موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

وهي مما لا إشكال فيها سنداً ، إلاّ أن دلالتها مورد للمناقشة ، وذلك لأن مدلولها أن المسافر يجب أن يطلب الماء من أول الوقت إلى آخره ، وهو مقطوع الخلاف ولم يلتزم فقيه بوجوبه ، كيف ولازمه وقوف المسافر عن سفره وعن بقية إشغاله لوجوب الفحص عليه في مجموع الوقت ، وعليه لا بدّ من حملها على إرادة تأخير الصلاة إلى آخر الوقت وعدم جواز البدار له وأنه يسافر ويلاحظ الطريق أثناء سيره ليعلم أن الماء موجود ويصلِّي في آخر الوقت.

هذا وقد روى الشيخ في موضع ثالث هذه الرواية بطريق آخر ، وهو عين الطريق السابق بإبدال « ابن أُذينة » بـ « ابن بكير » عن زرارة عن أحدهما عليهما‌السلام ونقل عين الألفاظ المذكورة بإبدال « فليطلب » بـ « فليمسك عن الصلاة » (١) وهي على ذلك صريحة فيما ذكرناه ، ومع ذلك يتردد اللفظ بينهما فكيف يمكن للمدعي أن يستدل بها على وجوب الطلب؟ لأنها رواية واحدة ولا يحتمل تعددها بواسطة ابن أُذينة تارة وابن بكير اخرى مع اتحاد السند والألفاظ في غير الموردين.

نعم لما كان في سند الرواية قاسم بن عروة وهو ضعيف فلا تكون الرواية معارضة للصحيحة ، فاللفظ الصحيح هو « فليطلب ». إذن فالعمدة في الإشكال هي الجهة الاولى أعني عدم وجوب الطلب في مجموع الوقت كما ذكرناه.

ومنها : ما رواه النوفلي عن السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي عليهم‌السلام أنه قال : « يطلب الماء في السفر إن كانت الحزونة فغلوة ، وإن كانت سهولة فغلوتين ، لا يطلب أكثر من ذلك » (٢).

وهي من حيث الدلالة ظاهرة لكن سندها ضعيف ، فإن السكوني وإن كان ثقة إلاّ أن النوفلي لم تثبت وثاقته (٣) ، فيبتني الاستدلال بها على انجبار ضعفها بعمل المشهور‌

__________________

(١) التهذيب ١ : ١٩٤ / ٥٦٠.

(٢) الوسائل ٣ : ٣٤١ / أبواب التيمّم ب ١ ح ٢.

(٣) هذه الرواية موثّقة ، فان النوفلي وإن لم يوثق خصوصاً ولكنه داخل في التوثيق العام الواقع في كلام علي بن إبراهيم في مقدّمة تفسيره لوقوعه في أسناد التفسير.

٨١

وهو مما لا نقول به.

إذن لم يثبت وجوب الطلب بتلك الأخبار ، بل قد ورد في بعض الأخبار عدم وجوب الطلب حينئذ ، وهي ما رواه علي بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « قلت له : أتيمم ... فقال له داود الرقي : أفأطلب الماء يميناً وشمالاً؟ فقال : لا تطلب الماء يميناً وشمالاً ولا في بئر ، إن وجدته على الطريق فتوضأ منه ( به ) وإن لم تجده فامض » (١).

وهي من حيث الدلالة على عدم وجوب الفحص صريحة ، وإنما الكلام في سندها لأن علي بن سالم مردد بين علي بن أبي حمزة البطائني وبين علي بن سالم الكوفي على ما ذكره الشيخ في رجاله (٢) ، فان قلنا بأن ابن البطائني ضعيف فالرواية ضعيفة لا يمكن الاعتماد عليها ، وإن بنينا على وثاقته كما هو الصحيح (٣) وإن كان واقفياً بل من عمدهم كما ذكره النجاشي (٤) فقد يقال بضعف الرواية أيضاً لتردّد الراوي بين الموثق والمجهول.

إلاّ أن الصحيح على هذا أن الرواية معتبرة ، لأنه مع التردّد لا بدّ من حمل الراوي على من هو معروف وله رواية لانصراف اللفظ إليه لا حمله على المجهول الذي لم يعلم له رواية ولو في مورد واحد كما هو الحال في المقام ، حيث ذكروا أن علي بن سالم الكوفي مجهول وليس له رواية حتى في مورد ، وهذا بخلاف البطائني فإنه كثير الرواية وقد ذكرنا في بعض المواضع أن اللفظ والاسم إذا دار بين شخصين أحدهما معروف كثير الرواية والآخر مجهول كما يتفق هذا كثيراً ، إذ من البعيد جدّاً أن يكون اسم الراوي مختصاً به ولم يكن له سمّي أصلاً لا بدّ من حمله على المعروف لأنه الذي ينصرف إليه اللفظ. وعليه فهي رواية معتبرة وقد دلّت على عدم وجوب الفحص والطلب عن الماء مطلقاً.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٤٣ / أبواب التيمّم ب ٢ ح ٣.

(٢) لم نعثر عليه في رجال الشيخ.

(٣) قد رجع السيد الأُستاذ ( دام ظله ) عن ذلك وحكم بضعف الرجل في معجم رجال الحديث ١٢ / ٢٣٤ ترجمة علي بن أبي حمزة.

(٤) رجال النجاشي : ٢٤٩ / ٦٥٦.

٨٢

ولا وجه لحملها على صورة الخوف من اللص أو السبع بقرينة ما ورد في رواية داود الرقي قال « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أكون في السفر فتحضر الصلاة وليس معي ماء ويقال : إن الماء قريب منّا فأطلب الماء وأنا في وقت يميناً وشمالاً؟ قال : لا تطلب الماء ولكن تيمم فإني أخاف عليك التخلف عن أصحابك فتضل ويأكلك السبع » (١) وفي رواية يعقوب بن سالم قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل لا يكون معه ماء والماء عن يمين الطريق ويساره غلوتين أو نحو ذلك ، قال : لا آمره أن يغرر بنفسه فيعرض له لص أو سبع » (٢).

وذلك لأنهما ضعيفتان من حيث السند ، كما أن موردهما صورة العلم بوجود الماء كما صرح به في الثانية وكذا في الأُولى حيث قال فيها : « ويقال إن الماء قريب منّا » أي يقول أهل الاطلاع والمعرفة بالطريق وهذا خارج عن محل الكلام. فالرواية دالّة على عدم وجوب الطلب مطلقاً مع الخوف وعدمه.

وعليه يتقوى ما ذكره المحقق الأردبيلي قدس‌سره من عدم وجوب الفحص والطلب عن الماء ، إلاّ أن وجوبه لما كان معروفاً بين الأصحاب بل ادعي عليه التسالم والاتفاق فلا ينبغي ترك الاحتياط بالفحص ، وعلى الجملة وجوب الطلب مبني على الاحتياط.

بقي في المقام جهات من الكلام‌

الجهة الاولى : أن الطلب بناء على وجوبه هل وجوبه نفسي بحيث لو ترك التيمّم والصلاة عوقب بعقابين لتركه الفحص وتركه الصلاة مع تيمم ، أو أنه وجوب شرطي بحيث لو تيمم من دون فحص رجاء أو تمشي منه قصد القربة لنسيانه وجوب الفحص وكان فاقداً للماء في الحقيقة بطل تيمّمه لفقدانه الشرط ، أو أنه وجوب إرشادي إلى حكم العقل ، أو أنه وجوب طريقي؟

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٤٢ / أبواب التيمّم ب ٢ ح ١.

(٢) الوسائل ٣ : ٣٤٢ / أبواب التيمّم ب ٢ ح ٢.

٨٣

أمّا وجوبه النفسي فهو وإن كان ظاهر الأمر وإطلاقه ، لما بيناه في محله من أن مقتضى الإطلاق هو الوجوب النفسي وغيره يحتاج إلى قرينة وبيان (١) ، إلاّ أنه يندفع بوجود القرينة على خلافه وهي قوله : « فاذا خاف أن يفوته الوقت فليتيمم وليصل » فإنه ظاهر في أن الأمر بالطلب والفحص ليس من أجل محبوبيته في نفسه ، بل من جهة كونه مقدمة للتيمم والصلاة فلا يكون الطلب واجباً نفسياً حينئذ.

وأمّا احتمال الوجوب الشرطي وهو الذي اختاره صاحب الجواهر قدس‌سره (٢) فهو أيضاً مندفع بمخالفته لظاهر الآية والأخبار ، فان ظاهرهما أن التيمّم وظيفة من لم يكن واجداً للماء ، والمفروض أن المكلف كذلك واقعاً غاية الأمر أنه لم يكن عالماً به فلا يقع تيمّمه باطلاً ولا يكون الفحص شرطاً فيه.

وأمّا احتمال الوجوب الإرشادي والطريقي فهما مبنيان على أن الأصل العملي في المسألة مع قطع النظر عن الأدلة الاجتهادية يقتضي وجوب الطلب أو يقتضي عدمه.

فان قلنا بأن الأصل الجاري هو أصل الاشتغال لأجل العلم الإجمالي وهو يقتضي لزوم الفحص والطلب كما قدّمناه (٣) فلا محالة يكون الأمر بالطلب في الأخبار إرشاداً إلى ما حكم به العقل ، لأن المدار في الإرشادية أن يكون وجود الأمر وعدمه على حد سواء ولا يترتّب على وجوده أثر ، والأمر في المقام كذلك لأن الفحص واجب على ذلك مطلقاً ، كانت هناك رواية وأمر أم لم يكن.

وأمّا لو قلنا بأن الأصل يقتضي عدم وجوب الفحص لأن مقتضى الاستصحاب عدم وجدان الماء أو عدم وجوده ، فلا بدّ أن يكون الأمر به في الأخبار طريقياً ، فان المدار في الطريقية هو أن يكون الإنشاء بداعي تنجيز الواقع على تقدير وجوده ، كما في أخبار الاحتياط بناء على تماميتها ووجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية التحريمية‌

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ١٩٩.

(٢) الجواهر ٥ : ٧٧.

(٣) في ص ٧٧.

٨٤

إلى اليأس (١) إذا كان في الحضر ،

______________________________________________________

فإن الأمر بالاحتياط يستكشف به أن الحكم الواقعي على تقدير كون المشتبه محرماً واقعاً منجز على المكلف أي يعاقب المكلف على مخالفته.

وفي المقام نستكشف من الأمر بالطلب أن وجود الماء واقعاً موجب للوضوء على المكلف وأن الأمر به منجز في حقه بحيث لو تيمم وكان الماء موجوداً في الواقع لعوقب على مخالفته الأمر بالتوضؤ.

وهذا هو المتعين من بين المحتملات ، وعليه يكون حال الأمر بالطلب حال الأمر بالاحتياط في الشبهات التحريمية والاستظهار على المستحاضة ليظهر أنها من أي أقسامها في كونه طريقياً ، لأن الأمر فيهما قد أُنشئ بداعي تنجيز الواقع على تقدير وجوده.

(١) الجهة الثانية من الجهات التي يتكلّم عنها في المقام وهي في مقدار الفحص على تقدير القول بوجوبه فنقول :

أمّا غير المسافر فمقتضى أصالة الاشتغال هو لزوم الفحص إلى أن يحصل الاطمئنان بعدم الماء واقعاً ، إذ مع احتماله يستقل العقل بالفحص عنه حتى يظهر الحال ، وهذا هو المعبّر عنه باليأس عن الماء ، أي يفحص حتى لا يبقى له رجاء فيه وييأس من وجوده.

وأمّا المسافر فلو عملنا بما سلكه المشهور من أن الرواية الضعيفة ينجبر ضعفها بعمل المشهور على طبقها فرواية النوفلي عن السكوني تدلنا على أن المسافر لا يفحص زائداً على غلوة سهم في الأرض الحزنة وعلى غلوتين في الأرض السهلة بل يفحص بهذا المقدار ويكتفي به حصل له اليأس أم لم يحصل.

وأمّا إذا لم نقل بذلك كما هو الحق فالمسافر كالحاضر لا بدّ أن يفحص بمقدار يحصل له الاطمئنان واليأس من الماء ، لأن وجود الرواية حينئذ كالعدم.

ثم إنّ المسافر في الرواية مقابل من في البلد لا الحاضر ، بمعنى أن المسافر لو كان في‌

٨٥

وفي البرية يكفي الطلب غَلوة سهم في الحَزنة ولو لأجل الأشجار (١) وغلوة سهمين في السهلة في الجوانب الأربعة‌

______________________________________________________

البلد كان حاله حال الحاضر في لزوم الفحص بمقدار حصول الاطمئنان بالعدم وإن كان يجب عليه القصر في الصلاة لعدم إقامته وعدم كون البلد بلده ، وإنما يجب الفحص بمقدار غلوة أو غلوتين فيما إذا كان في البر ، وذلك لاختصاص الرواية الدالّة على المقدارين بالبر والأرض الحزنة والسهلة.

ثم إن الطلب المحدد بقدر حصول اليأس أو الغلوة أو الغلوتين إنما هو واجب فيما إذا لم يكن في الطلب بهذا المقدار مانع من لص أو سبع ولو احتمالاً ، وإلاّ فلا يجب الفحص معه في المسافر وغيره.

(١) وفيه : أن الحزنة على ما في اللغة (١) بمعنى الأرض الغليظة والوعرة في أصلها لاشتمالها على الخفض والرفع الموجبين لصعوبة السير فيها والفحص ، وأما الأرض الغليظة لمانع خارج عن الأرض كالأشجار أو الماء في غير المقام فلا يصدق عليها الحزنة ويشكل فيها الاكتفاء بمقدار غلوة.

الجهة الثالثة : أن الظاهر من الرواية اعتبار الغلوة أو الغلوتين بحسب الامتداد بأن يكون مقدار الفحص من موضع المسافر امتداد غلوة أو غلوتين ، فلا يحسب من ذلك الفحص في المواضع المنخفضة أو الفحص يميناً وشمالاً ، والاعتداد ببلوغ المقدار من موضع المسافر غلوة أو غلوتين امتداداً لا بكون المجموع بمقدار غلوة أو غلوتين ، فما نسب إلى بعضهم من كفاية بلوغ المجموع بمقدار الغلوة أو الغلوتين خلاف الظاهر ولا يمكن المصير إليه.

كما أن الظاهر بناء على أن الفحص واجب بأصالة الاشتغال والرواية تنفي وجوب الفحص زائداً على الغلوة أو الغلوتين لزوم الفحص بالمقدار المذكور في كل نقطة يحتمل وجود الماء فيها ، فلو فحص من الجهات الأربعة على نحو حدثت منه زوايا قوائم لم يكف ذلك في الفحص المعتبر ، بل لا بدّ من الفحص فيما بين كل جهتين من‌

__________________

(١) المنجد : ١٣٢ مادّة حزن.

٨٦

بشرط احتمال وجود الماء في الجميع ، ومع العلم بعدمه في بعضها يسقط فيه ، ومع العلم بعدمه في الجميع يسقط في الجميع ، كما أنه لو علم وجوده فوق المقدار وجب طلبه مع بقاء الوقت.

______________________________________________________

الجهات الأربعة وفي جميع الجهات المحتمل فيها وجود الماء زائداً عن الأربعة ، إذ مع احتمال الماء في جهة ونقطة يجب عليه الفحص فيها بأصالة الاشتغال ، لأنه لو تيمم من دون أن يفحص عنها في تلك الجهة كان ذلك امتثالاً احتمالياً وهو مما لا يكتفى به مع التمكن من الامتثال الجزمي.

فما نسب إلى بعضهم من كفاية الفحص يميناً وشمالاً أو بزيادة القدام مما لا وجه له ولعلّ من اكتفى بالفحص عن الماء في الجوانب الأربعة ينظر إلى أن الماء أمر قابل للرؤية والمشاهدة من بعيد ، فلو فحص في كل واحد من الجوانب الأربعة غلوة سهم أو غلوتين وهي أربعمائة ذراع كما قيل لشاهد الماء فيما بين الجانبين منها على تقدير وجوده ، فمع عدم رؤيته فيما بين كل جانبين منها يقطع أو يطمئن بعدمه ، وإلاّ فاللاّزم هو الفحص في جميع الجوانب والنقاط التي يحتمل فيها وجود الماء كما إذا لم يمكنه مشاهدة ما بين الجانبين لمانعٍ من أشجار وغيرها.

وكذلك الحال فيما إذا قلنا إن الأصل الجاري هو استصحاب عدم الوجود أو الوجدان ، والرواية مانعة عن جريانه بمقدار الغلوة أو الغلوتين فإنه مع وجود الماء في نقطة من النقاط يجب عليه الوضوء واقعاً كما هو مقتضى الآية والرواية ، لأن الأمر بالفحص طريقي كما قدّمناه (١) بلا فرق في ذلك بين كون الماء في الجوانب الأربعة أو غيرها من النقاط والجهات.

الجهة الرابعة : أن الفحص إنما يجب مع احتمال وجود الماء في ذلك المقدار ، لوضوح أن الأمر بالفحص ليس أمراً تعبدياً وإنما هو لأجل استكشاف الحال ليظهر أن الماء موجود أو غير موجود ، فلو علم المكلف بعدم الماء في جهة لم يجب الفحص عليه في‌

__________________

(١) في ص ٨٤ ٨٥.

٨٧

تلك الجهة وإنما يفحص في غيرها من الجهات ، كما لو علم عدمه في جهتين أو ثلاث جهات فحص في غيرها ، ولو علم بعدمه في مجموع الجوانب والنقاط سقط عنه الفحص مطلقاً ، بلا فرق في ذلك بين الحاضر والمسافر ، كان مدرك وجوب الفحص أصالة الاشتغال أو الأخبار.

كما أنه لو علم بوجوده في الزائد عن الغلوة أو الغلوتين وجب المسير إليه ، وذلك لأن مورد الرواية المحددة لمقدار الفحص بالغلوة والغلوتين إنما هو صورة احتمال الماء وأما صورة العلم به وجوداً وعدماً فهي خارجة عن موردها ، فلو علم بوجوده في الزائد عن ذلك المقدار شمله إطلاق الآية والأخبار ، لأنه واجد الماء ومتمكن من استعماله وهو مأمور بالوضوء.

نعم ذكر بعضهم أنه يعتبر في ذلك أن يكون الماء بحسب القرب على نحو يصدق على المكلف أنه واجد الماء عرفاً ، فلو كان الماء في البعد بمقدار لا يصدق عليه أنه واجد للماء عرفاً وجب عليه التيمّم لأنه فاقد له لدى العرف.

وفيه : أن المدار في وجوب التيمّم والوضوء وإن كان على صدق الواجد للماء أو الفاقد له عرفاً إلاّ أن القرب والبعد أجنبيان عن ذلك بالمرة ، لأن النسبة بين صدق الواجد والفاقد والقرب والبعد عموم من وجه ، فقد يكون الماء قريباً من المكلف لكن لا يصدق عليه الواجد لعدم تمكنه من الاستعمال ، وقد يكون الماء بعيداً عنه بمقدار السفر الشرعي أو الزائد عليه لكن يصدق عليه الواجد لتمكنه من استعماله بالمصير إليه بواسطة السيارة أو الطائرة ومعه يجب عليه الوضوء.

فالبعد والقرب ليسا دخيلين في ذلك ، بل المدار على التمكن من الاستعمال وعدمه ما دام لم يمنع عنه مانع من احتمال وجود السبع أو اللص أو كونه ضرريّاً أو حرجياً عليه أو خروج الوقت على تقدير الذهاب إليه ، فإنه في هذه الصور لا يجب عليه الوضوء والمسير إلى الماء ، بل يتعين التيمّم في حقه لا محالة.

نعم ، الظن بوجود الماء لا عبرة به لعدم اعتبار الظن شرعاً ، كما لا عبرة باحتماله في الأزيد من الغلوة أو الغلوتين ، لأن الرواية دلتنا على عدم وجوب الفحص في الزائد‌

٨٨

وليس الظن به كالعلم في وجوب الأزيد وإن كان الأحوط خصوصاً إذا كان بحد الاطمئنان (١) بل لا يترك في هذه الصورة (*) فيطلب إلى أن يزول ظنه ، ولا عبرة بالاحتمال في الأزيد‌

______________________________________________________

عنه وإن كان مقتضى أصالة الاشتغال هو الوجوب ، هذا بناء على أن الرواية دلت على عدم وجوب الفحص في الزائد عنه ، وكذلك الحال فيما إذا كانت الرواية واردة لبيان عدم جريان استصحاب عدم الوجدان أو الوجود ، لأنها على ذلك إنما تدل على عدم جريانه بمقدار غلوة أو غلوتين لا في الزائد عن ذلك المقدار وهذا ظاهر.

الاطمئنان كالعلم‌

(١) هل الاطمئنان ملحق بالعلم فيما ذكرناه أو لا يترتّب أثر عليه؟ الصحيح هو الأوّل ، لأن الاطمئنان أمر يعتمد عليه العقلاء ولم يرد في شي‌ء من النصوص ردع عن العمل به. ولا يحتمل أن تكون الأدلة الناهية عن العمل بالظن رادعة عنه ، لأنه لا يطلق الظن على الاطمئنان لدى العرف قطعاً ، نعم الظن لا يعتمد عليه لأنه ليس له أثر يترتب عليه ، مثل الشك ، كما أنه بمعنى الشك لغة.

الأرض المختلفة الجهات‌

ثم إن ما ذكرناه من وجوب الفحص على المسافر غلوة أو غلوتين إنما هو فيما إذا كانت حزنة أو سهلة ، وأما إذا كانت حزنة من جهة وسهلة من جهة أُخرى فلا مناص من أن يفرق بينهما ويرتب على الحزنة منها حكمها وعلى السهلة منها حكمها لأن الحكم يتبع موضوعه ، ولعله ظاهر.

وإنما الكلام فيما إذا كانت الجهة الواحدة مختلفة بأن كان بعضها سهلة وبعضها حزنة ، وهذا الأمر يأتي التعرض له في كلام الماتن بعدئذ ، لكن المناسب أن يتكلم عنه‌

__________________

(*) بل الأظهر فيها وجوب الطلب.

٨٩

في المقام فنقول :

الأرض المتحدة الجهة‌

إن السهلة من الأرض إذا كانت يسيرة جدّاً أو الحزنة منها كانت يسيرة فهي في الصورة الأُولى حزنة وفي الثانية سهلة ، إذ قلّما توجد جهة أو أرض سهلة بأجمعها أو حزنة كلها ، بل كل منهما يشتمل على شي‌ء قليل من غيرها.

وأمّا إذا كانت الجهة الواحدة نصفها حزنة ونصفها سهلة فهل هي بحكم السهلة أو الحزنة؟.

التحقيق خروجها عن منصرف الرواية لعدم كونها سهلة ولا حزنة ، وإنما هي مركبة منهما فهي خارجة عن كلا القسمين ، ولا يحكم عليها بحكم الحزنة ولا بحكم السهلة ، بل يحكم عليها بحكم آخر هو :

أنّا إن قلنا بأن الأصل في المسألة هو استصحاب عدم الوجود أو التمكّن الذي مقتضاه عدم وجوب الفحص عن الماء ، والرواية وردت لبيان سقوط الاستصحاب وللدلالة على أن الحكم الواقعي على تقدير وجوده منجز في حقه ويستحق المكلف العقاب على مخالفته ، فلا بدّ في الخروج عن مقتضى الاستصحاب من الاكتفاء بالمقدار المتيقن وهو الفحص غلوة واحدة ، لأنه واجب على تقدير كون الأرض حزنة فضلاً عن كونها سهلة ، وأما الغلوة الثانية وما زاد فليس وجوب الفحص فيها معلوماً ، بل هو مشكوك فيه ، لعدم شمول الرواية للمركبة من الحزنة والسهلة فلا يعلم سقوط الاستصحاب فيها بل هو المحكم فيما زاد على الغلوة الواحدة ، ومقتضاه عدم وجوب الفحص زائداً على الغلوة الواحدة فيلحقها حكم الأرض الحزنة.

وأمّا إذا قلنا إن الأصل الجاري في المسألة هو أصالة الاشتغال وهي تقتضي وجوب الفحص إلى أن يحصل اليقين بوجود الماء أو عدمه ، والرواية وردت للدلالة على عدم وجوب الفحص زائداً على الغلوة والغلوتين فينعكس الأمر وتلحق المركبة بالأرض السهلة ، وذلك للعلم بعدم وجوب الفحص في الزائد على الغلوتين والعلم‌

٩٠

[١٠٥٩] مسألة ١ : إذا شهد عدلان بعدم الماء في جميع الجوانب أو بعضها سقط وجوب الطلب فيها أو فيه (١) وإن كان الأحوط عدم الاكتفاء ، وفي الاكتفاء‌

______________________________________________________

بوجوبه بمقدار غلوة واحدة ، وأما الغلوة الثانية فالفحص فيها مشكوك في وجوبه لعدم شمول الرواية لها فلم يعلم خروجها عن مقتضى أصالة الاشتغال فهي المحكمة في الغلوة الثانية ، ومقتضاها وجوب الفحص في الثانية أيضاً.

إذا شككنا في مقدار الغلوة‌

ومن هذا يظهر حكم فرع آخر وهو ما إذا شككنا في مقدار الغلوة لأجل عدم تعارف رمي السهم في زماننا هذا ليعلم أن مقداره من الشخص المعتاد والقوس المعتاد أي شي‌ء ، وإن قيل إنها أربعمائة ذراع بذراع اليد ، فاذا شككنا أنها أربعمائة ذراع أو ثلاثمائة ذراع مثلاً.

فاذا قلنا بأن الأصل في المسألة هو الاستصحاب ، والرواية دالة على سقوطه في الغلوة والغلوتين ، ففي المقدار الأقل وهو ثلاثمائة ذراع نعلم بسقوط الاستصحاب فيه وفي الزائد عنه نشك في سقوطه لعدم العلم بدخوله في الغلوة فالاستصحاب فيه هو المحكم ، ومقتضاه عدم وجوب الفحص في المقدار المشكوك فيه.

وإذا قلنا بأن الأصل في المسألة هو أصالة الاشتغال ، والرواية وردت لبيان عدم وجوب الفحص في الزائد عن الغلوة والغلوتين ينعكس الأمر ، لأن عدم وجوبه بعد أربعمائة ذراع معلوم لا ريب فيه ، ووجوبه إلى ثلاثمائة ذراع معلوم ، ولكن وجوبه منها إلى أربعمائة ذراع مشكوك فيه ، ولم يعلم خروجه من أصالة الاشتغال المقتضية لوجوب الفحص فهي المحكمة في ذلك المقدار حينئذ.

موارد سقوط وجوب الطلب‌

(١) لأن حال البينة حال العلم الوجداني بعدم الماء في جانب أو جميع الجوانب‌

٩١

بالعدل الواحد إشكال (*) فلا يترك الاحتياط بالطلب.

[١٠٦٠] مسألة ٢ : الظاهر وجوب الطلب في الأزيد من المقدارين إذا شهد عدلان بوجوده في الأزيد ، ولا يترك الاحتياط في شهادة عدل واحد به (١).

[١٠٦١] مسألة ٣ : الظاهر كفاية الاستنابة في الطلب وعدم وجوب المباشرة (٢)

______________________________________________________

فكما أن الرواية لا تشمل مورد العلم بالعدم كذلك لا تشمل مورد العلم التعبدي بالعدم ، فان الاحتمال مع قيام البينة على عدم الماء موجود بالوجدان إلاّ أنه ملغى عند الشارع المقدّس ، بل الحال كذلك فيما إذا شهد به عدل واحد ، بل لا تعتبر العدالة في المخبر أيضاً ، لكفاية الوثاقة في حجية الخبر في الأحكام والموضوعات على ما أوضحناه في الأُصول من جريان السيرة العقلائية على الاعتماد والأخذ بخبر الثقة (١).

(١) ظهر الحال مما بيناه في المسألة السابقة حيث ذكرنا أن الاحتمال وإن كان موجوداً مع البينة إلاّ أنه ملغى بحكم الشارع لأنها فرد من العلم تعبّداً ، وقد مرّ أنه مع العلم بوجود الماء في الزائد على غلوة أو غلوتين يجب المسير إليه ، لصدق أنه واجد الماء فتشمله الآية والأخبار ، ولا تشمله الرواية المتقدمة التي موردها صورة احتمال الماء لا العلم به وجوداً أو عدماً ، ما دام لم يمنع عنه مانع من خوف أو ضرر أو حرج. وكذلك الحال في خبر العدل الواحد بل والثقة أيضاً.

الاستنابة كافية في الطلب‌

(٢) الظاهر أن التكلم في ذلك ساقط من أصله ، والوجه في ذلك أن الاستنابة الواقعة مورد الكلام إنما هي الاستنابة في الواجبات النفسية والشرطية ، ومن هنا استشكلنا في كفاية الاستنابة في مثل الصلاة على الميِّت أو تغسيله وقلنا إن الأمر فيهما متوجه إلى كافة المكلفين فكفاية فعل غير المكلف البالغ يحتاج إلى دليل.

__________________

(*) لا يبعد الاكتفاء بإخبار العدل الواحد بل بإخبار مطلق الثقة ، وكذا الحال في المسألة الآتية.

(١) مصباح الأُصول ٢ : ١٩٦.

٩٢

بل لا يبعد كفاية نائب واحد عن جماعة (١) ولا يلزم كونه عادلاً بعد كونه أميناً موثقا.

[١٠٦٢] مسألة ٤ : إذا احتمل وجود الماء في رحله أو في منزله أو في القافلة وجب الفحص (*) حتى يتيقن العدم أو‌

______________________________________________________

وكذلك الحال في الواجبات الشرطية والغيرية كالوضوء ، فإن المأمور بغسل وجهه ويديه ومسح رأسه ورجليه إنما هو المكلف المريد للصلاة فكفايته من غيره محتاجة إلى الدليل.

وأما الواجب الإرشادي والطريقي كما في المقام ، لأن الأمر بالفحص إرشادي على تقدير أن يكون الأصل في المسألة أصالة الاشتغال وطريقي على تقدير أن يكون الأصل فيها هو الاستصحاب فلا يأتي البحث عن جواز الاستنابة وعدمه ، لأن الفحص مقدّمة على كلا التقديرين لتحصيل العلم بالحال وأن المكلف مأمور بالتيمّم أو الوضوء.

وعليه فكفاية الفحص الصادر عن الغير في حق ذلك المكلف تبتني على المسألة المتقدمة من أن خبر العدل أو الثقة حجة عند الإخبار بوجود الماء أو عدمه أو ليس بحجة ، وعلى الأوّل يكفي فحص الغير في حقه سواء استنابه أم لم يستنبه ، لحجية إخباره عن وجود الماء أو عدمه. وعلى الثاني لا يكفي فحصة عن الماء بالإضافة إلى الغير ، استنابه أم لم يستنبه ، لأنه لا حجية في قوله وإخباره فمن أين يثبت أن الماء موجود أو ليس بموجود.

(١) قد ظهر مما بيناه آنفاً أن ترقيه قدس‌سره هذا في غير محله ، لأنه على القول بحجية إخبار الثقة والعدل الواحد فخبره عن الماء حجة على الواحد وعلى الكثيرين على حد سواء ، كان المكلف بالفحص شخصاً واحداً أو أكثر.

__________________

(*) على الأحوط ، ولا يبعد عدم وجوبه فيما تيقن بعدمه سابقا.

٩٣

يحصل اليأس منه (١) ، فكفاية المقدارين خاص بالبرية.

[١٠٦٣] مسألة ٥ : إذا طلب قبل دخول وقت الصلاة ولم يجد ففي كفايته بعد دخول الوقت مع احتمال العثور عليه لو أعاده إشكال (*) ، فلا يترك الاحتياط بالإعادة (٢)

______________________________________________________

(١) كالحاضر ، لأن النص المحدد لقدر الفحص بغلوة أو غلوتين مختص بالمسافر في البر فلا يشمله في غير البر كما تقدّم (١).

إذا طلب الماء قبل الوقت‌

(٢) بناء على وجوب الطلب فهل لا بدّ من الطلب بعد دخول الوقت بحيث لو طلبه قبل الدخول ولم يجد الماء لا يكفيه ذلك الفحص بعد دخول الوقت ، أو أنه يكفيه في الطلب الواجب ولا تجب عليه الإعادة؟

قد يقال بأن الواجب هو الطلب بعد دخول الوقت فلا يكفي الطلب قبله.

وأُخرى يستدل على كفايته قبل دخول الوقت بأن وجوبه توصلي فلو أتى به قبل الوقت سقط به الوجوب.

وفي كلا الوجهين ما لا يخفى :

أمّا أوّلهما فلأن وجوب الطلب بعد دخول الوقت لا يوجب عدم سقوطه إذا تحقق قبل الدخول ، ولا تلازم بينهما.

وأمّا ثانيهما فلأن معنى التوصلية سقوط الواجب فيما إذا لم يؤت به بداعي القربة وأمّا أنه يسقط لو أتى به في غير وقته فهو يحتاج إلى دليل.

__________________

(*) أظهره الكفاية وعدم وجوب الإعادة.

(١) تقدّم النص في الأخبار المستدل بها على وجوب الفحص في ص ٨١.

٩٤

وأمّا مع انتقاله عن ذلك المكان فلا إشكال في وجوبه مع الاحتمال المذكور (١).

______________________________________________________

فالذي ينبغي أن يقال في المقام هو أن حسنة زرارة المشتملة على الأمر بالطلب في مجموع الوقت (١) أجنبية عن الدلالة على وجوب الطلب ، لما قدمنا (٢) من عدم وجوب الطلب في مجموع الوقت قطعاً ، وأنها محمولة على إرادة الفحص في أثناء السير والسفر إلى آخر الوقت وعدم جواز البدار إلى التيمّم ، فلا يمكن الاستدلال بها على ما نحن فيه.

وأمّا رواية السكوني فلا إشعار فيها بلزوم كون الطلب بعد الوقت فضلاً عن الدلالة عليه ، بل إنما وردت للدلالة على عدم وجوب الفحص في الزائد عن الغلوة والغلوتين (٣) بناء على أن الأصل في المسألة هو الاشتغال ، أو للدلالة على عدم جريان الاستصحاب في الغلوة والغلوتين ، أي على اعتبار الفحص في جريان الاستصحاب في خصوص المقام وإن كانت الشبهة موضوعية كاعتباره في الشبهات الحكمية.

وعلى كلا التقديرين لو فحص قبل الوقت كفى ذلك في الفحص اللاّزم ولم تجب إعادته بعد الوقت ، لعدم الدليل على لزوم كونه بعد الوقت. اللهمّ إلاّ أن يحتمل وجوده في محل لم يفحص عنه سابقاً كما إذا احتمل جريان الماء في النهر الذي كان يابساً عند الفحص السابق. وبعبارة أُخرى : إذا تجدد احتمال وجود الماء زائداً عما كان يحتمله سابقاً وجب الفحص عنه لعدم تحققه بالإضافة إليه على كلا التقديرين في الرواية وهذا بخلاف المواضع التي فحص عنها سابقاً ولم يتجدد احتماله فيها بعد الوقت.

إذا انتقل من مكان الفحص‌

(١) ممّا تقدّم يظهر وجه ما أفاده قدس‌سره هنا ، وذلك لأنه إذا انتقل إلى مكان آخر فهو موضوع لم يفحص عن الماء فيه ، وهو غير الموضوع والمكان السابق الذي‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٤١ / أبواب التيمّم ب ١ ح ١.

(٢) في ص ٨١.

(٣) وقد تقدّم ذكرها في ص ٨١.

٩٥

[١٠٦٤] مسألة ٦ : إذا طلب بعد دخول الوقت لصلاة فلم يجد يكفي لغيرها من الصلوات فلا يجب الإعادة عند كل صلاة إن لم يحتمل العثور مع الإعادة وإلاّ فالأحوط الإعادة (*) (١)

[١٠٦٥] مسألة ٧ : المناط في السهم والرمي والقوس والهواء والرامي هو المتعارف المعتدل الوسط في القوة والضعف (٢).

______________________________________________________

قد فحص عن الماء فيه ، فيجب عليه الفحص عنه في المكان الذي انتقل إليه على كلا الاحتمالين في الرواية.

الطلب بعد دخول الوقت‌

(١) ظهر مما ذكرناه أيضاً حكم الفرع المذكور ، وذلك لتحقق ما هو المعتبر في التيمّم على كلا التقديرين في الرواية ، بل الأمر كذلك فيما إذا بقي في ذلك المكان مدة كثيرة ، اللهمّ إلاّ أن يتجدد احتماله زائداً عما فحص عنه سابقاً ، ولا تجب إعادته عند كل صلاة.

المناط في السهم والرمي‌

(٢) لانصراف الرواية عن الأفراد النادرة كمن كان سهمه أو قوسه قويين أو كانت يده قوية بحيث يرمي النبل زائداً عن المتعارف ، فلا تشمل إلاّ الفرد المتعارف كما أفاده الماتن.

إلاّ أنّا ذكرنا مراراً أن المتعارف في أمثال تلك الأُمور لا انضباط له ، وهو مختلف في نفسه كما أشرنا إليه في بحث الكر وقلنا إن الشبر في الأشخاص المتعارفين أمر مختلف باختلافهم ، فيدور الأمر بين جعل المدار على المتوسط منهم أو الأقل أو الأكثر ، وقد بينا في بحث الكر أن المدار على أقل شبر من المتعارفين (١).

__________________

(*) والأظهر عدم وجوبها.

(١) شرح العروة ٢ : ١٧٠ ١٧١.

٩٦

[١٠٦٦] مسألة ٨ : يسقط وجوب الطلب في ضيق الوقت (١).

______________________________________________________

والوجه في ذلك هو العلم بعدم اختلاف الكر أو مقدار الفحص اللازم باختلاف المتعارفين بأن يجب على أحد الفحص بمقدار وعلى الآخر زائداً عنه وعلى ثالث ناقصاً عنه ، لأن حكم الله سبحانه واحد في حق الجميع ، ولا تتحقق الوحدة إلاّ إذا بنينا على جعل المدار أقل المتعارف في الشبر وفي مقدار رمي النبل.

ولأجل الاختلاف في المتعارف وقع الخلاف في أن الغلوة أيّ مقدار فحدّدها بعضهم بأنها ثلاثمائة ذراع بذراع اليد إلى أربعمائة ذراع ، وذكر بعض آخر أن الفرسخ خمس وعشرون غلوة فالغلوة واحد من خمس وعشرين جزءاً من الفرسخ ، وعليه تبلغ الغلوة خمسمائة ذراع إلاّ قليلاً ، لأن الفرسخ اثنا عشر ألفاً من الأذرع المتعارفة وهو خمس وعشرون غلوة ، فالغلوة الواحدة تبلغ خمسمائة ذراع إلاّ قليلاً.

وقد بيّنا سابقاً (١) أنه بناء على أن الأصل في المسألة هو أصالة الاشتغال لا بدّ من الأخذ في وجوب الفحص بالمقدار المتيقن وهو الأكثر أي خمسمائة ذراع وفيما زاد عليه يرجع إلى الرواية الدالّة على عدم وجوب الفحص في الزائد عن الغلوة.

وأما بناء على أن الأصل في المسألة هو استصحاب عدم الوجود أو عدم التمكن فينعكس الحال ويؤخذ فيما دلت عليه الرواية من وجوب الفحص بالمقدار المتيقن وهو ثلاثمائة ذراع وفي الزائد عنها يرجع إلى الاستصحاب ، لعدم العلم بسقوطه فيما زاد عن ثلاثمائة ذراع.

عند الضيق يسقط وجوب الطلب‌

(١) وهذا مما لا إشكال فيه ، إلاّ أن المستند في ذلك ليس هو حسنة زرارة الدالّة على الأمر بالطلب في مجموع الوقت وإذا لم يجده وخاف فوت الوقت تيمم وصلّى (٢)

__________________

(١) في ص ٩٠ ، ٩١.

(٢) تقدّمت في المسألة الخامسة ص ٨٠.

٩٧

[١٠٦٧] مسألة ٩ : إذا ترك الطلب حتى ضاق الوقت عصى ، لكن الأقوى صحّة صلاته حينئذ وإن علم أنه لو طلب لعثر ، لكن الأحوط القضاء خصوصاً في الفرض المذكور (١).

______________________________________________________

وذلك لاختصاصها بما إذا خاف فوت الوقت بعد الفحص والطلب وهو خارج عما نحن فيه ، أعني ما إذا خاف فوت الوقت من الابتداء وقبل الطلب والفحص.

كما أنه ليس هو ما دل على وجوب التيمّم من دون فحص إذا خاف اللص أو السبع ، لعدم دلالته على مشروعية التيمّم من دون فحص إذا خاف فوت الوقت من الابتداء.

بل الوجه فيه هو قطعنا بكون المكلف مأموراً بالصلاة وبعدم سقوطها عنه حال فقدانه الماء ، وهو غير متمكن من استعماله وجداناً ولو على تقدير وجود الماء واقعاً لخوف ضيق الوقت فيشمله إطلاق الآية والأخبار الواردة في أن فاقد الماء يتيمم ويصلِّي.

إذا ترك الطلب حتى ضاق الوقت‌

(١) في هذه المسألة أمران :

أحدهما : أنه إذا ترك الطلب حتى ضاق الوقت عصى.

وثانيهما : أنه مع عصيانه تصح منه الصلاة.

أمّا الأمر الأوّل : فالحكم بعصيان المكلف بتركه الفحص على نحو الإطلاق يبتني على ما اخترناه من أن الأمر بالفحص أمر طريقي ، يعني أنه واجب بوجوب شرعي ظاهري أُنشئ بداعي تنجيز الواقع وأنه المانع من جريان الاستصحاب في المقام ، فان المكلف على هذا مأمور بالفحص ظاهراً على نحو الإطلاق ، فلو خالفه عد ذلك منه عصياناً ومخالفة لذلك الأمر الظاهري ، ولا فرق في كون المخالفة عصياناً بين المخالفة للحكم الواقعي والمخالفة للحكم الظاهري.

٩٨

وأمّا إذا بنينا على أن الأصل الجاري في المسألة هو الاشتغال والأمر بالفحص أمر إرشادي فلا يكون ترك الفحص عصياناً مطلقاً بل فيما إذا كان بحيث لو فحص وجد الماء واقعاً ، وأمّا لو كان في الواقع على نحو لم يكن واجداً للماء حتى لو فحص فلا عصيان في البين ، لعدم كونه واجداً للماء واقعاً ، نعم هي مخالفة للعقل مطلقاً ، لاستقلاله بناء على هذا على لزوم الفحص مطلقاً إلاّ أن مخالفته عند عدم كونه واجداً للماء تجرٍّ ، والتجرِّي مقابل العصيان لا أنه عصيان.

وأمّا الأمر الثاني : فإن قلنا بصحّة التيمّم فيما لو علم أنه لو طلب لعثر فلا بدّ من الالتزام بالصحّة فيما إذا لم يعلم بذلك بل احتمله بطريق أولى.

وأمّا لو لم نقل بالصحّة في صورة العلم بالعثور على تقدير الطلب فهل يحكم بصحّة التيمّم عند احتماله العثور على تقدير الطلب أم لا؟ الصحيح هو صحّة التيمّم في هذه الصورة ، وذلك لما قدّمناه (١) من أن الأصل الجاري في المقام هو استصحاب عدم وجود الماء أو عدم وجدانه ، وهو يقتضي عدم وجوب الفحص وصحّة التيمّم من غير فحص ، وإنما خرجنا عنه من جهة الأمر بالفحص في الأخبار ، فإذا سقط الأمر به بالعصيان لم يكن مانع من الاستصحاب ، وبه يثبت أن المكلف مأمور بالتيمّم فيقع منه صحيحاً وإن لم يفحص.

وأمّا في صورة العلم بالعثور عند طلبه فمقتضى القاعدة الأوّلية بطلان التيمّم وسقوط الصلاة في حق المكلف ، لأن التيمّم على ما يستفاد من الآية وحسنة زرارة وغيرهما وظيفة الفاقد للماء بالطبع لا من كان واجداً له بطبعه وإنما عجّز نفسه عنه باختياره بإهراقه أو تنجيس بدنه ليحتاج إلى تطهيره ولا يبقى له ماء يتوضأ أو غيره من الأسباب.

وهذا ظاهر بالمراجعة إلى نظائره لدى العرف ، فلو أمر المولى عبده بطبخ طعام لو قدر عليه وبشي‌ء آخر لو عجز عنه وكان قادراً على الطبخ لكنه عجّز نفسه باختياره ليدخل في الأمر بالشي‌ء الآخر لم يكن معذوراً لدى العرف.

__________________

(١) في ص ٧٩ ٨٠.

٩٩

[١٠٦٨] مسألة ١٠ : إذا ترك الطلب في سعة الوقت وصلّى بطلت صلاته (١) وإن تبيّن عدم وجود الماء ، نعم لو حصل منه قصد القربة مع تبيّن عدم الماء فالأقوى صحّتها (٢).

______________________________________________________

وفي مفروض الكلام لما كان المكلف متمكناً من الماء بفحصه ولم يفحص باختياره حتى ضاق الوقت وعجز عنه فيدخل في صدر الآية الآمر بالوضوء والغسل عند الوجدان ولا يشمله الأمر بالتيمّم ، لأنه وظيفة الفاقد بالطبع لا بالاختيار ، إلاّ أن العلم الخارجي الحاصل من الإجماع وحسنة ثانية لزرارة في المستحاضة اشتملت على قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمستحاضة : « ولا تدع الصلاة بحال » (١) يمنع عن الحكم بسقوط الصلاة ، بل لا بدّ من الحكم بوجوب الصلاة مع التيمّم لفقدانه الماء حينئذ.

نعم الأحوط في صورتي [ احتمال ] العثور أو العلم به على تقدير الطلب هو القضاء خارج الوقت ، لاحتمال أن يكون الواجب في حقه هو الصلاة مع الوضوء أو الغسل وقد فوتها على نفسه فيقضيها خارج الوقت ، إلاّ أنه احتياط استحبابي لكونه آتياً بالمأمور به في حقه ظاهرا.

(١) البطلان في كلامه هو البطلان الظاهري ، وهو كما أفاده قدس‌سره لأن العقل لا يكتفي بالتيمّم بلا فحص ، لأنه امتثال احتمالي فعمله باطل ظاهرا.

(٢) كما إذا أتى به برجاء المطلوبية ، وذلك لأن المعتبر في العبادة أمران :

أحدهما : أن يكون مأموراً بها ، وهو موجود في المقام ، لأن المفروض أنه فاقد للماء واقعاً ووظيفة الفاقد التيمّم وهو منه مأمور به.

وثانيهما : إضافتها إلى المولى نحو إضافة ، وهي متحققة أيضاً على الفرض ، لأنه أتى به برجاء كونه مأموراً به في حقه وهو كافٍ في صحّة الإضافة إلى الله سبحانه.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٧٣ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٥.

١٠٠