موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

التاسع عشر : للمباهلة مع من يدّعي باطلا (١).

العشرون : لتحصيل النشاط للعبادة أو لخصوص صلاة الليل ، فعن فلاح السائل : أن أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يغتسل في الليالي الباردة لأجل تحصيل النشاط لصلاة الليل.

الحادي والعشرون : لصلاة الشكر.

الثاني والعشرون : لتغسيل الميِّت ولتكفينه.

الثالث والعشرون : للحجامة على ما قيل ، ولكن قيل إنه لا دليل عليه ، ولعلّه مصحف الجمعة.

الرابع والعشرون : لإرادة العود إلى الجماع ، لما نقل عن الرسالة الذهبية : أن الجماع بعد الجماع بدون الفصل بالغسل يوجب جنون الولد. لكن يحتمل أن يكون المراد غسل الجنابة ، بل هو الظاهر.

الخامس والعشرون : الغسل لكل عمل يتقرّب به إلى الله كما حكي عن ابن الجنيد ، ووجهه غير معلوم ، وإن كان الإتيان به لا بقصد الورود لا بأس به.

القسم الثاني : ما يكون مستحباً لأجل الفعل الذي فعله وهي أيضاً أغسال :

أحدها : غسل التوبة (٢) على ما ذكره بعضهم من أنه من جهة المعاصي التي ارتكبها أو بناء على أنه بعد الندم الذي هو حقيقة التوبة ، لكن الظاهر أنه من القسم الأوّل كما ذكر هناك ، وهذا هو الظاهر من الأخبار ومن كلمات العلماء.

______________________________________________________

(١) لموثقة سماعة : « وغسل المباهلة واجب » (١) وقد مر أن الظاهر إرادة الغسل لنفس المباهلة لا غسل يوم المباهلة.

(٢) لصحيحة مسعدة بن زياد حيث ورد فيها : « قم فاغتسل وصل ما بدا لك » (٢).

__________________

(١) قدمنا المصدر فلاحظ.

(٢) الوسائل ٣ : ٣٣١ / أبواب الأغسال المسنونة ب ١٨ ح ١.

٦١

ويمكن أن يقال إنه ذو جهتين ، فمن حيث إنه بعد المعاصي وبعد الندم يكون من القسم الثاني ومن حيث إن تمام التوبة بالاستغفار يكون من القسم الأوّل.

وخبر مسعدة بن زياد في خصوص استماع الغناء في الكنيف وقول الإمام عليه‌السلام له في آخر الخبر : « قم فاغتسل فصل ما بدا لك » يمكن توجيهه بكل من الوجهين ، والأظهر أنه لسرعة قبول التوبة أو لكمالها.

الثاني : الغسل لقتل الوزغ ويحتمل أن يكون للشكر على توفيقه لقتله حيث إنه حيوان خبيث. والأخبار في ذمّه من الطرفين كثيرة ، ففي النبوي : « اقتلوا الوزغ ولو في جوف الكعبة » وفي آخر : « من قتله فكأنما قتل شيطاناً » ، ويحتمل أن يكون لأجل حدوث قذارة من المباشرة لقتله.

الثالث : غسل المولود (١). وعن الصدوق وابن حمزة ( رحمهما الله ) وجوبه ، لكنه ضعيف. ووقته من حين الولادة حيناً عرفياً ، فالتأخير إلى يومين أو ثلاثة لا يضر ، وقد يقال إلى سبعة أيام ، وربما قيل ببقائه إلى آخر العمر ، والأولى على تقدير التأخير عن الحين العرفي الإتيان به برجاء المطلوبية.

الرابع : الغسل لرؤية المصلوب وذكروا أن استحبابه مشروط بأمرين :

أحدهما : أن يمشي إليه لينظر إليه متعمداً ، فلو اتفق نظره أو كان مجبوراً لا يستحب.

الثاني : أن يكون بعد ثلاثة أيام إذا كان مصلوباً بحق لا قبلها ، بخلاف ما إذا كان مصلوباً بظلم فإنه يستحب معه مطلقاً ولو كان في اليومين الأولين ، لكن الدليل على الشرط الثاني غير معلوم إلاّ دعوى الانصراف ، وهي محل منع ، نعم الشرط الأوّل ظاهر الخبر وهو : « من قصد إلى مصلوب فنظر إليه وجب عليه الغسل عقوبة » ‌

__________________

(١) لموثقة سماعة : « وغسل المولود واجب » المتقدمة.

٦٢

وظاهره أن من مشى إليه لغرض صحيح كأداء الشهادة أو تحمّلها لا يثبت في حقه الغسل.

الخامس : غسل من فرّط في صلاة الكسوفين مع احتراق القرص (١) أي تركها عمداً ، فإنه يستحب أن يغتسل ويقضيها ، وحكم بعضهم بوجوبه ، والأقوى عدم الوجوب وإن كان الأحوط عدم تركه. والظاهر أنه مستحب نفسي بعد التفريط المذكور ، ولكن يحتمل أن يكون لأجل القضاء كما هو مذهب جماعة ، فالأولى الإتيان به بقصد القربة لا بملاحظة غاية أو سبب ، وإذا لم يكن الترك عن تفريط أو لم يكن القرص محترقاً لا يكون مستحبّاً ، وإن قيل باستحبابه مع التعمّد مطلقاً وقيل باستحبابه مع احتراق القرص مطلقا.

السادس : غسل المرأة إذا تطيبت لغير زوجها ففي الخبر : « أيّما امرأة تطيبت لغير زوجها لم تقبل منها صلاة حتى تغتسل من طيبها كغسلها من جنابتها » واحتمال كون المراد غسل الطيب من بدنها كما عن صاحب الحدائق بعيد ولا داعي إليه.

______________________________________________________

(١) لصحيحة محمد بن مسلم المروية عن الخصال : « وغسل الكسوف إذا احترق القرص كله فاستيقظت ولم تصل فعليك أن تغتسل وتقضي الصلاة » (١) ، وصحيحته الأُخرى « وغسل الكسوف إذا احترق القرص كله فاغتسل » (٢).

وقد يقال باختصاص الغسل بما إذا ترك صلاة الكسوف متعمداً ووجوبه حينئذ مستنداً في ذلك إلى ما رواه حريز عمن أخبره عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا انكسف القمر فاستيقظ الرجل فكسل أن يصلِّي فليغتسل من غد وليقض الصلاة ، وإن لم يستيقظ ولم يعلم بانكساف القمر فليس عليه إلاّ القضاء بغير غسل » (٣) إلاّ أن‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٠٥ / أبواب الأغسال المسنونة ب ١ ح ٥ ، الخصال ٢ : ٥٠٨.

(٢) الوسائل ٣ : ٣٠٧ / أبواب الأغسال المسنونة ب ١ ح ١١.

(٣) الوسائل ٣ : ٣٣٦ / أبواب الأغسال المسنونة ب ٢٥ ح ١.

٦٣

السابع : غسل من شرب مسكراً فنام ففي الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما مضمونه : ما من أحد نام على سكر إلاّ وصار عروساً للشيطان إلى الفجر فعليه أن يغتسل غسل الجنابة.

الثامن : غسل من مس ميتاً بعد غسله (١).

[١٠٥٢] مسألة ١ : حكي عن المفيد استحباب الغسل لمن صُبَّ عليه ماء مظنون النجاسة ولا وجه له. وربما يعد من الأغسال المسنونة غسل المجنون إذا أفاق ، ودليله غير معلوم ، وربما يقال إنه من جهة احتمال جنابته حال جنونه ، لكن على هذا يكون من غسل الجنابة الاحتياطية فلا وجه لعدّه منها ، كما لا وجه لعدّ إعادة الغسل لذوي الأعذار المغتسلين حال العذر غسلاً ناقصاً مثل الجبيرة ، وكذا عدّ غسل من رأى الجنابة في الثوب المشترك احتياطاً ، فان هذه ليست من الأغسال المسنونة.

______________________________________________________

الرواية ضعيفة بالإرسال ، على أن صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة مطلقة وغير مقيدة بما إذا فاتت صلاة الكسوف في وقتها فتعم ما إذا لم يصل والوقت باقٍ وهي أداء وما إذا خرج الوقت وصارت الصلاة قضاء.

وفي كلتا الصورتين إذا احترق القرص كله يستحب الاغتسال كانت الصلاة قضاء أم لا ، تعمد في تركها أم لم يتعمد. وأما احتمال الوجوب فيندفع بما قدمناه مراراً من أن المسائل العامة البلوى لو كانت واجبة لانتشرت وبانت ، فنفس عدم الشهرة دليل عدم الوجوب.

(١) لموثقة عمار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « يغتسل الذي غسل الميِّت ، وكل من مس ميتاً فعليه الغسل وإن كان الميِّت قد غسل » (١) المحمولة على الاستحباب جمعاً بينها وبين ما دلّ على عدم وجوب الغسل بالمس بعد تغسيل الميِّت.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٢٩٥ / أبواب غسل المس ب ٣ ح ٣.

٦٤

[١٠٥٣] مسألة ٢ : وقت الأغسال المكانية كما مر سابقاً قبل الدخول فيها أو بعده لإرادة البقاء على وجه. ويكفي الغسل في أول اليوم ليومه وفي أوّل اللّيل لليلته ، بل لا يخلو كفاية غسل الليل للنهار وبالعكس من قوة وإن كان دون الأوّل في الفضل (١) ، وكذا القسم الأوّل من الأغسال الفعلية وقتها قبل الفعل على الوجه المذكور ، وأما القسم الثاني منها فوقتها بعد تحقق الفعل إلى آخر العمر وإن كان الظاهر اعتبار إتيانها فوراً ففورا.

[١٠٥٤] مسألة ٣ : ينتقض الأغسال الفعلية من القسم الأوّل والمكانية بالحدث الأصغر من أي سبب كان حتى من النوم على الأقوى ، ويحتمل عدم انتقاضها بها مع استحباب إعادتها كما عليه بعضهم ، لكن الظاهر ما ذكرنا.

[١٠٥٥] مسألة ٤ : الأغسال المستحبة لا تكفي عن الوضوء (*) (٢) فلو كان محدثاً يجب أن يتوضأ للصلاة ونحوها قبلها أو بعدها ، والأفضل قبلها ، ويجوز إتيانه في أثنائها إذا جي‌ء بها ترتيبيا.

______________________________________________________

هذا كله في الموارد التي يستحب الغسل فيها شرعاً ، وأما غيرها من الموارد المذكورة في المتن فلم يثبت استحباب الغسل فيها شرعاً إلاّ بناء على التسامح في أدلة السنن وهو مما لا نقول به.

(١) قدّمنا الكلام في ذلك (١) ولا نعيد.

كفاية الأغسال المستحبة عن الوضوء‌

(٢) بل تغني عن الوضوء على ما قدمناه في محله استناداً إلى قوله عليه‌السلام : « أي وضوء أنقى من الغسل » (٢) وغيره من الأخبار المعتبرة فليراجع بحث غسل‌

__________________

(*) الأظهر كفاية كل غسل ثبت استحبابه شرعاً عن الوضوء من دون فرق بين غسل الجمعة وغيره ، نعم التيمّم البدل عن الأغسال المستحبة لا يكفي عن الوضوء على الأظهر.

(١) في ص ٥٥ ٥٦.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٤٧ / أبواب الجنابة ب ٣٤ ح ٤.

٦٥

[١٠٥٦] مسألة ٥ : إذا كان عليه أغسال متعددة زمانية أو مكانية أو فعلية أو مختلفة يكفي غسل واحد عن الجميع إذا نواها جميعاً (١).

بل لا يبعد كون التداخل قهرياً ، لكن يشترط في الكفاية القهرية أن يكون ما قصده معلوم المطلوبية لا ما كان يؤتى به بعنوان احتمال المطلوبية ، لعدم معلومية كونه غسلاً صحيحاً حتى يكون مجزئاً عما هو معلوم المطلوبية.

[١٠٥٧] مسألة ٦ : نقل عن جماعة كالمفيد والمحقق والعلاّمة والشهيد والمجلسي رحمهم‌الله استحباب الغسل نفساً ولو لم يكن هناك غاية مستحبة أو مكان أو زمان ، ونظرهم في ذلك إلى مثل قوله تعالى ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) وقوله عليه‌السلام : « إن استطعت أن تكون باللّيل والنهار على طهارة فافعل » وقوله عليه‌السلام : « أي وضوء أطهر من الغسل » و « أي وضوء أنقى من الغسل » ومثل ما ورد من استحباب الغسل بماء الفرات من دون ذكر سبب أو غاية إلى غير ذلك ، لكن إثبات المطلب بمثلها مشكل (٢).

______________________________________________________

الجنابة (١).

(١) لصحيحة زرارة المتقدمة : « إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك للجنابة والجمعة وعرفة والنحر والحلق والذبح والزيارة فاذا اجتمعت عليك حقوق أجزأك عنها غسل واحد » (٢). بل كفاية غسل الجمعة عن غسل الجنابة لناسي غسلها منصوصة وإن لم ينو غسل الجنابة.

(٢) قدّمنا الكلام عن ذلك عن قريب (٣).

__________________

(١) شرح العروة ٧ : ٤٠٣.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٦١ / أبواب الجنابة ب ٤٣ ح ١. ٣ : ٣٣٩ / أبواب الأغسال المسنونة ب ٣١ ح ١.

(٣) في ص ٥٠.

٦٦

[١٠٥٨] مسألة ٧ : يقوم التيمّم مقام الغسل (*) في جميع ما ذكر عند عدم التمكّن منه (١).

فصل في التيمّم ويسوّغه العجز عن استعمال الماء ، وهو يتحقق بأُمور :

______________________________________________________

التيمّم يقوم مقام الغسل عند العجز‌

(١) لإطلاق ما دلّ على أن التراب أحد الطهورين.

ثم إنه إذا أنكرنا كفاية الغسل عن الوضوء فلا إشكال في أن التيمّم بدلاً عن الغسل لا يكفي عن الوضوء.

وأما إذا قلنا بالإغناء كما هو الصحيح فهل يقوم التيمّم مقام الغسل الاستحبابي في اغنائه عن الوضوء أو لا يقوم؟ الصحيح هو الثاني لأن أدلّة البدلية إنما يستفاد منها بدلية التيمّم مقام الغسل في الطهور وأما في غيره من الآثار المترتبة على الغسل كاغنائه عن الوضوء فلا يستفاد منها ، فهو يتوقف على دلالة الدليل ولا دليل عليه.

فصل في التيمّم‌

لا شبهة ولا خلاف في مشروعية التيمّم في الشريعة المقدّسة. ويسوغه عدم وجدان الماء على ما دلّت عليه الآية المباركة ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ... وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) (١). فإن التفصيل قاطع للشركة فهي بتفصيلها بين الواجد للماء وغيره دلّت على وجوب التيمّم على من لم يجد ماء‌

__________________

(*) لكنه لا يغني عن الوضوء في غير التيمّم عن غسل الجنابة.

(١) المائدة ٥ : ٦.

٦٧

والوجدان في اللغة بمعنى الإدراك والإصابة والظفر (١) ، إلاّ أن المراد به في الآية المباركة ليس هو عدم الإدراك والإصابة حقيقة وعقلاً ، بل أعم منه ومن العجز عن استعماله شرعاً كما لو كان الماء الموجود مغصوباً.

ويدلُّ عليه قوله تعالى ( إِذا قُمْتُمْ ... فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ... ) فإن الأمر بغسل الوجه لا يمكن إلاّ مع التمكّن من استعمال الماء عقلاً وشرعاً.

وقوله تعالى ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ ... ) فان المسافر ولا سيما في الأزمنة القديمة وفي الصحاري والقفار وإن كان قد لا يجد الماء حقيقة إلاّ أن المريض غالباً متمكن من الماء حقيقة وعقلاً إلاّ أنه عاجز عن استعماله لكونه مضراً به.

فالمتلخص : أن المراد من عدم وجدان الماء في الآية الكريمة هو عدم التمكن من الاستعمال عقلاً أو شرعاً.

ثم إنه لو كنّا نحن وهذه الآية المباركة لخصّصنا مشروعية التيمّم بموارد عدم التمكن من استعماله عقلاً أو شرعاً كما مرّ ، إلاّ أن أدلة نفي الضرر والحرج دلتنا على أن مشروعية التيمّم عامة لما إذا تمكن المكلف من استعمال الماء عقلاً وشرعاً بأن كان الماء مباحاً له إلاّ أن استعماله حرجي وعسري في حقه فلا بدّ من التيمّم حينئذ.

وهذا في الحقيقة تخصيص في أدلة الوضوء والغسل ، لأن أدلة نفي الضرر والحرج حاكمة على أدلة وجوب الوضوء أو الغسل ، وقد أوضحنا في محله أن الحكومة هي التخصيص واقعاً غاية الأمر أنها نفي للحكم عن موضوعه بلسان نفي الموضوع وعدم تحققه (٢).

فما ذكره في المتن من أن التيمّم يسوغه العجز عن استعمال الماء لعله ناظر إلى أصل مشروعية التيمّم بالجعل الأولي ، وإلاّ فبالنظر إلى العنوان الثانوي لا تختص مشروعيته بالعجز بل تثبت عند الضرر والحرج أيضاً ، هذا.

__________________

(١) لسان العرب ٣ : ٤٤٥.

(٢) مصباح الأُصول ٣ : ٣٥٢.

٦٨

المناقشة في دلالة الآية‌

ثم إن الآية المباركة وقعت مورداً للكلام والإشكال ، وذلك لأن المذكور فيها أُمور أربعة وهي : المرض والسفر والمجي‌ء من الغائط ولمس النساء. وقد عطف بعضها على البعض الآخر بحرف « أو » ، وظاهره أن المرض والسفر مثل الأخيرين سببان مستقلاّن لوجوب التيمّم عند عدم وجدان الماء ، مع أنهما ليسا كذلك وإنما يوجبان التيمّم فيما إذا كان معهما شي‌ء من الحدث الأصغر أو الأكبر أعني الأخيرين ، وإلاّ فمجرّد المرض أو السفر لا يوجب الحدث والتيمّم بوجه.

وقد ذكر الآلوسي في تفسيره (١) وكذا الزمخشري في الكشاف (٢) أن الآية من الآيات المعضلة والمشكلة ، لما عرفت من كونها على خلاف فتوى الفقهاء.

وقد يجاب عن ذلك بأن « أو » في الآية المباركة بمعنى الواو فترتفع المناقشة ، إذ لا تكون الآية ظاهرة في سببية المرض والسفر للتيمم ، وإنما تدل على أن التيمّم مشروع عند تحقق الأُمور المذكورة فيها.

وفيه : أن ( أو ) لا تستعمل بمعنى الواو ، وحمله عليها خلاف الظاهر لا يمكن المصير إليه.

وذكر الشيخ محمد عبده وتلميذه (٣) في تفسيره الآية المباركة في سورة المائدة وأشار إليه في سورة النساء : أن الآية ليس فيها أي إعضال وإشكال ، بل لا بدّ من الالتزام بظاهرها وهو كون المرض والسفر بنفسهما يوجبان التيمّم كما أن الحدث الأكبر والأصغر يوجبان التيمّم. ولا مانع من أن تكون المشقة النوعية في الوضوء والغسل في حق المريض والمسافر موجبة لتبدل حكمهما إلى التيمّم ، كما أوجبت المشقة النوعية تبدل حكم المسافر حيث تبدل حكمه إلى القصر في الصلاة والصيام مع أنهما أهمّ من الوضوء والغسل ، فاذا جاز التبدل في الأهم لأجل المشقة النوعية جاز التبدل في غير‌

__________________

(١) روح المعاني ٢ : ٤٣.

(٢) لم نعثر عليه في تفسيره للآية.

(٣) تفسير المنار ٥ : ١٢٠.

٦٩

الأهم بالأولوية.

وظني أني رأيت سابقاً في بعض الكتب أن أبا حنيفة التزم بذلك. إلاّ أنه مما لا يمكن المساعدة عليه كما سيظهر وجهه.

وذكر صاحب الجواهر قدس‌سره أن الآية المباركة ليست مورداً للإشكال ، لأن قوله تعالى ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ ) من متممات صدرها وهو قوله تعالى ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ... ) فإنه بمعنى إذا قمتم من النوم إلى الصلاة كما في الرواية المفسرة لها. فمفروض الآية هو المحدث بالأصغر بالنوم وأنه على قسمين : واجد للماء ووظيفته أن يتوضأ إن لم يكن جنباً بالاحتلام أو يغتسل إن كان جنباً وغير واجد الماء كالمريض والمسافر ووظيفته أن يتيمم أي الذي لو كان واجداً للماء يتوضأ أو يغتسل وهو المحدث بالحدث الأصغر أعني بالنوم ، ثم تعرض للمحدث بالبول والغائط والمحدث بملامسة النساء. وليس المريض والمسافر جملة مستقلة لترد عليها المناقشة (١).

وما أفاده قدس‌سره وإن كان صحيحاً إلاّ أنه إنما يتم في سورة المائدة لا في سورة النساء (٢) ، لأن قوله تعالى ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى ) إلى قوله ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) مذكور فيها بعينه من دون أن يكون لها صدر مثل صدر سورة المائدة فتبقى المناقشة فيها بحالها.

ما ينبغي أن يقال في المقام‌

والذي ينبغي أن يقال وهو ظاهر الآية المباركة : إن المناقشة المذكورة تبتني على أن يكون قوله تعالى ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ) راجعاً إلى الجملة الأخيرة أعني قوله تعالى ( أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ ).

__________________

(١) الجواهر ٥ : ٧٤ ، ١ : ٥١.

(٢) النساء ٤ : ٤٣.

٧٠

وأمّا إذا أرجعناه إلى جميع الأُمور الأربعة المذكورة في الآية كما هو الظاهر لمكان العطف بأو ، الدال على أن كل واحد من الأُمور الأربعة إذا اقترن به عدم وجدان الماء أوجب التيمّم ، وليس هو كالعطف بالواو ليكون مورداً للنزاع المعروف من أن القيد يرجع إلى الجملة الأخيرة أو جميع الجمل ، فلا مناقشة بوجه.

لأن معنى الآية حينئذ : وإن كنتم مرضى ولم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً ، وإن كنتم على سفر ولم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً وهكذا ، وحيث إن الأمر بالتيمّم لا يمكن توجهه إلاّ إلى المحدث مثل الأمر بالوضوء في صدر الآية لأنه هو مورد الوضوء بعينه إذا وجد الماء فيستفاد منها أن المريض المحدث إذا لم يجد الماء يتيمم وهكذا المسافر المحدث ، وإنما تعرضت الآية للمريض والمسافر لأغلبية عدم الوجدان فيهما.

نعم يبقى حينئذ سؤال وهو أنه إذا كان المراد من الآية هو المريض المحدث إذا لم يجد الماء أو المسافر المحدث إذا لم يجد الماء فما معنى قوله تعالى بعد ذلك ( أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ) أي كان محدثاً ببول أو بغائط ، فإنه كالتكرار حينئذ؟.

والجواب عنه : أن ذكره ( أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ) إنما هو للدلالة على أن مشروعية التيمّم عند فقدان الماء لا تختص بالمريض والمسافر بل تعم الحاضر كذلك إذا كان محدثاً بالأصغر أو الأكبر ، ولا سيما بملاحظة قوله ( مِنْكُمْ ) أي من المحدثين فهو لتسوية الحكم بين المريض والمسافر وبين الصحيح والحاضر.

إذن لا موقع لما ذكره الشيخ عبده وتلميذه ولا ظهور للآية فيما ذكراه ، وليس المرض والسفر بنفسهما يوجبان التيمّم.

وأما قصر الصلاة والصيام في حق المسافر فهو قد ثبت بدليله ولا يمكن تعديته إلى المقام ، لأنه قياس ظاهر.

ثم لو تنزلنا عن ذلك فالآية مجملة لا ظهور لها في كون المرض أو السفر موجباً للتيمم بنفسهما ، لتساوي الاحتمالين فلا تكون منافية لما دل على عدم وجوب التيمّم إلاّ مع الحدث وعدم كون المرض أو السفر موجباً له في نفسه.

٧١

إعادة فيها توضيح‌

ذكرنا أن الآية المباركة وقعت مورداً للكلام نظراً إلى عطف كل من الأُمور الأربعة المذكورة فيها بـ « أو » الظاهرة في سببية المرض والسفر في نفسهما للتيمم ، ومن هنا ذكر بعضهم أن الآية من المعضلات.

وقد أجاب عن ذلك جملة من فقهاء العامّة والخاصّة بان « أو » في الآية بمعنى الواو وأن المعنى أنكم إذا كنتم مرضى أو على سفر وجاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء ولم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً. وبذلك دفعوا المناقشة ، وقد عرفت الجواب عما ذكروا.

وذكر في تفسير المنار أن الآية ليست من المعضلات في شي‌ء وإنما الإعضال في فتاوى الفقهاء ، وذكر في وجه ذلك ما توضيحه : أنه لا إشكال ولا خلاف بين المسلمين في أن السفر والمرض ليسا من نواقض الطهارة ، فالمتطهِّر لو تمرّض أو سافر لا تنتقض طهارته من دون كلام ، وليس في الآية ما يدل على انتقاض الطهارة بالمرض أو السفر فلا بدّ من أن يكون مورد الآية المباركة ما إذا كانا محدثين ، ومعه تدل الآية على أن المريض المحدث أو المسافر المحدث يتيمم مطلقاً وجد الماء أم لم يجد ، كما أن من جاء من الغائط أو لامس النساء ولم يجد ماء يتيمم ، ولا مانع من أن يكون السفر أو المرض موجباً لتخفيف الوظيفة بإيجاب التيمّم دون الوضوء أو الغسل كما أوجب السفر تخفيف الوظيفة بالإضافة إلى الصوم والصلاة لوجوب القصر فيهما على المسافر.

فظاهر الآية المباركة لا إعضال فيه ، وإنما الإعضال في فتاوى الفقهاء حيث ذهبوا إلى عدم وجوب التيمّم على المريض والمسافر مطلقاً بل فيما إذا لم يجد الماء (١).

وهذا الذي ذكره ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لما قدّمناه عن صاحب الجواهر قدس‌سره من أن قوله تعالى ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ ) من متممات صدر الآية وهو قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ... )

__________________

(١) تفسير المنار ٥ : ١٢٠.

٧٢

حيث إن المراد من القيام هو القيام من النوم كما في تفسير الآية فيكون معنى الآية : أن من كان محدثاً بحدث النوم وكان متمكناً من الماء يتوضأ إن لم يكن جنباً أي محتلماً وإن كان جنباً تطهر ، وإذا لم يكن ذلك المحدث بالنوم واجداً للماء يتيمم ، لما عرفت من أن قيد ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ) راجع إلى جميع الأُمور الأربعة المتقدمة ، وهو في قبال المحدث بحدث البول والغائط في قوله تعالى ( أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ ) فتصح المقابلة ولا تبقى أية مناقشة في الآية الكريمة. هذا كله في آية سورة المائدة.

وأما آية سورة النساء فهي وإن لم تكن مسبوقة بالصدر إلاّ أن الأمر فيها كما ذكرناه ، وذلك لما قدمناه من أن المرض والسفر ليسا من النواقض في شي‌ء فلا بدّ أن يكون مورد الآية هو المريض المحدث أو المسافر المحدث وأنه إذا كان فاقداً للماء يتيمم ، لرجوع القيد إلى كل واحد من الأُمور الأربعة.

فتحصل : أن المريض والمسافر بإطلاقهما لا يجب عليهما التيمّم بل فيما إذا كانا فاقدين للماء.

نعم للمدعي أن يسأل عن وجه تخصيص المريض والمسافر بالذكر ، لأنه على ذلك لا يختص الحكم بهما ، بل يعمّ كل من كان فاقداً للماء مريضاً كان أم صحيحاً مسافراً كان أم حاضراً.

والجواب عنه : أن ذكرهما في الآية من باب غلبة فقدان الماء بالمعنى المتقدم فيهما لا أن لهما خصوصية في الحكم ، فلا مقتضي لإبقاء المريض والمسافر على إطلاقهما والحكم بأنهما إذا كانا محدثين يتيممان مطلقاً ولو كانا واجدين للماء.

وأمّا ما استشهد به أخيراً ففيه : أن السفر وإن كان موجباً لتخفيف الحكم في حق المسافر بالإضافة إلى الصوم والصلاة إلاّ أنه إنما ثبت بالدليل ولا يأتي ذلك في المقام لأنه قياس.

وعلى الجملة : ما ذكره صاحب المنار من إبقاء الطائفتين على إطلاقهما في الحكم بوجوب التيمّم مما لا مقتضي له ، كما أن ما ادعاه من الظهور غير ثابت ، بل الظاهر‌

٧٣

رجوع القيد إلى كل واحد من الأربعة المذكورة في الآية المباركة ، هذا.

ثم لو تنازلنا عن ذلك ولم يكن القيد ظاهراً في الرجوع إلى الأُمور الأربعة بأجمعها فلا أقل من الإجمال ، لعدم العلم بأنه راجع إلى جميع الأُمور الأربعة أو إلى خصوص الأخيرين ، ومعه لا يثبت للآية ظهور في الإطلاق ليتمسك به صاحب المنار أعني كون الآية مطلقة من حيث المريض والمسافر وأنهما كانا واجدين للماء أو فاقدين له محكومين بالتيمّم وذلك لاقترانهما بما يصلح للقرينية ، ومع الإجمال يبقى إطلاق صدر الآية في أن الواجد للماء يتوضأ إن لم يكن جنباً كان مريضاً أو مسافراً أم لم يكن على حاله ، وهو يقتضي الحكم بوجوب الغسل أو الوضوء عند كون المريض أو المسافر واجداً للماء ، وكذلك الأخبار.

وممّا يدل على ما ذكرناه أن صاحب المنار إن أراد أن المريض والمسافر يتعين عليهما التيمّم وإن كانا واجدين للماء ، فيدفعه أنه على خلاف ما ثبت بالضرورة من الإسلام ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه والأئمة عليهم‌السلام قد سافروا كثيراً ولم ينقل أحدٌ أنهم تيمموا عند كونهم واجدين للماء.

وإن أراد بذلك أن التيمم مرخّص فيه لهما لا أنه متعين عليهما ، نظير الترخيص في الصوم والصلاة على المسافر عندهم ، ففيه : أن ذلك يستلزم استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى واحد ، حيث إن الأمر بالتيمّم بالإضافة إلى الأخيرين من جاء من الغائط أو لامس النساء استعمل في التعيين ، وبالإضافة إلى الأولين المريض والمسافر في الترخيص ، وهو إما غير معقول أو خلاف الظاهر على ما أوضحناه في الأُصول (١) وذكرنا ان الوجوب والاستحباب خارجان عن مدلول الأمر وأن معناه واحد وهو شي‌ء آخر ، وإنما يستفاد الوجوب من حكم العقل عند عدم اقترانه بالمرخص في الترك (٢) ، ومعه لا يمكن إرادة المعنيين منه لكونه مستحيلاً أو مخالفاً للظاهر.

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ١ : ٢٠٦ ٢٠٩.

(٢) محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ١٣ فما بعد.

٧٤

أحدها : عدم وجدان الماء (١) بقدر الكفاية للغسل أو الوضوء في سفر كان أو حضر ، ووجدان المقدار الغير الكافي كعدمه.

______________________________________________________

من محققات العجز عدم وجدان الماء‌

(١) هذا هو القدر المتيقن من الآية المباركة ، فيجب التيمّم حينئذ من دون خلاف بين المسلمين كافة على ما يظهر من كتاب الفقه على المذاهب الأربعة (١) وإن كان نسب إلى أبي حنيفة سقوط الصلاة عن المكلف عند فقدانه الماء حقيقة (٢) ، إلاّ أنه على خلاف ما في الفقه من دعوى التسالم على وجوب التيمّم حينئذ حتى من أبي حنيفة ولم يعلم أن منشأ النسبة إليه أي شي‌ء.

وكذلك الحال فيما إذا وجد الماء ولم يكن كافياً لوضوئه أو غسله ، وهذا على قسمين :

إذ قد يكون الماء الموجود بقدر لا يصدق عليه الميسور من الماء المعسور للوضوء أو للغسل لأنه قليل من كثير كما لو كان يكفي لغسل الوجه وحسب. ولا شبهة حينئذ في وجوب التيمّم ، لأنه فاقد للماء. ويمكن الاستدلال عليه بما ورد في الأخبار المعتبرة من أن الجنب إذا كان له من الماء ما يكفي لوضوئه ولا يكفي لغسله يتيمم (٣) ، لأن الماء الكافي للوضوء بالإضافة إلى الغسل قليل من كثير لا يصدق عليه الميسور منه ، لأنه إنما يكفي لخصوص رأسه وليس ميسوراً من المعسور.

وأُخرى يكون الماء الموجود بقدر يصدق عليه الميسور من الماء المعسور ، وهذا مورد للتيمم أيضاً ، لعدم تمامية قاعدة الميسور أوّلاً. ولدلالة نفس الآية ثانياً ، وذلك لأن المذكور في الآية أن من قام إلى الصلاة وجب عليه أن يغسل وجهه ويديه ويمسح رأسه ورجليه ، ثم قال تعالى في ذيلها ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ... ) أي إذا لم تجدوا‌

__________________

(١) الفقه على المذاهب الأربعة ١ : ١٤٨.

(٢) بداية المجتهد ١ : ٦٧ ، المجموع : ٢ : ٣٠٥ ، المغني ١ : ٢٦٧.

(٣) الوسائل ٣ : ٣٨٦ / أبواب التيمّم ب ٢٤.

٧٥

ويجب الفحص عنه (١)

______________________________________________________

الماء الكافي لما ذكر من الغسلتين والمسحتين ، فان المستفاد منها عرفاً بقرينة المقابلة هو وجوب التيمّم على المكلف حينئذ حتى لو بنينا على تمامية قاعدة الميسور.

نعم لا مجال في هذه الصورة للاستدلال بالأخبار الواردة في أن الجنب إذا لم يكن عنده من الماء ما يكفي لغسله بل كان عنده ما يكفي لوضوئه يتيمم ، لأنها كما عرفت واردة في صورة ما إذا لم يصدق على الماء الموجود أنه ميسور من المعسور ولا تشمل الصورة الثانية أي صدق الميسور بوجه.

وهذا هو القاعدة الكلية المطّردة التي نستدل بها في جملة من المسائل الآتية ، أعني وجوب التيمّم على كل من لم يتمكن من الوضوء أو الغسل التام ، اللهمّ إلاّ أن يقوم دليل على كفاية الناقص منهما كما في الجبائر ، لدلالة الدليل على أن الغسل أو المسح على الجبيرة يكفي في الوضوء والاغتسال وإن لم يغسل البشرة أو يمسح عليها ، وإلاّ فمقتضى القاعدة هو التيمّم.

وجوب الفحص عن الماء‌

(١) ذكروا أن طلب الماء والفحص عنه واجب في وجوب التيمّم ، واستدل عليه بوجوه :

الأوّل : الإجماع على لزوم الفحص ، ويظهر من كتاب « الفقه على المذاهب الأربعة » أنه أمر متسالم عليه عند الجمهور وإن اختلفوا في مقدار الفحص والطلب (١).

وهذا الإجماع كبقية الإجماعات ليس إجماعاً تعبدياً ، لاحتمال استنادهم في ذلك إلى بقية الوجوه الآتية في المسألة ، ولعله لأجل الخدشة في الإجماع وبقية الوجوه الآتية نسب إلى الأردبيلي قدس‌سره أنه أنكر وجوب الفحص والطلب (٢).

الثاني : أن الآية المباركة تدل على وجوب الفحص في وجوب التيمّم ، وذلك لأن‌

__________________

(١) الفقه على المذاهب الأربعة ١ : ١٥٥.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢١٧.

٧٦

قوله تعالى ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ) قضية سالبة ، وظاهرها أنها سالبة مع وجود الموضوع لا أنها سالبة بانتفاء موضوعها ، والوجدان وعدمه موضوعهما الطلب فيقال : طلبت الضالة فوجدتها أو لم أجدها ، فمعنى الآية على ذلك : وإن كنتم مرضى ... وطلبتم ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ).

والجواب عنه : أن الوجدان في الآية المباركة كما مرّ بمعنى السعة والتمكّن من الاستعمال ، فيقال : فلان ذو جده أي ذو سعة وتمكن فيصير معنى الآية : أنكم إذا كنتم قادرين ومتمكنين من الماء فتوضؤوا واغتسلوا وإن لم تكونوا قادرين ومتمكنين فتيمموا ، وليس الموضوع في القدرة والتمكن هو الطلب والفحص.

وعلى الجملة : ليس الوجدان في الآية بمعنى الوجدان في قولنا : طلبت الضالة فوجدتها بل بمعنى التمكن والسعة كما عرفت.

الثالث : الأخبار الآمرة بالطلب إما مطلقاً وإما مقيداً بأن يكون بمقدار غلوة سهم أو سهمين. وسيأتي الكلام عن تلكم الأخبار قريباً إن شاء الله (١).

الرابع : وهو العمدة ، أن الطلب والفحص إنما يجبان بقاعدة الاشتغال ، وتقريب أصالة الاشتغال بتوضيح منّا : أن المكلف بعد دخول الوقت يعلم بوجوب الصلاة وبوجوب الطهارة لأجلها ، كما يعلم أن الطهارة المعتبرة في حق بعض المكلفين هي الطهارة المائية وفي بعض آخر هي الطهارة الترابية ، وحيث لا يعلم بأنه متمكن من الماء أو عاجز عنه فلا يعلم بأنه مكلف بالطهارة المائية أو الترابية مع علمه إجمالاً بوجوب إحداهما عليه ، ومعه لو لم يفحص عن الماء ويتيمم لكان امتثاله امتثالاً احتمالياً لا محالة ، لاحتمال أن يكون متمكناً من الماء واقعاً ، وحيث يبقى معه احتمال بقاء التكليف وعدم حصول الامتثال ، فالعقل يلزمه بالفحص والطلب ليظهر الحال ويكون امتثاله قطعيا.

ودعوى أن وجوب الوضوء حينئذ مشكوك فيه فتقتضي البراءة عدم وجوبه مندفعة بأنها معارضة بأصالة البراءة عن وجوب التيمّم ، كما هو الحال في بقية موارد‌

__________________

(١) عند التكلم في الأخبار المستدل بها على وجوب الفحص.

٧٧

______________________________________________________

العلم الإجمالي ، بل لا مورد للبراءة ولو مع قطع النظر عن العلم الإجمالي والمعارضة وذلك لأنها لا تثبت العجز عن الماء الذي هو موضوع وجوب التيمّم فلا تجري لعدم ترتّب أثر عليها ، هذا.

وقد يقال بعدم جريان البراءة في المقام لا لأجل العلم الإجمالي ولا لعدم ترتب أثر شرعي عليها بل لأمر آخر ، لأن المورد من موارد الشك في القدرة على الامتثال وقد أوضحنا في الأُصول عدم جريان البراءة في موارد الشك في القدرة (١).

وفيه : أن كبرى عدم جريان البراءة عند الشك في القدرة وإن كان صحيحاً إلاّ أنها لا تنطبق على المقام ، وذلك لأن الأمر بالوضوء وإن كان مشروطاً بالقدرة عقلاً لا محالة لاستحالة التكليف بما لا يطاق إلاّ أنها مأخوذة فيه شرعاً أيضاً ، لأن القادر على الماء وعلى استعماله مأمور بالوضوء وغير القادر مأمور بالتيمّم.

فالقدرة دخيلة في ملاك الوضوء وإيجابه ، ومع الشك في القدرة يشك في تمامية ملاكه ومع الشك في وجود الملاك لا مانع من الرجوع إلى البراءة بوجه ، حيث إن عدم جريانها عند الشك في القدرة ليس لأجل نص وارد فيه وإنما هو من جهة أن تفويت الملاك الملزم قبيح عند العقل ، وهو والعصيان على حد سواء ، فاذا علم المكلف بتوجّه تكليف في مورد وكونه ذا ملاك كما في موارد كون القدرة مأخوذة في الواجب عقلاً فقط ولكنه يشك في قدرته على امتثاله لو لم يفحص عن قدرته وأجرى البراءة احتمل أن يكون قد فوّت الملاك الملزم باختياره ، ولا دافع لهذا الاحتمال إلاّ الفحص ليظهر أن تفويته مستند إلى عجزه وعدم قدرته عليه.

وهذا بخلاف المقام ، إذ لا علم للمكلف بتمامية الملاك الملزم في الوضوء ليكون شكه في القدرة مورداً لقاعدة الاشتغال ويجب عليه الفحص عن قدرته ، إذ القدرة دخيلة في ملاك الوضوء ووجوبه ، ومع الشك فيها يشك في تمامية الملاك وعدمه ، ومع الشك في تمامية الملاك لا محذور في الرجوع إلى البراءة بوجه ، فلا مانع عنها إلاّ العلم الإجمالي وما ذكرناه ، هذا.

__________________

(١) مصباح الأُصول ٢ : ٣٩٩ ٤٠٠.

٧٨

______________________________________________________

والجواب عن هذا الوجه : أن المورد وإن كان من موارد العلم الإجمالي كما مرّ إلاّ أنه منحل لا محالة. والسر فيه : أن وجود الماء والتمكن من استعماله أمران حادثان وليسا من الأُمور الأزلية ، فمع الشك فيهما يستصحب عدم وجوده أو عدم تمكنه من استعماله ويبقى الشك في وجوب الوضوء عليه بدويّاً لا يعتبر فيه الفحص. والاستصحاب يعين وظيفته ويبين أن اللازم عليه هو التيمّم.

وقد يقال بأن الاستصحاب غاية ما يترتّب عليه هو العجز وعدم التمكّن من استعمال الماء ، وأمّا احتمال الوجود والتمكن فهو باقٍ بحاله ولم يرتفع لعدم إفادة الاستصحاب اليقين بالعدم ، ولا دافع لهذا الاحتمال ، فإن البراءة غير جارية من جهة العلم الإجمالي ، ولم يؤخذ الوجدان في موضوع وجوب الوضوء لينفى بالاستصحاب وإنما أُخذ عدمه في موضوع وجوب التيمّم.

والجواب عنه : أن الآية وإن لم يؤخذ في ألفاظها الوجدان موضوعاً لوجوب الوضوء إلاّ أنه مأخوذ فيها بحسب الواقع لا محالة ، وهذا لأن التفصيل قاطع للشركة وقد فصّل سبحانه في الآية المباركة بين الواجد والفاقد حيث أمر بالتيمّم عند الفقدان ، ومنه يظهر أن غيره وهو الواجد موضوع لوجوب الوضوء ، لأن فاقد الماء إذا كان محكوماً بوجوب التيمّم عليه فلا يخلو إما أن يكون الموضوع لوجوب الوضوء هو الأعم من الفاقد والواجد أو يكون هو الواجد أو يكون هو الفاقد. لا سبيل إلى الأوّل ، للعلم بأن المحكوم بالتيمّم شخص والمحكوم بالوضوء شخص آخر ، وليس شخص واحد محكوماً بهما معاً. كما لا سبيل إلى الأخير ، لأنه محكوم بوجوب التيمّم عليه ، فيتعين أن يكون الموضوع للحكم بوجوب الوضوء هو واجد الماء.

فإذا شككنا في وجدان الماء وعدمه فنستصحب عدمه ، وبه ننفي احتمال وجوب الوضوء ، اللهمّ إلاّ أن يكون مسبوقاً بالوجدان والتمكن من استعمال الماء فإنه حينئذ لا بدّ أن يستصحب التمكن والوجدان ويتعين عليه الوضوء لا محالة.

كما أنه إذا لم يجر شي‌ء من الاستصحابين أو تساقطا بالمعارضة كما إذا كان المكلف مسبوقاً بحالتين متضادتين بأن كان متمكناً من الماء في زمان وعاجزاً عنه في زمان آخر واشتبه عليه المتقدم بالمتأخر فان الاستصحابين إما أن لا يجريا أصلاً كما عليه‌

٧٩

صاحب الكفاية قدس‌سره وإما أن يجريا ويتساقطا بالمعارضة فيتعين عليه الفحص والطلب بمقتضى العلم الإجمالي وأصالة الاشتغال ، لأن الامتثال من دونه امتثال احتمالي يحتمل معه العقاب ولا يندفع إلاّ بالفحص والطلب ليقطع بأن الواجب عليه أي شي‌ء من الطهارة المائية أو الترابية.

ثم إنه لو كان له ماء طرأ عليه العجز عن استعماله إما لإراقته أو لمانع من الموانع واحتمل أن يكون له ماء آخر يتمكن من استعماله فهل يجري استصحاب التمكن من جامع الماءين أو استصحاب وجود الجامع بينهما؟.

الصحيح عدمه ، لأنه مبني على جريان الاستصحاب في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي ، وقد بيّنا في الأُصول عدم جريانه ، لأن الفرد المعلوم الحدوث قد ارتفع قطعاً والفرد الآخر مشكوك الحدوث من الابتداء والأصل عدمه (١) ، حيث إن القدرة على الماء الأوّل غير القدرة على الماء الثاني ، والقدرة الاولى قد تبدّلت بالعجز قطعاً والثانية مشكوكة الحدوث من الابتداء والأصل عدم حدوثها ، هذا كله في هذه الوجوه.

بقي الكلام في الأخبار المستدل بها على وجوب الفحص ، والظاهر أنها مما لا يمكن الاستدلال بها على المدعى ، وذلك إما للمناقشة في دلالتها أو لضعف سندها على سبيل منع الخلو ، وهي الأخبار الواردة في المسافر الدالّة على أنه يطلب الماء ويصلِّي بعده بالتيمّم على تقدير عدم الظفر بالماء.

منها : صحيحة أو حسنة زرارة عن أحدهما عليهما‌السلام قال : « إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت فاذا خاف أن يفوته الوقت فليتيمم وليصل » (٢) وهذه الرواية رواها الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن ابن أُذينة عن زرارة (٣) ، ورواها الشيخ بإسناده إلى الكليني في موضعين (٤).

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ١١٤.

(٢) الوسائل ٣ : ٣٤١ / أبواب التيمم ب ١ ح ١.

(٣) الكافي ٣ : ٦٣ / ٢.

(٤) التهذيب ١ : ١٩٢ / ٥٥٥ ، ٢٠٣ / ٥٨٩ ، وذكر الشيخ السند الآخر في ب ١٤ ح ٣.

٨٠