موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

ومع تعذّر ضرب إحداهما يضعها ويضرب بالأُخرى ،

______________________________________________________

الصعيد أيضاً ، لا أنّه غير مأمور بالصلاة والتيمّم.

إذن تقع المعارضة بين ما دل على اعتبار الضرب وكونه باليدين مطلقاً ولو عند تعذرهما وما دلّ على وجوب الصلاة مع استعمال الصعيد حينئذ ، فإن مقتضى الأوّل سقوط الصلاة والتيمّم عن المكلّف ومقتضى الثّاني وجوبهما في حقّه ، فإذا تساقطا رجعنا إلى إطلاق الكتاب الدال على أنّ المعتبر في التيمّم هو المسح الناشئ من الأرض أو المسح بالتراب حينئذ ، قال ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا ... ) (١) بلا فرق في ذلك بين أن يكون ذلك بالوضع أو بالضرب وبين أن يكون بكلتا اليدين أو بإحداهما ، هذا.

لو تمكّن من الضرب بإحدى اليدين والوضع بالأُخرى‌

ثمّ إنّه لو كان متمكّناً من الضرب بإحدى اليدين ووضع الأُخرى ذكر الماتن قدس‌سره أنّه يتعين في حقّه. ولا ينبغي الشبهة في أنّه أحوط ، إلاّ أنّه عند عدم تمكّنه من الضرب بهما يتخيّر بين أن يضعهما على الأرض وبين أن يضرب بإحداهما ويضع الأُخرى.

وذلك لأن مقتضى إطلاق الأمر بالضرب وكونه باليدين هو اعتبار الضرب بهما عند التمكّن منه.

وأمّا إذا لم يتمكّن من ذلك فقد عرفت أنّ المرجع هو إطلاق الكتاب ، وهو يدل على لزوم استعمال الصعيد بالمسح الناشئ من الأرض أو بالتراب من دون فرق في ذلك بين الوضع والضرب ، فيتخيّر المكلّف بين وضع يديه على الأرض عند العجز عن ضربهما معاً وبين أن يضع إحداهما ويضرب بالأُخرى ، نعم الأحوط هو الأخير لأنّه مجزئ بلا خلاف ، بخلاف وضع اليدين حينئذ لعدم كفايته عند الماتن وجماعة ، هذا.

__________________

(١) النِّساء ٤ : ٤٣ ، المائدة ٥ : ٦.

٢٦١

ومع تعذّر الباطن فيهما أو في إحداهما ينتقل إلى الظاهر فيهما أو في إحداهما.

______________________________________________________

بل يمكن أن يقال : إنّ مقتضى الارتكاز الشرعي هو ذلك ، لأنّ المرتكز في أذهان المتشرعة أنّه عند عدم التمكّن من شي‌ء يجب الإتيان بما يتمكّن منه ولا ترفع اليد عن التكليف إلاّ بالمقدار المتعذّر. فاعتبار الضرب بإحدى اليدين والوضع بالأُخرى مبني على الاحتياط.

العجز من الضرب بباطن إحدى اليدين‌

ثمّ إنّه إذا لم يتمكّن من الضرب بباطن إحدى اليدين أتى فيه ما قدّمناه في التمكّن من الضرب بإحداهما ، فإن مقتضى الدليل هو اعتبار كونه بباطنهما عند التمكّن منه وأمّا عند العجز عنه فمقتضى إطلاق الآية عدم الفرق بين الضرب بباطن إحداهما وظاهر الأُخرى وبين الضرب بظاهرهما معاً ، فهو مخير بين الأمرين وإن كان الضرب بباطن إحداهما وظاهر الأُخرى هو الأحوط.

هذا كلّه بالإضافة إلى اعتبار الضرب وكونه باليدين اللّذين ورد فيهما دليل لفظي مطلق.

وأمّا بالإضافة إلى اعتبار كون الضرب بباطن اليدين وكونه دفعة واحدة لا بالتعاقب اللّذين استفدنا اعتبارهما من الأخبار البيانية لأنّهم كانوا متمكنين من الضرب بالباطن والدفعي ، فلو كان التيمّم يتحقق بضرب ظاهر الكفين أو بالتعاقب لوجب التنبيه عليهما في الأخبار لأنّه على خلاف المتعارف. فالوجه في اختصاص ذلك بحال الاختيار وعدم اعتبار كون الضرب بالباطن أو دفعة عند العجز وتعذرهما هو أنّ الأخبار البيانية اشتملت على حكاية فعل ، وهو ممّا لا لسان له فلا مناص من الاكتفاء فيه بالقدر المتيقن وهو حال الاختيار ، وأمّا عند العجز والتعذّر فمقتضى إطلاق الآية المباركة هو الاكتفاء بمطلق استعمال التراب والمسح سواء كان الضرب بالباطن أو بالظاهر ، وسواء كان بالتعاقب أو دفعة.

٢٦٢

فالرجوع إلى إطلاق الكتاب فيما استفدنا اعتباره من الأخبار البيانية إنّما هو من الابتداء ، من دون أن يحتاج إلى التعارض وسقوط المتعارضين لنرجع إلى إطلاق الكتاب بعد ذلك كما استفدنا اعتباره من الأدلّة اللّفظية مثل الضرب وكونه باليدين.

وحاصل ما ذكرناه في المقام بتقريب ملخّص هو : أنّ ما استفدنا منه أنّ الصلاة لا تسقط بحال من الإجماع وصحيحة زرارة (١) له حكومة على الأدلّة الدالّة على اعتبار شي‌ء في الصلاة شرطاً أو جزءاً مثل ما دلّ على جزئية السجدة والقيام فإنّه وإن كان يقتضي إطلاقه اعتبارهما في الصلاة حتّى في التعذّر وعدم التمكّن منهما إلاّ أن ما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال يقيد إطلاقهما بحال الاختيار ، لدلالته على وجوب الصلاة حتّى في صورة عدم التمكّن من القيام والسجود.

نعم لا حكومة له بالإضافة إلى ما هو مقوم للصلاة بحيث لو انتفى انتفت الصلاة مثل الطهور ، لما دلّ على أنّه لا صلاة إلاّ بطهور (٢) وأنّ الطهور ثلث الصلاة (٣) ، وذلك لأنّه لا موضوع عند انتفاء الطهور ليحكم بوجوبه بدليل لا تسقط الصلاة بحال حيث إنّه ليس بصلاة.

ومن هنا قلنا إنّ الإجماع والصحيحة الدالّة على أنّها لا تسقط بحال غير شاملين فاقد الطهورين ، إذ لا صلاة بدون الطهور ليقال بوجوبها من دونه ، نعم لو لم يدلّنا دليل على أنّ الصلاة متقومة بالطهور بأن كان مأخوذاً في المأمور به لا في الحقيقة والمعنى لكان للدليلين من الإجماع والصحيحة حكومة عليه أيضاً.

إذا عرفت ذلك فنقول : إن من جملة حالات المكلّف ما إذا لم يتمكّن من الصلاة بالتيمّم بالضرب أو بضرب اليدين أو بكليهما لكونه أقطع ذا يد واحدة ، فمقتضى ما دلّ على اعتبار الضرب في التيمّم أو كونه باليدين أن غير المتمكّن منه ليس مأموراً بالصلاة ، لإطلاق ما دلّ على اعتبار ذلك في التيمّم ، ولمّا كان غير المتمكّن ليس بقادر على التيمّم والطهور فهو غير مكلّف بالصلاة ، إلاّ أن ما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط‌

__________________

(١) تقدّمت في نفس المسألة في ص ٢٦٠.

(٢) ، (٣) الوسائل ١ : ٣٦٥ / أبواب الوضوء ب ١.

٢٦٣

ونجاسة الباطن لا تعد عذراً فلا ينتقل معها إلى الظاهر (١).

الثّاني : مسح الجبهة بتمامها والجبينين بهما من قصاص الشعر إلى طرف الأنف الأعلى وإلى الحاجبين ، والأحوط مسحهما أيضاً (٢).

______________________________________________________

بحال من الإجماع والصحيحة يشمل المقام ، لأنّه من جملة الحالات فيقتضي ذلك وجوب الصلاة بالتيمّم الفاقد للضرب أو لضرب اليدين أو لكونه بكلا اليدين كما في الأقطع.

وبهذا الدليل نبني على كفاية الوضع بدلاً عن الضرب ، وبوضع إحداهما وضرب الأُخرى بدلاً عن الضرب باليدين ، وباليد الواحدة عن الاثنتين كما في الأقطع عند عدم التمكّن من الضرب أو الضرب باليدين أو بكليهما ، وكذا في غير المقام ممّا يمر عليك.

(١) لما يأتي من عدم الدليل على اعتبار الطّهارة في الكف أصلاً ، وعلى تقدير القول باعتبارها فإن غاية ما يمكن الالتزام به هو اعتبارها في حال الاختيار لا مطلقاً. إذن لا تكون نجاسة الباطن عذراً يوجب الانتقال إلى الظاهر من الكفّين.

اعتبار مسح الجبهة والجبينين‌

(٢) اختلفت كلمات الفقهاء وتعبيراتهم عن المحل الممسوح من الوجه ، فالمشهور عبروا بوجوب مسح الجبهة من قصاص الشعر إلى طرف الأنف الأعلى ، وعن السيدين (١) وكثير من القدماء التعبير بمسح الوجه من القصاص إلى طرف الأنف وعن جامع المقاصد (٢) وغيره التعبير بمسح الجبهة والجبينين ، وعن بعضهم التعبير بمسح الجبهة والجبينين والحاجبين ، وعن علي بن بابويه التعبير بمسح الوجه (٣) وظاهره إرادة الاستيعاب ، هذا.

__________________

(١) الانتصار : ١٢٤ ، الغنية : ٦٣.

(٢) جامع المقاصد ١ : ٤٩٠.

(٣) حكاه المحقق في المعتبر ١ : ٣٨٤ والعلاّمة في المختلف ١ : ٢٦٧.

٢٦٤

والظاهر أنّ المسألة ذات قولين :

أحدهما : اعتبار مسح الجبهة من قصاص الشعر إلى طرف الأنف.

وثانيهما : اعتبار مسح الوجه بتمامه كما لعله الّذي أشار إليه المحقق في شرائعه ، فإنّه بعد ما ذكر الوجه الأوّل أشار إلى الثّاني فقط بقوله : قيل باستيعاب مسح الوجه (١). والوجوه الأُخر متحدة وإنّما الاختلاف في التعبير.

وكيف كان ، فالمتبع هو الأخبار الواردة في المقام. وهنا عناوين أربعة : الوجه والجبهة والجبينان والجبين.

أمّا الوجه فهو واقع في كثير من الأخبار منها صحيحة الكاهلي حيث ورد فيها : « فمسح بهما وجهه » (٢) ومنها حسنة أبي أيّوب الخزاز وقد ورد فيها : « ثمّ رفعها فمسح وجهه » (٣) وغير ذلك من الأخبار (٤).

وأمّا عنوان الجبهة فلم يرد إلاّ في رواية الشيخ عن المفيد بإسناده إلى ابن بكير عن زرارة قال : « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن التيمّم ، فضرب بيده على الأرض ثمّ رفعها فنفضها ثمّ مسح بهما جبهته ... » (٥).

إلاّ أن هذه الرواية بعينها قد رواها في الكافي بإسناده إلى أحمد بن محمّد بن أبي نصر عن ابن بكير عن زرارة قال : « سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن التيمّم ... إلى أن قال : ثمّ مسح بها جبينه وكفيه مرّة واحدة » (٦) ومن البعيد جدّاً بل غير محتمل عادة أن تكون هناك روايتان رواها ابن بكير عن زرارة وقد وقع في إحداهما عنوان الجبهة وفي الأُخرى عنوان الجبين ، إذن لا يعلم أن اللفظ الوارد عن الإمام هو الجبين‌

__________________

(١) شرائع الإسلام ١ : ٤٨.

(٢) الوسائل ٣ : ٣٥٨ / أبواب التيمّم ب ١١ ح ١.

(٣) الوسائل ٣ : ٣٥٨ / أبواب التيمّم ب ١١ ح ٢.

(٤) المصدر المتقدم ح ٤ ، ٥ ، ٧.

(٥) الوسائل ٣ : ٣٥٩ / أبواب التيمّم ب ١١ ح ٣. والوارد في التهذيب ١ : ٢٠٧ / ٦٠١ هو : فضرب بيديه الأرض ثمّ رفعهما فنفضهما ...

(٦) الكافي ٣ : ٦١ / ١.

٢٦٥

أو الجبهة فتصبح الرواية مجملة من هذه الجهة.

على أن رواية الشيخ ضعيفة السند بأحمد بن محمّد بن يحيى العطار ، بخلاف رواية الكليني الّتي لها طريقان وأحدهما معتبر وهي الحجّة شرعاً ، والوارد فيها هو الجبين.

ويؤيد صحّة نسخة الكليني ما رواه ابن إدريس في آخر السرائر عن البزنطي عن ابن بكير عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : أتى عمار بن ياسر ... إلى أن قال : مسح بجبينه ... » (١) لأنّها مروية عن البزنطي ، هذا.

وقد ورد في الفقه الرضوي ما هو بمعنى الجبهة حيث ورد فيه : « ثمّ تمسح بهما وجهك موضع السجود » (٢) فان موضع السجود هو الجبهة. وهذا مبني على ما نقله في المستدرك لكن المنقول عن الفقه الرضوي في جامع الأحاديث مغاير له ، ونصّه : « ثمّ تمسح بهما وجهك من حدّ الحاجبين إلى الذقن ، وروى : أن موضع السجود من مقام الشعر ... » (٣) فإنّه على هذا يكون قوله : « روي : أنّ موضع السجود » مطلباً آخر ولا يكون تفسيراً للوجه كما هو كذلك على نقل المستدرك ، ولعل الاختلاف من جهة نسخ الكتاب.

إلاّ أنّ الفقه الرضوي لم يثبت كونه رواية فضلاً عن اعتبارها.

نعم نقل الوافي عن كل من الشيخ والكليني هذه الرواية بعنوان الجبهة (٤) ، وهو محمول على الاشتباه وعدم توجهه إلى الاختلاف ، أو مستند إلى اختلاف نسخ الكافي. وكيف كان ، لم يثبت ورود لفظ الجبهة في الرواية.

وأمّا الجبينان فقد ورد في رواية عمرو بن أبي المقدام عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « أنّه وصف التيمّم فضرب بيديه على الأرض ثمّ رفعهما فنفضهما ثمّ مسح على جبينيه وكفيه مرّة واحدة » (٥).

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٦٠ / أبواب التيمّم ب ١١ ح ٩ ، السرائر ٣ : ٥٥٤ ،

(٢) المستدرك ٢ : ٥٣٥ / أبواب التيمّم ب ٩ ح ١ ، فقه الرضا : ٨٨.

(٣) جامع أحاديث الشيعة ٣ : ١١١ / باب كيفيّة التيمّم ب ١٠ ح ٢٤.

(٤) الوافي ٦ : ٥٨١ / أبواب التيمّم / باب صفة التيمّم ح ٥.

(٥) الوسائل ٣ : ٣٦٠ / أبواب التيمّم ب ١١ ح ٦.

٢٦٦

نعم ورد ذلك في صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام الواردة في قضيّة عمار ابن ياسر (١) وقد اشتملت على عنوان الجبينين على نسخة. وورد لفظ الجبينين في الفقه الرضوي على ما في جامع الأحاديث (٢) دون المستدرك.

وأمّا الجبين فقد ورد في صحيحة زرارة المتقدّمة عن طريق الكافي (٣) وما رواها الصدوق على نسخة وما رواه ابن إدريس في آخر السرائر أيضاً (٤). ولم يثبت أنّ الوارد في رواية زرارة أيّهما ، هذا ما ورد في الأخبار.

وأمّا ما عن ابن بابويه من اعتبار مسح الوجه بتمامه فهو مقطوع الخلاف لوجهين :

أحدهما : صحيحة زرارة (٥) في تفسير قوله تعالى ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) حيث صرّحت بأنّ المسح ليس كالغسل ليجب في تمام الوجه ، حيث قال : « أثبت بعض الغسل مسحاً لأنّه قال : بوجوهكم » أي : ولم يقل : « وجوهكم » والباء للتبعيض كما هو الحال في قوله تعالى ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ). إذن نستفيد من هذه الصحيحة أنّ المسح لا يجب في جميع الوجه.

ثانيهما : أنّ الأخبار المتقدمة المشتملة على الجبينين أو الجبين أخبار معتبرة ، ومن المستهجن جدّاً أن يعبر الإمام عليه‌السلام عن تمام الوجه بالجبين أو الجبينين ، لأنّه مثل إطلاق الأنف وإرادة تمام الوجه ، وهو تعبير غير مألوف ، فلو كان الواجب مسح تمام الوجه لما عبر عنه في الأخبار المذكورة بالجبين أو الجبينين. فالقول بوجوب المسح لتمام الوجه ساقط قطعا.

وقد تحصل من استعراض الألفاظ الواردة في الأخبار أنّ الثابت هو لفظ الوجه والجبين أو الجبينين. ولا يمكن تقييد الأخبار المشتملة على الوجه بما اشتمل على‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٦٠ / أبواب التيمّم ب ١١ ح ٨.

(٢) جامع أحاديث الشيعة ٣ : ١٠٩ / باب كيفية التيمّم ح ١٦.

(٣) تقدّمت في ص ٢٦٥ ، ٢٦٦. التعليقة ٦ ، ١.

(٤) تقدّمت في ص ٢٦٥ ، ٢٦٦. التعليقة ٦ ، ١.

(٥) الوسائل ٣ : ٣٦٤ / أبواب التيمم ب ١٣ ح ١. ولعلّ الأنسب : في تفسير قوله ( تع ) فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ.

٢٦٧

الجبين أو الجبينين (١) ، وذلك لعدم صحّة إطلاق الجبين بمعناه الجنسي الشامل للواحد والاثنين وإرادة الوجه ، وذلك لأنّ الوجه إنّما يطلق عليه الوجه لأنّه ممّا يواجه به الإنسان ، والجبين الواحد ليس ممّا يواجه به. فإطلاق الجبين وإرادة الوجه كإطلاق الاذن وإرادة الوجه ليس صحيحاً لعدم كونها ممّا يواجه به ، هذا.

على أنّ الأخبار قد اشتملت على أنّهم مسحوا وجوههم بالأيدي والأكف أو أمروا بذلك ، ولا يمكن مسح الجبين الواحد بالكف ، لأنّ الجبين اسم لموضع خاص وهو لا يمسح عند مسح الوجه بتمامه نعم يمكن مسحه ثانياً ، إلاّ أنّ المسح المأمور به في الأخبار هو المسحة الواحدة والمسح مرّة واحدة ، والجبين في مسح الوجه مرّة لا يقع ممسوحاً بوجه.

وأمّا الجبينان فهما وإن أمكن مسحهما بالكفين عند المسح مرّة واحدة إلاّ أنّهما لا يطلق عليهما الوجه أيضاً ، لعدم كونهما ممّا يواجه به الإنسان. فاحتمال تقييد الأخبار المشتملة على الوجه (٢) أو الجبينين ساقط.

والّذي ينبغي أن يقال في المقام : إنّ الأخبار الواردة في مسح الجبين أو الجبينين إنّما وردت لبيان حدّ الوجه الّذي يجب مسحه عرضاً ، لأنّ الوجه لا يجب مسحه بحسب الطول بالتمام ، لصحيحة زرارة الدالّة على أنّ المقدار الّذي كان يجب غسله في الوضوء ليس بلازم المسح في التيمّم وإنّما اللاّزم في مسح التيمّم هو مسح بعض الوجه (٣) هذا بحسب الطول. وأمّا بحسب العرض فتدلّنا روايات الجبين والجبينين على أنّ الوجه الواجب غسله بحسب العرض في الوضوء يجب أن يمسح في التيمّم ، وبهذا يظهر أنّ المقدار الممسوح في التيمّم هو الجبينان والمقدار المتوسط بينهما أيضاً ، إذ لولاه لم يصدق الوجه.

__________________

(١) لعلّ المناسب : .... المشتملة على الجبين أو الجبينين بما اشتمل على الوجه.

(٢) لعلّ المناسب : الجبين.

(٣) الوسائل ٣ : ٣٦٤ / أبواب التيمّم ب ١٣ ح ١.

٢٦٨

ويعتبر كون المسح بمجموع الكفين (*) على المجموع فلا يكفي المسح ببعض كل من اليدين ولا مسح بعض الجبهة والجبينين ، نعم يجزئ التوزيع فلا يجب المسح بكل من اليدين على تمام أجزاء الممسوح.

______________________________________________________

ولكي يصدق الوجه تحقيقاً لا بدّ من إدخال ما بين الجبينين في الممسوح. إذن عملنا بكل من الطائفتين ويكون المقدار الممسوح هو الوجه والجبينين.

وهل يدخل الحاجبان في الممسوح أو لا؟ مقتضى سكوت الأخبار الواردة في مقام البيان عن التعرّض للحاجبين عدم لزوم مسحهما وكفاية المسح للجبينين وما بينهما ، لما تقدّم من كفاية المسح ببعض الوجه طولاً ، وإن كان الأحوط مسح الحاجبين أيضاً.

نعم لا ينفك مسح الحاجبين عادة عن مسح الجبينين وما بينهما باليدين إلاّ أنّهما خارجان عن المقدار الممسوح شرعاً.

وتظهر الثمرة فيما لو كان حاجب على الحاجبين بحيث لم يمكن مسحهما فانّ التيمّم حينئذ بمسح الجبينين وما بينهما كافٍ في صحّته ، وأمّا بناءً على دخولهما في الممسوح فلا بدّ من رفع الحاجب عن الحاجبين للزوم مسحهما حينئذ ، هذا كلّه في الممسوح.

وأمّا الماسح فالصحيح لزوم المسح بجميع الكفين واليدين بحكم المناسبة والإطلاق.

أمّا المناسبة فلأجل الأمر الوارد في الأخبار بضرب الكفّين أو اليدين على الأرض (١) والمراد منهما جميع الكفين ، لأن ضربهما على الأرض يقتضي الاستيعاب. وهذه المناسبة تقتضي أن يكون المراد بالماسح جميع الكفين ، فانّ الكفين اللّتين يجب ضربهما على الأرض في التيمّم هما اللّتان يجب المسح بهما على الوجه والجبينين.

وأمّا الإطلاق فلأن قوله عليه‌السلام : « فضرب بيده على البساط فمسح بهما‌

__________________

(*) على نحو يصدق في العرف أنّه مسح بهما.

(١) الوسائل ٣ : ٣٥٨ / أبواب التيمم ب ١١ ، ١٢.

٢٦٩

وجهه » كما في صحيح الكاهلي (١) أو قوله عليه‌السلام : « ثمّ مسح بها جبينه » كما في صحيحة زرارة (٢) وغيرهما من الأخبار مطلق ، ومقتضى الإطلاق المسح بمطلق اليد والكف لا ببعضها.

نعم لا يلزم أن يمسح بكل من أجزاء الماسح جزءاً من الممسوح ، وذلك لأن سعة مجموع الكفين المنضمتين أكثر من سعة الجبينين وما بينهما فيقع بعض أجزاء الكفين خارجاً عن الممسوح لا محالة. كما لا يكفي المسح ببعض الكفين كما لو مسح جبينيه بنصف كل كف من كفيه ، بل لا بدّ أن يكون المسح بحيث يصدق عليه عرفاً أنّه مسح بالكفين على الجبينين وما بينهما ، وهذا إنّما يصدق بمسحهما بجميع كفيه وإن كان مقدار من الكفين خارجاً عن الممسوح. فالمدار على الصدق العرفي لا التدقيق في مسح الجبينين بالكفين مع اعتبار الاستيعاب في الماسح كما مرّ ، هذا.

وقد يقال بكفاية المسح ببعض الكف ، وذلك لما ورد في صحيحة زرارة الّتي رواها الصدوق في الفقيه أنّه عليه‌السلام مسح جبينه ( جبينيه ) بأصابعه (٣) ولكن الظاهر أنّ الصحيحة لا تدل على خلاف ما يستفاد من غيرها من الأخبار المتقدمة ، بل هي تدل أيضاً على إرادة المسح بتمام الكف ، وذلك لأنّ الظاهر من الأصابع هو الأصابع الخمسة أعني مجموعها ، وحيث إنّ الخنصر (٤) وهي الإصبع الأُولى وقعت أسفل من الأصابع الأُخرى فلازم المسح بجميع الأصابع هو المسح بمجموع الكف ، فإنّه لو وقع المسح بالأصابع الأربعة لم يكن المسح بمجموع الأصابع.

إذن فالصحيحة كغيرها تدلّنا على اعتبار الاستيعاب في الماسح ، نعم في الممسوح لا يعتبر إلاّ الاستيعاب العرفي لا الدقي.

__________________

(١) ، (٢) الوسائل ٣ : ٣٥٨ / أبواب التيمّم ب ١١ ح ١ ، ٣.

(٣) الوسائل ٣ : ٣٦٠ / أبواب التيمّم ب ١١ ح ٨ ، الفقيه ١ : ٥٧ / ٢١٣.

(٤) الصحيح : الإبهام.

٢٧٠

الثّالث : مسح تمام ظاهر الكف اليمنى بباطن اليسرى ثمّ مسح تمام ظاهر اليسرى بباطن اليمنى (*) من الزند إلى أطراف الأصابع (١).

______________________________________________________

المقدار الّذي يمسح من اليدين‌

(١) المعروف بين الأصحاب أنّ المقدار المعتبر مسحه من اليدين في التيمّم هو الزند إلى أطراف الأصابع.

وفي قبال ذلك أقوال :

منها : ما نسب إلى علي بن بابويه (١) وابنه في المجالس (٢) من لزوم مسح اليدين من المرفقين إلى رؤوس الأصابع ، وكأنّه لا فرق بين الوضوء والتيمّم إلاّ في المسح على الرأس والرجلين ، وإلاّ فأي عضو يجب غسله في الوضوء يجب المسح عليه في التيمّم.

ومنها : ما اختاره الصدوق في الفقيه في التيمّم بدلاً عن الجنابة من وجوب المسح من فوق الزند والكف قليلاً إلى رؤوس الأصابع (٣).

ومنها : ما نسبه في الحدائق إلى ابن إدريس أنّه نقل عن بعض الأصحاب القول بوجوب المسح على اليدين من أُصول الأصابع إلى رؤوسها (٤) ، أعني موضع القطع في السرقة ، هذا.

ما استدلّ به لما ذهب إليه ابن بابويه‌

وقد استدلّ لما ذهب إليه علي بن بابويه وابنه في المجالس بجملة من الروايات :

منها : صحيحة محمّد بن مسلم قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن التيمّم‌

__________________

(*) اعتبار الترتيب بين المسحين مبني على الاحتياط.

(١) حكاه المحقق في المعتبر ١ : ٣٨٤.

(٢) الأمالي : ٧٤٤ / المجلس الثّالث والتّسعون.

(٣) الفقيه ١ : ٥٧ / ذيل الحديث ٢١٢.

(٤) الحدائق ٤ : ٣٤٩ ، السرائر ١ : ١٣٧.

٢٧١

فضرب بكفيه الأرض ثمّ مسح بهما وجهه ثمّ ضرب بشماله الأرض فمسح بها مرفقه إلى أطراف الأصابع واحدة على ظهرها وواحدة على بطنها ... » (١).

ومنها : صحيحة ليث المرادي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « في التيمّم قال : تضرب بكفيك على الأرض مرّتين ، ثمّ تنفضهما وتمسح بهما وجهك وذراعيك » (٢).

ومنها : موثقة سماعة قال : « سألته كيف التيمّم؟ فوضع يده على الأرض فمسح بها وجهه وذراعيه إلى المرفقين » (٣).

كما استدلّ لما ذهب إليه الصدوق بصحيحتي أبي أيّوب الخزاز وداود بن النعمان الواردتين في قضية عمار حيث ورد فيهما أنّه عليه‌السلام مسح فوق الكف قليلاً (٤).

وما نسبه ابن إدريس إلى بعض أصحابنا يدل عليه ما رواه حماد بن عيسى عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام : أنّه سُئل عن التيمّم فتلا هذه الآية ( وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ) وقال ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) قال : فامسح على كفيك من حيث موضع القطع ، وقال ( وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) (٥).

ما يدلّ على مذهب المشهور‌

والصحيح هو ما ذهب إليه المشهور في المقام. ويدلُّ عليه أمران :

أحدهما : جميع الأخبار الواردة في كيفيّة التيمّم المشتملة على أنّهم مسحوا كفيهم أو أمروا بمسح الكفين (٦). وتقريب الاستدلال بها من وجهين :

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٦٢ / أبواب التيمّم ب ١٢ ح ٥.

(٢) الوسائل ٣ : ٣٦١ / أبواب التيمّم ب ١٢ ح ٢.

(٣) الوسائل ٣ : ٣٦٥ / أبواب التيمّم ب ١٣ ح ٣.

(٤) الوسائل ٣ : ٣٥٨ / أبواب التيمّم ب ١١ ح ٢ ، ٤.

(٥) الوسائل ٣ : ٣٦٥ / أبواب التيمّم ب ١٣ ح ٢.

(٦) راجع الوسائل ٣ : ٣٥٨ / أبواب التيمّم ب ١١.

٢٧٢

أحدهما : أنّ اليد وإن كان لها إطلاقات متعددة ، فقد تطلق بمعنى أُصول الأصابع إلى أطرافها كما في آية السرقة ، وأُخرى : تطلق على الزند إلى أطراف الأصابع كما في آية التيمّم على ما يأتي بيانه ، وثالثة : على المرفق إلى أطراف الأصابع كما في آية الوضوء ، ورابعة : على المنكب إلى رؤوس الأصابع كما هو الشائع. إلاّ أنّ الكف ليست كذلك وإنّما لها معنى واحد وهو الزند إلى أطراف الأصابع. فتدلّنا الأخبار المذكورة على أنّهم مسحوا من الزند إلى رؤوس الأصابع أو أنّهم أمروا بمسح ذلك.

الوجه الثّاني : أن بعض تلك الأخبار اشتملت على أنّهم مسحوا بالكف اليمنى على اليسرى وباليسرى على اليمنى أو بإحداهما على الأُخرى ، ومن الظاهر أنّ المسح لا يكون إلاّ بالكف بالمعنى المتقدّم ولا يكون بالذراع فإنّه أمر غير معهود. حتّى أنّ الصدوق ووالده لا يرون المسح بالذراع ، فإذا كان الماسح هو الكف وما دون الزند كان الممسوح أيضاً كذلك ، لأنّ الكف في كل من الماسح والممسوح بمعنى واحد.

الثّاني ممّا استدلّ به على مسلك المشهور هو جملة من الأخبار المعتبرة :

منها : صحيحتا أبي أيّوب الخزاز وداود بن النعمان (١) المتقدمتان ، لدلالتهما على أنّ الذراعين ليسا بلازمي المسح كما يراه علي بن بابويه وابنه في المجالس ، فإنّه عليه‌السلام مسح يديه فوق الكف قليلاً ، ولم يمسح ذراعيه.

وأظهر منهما صحيحة زرارة قال : « سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول ، وذكر التيمّم وما صنع عمار ، فوضع أبو جعفر عليه‌السلام كفيه على الأرض ثمّ مسح وجهه وكفيه ولم يمسح الذراعين بشي‌ء » (٢) لصراحتها في خلاف ما ذهب إليه ابن بابويه في المجالس وما اختاره الصدوق في الفقيه.

المناقشة فيما استدلّ به على مذهب ابن بابويه‌

ثمّ إن ما استدلّ به على مذهب ابن بابويه لا يمكن الاعتماد عليه في مقابل تلك‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٥٨ / أبواب التيمّم ب ١١ ح ٢ ، ٤. وقد تقدّم مضمون محل الاستدلال في ص ٢٥٨.

(٢) الوسائل ٣ : ٣٥٩ / أبواب التيمّم ب ١١ ح ٥.

٢٧٣

الأخبار الدالّة على مسلك المشهور ، وإنّما الكلام في أنّه يحمل على الاستحباب أو لا بدّ من حمله على التقيّة.

وقد تكلّمنا فيما سبق على نظائر المقام ، ولعله أشرنا إليه في أخبار البئر (١) وقلنا : إنّ التردّد بين الحمل على الاستحباب أو على التقية إنّما هو فيما إذا اشتملت الطائفتان على الحكم المولوي ، فإنّه إذا قدمنا إحداهما أمكن التردد في أُخراهما بين الأمرين حينئذ فيجمع بينهما بالجمع العرفي ويحمل الآخر على الاستحباب بأن يجعل أحدهما قرينة على إرادة الترخيص من الآخر ، ومعه يكون دليلاً على الاستحباب وهو جمع عرفي.

وأمّا إذا لم يكن شي‌ء من الطائفتين مشتملاً على الحكم المولوي مثل المقام ، حيث إنّ السؤال في الطائفتين إنّما هو عن كيفيّة التيمّم وليستا مشتملتين على الحكم المولوي فهما متعارضتان بالتباين ، لأن إحدى الكيفيتين تغاير الكيفيّة الأُخرى كما هو واضح ولا معنى لحمل إحداهما على الاستحباب ، ولا يكون ذلك من الجمع العرفي في شي‌ء.

إذن لا بدّ من الرّجوع إلى المرجحات. وما دلّ على مسلك المشهور موافق للكتاب ومخالف للعامّة (٢) والطائفة الأُخرى مخالفة للكتاب وموافقة للعامّة. ومع هذين المرجحين لا بدّ من الأخذ بما دلّ على مسلك المشهور وإن كان مرتبة الترجيح بمخالفة العامّة متأخرة عن الترجيح بموافقة الكتاب.

ثمّ إن كون الطائفة الثّانية موافقة للعامّة ظاهر ، لذهابهم إلى لزوم المسح من المرفقين إلى أطراف الأصابع.

وأمّا مخالفتها الكتاب فلأنّ الآية المباركة دلّت على لزوم المسح في التيمّم بالوجوه والأيدي حيث قال عزّ من قائل ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ) (٣) بعطف أيديكم على وجوهكم وقراءته مجروراً كما في وجوهكم ، إذ لو كان معطوفاً على مجموع الجار والمجرور للزم قراءته منصوباً ( وَأَيْدِيكُمْ ) بالفتح.

__________________

(١) لاحظ شرح العروة ٢ : ٢٤٦.

(٢) لمعرفة فتواهم يراجع كتاب الام ١ : ٤٩ ، المحلّى ٢ : ١٥٢.

(٣) النِّساء ٤ : ٤٣.

٢٧٤

وكما أنّ لفظة الباء الجارة في ( بِوُجُوهِكُمْ ) دلّتنا على إرادة بعض الوجه وعدم لزوم مسح تمام الوجه في التيمّم ، كذلك تدلّنا على إرادة البعض في ( أَيْدِيَكُمْ ) فنستفيد منها أنّ اليد اللاّزم غسلها في الوضوء لا يعتبر مسحها بتمامها في التيمّم بل يكفي مسح بعضها. فما دلّ على لزوم مسح جميع اليد من المرفقين إلى الأصابع يكون على خلاف الآية المباركة. هذا كلّه فيما ذهب إليه علي بن بابويه وابنه في المجالس.

ما ذهب إليه الصدوق ( رحمه‌الله )

وأمّا ما ذهب إليه الصدوق في الفقيه من اعتبار المسح فوق الكف بقليل مستدلاًّ عليه بالصحيحتين المتقدمتين (١) فلا يمكن المساعدة عليه ، لأنّهما إنّما اشتملتا على حكاية فعل ، والفعل لا لسان له ليدل على أنّه على وجه الوجوب ، بل لا بدّ من أن يكون على وجه المقدمة العلميّة ، لدلالة ما قدّمناه من الأخبار على كفاية المسح من الزند إلى أطراف الأصابع.

وتظهر الثمرة فيما إذا كان فوق الزند حاجب عن المسح فإنّه يمنع عن صحّة التيمّم على مسلك الصدوق ولا يضر على مسلك المشهور كما أوضحناه في مسح الحاجبين.

ما نسب إلى بعض الأصحاب‌

وأمّا ما نسبه ابن إدريس إلى بعض الأصحاب ففيه : أنّه لا ملازمة بين كون اليد في آية السرقة بمعنى أُصول الأصابع إلى أطرافها وبين أن تكون الكف في المقام بهذا المعنى. على أنّ المقتضي له قاصر في نفسه ، لأنّ المرسلة لا يمكن الاعتماد عليها في نفسها لتقع المعارضة بينها وبين ما استدللنا به على مسلك المشهور.

بقي الكلام في أنّ مسح الزند إلى أطراف الأصابع هل يعتبر أن يكون بباطن الكف أو يجوز أن يكون بظاهرها ، كما أنّ الممسوح من الزند إلى أطراف الأصابع هل هو‌

__________________

(١) وهما صحيحتا أبي أيّوب الخزّاز وداود بن النعمان ، وقد تقدّمت الفقرة المرتبطة منهما بالمقام في ص ٢٧٢.

٢٧٥

ويجب من باب المقدمة إدخال شي‌ء من الأطراف ، وليس ما بين الأصابع من الظاهر (١) فلا يجب مسحها ، إذ المراد به ما يماسه ظاهر بشرة الماسح ، بل الظاهر عدم اعتبار التعميق والتدقيق فيه ، بل المناط صدق مسح التمام عرفا.

______________________________________________________

ظاهره أم يجوز أن يمسح الباطن.

والصحيح هو اعتبار أن يكون الماسح باطن الكف لا ظاهرها ، كما أنّ الممسوح يعتبر أن يكون ظاهر الكف لا باطنها ، وذلك للأخبار البيانية الواردة في كيفيّة التيمّم حيث اشتملت على أن أنّهم أمروا أو أنّهم مسحوا كل واحدة من الكفين على الأُخرى ، وهذا يدلّنا على أنّ المسح إنّما يعتبر أن يكون بباطن الكف كما أنّ الممسوح يلزم أن يكون ظاهرها ، لأنّه المتعارف في المسح.

فلو كان الماسح ظاهر الكف والممسوح باطنها لُاوضح ذلك في الأخبار ، لوجوب التنبيه على كل ما لم تجر العادة عليه ، نظير ما بيّناه في مسح الوجه (١) حيث قلنا إنّ مسحه يعتبر أن يكون بباطن الكف لا بظاهرها ، لعين ما ذكرناه في المقام.

ويدلّنا على اعتبار كون الممسوح ظاهر الكف صريحاً حسنة الكاهلي ، حيث ورد فيها أنّه عليه‌السلام : « ضرب بيده على البساط فمسح بهما وجهه ثمّ مسح كفيه إحداهما على ظهر الأُخرى » (٢).

ما بين الأصابع ليس من الظاهر‌

(١) أمّا المقدار المتصل من الأصابع بالأُخرى ممّا بين الأصابع عند ضمها فلا إشكال في عدم وجوب مسحه ، لأنّه من الباطن ولا يجب مسح الباطن كما مرّ.

وأمّا المقدار الظاهر المشاهد منه ممّا بين الأصابع الّذي لم يتّصل بالإصبع الأُخرى‌

__________________

(١) لعلّ المناسب : في ضرب اليدين ، كما في ص ٢٥٨.

(٢) الوسائل ٣ : ٣٥٨ / أبواب التيمّم ب ١١ ح ١.

٢٧٦

وأمّا شرائطه فهي أيضاً أُمور :

الأوّل : النيّة مقارنة لضرب اليدين على الوجه الّذي مرّ في الوضوء (١).

______________________________________________________

فلأنّه ليس من الظاهر ولا من الباطن ولأنه ممّا لا يقع عليه المسح عادة عند المسح باليد الأُخرى ، فلو كان مسح ذلك المقدار لازماً أيضاً وهو على خلاف ما يقتضيه طبع المسح للزم التنبيه عليه في الأخبار مع أنّه لم يرد ذلك في شي‌ء من الروايات.

الكلام في شرائط التيمّم‌

(١) الأوّل ممّا يعتبر في التيمّم : النيّة.

يقع الكلام في هذه المسألة في مقامين :

الأوّل : في أصل اعتبار النيّة في التيمّم.

والثّاني : في مبدئها وأنّ النيّة تعتبر فيها المقارنة مع الضرب أو المقارنة مع مسح الوجه.

المقام الأوّل : لا ينبغي الشبهة في أنّ التيمّم كالوضوء والغسل تعتبر فيه النيّة وليس هذا لأجل أنّ التيمّم بدل عن الوضوء وحيث إنّه ممّا تعتبر فيه فلا بدّ أن تكون معتبرة في بدله أيضاً ، وذلك لعدم التلازم بين كون المبدل منه معتبراً فيه النيّة وكون بدله كذلك ، ولم يقم عليه دليل شرعي أو برهان عقلي ، بل قد وقع خلافه في الصوم فان بدله لمن لا يتمكّن منه إطعام ثلاثة أشخاص أو مساكين من دون أن تعتبر النيّة في الإطعام.

بل لأجل أنّ التيمّم طهور ، والطهور جزء من الصلاة تنزيلاً ، لما ورد من أنّ الصلاة ثلاثة أثلاث : ثلث الطهور (١) ، وبما أنّ الصلاة تعتبر فيها النيّة جزماً كذلك الحال فيما هو جزؤها تنزيلاً.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٦٦ / أبواب الوضوء ب ١ ح ٨.

٢٧٧

المقام الثّاني : قد يقال : إنّ النيّة تعتبر مقارنة لمسح الوجه لأنّه أوّل التيمّم ، وضرب اليدين شرط فيه. ويدلُّ عليه ما رواه زرارة عن أحدهما عليهما‌السلام قال « قلت : رجل دخل الأجمة ... إلى أن قال : إن خاف على نفسه من سبع أو غيره وخاف فوات الوقت فليتيمم يضرب بيده على اللّبد أو البَرْذَعة ويتيمّم ويصلِّي » (١) فانّ التيمّم قد تكرّر فيها حيث قال : « فليتيمم يضرب بيده على اللبد أو البرذعة ويتيمّم ويصلِّي ».

وظاهره أنّ المراد به هو ما أُريد من التيمّم في الأمر به بقوله « فليتيمم » ، ومنه يظهر أنّ التيمّم إنّما يتحقّق بعد ضرب اليد على ما يصح التيمّم به ولا يتحقق من حين الضرب.

والإنصاف أنّ الرواية لا تخلو عن الدلالة ولا أقل من الإشعار بأنّ التيمّم إنّما هو بعد ضرب اليد على ما يتيمّم به وهو مسح الوجه.

إلاّ أنّها ضعيفة السند بأحمد بن هلال الّذي نسب إليه النصب تارة والغلو اخرى وقد استظهر شيخنا الأنصاري قدس‌سره من ذلك أنّ الرجل لم يكن له دين أصلاً (٢) لأنّ البعد بين المذهبين كبعد المشرقين ، فلا يمكن الاعتماد عليها بوجه.

إذن يقع الكلام في أن كون التيمّم يبدأ من الضرب بأي دليل. ويمكن الاستدلال عليه بالأخبار البيانية الواردة لتعليم التيمّم وكيفيّته ، فإنّهم في ذلك المقام بعد سؤالهم عن التيمّم ضربوا أيديهم على الأرض ومسحوا بها وجوههم وأيديهم ، كقوله في حسنة الكاهلي : « سألته عن التيمّم فضرب بيده ... إلخ » (٣) فانّ الظاهر منه أنّ التيمّم يبدأ ويشرع من الضرب ، وهكذا غيرها من الأخبار البيانيّة.

بل لو ناقشنا في دلالة تلك الأخبار على المدّعى تكفينا صحيحة إسماعيل بن همام الكندي عن الرضا عليه‌السلام وأحمد بن محمّد في سندها هو ابن عيسى قال : « التيمّم ضربة للوجه وضربة للكفين » (٤).

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٥٤ / أبواب التيمّم ب ٩ ح ٥.

(٢) كتاب الطّهارة : ٥٧ السطر ١٩.

(٣) الوسائل ٣ : ٣٥٨ / أبواب التيمّم ب ١١ ح ١.

(٤) الوسائل ٣ : ٣٦١ / أبواب التيمّم ب ١٢ ح ٣.

٢٧٨

حيث حملت الضربة على التيمّم ، وهي تدلّنا على أنّ الضربة أو الوضع داخل في التيمّم وهي أوّل التيمّم. إذن لا بدّ أن تكون نيّة التيمّم مقارنة للضربة.

وتظهر الثمرة فيما لو بدا له في التيمّم بعد ضرب يده على الأرض ، فإنّه على ما ذكره ذلك القائل ينوي التيمّم مقارناً لمسح وجهه وهو صحيح ، وأمّا بناءً على ما ذكرناه فلا بدّ من أن يضرب يده على الأرض ثانياً وينوي مقارناً للضرب.

وأمّا الآية المباركة وهي قوله عزّ من قائل ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ) (١) فقالوا : إنّها لا دلالة لها على أنّ التيمّم يبدأ من الضرب لعدم اشتمالها عليه بل هي مشتملة على الأمر بالمسح.

ويدفعه : أنّ الآية وإن لم تدل على أنّ الضرب من التيمّم إلاّ أنّها لا تدل على خلافه ، بل يستفاد منها كون الضرب من التيمّم بقرينة قوله تعالى ( مِنْهُ ) أي من التراب أو الأرض ، فإن معناه هو الأمر بالمسح بما ينشأ من الأرض بضرب اليد أو بوضعها عليها فيكون الضرب أو الوضع داخلاً في التيمّم لا محالة ، هذا.

وقد يقال : إن اشتراط إباحة التراب في التيمّم يقتضي أن يكون الضرب داخلاً في التيمّم ، فان حمله على التكليف المحض بعيد.

ويدفعه : أنّ الصلاة مشروطة بالطهور وهو بمعنى الماء والتراب ، ويعتبر أن يكون استعمالهما استعمالاً جائزاً شرعاً بلا فرق في ذلك بين أن يكون ضرب اليد على التراب في التيمّم جزءاً أو شرطاً ، وذلك لأن ذات القيد وإن كان خارجاً إلاّ أنّ التقيد به جزء للمأمور به حينئذ ، ولا يمكن أن يكون قيد المأمور به مبغوضاً ، لأنّ المبغوض لا يمكن أن يكون مقرباً. فلا دلالة ولا إشعار في اشتراط إباحة التراب في التيمّم على كون الضرب داخلاً في التيمّم.

استدراك :

ذكرنا أنّه وقع الكلام في أنّ الضرب جزء للتيمم أو أنّه مقدمة له وابتداؤه مسح‌

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

٢٧٩

الوجه ، وقد استظهرنا من الأخبار البيانيّة أنّ الضرب جزء لا أنّه مقدمة ، واستشهدنا له أيضاً بما ورد في صحيحة إسماعيل بن همام الكندي عن الرضا عليه‌السلام قال : « التيمّم ضربة للوجه وضربة للكفين » لأنّها حملت الضربة على نفس التيمّم وقلنا إنّها تدلّنا على أنّ الضرب جزء منه.

ولا نريد بذلك بيان أنّ التيمّم ضربة فقط ، كيف وليست الضربة تيمماً بلا ريب وإنّما المقصود أنّ الضرب بانضمام بقية الأُمور المعتبرة فيه من مسح الوجه والكفين والنيّة تيمّم ، فحمل التيمّم على الضرب (١) من أجل أنّ المركب عين أجزائه ، هذا.

وقد يعارض ذلك بما ورد في موثقة سماعة في رجل مرّت به جنازة وهو على غير وضوء كيف يصنع؟ قال : يضرب بيديه على حائط اللّبن فليتيمم به (٢) حيث دلّت على أن ضرب اليدين على الأرض خارج عن التيمّم ومقدمة له ، والتيمّم إنّما يتحقق بعده.

إلاّ أنّ الصحيح عدم دلالة الموثقة على ذلك ، لأنّها ناظرة إلى اعتبار الضرب في التيمّم وأنّه يكفي الضرب على الحائط ، وإنّما قال « يضرب ... فليتيمم به » باعتبار ما قدّمناه من أنّه إذا ضرب يديه على الأرض لا يكون هذا الضرب تيمماً قطعاً بل الضرب بضميمة غيره ممّا يعتبر فيه يكون تيمماً ، فكأنه عليه‌السلام قال : يضرب بيده ويأتي ببقية الأُمور فيتحقق به التيمّم.

وإطلاق « فليتيمم » بعد الشروع فيه بالضرب إطلاق عادي صحيح ، وهو نظير ما لو قلنا بأنّه يكبِّر ويصلِّي ، فان معناه أنّه بعد ما كبر يأتي ببقية أجزاء الصلاة أيضاً ويكون ما أتى به صلاة ، لا أنّ التكبير خارج عن الصلاة ، وهذا ظاهر. إذن لا تكون الموثقة معارضة للصحيحة المتقدمة فتبقى دلالتها على أنّ الضرب جزء من التيمّم سليمة عن المعارض.

__________________

(١) لعلّ الأنسب : فحمل الضرب على التيمم.

(٢) الوسائل ٣ : ١١١ / أبواب صلاة الجنازة ب ٢١ ح ٥. وفي الكافي والتهذيب : فيتيمّم به.

٢٨٠