مناهج المفسرين

الدكتور منيع عبد الحليم محمود

مناهج المفسرين

المؤلف:

الدكتور منيع عبد الحليم محمود


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب المصري
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٢

فالأولياء لهم قسط من العبودية ، فلهم قسط من الاسراء ، يسرى بأرواحهم لا بأشباحهم.

٣ ـ يقول الله تعالى :

( لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ).

( سورة الحشر الآية ٢١ )

قال رضى الله عنه فى هذه الآية : مدح لسيد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أى أن هذا القرآن لا تثبت له الجبال لو أنزل عليها ، وأنت يا محمد ثبت لنزوله بالقوة الربانية ، التى أودعناها فيك.

وفيها ذم للكافرين ، أى أن هذا القرآن لو أنزل على جبل لخشع وتصدع ، وأنتم ما خشعتم ولا تصدعتم.

١٨١
١٨٢

أبو حيان الأندلسى وتفسيريه

( البحر المحيط ) و ( النهر الماد )

مفسر العصر ومحدثه ومؤرخه واديبه والإمام المطلق فى النحو والتصريف الإمام أثير الدين أبو حيان محمد بن يوسف بن على بن يوسف بن حيان الأندلسى الغرناطى.

ولد بمطخشارش بالقرب من غرناطة آخر شوال سنة اربع وخمسين وستمائة.

بدأ أبو حيان حياته بالقرآن الكريم حفظا ودراسة فقرأه على الخطيب عبد الحق بن على افرادا وجمعا ثم على الخطيب أبى جعفر بن الطباع ، ثم على الحافظ أبى على بن أبى الأحوص بمالقة والم رحمه‌الله بالقراءات صحيحها وشاذها.

وقد حببت إليه الرحلة لطلب العلم فكانت رحلاته ببلاد الاندلس وحواضرها المشهورة ومواطن العلم والعلماء فى ذلك الوقت فسمع الحديث بالأندلس وافريقيا والاسكندرية ومصر والحجاز من نحو اربعمائة وخمسين شيخا منهم أبو الحسن بن ربيع وابن الأحوص والقطب العسكلانى وأجاز له خلق من المشرق والمغرب منهم الشرف الدمياطى وابن دقيق العيد وغيرهم الكثير.

ويقول ابن العماد فى شذرات الذهب :

واكب ـ أبو حيان ـ على طلب الحديث واتقنه وشرع فيه وفى التفسير والعربية والقراءات والادب والتاريخ واشتهر اسمه وطار صيته وأخذ عنه أكابر عصره وتقدموا فى حياته كالشيخ تقى الدين السبكى وولديه والجمال الاسنوى وابن قاسم وابن عقيل والسمين وناظر الجيش وابن مكتوم وخلائق.

١٨٣

وقال الصفدى :

لم اره قط إلا يسمع أو يشتغل أو يكتب ، أو ينظر فى كتاب وكان ثباتا عارفا باللغة وأما النحو والتصريف فهو الإمام المطلق فيهما خدم هذا الفن أكثر عمره حتى صار لا يدركه أحد فى اقطار الأرض فيهما وله اليد الطولى فى التفسير والحديث وتراجم الناس ، ومعرفة طبقاتهم خصوصا المغاربة واقرأ الناس قديما وحديثا ، الحق الصغار بالكبار ، وصارت تلامذته أئمة وشيوخا فى حياته.

ومما يذكر عن سبب رحلته ما نقله السيوطى قائلا :

« ورأيت فى كتابة النضار الذى ألفه فى ذكر مبدئه واشتغاله وشيوخه ورحلته : أن مما قوى عزمه على الرحلة عن غرناطة ان بعض العلماء بالمنطق والفلسفة والرياضة والطبيعة قال للسلطان فى ذلك الوقت ـ إنى قد كبرت وأخاف أن اموت ، فأرى ان ترتب لى طلبة اعلمهم هذه العلوم لينتفعوا من بعدى ، قال أبو حيان : فأشير إلى أن أكون من أولئك وترتب لى جيد وكسوة واحسان فتمنعت ورحلت مخافة أن اكره على ذلك ».

ومما يذكر لأبى حيان ما قاله عنه الأدفوي وهو : ـ ( ... كان ثبتا صدوقا سالم العقيدة من البدع الفلسفية والاعتزال والتجسيم ... كثير الخشوع والبكاء عند قراءة القرآن ، وكان شيخا طوالا حسن النفحة مليح الوجه ظاهر اللون مشربا بحمرة منور الشيبة كبير اللحية مسترسل الشعر ).

مؤلفاته : ـ

وقد كثرت مؤلفات أبى حيان كثرة فائقة نذكر منها :

البحر المحيط والنهر الماد وهما تفسيران مطول ومختصر سنتحدث عنهما.

إتحاف الاريب بما فى القرآن من الغريب.

والتذييل والتكميل فى شرح التسهيل.

١٨٤

ومطول الارتشاف ومختصره مجلدان ـ قيل عنهما ـ : لم يؤلف فى العربية أعظم من هذين الكتابين ولا أجمع ولا احصى للخلاف والأحوال. وغير ذلك الكثير.

شعره : ـ

ولأبى حيان شعر جيد يجعله فى عداد الحكماء نذكر منه قوله :

عداى لهم فضل على ومنة

فلا اذهب الرحمن عنى الأعاديا

همو بحثوا عن زلتى فاجتنبتها

و هم نافسونى فاكتسبت المعاليا

هذا وقد انتهت بأبى حيان الحياة بعد عمر مديد فى خدمة القرآن وعلومه وكانت وفاته بمصر سنة خمس وأربعين وسبعمائة للهجرة فرحم الله أبا حيان ورضى عنه وجزاه خير الجزاء.

١٨٥
١٨٦

تفسير أبى حيان

البحر المحيط ، والنهر الماد ـ ومنهجه فيهما

لقد شغل أبو حيان زمنا مديدا بخدمة القرآن وعلوم اللغة حتى قارب الستين من عمره ثم تفرغ لتفسير القرآن بعد أن حصل ادوات المفسر العالم الذى أدرك ما به سعادته الأبدية.

يقول أبو حيان فى مقدمة البحر المحيط.

وبعد : فإن المعارف جمة ، وهى كلها مهمة ، وأهمها ما به الحياة الأبدية ، والسعادة السرمدية ، وذلك علم كتاب الله هو المقصود بالذات ، وغيره من العلوم كالادوات ، هو العروة الوثقى ، والوزر الأوفى الأقوى ، والحبل المتين والصراط المستقيم ـ وما زال يختلج فى ذكرى ويلح فى فكرى أنى إذا بلغت الأمد الذى يتفضض فيه الأديم ، ويتنغص برؤيتى النديم ، وهو العقد الذى يحل عرى الشباب المقول فيه : إذا بلغ الرجل الستين فإياه وأيا الشراب ، الوذ بجانب الرحمن واقتصر على النظر فى تفسير القرآن ، فأتاح الله لى ذلك قبل بلوغ العقد وبلغنى ما كنت أروم من ذلك القصد .. وكان ذلك فى أواخر سنة عشر وسبعمائة وهى أول سنة سبع وخمسين من عمرى ، فعكفت على تصنيف هذا الكتاب .. فكم حوى من لطيفة فكرى مستخرجها ومن غريبة ذهنى منتجها ، تحصلت بالعكوف على علم العربية ..

وقد ذكر أبو حيان فى مقدمته على البحر المحيط منهجه فى هذا السفر الضخم الذى يقع فى ثمانى مجلدات كبيرة ينتفع بها الباحثون فى علوم القرآن على وجه العموم والباحثون فى علوم اللغة من نحو وصرف على وجه الخصوص يقول : ـ

وترتيبى فى هذا الكتاب : أنى ابتدأت أولا بالكلام على مفردات الآية

١٨٧

التى افسرها لفظة لفظة فيما يحتاج إليه من اللغة والاحكام النحوية التى لتلك اللفظة قبل التركيب ، وإذا كان للكلمة معنيان او معان ذكرت ذلك فى أول موضع فيه تلك الكلمة لينظر ما يناسب لها من تلك المعانى فى كل موضع تقع فيه فيحمل عليه.

ثم أشرع فى تفسير الآية ذاكرا سبب نزولها إذا كان لها سبب ونسخها ومناسبتها وارتباطها بما قبلها حاشدا فيها القراءات شاذها ومستعملها ذاكرا توجيه ذلك فى علم العربية ناقلا أقاويل السلف والخلف فى فهم معانيها.متكلما على جليها وخفيها بحيث أنى لا اغادر منها كلمة وان اشتهرت حتى اتكلم عليها مبديا ما فيها من غوامض الاعراب ودقائق الأدب من بديع وبيان مجتهدا أنى لا أكرر الكلام فى لفظ سبق فى جملة تقدم الكلام عليها ولا فى أية فسرت بل اذكر فى كثير منها الحوالة على الموضع الذى تكلم فيه على تلك اللفظة أو الجملة أو الآية ، وأن عرض تكرير فمزيد فائدة ناقلا أقاويل الفقهاء الأربعة وغيرهم فى الأحكام الشرعية مما فيه تعلق باللفظ القرآنى محيلا على الدلائل التى فى كتب الفقه ، وكذلك ما نذكره من القواعد النحوية أجيل فى تقريرها والاستدلال عليها على كتب النحو ، وربما اذكر الدليل إذا كان الحكم غريبا أو خلاف مشهور ما قال معظم الناس بادئا بمقتضى الدليل وما دل عليه ظاهر اللفظ مرجحا له لذلك ما لم يصد عن الظاهر ما يجب اخراجه به عنه منكبا فى الاعراب عن الوجوه التى تنزه القرآن عنها مبينا أنه مما يجب أن يعدل عنه وأنه ينبغى أن يعدل إلى أحسن اعراب وأحسن تركيب إذ كلام الله تعالى افصح الكلام فلا يجوز فيه جميع ما يجوزه النجاة فى شعر الشماخ والطرماح وغيرهما من سلوك التقارير البعيدة والتراكيب القلقة والمجازات المعقدة ، ثم اختتم الكلام فى جملة من الآيات التى فسرتها افرادا وتركيبا بما ذكروا فيها من علم البيان والبديع ملخصا. ثم اتبع آخر الآيات بكلام منثور أشرح به مضمون تلك الآيات على ما اختاره من تلك المعانى ملخصا جملها فى أحسن تلخيص ، وقد ينجر معها ذكر معان لم تتقدم فى التفسير ، وصار ذلك نموذجا

١٨٨

لمن يريد أن يسلك فيما بقى من سائر القرآن وستقف على هذا المنهج الذى ذكرته إن شاء الله ... الخ.

ويقول أبو حيان عن منهجه فى تفسيره الثانى المسمى :

( النهر الماد ) والمطبوع بهامش البحر المحيط :

وبعد : فإنى لما صنفت كتابى الكبير المسمى بالبحر المحيط فى علم التفسير عجز عن قطعه ـ لطوله ـ السبائح ، وتفلت له عن اقتناصه البارح منه والسائح ، فأجريت منه نهرا تجرى عيونه ، وتلتقى بأبكاره فيه عيونه لينشط الكسلان فى اجتلاء جماله ، ويرتوى الظمآن بارتشاف زلاله وربما نشأ فى هذا النهر ما لم يكن فى البحر ، وذلك لتجدد نظر المستخرج للآلية المبتهج بالفكرة فى معانيه ، وما اخليته من أكثر ما تضمنه البحر من نقوده ، بل اقتصرت على يواقيت عقوده ، ونكبت فيه عن ذكر ما فى البحر من أقوال اضطربت بها الحجة واعراب متكلف تعاصرت عنه خججه ، وتفكيك اجزاء يخرج بها الكلام عن براعته ويتجرد من فاخر بلاغته ونصاعته ، وهذا النهر مده من بحر ليس له جزر فيعسر وروده على من حظه فى النحو نزر ، لأن ادراك عويص المعانى مرتب على تقدم معرفة المبانى :

ولما اثرت در هذا النهر من بحره ، ونثرت حليه على مفرق الزمان وجيده ونحوه : سميته بالنهر الماد من البحر ، والله أسأل أن يعيننا على ذلك ـ ويلطف بنا فى الدارين هنا وهناك.

١٨٩

١٩٠

نموذج من تفسيريه

البحر المحيط ، والنهر الماد ( أولا : من البحر المحيط ):

فى قوله تعالى :

( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ )

لما ذكر تعالى ـ فى الآية السابقة ـ أن لكل وجهة يتولاها أمر نبيه أن يولى وجهه شطر المسجد الحرام من أى مكان خرج لان قوله :

( فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ـ فَوَلِّ وَجْهَكَ ).

ظاهره أنه أمر له باستقبال الكعبة وهو مقيم بالمدينة فبين بهذا الأمر الثانى تساوى الحالين اقامه وسفرا فى أنه مأمور باستقبال البيت الحرام ثم عطف عليه.

( وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ).

ليبين مساواتهم له فى ذلك أى فى حال السفر والأولى فى حال الإقامة ، وقرأ عبد الله بن عمير ( ومن حيث ) بالفتح فتح تخفيف ، وقد تقدم القول فى حيث فى قوله ( وحيث ما ).

( وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ).

هذا اخبار من الله تعالى بأن استقبال هذه القبلة هو الحق أى الثابت الذى لا يعرض له نسخ ولا تبديل ، وفى الأول قال :

( وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ).

١٩١

حيث كان الكلام مع سفهائهم الذين اعترضوا فى تحويل القبلة فرد عليه بأشياء منها :

إن علماء هم يعلمون أن تحويل القبلة حق من عند الله ، وختم آخر هذه الآية بما ختم به آخر تلك من قوله :

( وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ).

( سورة البقرة الآية ١٤٤ )

فى امتثال هذا التكليف العظيم الذى هو التحويل من جهة إلى جهة ـ وذلك هو محض التعبد فالجهات كلها بالنسبة إلى البارى تعالى مستوية فكونه خصها باستقبال هذه زمانا. ونسخ ذلك باستقبال جهة اخرى متأيدة لا يظهر فى ذلك فى بادئ الرأى إلا أنه تعبد محض فلم يبق فى ذلك إلا امتثال ما أمره الله به فأخبره تعالى أنه لا يغفل عن أعمالكم ـ بل هو المطلع عليها المجازى بالتواب من امتثل أمره ـ وبالعقاب من خالفه.

وجاء فى قوله ( الحقّ من ربّك ) ـ فى المكانين ـ وفى قوله : ( وما الله ) ـ فى المكانين ـ فحيث نبه على استدلال حكمته بالنظر إلى أفعاله ذكر الرب المقتضى للنعم ، لينظر منها إلى النعم ونستدل بها عليه ولما انتهى إلى ذكر الوعيد ذكر لفظ الله المقتضى للعبارة التى من أخل بها استحق اليم العذاب ...

ويقول أبو حيان فى تفسيره الآية السابقة فى النهر الماد :

( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ ) لما امر باستقبال الكعبة وهو عليه‌السلام مقيم بالمدينة بين تساوى الحالين فى الإقامة والسفر وبين بقوله : ( وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ ) تساوى جهاتهم وحاله عليه‌السلام فى ذلك ـ وختم هذه الآية بما ختم تلك الآية السابقة مبالغة فى امتثال هذا التكليف العظيم الذى هو تحويل من جهة إلى جهة وهو تعبد محض.

١٩٢

البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن

لابن الزملكانى

إن الذين يكتبون عن زوايا من إعجاز القرآن يتعرضون تعرضا عميقا لتفسيره فى كثير من آياته ، وهم فى ذلك مفسرون من أعلى طبقات المفسرين.

ومن هؤلاء كمال الدين عبد الواحد بن عبد الكريم الزملكانى المتوفى سنة ٦٥١ ه‍ صاحب كتاب : « البرهان » الكاشف عن أعجاز القرآن ، الذى نشرته مديرية الأوقاف بالعراق بتحقيق نفيس قامت به الدكتورة خديجة الحديثى والدكتور أحمد مطلوب.

والزملكانى نسبة إلى زملكان بدمشق.

وقد درس حتى أصبح اماما من أئمة اللغة والأدب ووصل به أمر الوظائف إلى أن تولى القضاء ، وهذا يدل على أنه مع ضربه بسهم نافذ فى الأدب فإنه انغمس أيضا فى الفقه فكان له قدم فيه ..

وقد كتب عدة كتب منها : ـ

١ ـ التبيان.

ولقد اهتم مؤلفنا بإعراب القرآن الكريم ، فكتب كتاب :

٢ ـ المفيد فى إعراب القرآن المجيد.

٣ ـ الخصائص النبوية

على أن كتب صاحب البرهان تدل على أنه اهتم اهتماما كاملا بالسيرة النبوية الشريفة فألف فيها كتاب « الخصائص النبوية ».

ولقد اجتذبت الخصائص النبوية كثيرا من المؤلفين ، منهم الإمام السيوطى الذى كتب كتابا ضخما فى الخصائص ، وهو كتاب نفيس ...

١٩٣

ويؤلف المؤلفون أيضا فى الخصائص تحت عنوان « الشمائل ».

ومن اشهر الكتب فى ذلك كتاب « الشمائل » للترمذى.

وعنه يقول صاحب شذرات الذهب :

ابن الزملكانى العلامة كمال الدين عبد الواحد بن خطيب زملكا أبو محمد عبد الكريم بن خلف الأنصارى السماكى الشافعى صاحب علم المعانى والبيان ، كان قوى المشاركة فى فنون العلم خيرا متميزا ذكيا سريا ولى قضاء صرخد ، ودرس مدة ببعلبك ، وله نظم رائق ، وهو جد الكمال الزملكانى المشهور ، واسطة عقد البيت ، وتوفى عبد الواحد فى المحرم بدمشق وكان له ولد يقال له أبو الحسن على ، إمام جليل ، وافر الحرمة ، حسن الشكل ، درس بالامينية وتوفى فى ربيع الأول سنة تسعين وستمائة ، وقد نيف على الخمسين.

وفيه يقول صاحب طبقات الشافعية :

عبد الواجد بن عبد الكريم بن خلف : الشيخ كمال الدين أبو المكارم ، ابن خطيب زملكا.

قال أبو شامة : كان عالما خيرا متميزا فى علوم عدة ، ولى القضاء بصرخد ، ودرس ببعلبك.

قلت : وهو جد الشيخ كمال الدين محمد بن على بن عبد الواحد الزملكانى ، وكانت له معرفة تامة بالمعانى والبيان ، وله فيهما مصنف ، وله شعر حسن ، توفى فى المحرم بدمشق سنة احدى وخمسين وستمائة ..

ومع كثرة خوضه فى التفسير وفى الفقه ، ومع كونه كان قاضيا معروفا فإن نزعة الأدباء إلى الشعر خصوصا من كانت عنده الوهبة ، قد غلبت عليه ، فكان يقول شعرا ، بل كان يبدأ كعادة الشعراء قصائده بغزل فى غاية العذوبة ، وفى بعض قصيدة له يقول :

أطرفك ام هاروت يعقد لى سحرا

أريقك أم طالوت يعصر لى خمرا

١٩٤

وما العيش إلا أن أرى لك عاشقا

وما الموت إلا أن تعذبنى هجرا

جمالك يكسو كل حسن ملاحة

ومنطقك الاسماع يملؤها درا

عذارك لام كل صدفك صاده

ولا غروان تضحى العيون به سهرى

وفى فيك أم عقد اللآلى منظم

فكان ظلام الليل فى ضوئه ظهرا

أليس ببدع أن تصيد قلوبنا

وأن تكثر القتلى وأن ترخص الأسرى

وكان يقول الشعر فى المدح ، ومن قصيدة له فى مدح الوزير أبى الحسن على الأمين : ـ

أسد فريسته أغاثه مدنف

أخنى عليه الدهر فى تجواله

جبل على الأبطال عند نزالهم

يا ويح من يدعى ليوم نزاله

السعد فى نظراته ، والموت فى

سطواته ، والفضل فى أفعاله

عجبا أبا الحسن الوزير غضنفر

والخائفون امانهم بظلاله

أبت المكارم أن تجود لدهرها

بمثاله ، ولغيره بخصاله

الصاحب الندب الجواد ومن له

شرف بمحتده وحسن فعاله

ومما ذكره الدكتور أحمد مطلوب من أهم آرائه التى عرضها فى البرهان ما يلي :

١ ـ اختار الرأى القائل بأن البسملة من الفاتحة.

٢ ـ رد على أبى هلال العسكرى فى تعريف البلاغة وقال : ان الفصاحة من عوارض الألفاظ مع ملاءمة المعنى ، والبلاغة من عوارض المعانى وهو تكميل المعنى باللفظ الذى يفهمه من قولهم ( بلغ كذا ) إذا انتهى إليه ، فإن اللفظ إذا كمل معناه أوصله إلى القلب .. أو أنه من ( بلغ الشيء فى نفسه ) إذا انتهى نهايته ، وبلغ حده ..

٣ ـ ذهب إلى ان ألم تر؟ بمنزلة : « هل رأيت »؟ وذكر الادلة على ذلك.

٤ ـ أنكر الترادف بين الألفاظ غير القديمة ، وأن من ادعى لها قدما فقد

١٩٥

زل قدما وسيعض بنانه يوم القيامة ندما ، كيف والقديم واجب الوجود لذاته لا يقبل العدم ، ولا يوصف بحلول فى صدور البشر ، ولا يلحن أحد فيه بلسان أو قلم ، ولا يضاف إلى لغة عرب ولا عجم ..

والنموذج الذى نذكره مكون فى الواقع من عدة نماذج ، فهو نص يتضمن عدة نصوص يتحدث فيه المؤلف من :

« أسباب التقديم والتأخير فى الآيات القرآنية ».

يقول :

التقدم فى اللسان تبع للتقدم فى الجنان ، على ما سنين أن الألفاظ تبع للمعانى والمعانى تتقدم باعتبارات خمسة :

الاول : تقدم العلة والسببية على المعلول والسبب ، كتقديم المضيء على الضوء ، وليس تقدما بالزمان لأن جرم الشمس ينفك عن الضوء.

الثانى : التقدم بالذات كالواحد مع الاثنين ، وليس الواحد علة لوجود الاثنين بخلاف القسم الأول.

الثالث : بالشرف كتقدم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الاتباع ، والعالم على الجاهل ..

الرابع : بالرتبة ، كتقدم الإمام على الماموم ، والجنس الأعلى على ما تحته إذا جعل مبدأ ..

الخامس : بالزمان ، كالأبعد من الآن مع الاقرب إليه ، ومنه تقدم الوالد على الولد ، فإن الوالد وجد فى زمان لم يكن فيه الولد موجودا ..

فما كان من المعانى مقدما على غيره بأحد هذه الاعتبارات أو بأكثرها كان فى العبارة كذلك ..

ومن التقدم بالزمان : « وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم ».

ومنه : ( وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ). ( سورة الانعام الآية ١ ).

١٩٦

فإن الظلمة سابقة على النور فى الإحساس ، وكذلك الظلمة المعنوية سابقة على النور الوالد يؤيده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

« إن الله خلق خلقه فى ظلمة ثم صب عليهم من نوره ، فمن اصابه من ذلك النور اهتدى ، ومن اخطأ ضل ».

ومنه قوله تعالى :

( وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ ).

فانتفاء العلم ظلمة ، وهى متقدمة بالزمان على نور الادراكات ..

وقوله تعالى : « فى ظلمات ثلاث » إشارة إلى ظلمة الرحم ، وظلمة البطن ، وظلمة المشيمة ..

وقيل : ظلمة الصلب والرحم والبطن .. فهذه ظلمات ثلاث محسة.

وفى الآية الأولى : ظلمات ثلاث معقولة : فقد السمع والبصر والفهم ...

ومن التقدم بالذات قوله تعالى : « مثنى وثلاث ورباع ».

ونحوه : « ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم » .. الآية ، وكذلك مراتب العدد ، فكل مرتبه هى ادنى من الأخرى ، فهى متقدمة على ما فوقها.

ومن التقدم بالسببية « العزيز » على « الحكيم » ، لأنه إذا عز حكم.

ومنه : « يحب التوابين ويحب المتطهرين » ، فإن التوبة سبب للطهارة ..

وكذلك : « كل افاك اثيم » فإن الافك سبب للإثم ، وكذلك « معتد اثيم ».

١٩٧

ومن التقدم بالرتبة قوله تعالى :

( يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ )

( سورة الحج الآية ٢٧ )

فإن الذين يأتون رجالا الغالب انهم يكونون من المكان القريب ، والاتيان على الضامر ان يكون من مكان بعيد على أنه قد ورد عن ابن عباس ( رضى الله عنهما ) :

« وددت أنى لو حججت راجلا ، فإن الله قدم الرجالة على الركبان فى القرآن ».

فجعله من باب التقدم بالفضيلة والشرف ، والمعنيان موجودان عند كثير من العلماء ..

وقوله تعالى :

( هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ).

( سورة ن الآية ١١ )

وذلك لا يفتقر إلى مشى بخلاف النميمة فإنها نقل للحديث من مكان إلى مكان عن شخص إلى شخص.

ومن التقدم بالشرف قوله عز وعلا :

( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ).

( سورة المائدة الآية ٦ )

فإن الوجه اشرف بالنسبة إلى أعضاء البدن ، واليدان اشرف باعتبار الأعمال ، والبدن سابق على عمله ، والرأس اشرف من الرجلين لاشتماله على

١٩٨

القوى الدراكة وهى القوى المدركة والحافظة والحافظة ، وذلك من عالم الغيب لا من عالم الشهادة .. فلا جرم تأخر عن الوجه واليدين إذ قواهما تظهر ـ فى عالم المشاهدة من الابصار والذوق والنطق ..

ومن التقدم بالشرف قوله تعالى : « من النبيين والصديقين » ..

ومنه تقديم السمع على البصر ، وسميع على بصير ، لأن السمع يدرك أخبار الأوائل والأواخر واحكام الآخرة .. وأيضا يدرك ما غاب وحضر ، والبصر إنما يتعلق بالحاضر فكان ادراك السمع أعم ، والأعم ابدا قبل الأخص بالرتبة .. وقد جعل تقديم الجن على الانس من التقديم بالشرف لاشتمال الجن على الملائكة ، وقال سبحانه : « وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ».

وقال الأعشى :

وسخر من جن الملائك سبعة قياما لديه يعملون بلا أجر

ونحوه قوله تعالى :

( لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ ).

( سورة الرحمن الآية ٧٤ ).

وقوله : ( فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ ) ..

( سورة الرحمن الآية ٣٩ )

وقوله تعالى :

( وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً ).

( سورة الجن الآية ٥ )

الجن فى ذلك كله لا يتناول الملائكة لنزاهتهم عن العيوب ، ولا يتوهم عليهم الكذب وسائر الذنوب ، فلما لم يتناول الملائكة عموم لفظ الجن بدأ بالاتى لفضلهم ..

١٩٩

الإمام ابن تيمية ومنهجه فى التفسير

هو الإمام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ، المولود بحران من بلاد الشام فى عاشر ربيع الأول سنة ٦٦١ ، وقد أقام بها بضع سنين ثم انتقل منها إلى دمشق مع أبيه وأخويه سنة ٦٦٧ تحت ضغط هجوم التتار.

نشأ فى دمشق ، وترعرع بها ، ثم بلغ أشده حتى أصبح من المشهورين ، ونهل من شتى أنواع العلوم والمعارف الدينية فى عصره ، ووصف ابن الوردى نشأته العلمية فقال :

انه بعد أن تعلم الخط والحساب ، وحفظ القرآن فى المكتب ، أقبل على الفقه والعربية ، وبرع فى النحو ، ثم أقبل على التفسير اقبالا كليا حتى سبق فيه ، وأحكم أصول الفقه.

ثم يقول ابن الوردى :

ونشأ فى تصون تام ، وعفاف وتعبد ، واقتصاد فى الملبس والمأكل ، ومارس المناظرة فى صغره ، وكانت له دراية واسعة بالسنة وفنونها مما ساعده على الاستدلال على آرائه ومعارضة آراء الخصوم.

وبالجملة جمع إلى المنقول المعقول فكان من كبار العلماء.

تحدث المؤرخ كمال الدين بن الزملكانى عنه فقال :

كان إذا سئل عن فن من الفنون ظن الرائى والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن ، وحكم أن أحدا لا يعرف مثله ، وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا فى سائر مذاهبهم منه ما لم يكونوا يعرفونه من قبل.

ولقد كثر الثناء عليه قديما وحديثا كما كثر فى حقه الانتقاد ، فاغرم به

٢٠٠