نشاطه ، ومما نقل فى ذلك أنه ألف تحفة الطلاب فى المناظرة ورسالة فى المسح على الخفين ، ورسالة فى مسائل الوقوف ، ورسالة فى الأوقاف ، وقصة هاروت وماروت.

وكان له إلى جانب أسلوبه البارع فى النثر شعر جميل مطبوع ، ومما اشتهر عنه من ذلك قصيدته الميمية التى أولها :

أبعد سليمى مطلب ومرام

وغير هواها لوعة وغرام

وهيهات أن تثنى إلى غير بابها

عنان المطايا أو يشد حزام

ثم يقول :

فكم عشرة ما أورثت غيرا

ورب كلام مقتضاه كلام

٢٥٦

ولد أبو السعود سنة ٨٩٨ .. وكانت وفاته بالقسطنطينية فى الثلث الأخير من ليلة الأحد خامس جمادى الأولى سنة اثنتين وثمانين وتسعمائة ، وكانت جنازته حافلة ، وصلى عليه فى حرم جامع السلطان محمد الكبير فى جمع كثير ، ودفن بمقبرته بالقرب من مدفن أبى أيوب الأنصارى الصحابى رضى الله عن الجميع.

ومن تفسيره ما يلي :

قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ، إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ).

( سورة البقرة : ١٧٢ ، و ١٧٣ )

( يا أيّها الذين آمنوه كلوا من طيبات ما رزقناكم ، أى مستلذاته.

« واشكروا الله » : الذى رزقكموها ، والالفات لتربية المهابة.

« ان كنتم إياه تعبدون » : فان عبادته تعالى لا تتم إلا بالشكر له .. وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول الله عزوجل : إنى والانس والجن فى نبأ عظيم ، أخلق ويعبد غيرى ، وأرزق ويشكر غيرى.

« إنما حرم عليكم الميتة والدم » أى أكلها والانتفاع بها ، وهى التى ماتت على غير ذكاة والسمك والجراد خارجان عنها بالعرف ، أو استثناء الشرع ، وخرج الطحال من الدم.

« ولحم الخنزير » انما خص لحمه مع أن سائر اجزائه أيضا فى حكمه لأنه يؤكل من الحيوان ، وسائر أجزائه أيضا فى حكمه لأن معظمها يؤكل من الحيوان ، وسائر أجزائه بمنزلة التابع له.

٢٥٧

« وما أهل به لغير الله » ، أى رفع به الصوت عند ذبحه للصنم ، والإهلال أصله رؤية الهلال ، لكن لما جرت العادة برفع الصوت بالتكبير عند ذلك سمى اهلالا ، ثم قبيل لرفع الصوت وأن كان لغيره.

« فمن اضطر غير باغ » بالاستئثار على مضطر آخر.

« ولا عاد » سد الرمق والجوعة ، وقيل : غير باغ على الوالى ولا عاد بقطع الطريق.

وعلى هذا لا يباح للعاصى بالسفر وهو ظاهر مذهب الشافعى ، وقول أحمد رحمهما‌الله : « أى أن من سافر فى معصية لا يجوز له تناول شىء مما حرم عليه ولو اضطر لذلك لأنه تسبب فى هذا الاضطرار »

« فلا اثم عليه » : فى تناوله.

« ان الله غفور » : لما فعل.

« رحيم » : بالرخصة.

ان قبل : كلمة انما تفيد قصر الحكم على ما ذكر ، وكم من حرام لم يذكر.

قلنا : المراد قصر الحرمة على ما ذكر مما استحلوه لا مطلقا ، أو قصر حرمته على حالة الاختيار ، كأنه قيل : إنما حرم عليكم هذه الاشياء ما لم تضطروا إليها.

٢٥٨

السراج المنير للخطيب الشربينى

يقول المؤلف فى هذا التفسير :

« فدونك تفسيرا كأنه سبيكة عسجد ، أو در منضد ، جمع من التفاسير معظمها ، ومن القراءات متواترها ، ومن الأقاويل أظهرها ، ومن الأحاديث صحيحها وحسنها محرر الدلائل فى هذا الفن مظهرا لدقائق استعملنا الفكر فيها إذا الليل جن ».

ولقد يظن بعض الناس من هذه الكلمة أن الخطيب الشربينى يجب الفخر أو يشعر بالخيلاء ، ولكن ذلك أبعد الأشياء عن فطرته.

ولقد كانت فطرته التى صقلتها دراسته الدينية من أنقى الفطر وأطهرها وإذا نظرت إلى حياته فإنك تجده من كبار العلماء.

تلقى العلم على أعلام عصره مثل الشيخ أحمد البرلسى ، والنور المحلى ، والشهاب الرملى وغيرهم.

ولقد أجازوه بالافتاء والتدريس فى حياتهم ، فدرس وأفتى فى حياة أشياخه ، وقد انتفع بعلمه : تدريسا وكتبا خلق لا يكادون يحصون.

ومن كتبه شرح كتاب المنهاج وشرح كتاب التنبيه وهما شرحان نفيسان أقبل الناس على قراءتها وكتابتهما فى حياته ، وله على الغاية شرح مطول حافل.

وكان الشيخ يستخدم علمه فى كل الظروف ، وكان حركة لا تهدأ فإنه كان حينما يحج لا يركب ، وإنما يستمر سائرا على قدميه إلى أن يبلغ به التعب مداه فيركب إلى أن يستريح ثم يعود إلى السير من جديد.

وكان إذا خرج من بلدته « بركة الحاج » إلى الحج لم يزل يعلم الناس مناسك الحج ومناسك الحج لا يعلمها كثير من الذاهبين إلى بيت الله الحرام ،

٢٥٩

فكان الشيخ يعلمهم المناسك ويعلمهم آداب السفر وذلك أن للسفر فى الجو الإسلامى آدابا معينة هى من آداب الإسلام.

وكان يحث رفاقه على الصلاة ويعلمهم القصر أثناء السفر والجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء.

وكان هو يكثر فى الطريق من قراءة القرآن ، ومن الذكر والصلاة على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أما حينما يكون بمكة فإنه يكثر من الطواف فإنه العبادة المفضلة فيما يتعلق بالنوافل حينما يكون الإنسان بالمسجد الحرام.

وكان يكثر من الصوم فى السفر وفى مكة.

وكان يؤثر على نفسه فقد كان يحاول دائما أن يكون من الذين يؤثرون على أنفسهم ، ولو كان بهم خصاصة.

ويقول المؤرخون : أجمع أهل مصر على صلاحه ووصفوه بالعلم والعمل ، ووصفوه بالزهد والورع ، ووصفوه بكثرة النسك والعبادة. ومما يدل على اتجاهه إلى العبادة ومرضات الله تعالى أنه حينما كان يحل شهر رمضان يعتكف فى أول يوم من الشهر ويستمر فى المسجد عابدا مصليا قائما قارئا للقرآن ولا يخرج من الجامع إلا بعد صلاة العيد.

ويقول المؤرخون حينما ينتهون من الحديث عن حياته :

« وبالجملة : كان آية من آيات الله تعالى ، وحجة من حججه على خلقه ».

ومع أنه كان بهذه المكانة العلمية والاجتماعية ، فإنه كان يؤثر « الخمول » كما تقول الكتب التى تؤرخ له ، وما كان الشيخ خاملا ، كلا ، وهو صاحب هذا النشاط الجم ، وإنما يقصدون بالخمول أنه ما كان يجرى وراء دنيا وما كان يتهافت على المناصب ولا يقف بأبواب الحكام.

٢٦٠