موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

تيمّم للدخول وكان بسببه واجداً للماء فلا محالة يبطل تيممه فيلزم من صحّة التيمّم بطلانه.

وتقريب دفعه : أنّا قدمنا أنّ المسوغ للتيمم إنّما هو عدم التمكّن من استعمال الماء بالإضافة إلى الغاية المقصودة وإن كان المكلّف متمكّناً من استعماله بالإضافة إلى سائر الغايات ، ومن هنا جوّزنا التيمّم لضيق الوقت مع أنّ المكلّف حينئذ متمكّن من الاستعمال عقلاً وشرعاً لأجل بقية الغايات إلاّ أنّه لم يكن متمكّناً منه بالإضافة إلى الصلاة ، ولذا قلنا إنّ التيمّم لضيق الوقت لا يستباح به سوى الصلاة الّتي ضاق وقتها دون سائر الغايات لعدم تضيقها.

وعليه ففي المقام لمّا كان المكلّف لا يتمكّن من استعمال الماء بالإضافة إلى الدخول ساغ التيمّم في حقّه لأجله وإن كان متمكّناً من استعماله لأجل سائر الأُمور.

والحاصل : أنّ الجواز كان ثابتاً قبل التيمّم فهو لا يبيح إلاّ الدخول ولا مانع من صحّته ، لأنّه فاقد بالإضافة إلى الدخول وإن كان واجداً بالإضافة إلى الصلاة وغيرها.

وأمّا بالنسبة إلى الاغتسال فهو قد كان واجداً للماء قبل التيمّم وبعده لا أنّه صار واجداً له بعد التيمّم ، لأنّ الوجدان على ما فسّرناه يعني التمكّن من استعمال الماء والمكلّف متمكّن وقادر على الاغتسال واستعمال الماء له بواسطة التمكّن على مقدّمته الّتي هي الدخول بالتيمّم ، والمقدور مع الواسطة مقدور ، وإنّما المقدّمة لها المدخلية في تحقق ذي المقدّمة ووجوده لا في القدرة عليه على ما بيّناه في بحث مقدّمة الواجب (١) لأنّ المكلّف قادر على ذيها حتّى قبل الإتيان بمقدّمته ، نعم لولا المقدّمة لم يكن ذوها موجوداً لا أنّ المكلّف لم يكن قادراً عليه ، لأنّه مقدور مع الواسطة وهو مقدور قبل الإتيان بالمقدمة وبعده.

ومقامنا من هذا القبيل ، لأنّ المكلّف متمكّن من الاغتسال قبل التيمّم والدخول وبعدهما لقدرته على مقدّمته ، نعم لولا التيمّم والدخول لم يتحقق الاغتسال لا أنّ‌

__________________

(١) أشار إليه في محاضرات في أُصول الفقه ٢ : ٤١٦.

١٨١

المكلّف لم يكن متمكّناً منه. إذن لا محذور في التيمّم لأجل الدخول ولا يستباح به سواه.

فلا يرد الإشكال عليه بأنّ صحّة التيمّم تستلزم صدق الواجد عليه ومعه يبطل لأنّه فاقد للماء بالنسبة إلى الدخول وليس بواجد له إلاّ (١) بعد تحقق الدخول ، نعم هو واجد للماء بالإضافة إلى غيره وهو لا يضر بصحّة التيمّم بالإضافة إلى الدخول ، هذا.

ولكن الصحيح على ما بيّناه في أحكام الجنابة عدم صحّة التيمّم للدخول ، وذلك لأنّ التيمّم إنّما يسوغ لأجل وجوب الاغتسال من الجنابة ، إذ لولا وجوب الاغتسال منها لم يجز للمكلّف الدخول في المسجد ولا التيمّم لأجله ، فجواز التيمّم موقوف على وجوب الاغتسال ، فلو توقف وجوب الاغتسال على جواز التيمّم والدخول كما هو المفروض لدار (٢).

إذن فالصحيح أنّه فاقد للماء على وجه الإطلاق ووظيفته التيمّم ، فلو تيمّم ساغت له الغايات المترتبة على التيمّم مطلقاً كجواز المس وغيره دون الدخول ، لا أنّه فاقد بالنسبة إلى خصوص الدخول ولا يباح له بالتيمّم إلاّ الدخول.

استدراك :

ذكرنا أنّ الجنب إذا لم يتمكّن من الاغتسال وكان الماء موجوداً في المسجد بناءً على حرمة أخذ الجنب منه شيئاً مع عدم تمكّنه من الاغتسال حال المرور أو فرضنا الكلام في المسجدين أو نحو ذلك من التقادير المذكورة في المتن لا يجوز له أن يتيمّم للدخول ، لاستلزامه الدور ، حيث إنّ جواز دخوله بالتيمّم متوقف على وجوب الاغتسال من الجنابة فلو توقف وجوب الاغتسال عليه على جواز الدخول لدار.

بل المكلّف فاقد للماء ، لأنّ مقدمة اغتساله محرمة وهي دخوله المسجد جنباً والممنوع شرعاً كالممتنع عقلاً ، ولأجله يسوغ له أن يتيمّم ويباح له بتيممه الغايات المترتبة على التيمّم شرعاً كجواز مس كتابة القرآن والصلاة ونحوهما ، هذا.

__________________

(١) لعلّ الصحيح : وليس بواجد له حتى ...

(٢) شرح العروة ٦ : ٣٤٢.

١٨٢

[١٠٩٤] مسألة ٣٦ : لا يجوز التيمّم مع التمكّن من استعمال الماء إلاّ في موضعين : أحدهما : لصلاة الجنازة ، فيجوز مع التمكّن من الوضوء أو الغسل على المشهور مطلقاً (١)

______________________________________________________

وقد يقال : إنّه بناءً على ما ذكرتم يجوز له الدخول في المسجدين أو في المساجد لأنّه كسائر الغايات المترتبة على تيمّم فاقد الماء.

ويندفع هذا بأنّه لا يعقل أن يجوز له الدخول بهذا التيمّم ، وذلك لأنّ المسوغ لتيممه إنّما هو حرمة دخوله وعدم تمكّنه من الاغتسال بدونه فكيف يعقل أن تسقط حرمة الدخول المسببة لجواز التيمّم بالتيمّم.

وبعبارة اخرى : أنّ المكلّف لمّا لم يجز له الدخول في المساجد والاغتسال جاز التيمّم في حقّه ، فإذا تيمّم للصلاة به فلو كان هذا التيمّم سبباً في جواز دخوله فيها لأوجب هذا وجوب الاغتسال في حقّه لتمكّنه منه حينئذ وعدم جواز الصلاة في حقّه إلاّ بالاغتسال ، فيلزم من جواز التيمّم للصلاة بطلان تيممه وعدم صحّة الصلاة به وهو أمر غير معقول.

فالمتحصل : أنّ المكلّف غير متمكّن من الماء فيتيمم لأجل الغايات المترتبة عليه ولا يسوغ له الدخول في المسجد ليجب عليه الاغتسال.

وإن شئت قلت : إذا تيمّم للصلاة في المسألة المتقدّمة لم يجز له الدخول في المسجد لأخذ الماء ، لأنّه إذا جاز ذلك لم تصح صلاته لأنّه واجد للماء فيبطل تيممه فلا يجوز له الدخول. فالأمر دائر بين أن يباح به خصوص الدخول وقد عرفت أنّه غير معقول ، وأن يباح به غير الدخول وهو الصحيح.

المستثنى الأوّل :

(١) لا دليل على ذلك بوجه ، لأن مصححة الحلبي : « سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الرجل تدركه الجنازة وهو على غير وضوء فان ذهب يتوضأ فاتته‌

١٨٣

لكن القدر المتيقن صورة خوف فوت الصلاة منه لو أراد أن يتوضأ أو يغتسل نعم لمّا كان الحكم استحبابياً يجوز أن يتيمّم مع عدم خوف الفوت أيضاً لكن برجاء المطلوبيّة لا بقصد الورود والمشروعيّة.

______________________________________________________

الصلاة ، قال عليه‌السلام : يتيمّم ويصلِّي » (١) موردها صورة خوف الفوت لا مطلقاً حتّى مع العلم بعدم فوت الصلاة عنه إذا ذهب ليتوضأ.

وموثقة سماعة : « سألته عن رجل مرّت به جنازة وهو على غير وضوء كيف يصنع؟ قال عليه‌السلام : يضرب بيده حائط اللبن فليتيمم » (٢) منصرفها صورة الفوت ، لأنّ المراد بقوله : « كيف يصنع » إن كان هو أنّه غير متوضئ ولا يخاف من فوت الصلاة على تقدير التوضي لم يكن لسؤاله هذا مجال ، لأنّه لا بدّ أن يتوضأ ، ولا معنى لسؤاله « كيف يصنع » ، فالظاهر أن تحيره وسؤاله هذا ناظر إلى أنّه لو توضأ لفاتته الصلاة فماذا يصنع؟ فأجابه عليه‌السلام « يضرب بيده ... ».

نعم مرسلة حريز عمّن أخبره عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : الطامث تصلّي على الجنازة لأنّه ليس فيها ركوع ولا سجود ، والجنب يتيمّم ويصلِّي على الجنازة » (٣) مطلقة وغير مقيّدة بصورة خوف الفوت ، إلاّ أنّها لإرسالها غير قابلة للاعتماد عليها في الفتوى بوجه.

نعم لمّا كانت صلاة الجنازة غير مشروطة بالطّهارة ، لأنّ الحائض يجوز لها الصلاة على الجنازة لم يكن بأس بالإتيان بالتيمّم لها رجاءً حتّى في صورة خوف الفوت (٤).

__________________

(١) الوسائل ٣ : ١١١ / أبواب صلاة الجنازة ب ٢١ ح ٦.

(٢) الوسائل ٣ : ١١١ / أبواب صلاة الجنازة ب ٢١ ح ٥.

(٣) الوسائل ٣ : ١١٢ / أبواب صلاة الجنازة ب ٢٢ ح ٢.

(٤) الصحيح : في صورة عدم خوف الفوت.

١٨٤

الثّاني : للنوم ، فإنّه يجوز أن يتيمّم مع إمكان الوضوء أو الغسل على المشهور أيضاً مطلقاً (١) وخصّ بعضهم بخصوص الوضوء ، ولكن القدر المتيقن من هذا أيضاً صورة خاصّة وهي ما إذا آوى إلى فراشه فتذكّر أنّه ليس على وضوء فيتيمم من دثاره لا أن يتيمّم قبل دخوله في فراشه متعمداً مع إمكان الوضوء ، نعم هنا أيضاً لا بأس به لا بعنوان الورود ، بل برجاء المطلوبية حيث إنّ الحكم استحبابي.

وذكر بعضهم موضعاً ثالثاً وهو ما لو احتلم في أحد المسجدين ، فإنّه يجب أن يتيمّم للخروج وإن أمكنه الغسل ، لكنّه مشكل ، بل المدار على أقلية زمان التيمّم أو زمان الغسل أو زمان الخروج ، حيث إنّ الكون في المسجدين جنباً حرام فلا بدّ من اختيار ما هو أقل زماناً من الأُمور الثلاثة (٢)

______________________________________________________

المستثنى الثّاني :

(١) لا دليل على جواز التيمّم للنوم مع تمكّن المكلّف من الماء والاغتسال. ومدركهم رواية مرسلة رواها الصدوق في الفقيه عن الصادق عليه‌السلام : « من تطهر ثمّ آوى إلى فراشه بات وفراشه كمسجده ، فان ذكر أنّه ليس على وضوء فتيمم من دثاره كائناً ما كان لم يزل في صلاة ما ذكر الله » (١).

وهي مضافاً إلى إرسالها مختصّة بناسي الحدث ، كما تختص بالحدث الأصغر ، فلا بأس بالعمل على طبقها في موردها وهو ناسي الحدث الأصغر بناءً على التسامح في أدلّة السنن. والتعدي عن موردها إلى غير الناسي كالعامد وإلى غير المحدث بالأصغر أي الأكبر ممّا لا دليل عليه. فالحديث بناءً على تمامية القاعدة يعمل به في مورده بالتيمّم من دثاره.

(٢) لأنه الحد الأقل ممّا لا بدّ من المكث فيهما ، وإنّما الكلام في الزائد عليه ، فما كان‌

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٧٨ / أبواب الوضوء ب ٩ ح ٢ ، الفقيه ١ : ٢٩٦ / ١٣٥٣. ورواها البرقي أيضاً في المحاسن [ ١ : ١١٩ / ١٢٣ ] عن حفص بن غياث ، والظاهر أنّها مرسلة لروايته عنه بواسطة أبيه ، وأمّا بلا واسطة فلم تثبت.

١٨٥

فإذا كان زمان التيمّم أقل من زمان الغسل يدخل تحت ما ذكرنا من مسوّغات التيمّم من أن من موارده ما إذا كان هناك مانع شرعي من استعمال الماء ، فإن زيادة الكون في المسجدين جنباً مانع شرعي من استعمال الماء.

[١٠٩٥] مسألة ٣٧ : إذا كان عنده مقدار من الماء لا يكفيه لوضوئه أو غسله وأمكن تتميمه بخلط شي‌ء من الماء المضاف الّذي لا يخرجه عن الإطلاق لا يبعد وجوبه ، وبعد الخلط يجب الوضوء أو الغسل وإن قلنا بعدم وجوب الخلط لصدق وجدان الماء حينئذ (١).

______________________________________________________

زمانه أكثر لم يجز للمكلّف اختياره لاستلزامه المكث الزائد وهو حرام.

خلط المطلق بالمضاف‌

(١) قد يقع الكلام في هذه المسألة بالإضافة إلى من خلط الماء المضاف المذكور بالماء المطلق ، ولا ينبغي الإشكال حينئذ في وجوب التوضي أو الاغتسال ، لتمكّنه من استعمال الماء المطلق في وضوئه أو غسله. وأُخرى يقع الكلام بالنسبة إلى من لم يخلط أحدهما بالآخر وأنّه هل يجب عليه خلطهما أو أنّ وظيفته التيمّم؟.

قد يقال بعدم وجوب الخلط عليه ، لأنّه بالفعل غير متمكّن من الماء المطلق ليتوضأ أو يغتسل وهو الموضوع لوجوب التيمّم ، نعم هو مقتدر على إيجاد الماء المطلق إلاّ أنّه ليس واجباً على المكلّف ، لأنّ الحكم الأمر بالوضوء أو الغسل قد ترتب على الواجد ، كما ترتب وجوب الحج على واجد الزاد والراحلة ، وكما لا يجب على المكلّف إيجاد الموضوع لوجوب الحج بتحصيل الزاد والراحلة أي الاستطاعة كذلك الحال في المقام لا يجب على المكلّف تحصيل الوجدان.

ويمكن أن يقال بالفرق بين الحج والطهور ، فإن وجوب الحج مترتب على من عنده الزاد والراحلة ولا يجب على المكلّف إيجادهما وتحصيلهما ، وفي المقام حكم الطهور مترتب على الوجدان والفقدان ، ومعنى الوجدان هو التمكّن من الماء ، والمكلّف‌

١٨٦

فصل

في بيان ما يصحّ التيمّم به

يجوز التيمّم على مطلق وجه الأرض على الأقوى سواء كان تراباً أو رملاً أو حجراً أو مدراً أو غير ذلك (١)

______________________________________________________

حسب الفرض متمكّن من الماء والخلط ، ومعه لا ينتقل أمره إلى التيمّم لعدم كونه فاقداً للماء. فما أفاده الماتن قدس‌سره من أنّه لا يبعد وجوبه هو الصحيح.

فصل في بيان ما يصحّ التيمّم به‌

(١) المعروف بينهم جواز التيمّم على مطلق وجه الأرض كما اختاره الماتن قدس‌سره فيشترك التيمّم مع السجود في جواز كونهما على مطلق وجه الأرض ، وإن كانت السجدة أعم من التيمّم ، لجوازها على نبات الأرض والقرطاس دون التيمّم.

لكن ذهب جماعة إلى التفصيل بين حال الاختيار والاضطرار فخصوا التيمّم بالتراب عند التمكّن والاختيار وجواز التيمّم بغيره من الحجر والرمل ونحوهما عند الاضطرار وعدم التمكّن من التراب.

وفصّل جماعة آخرون بين الحجر وغيره فذهبوا إلى تعين التيمّم بغير الحجر من تراب أو رمل عند التمكّن ، وعلى تقدير العجز عنهما أجازوا التيمّم بالحجر.

وهذا التفصيل الآخر مدركه ما سيأتي في محلِّه من أنّه هل يعتبر في التيمّم أن يكون فيما يتيمّم به شي‌ء يعلق باليد (١) إذن لا بدّ من اختيار التراب أو الرمل ونحوهما ممّا فيه علوق ، وحيث إن اعتبار العلوق مشروط بالتمكّن منه فإذا لم يتمكّن منه يجوز التيمّم بالحجر لأنّه جسم متصلب لا علوق فيه. وهذا تفصيل متين على تقدير اعتبار‌

__________________

(١) سيأتي في ص ٢٤٨.

١٨٧

العلوق كما يأتي في محلِّه.

وأمّا التفصيل الأوّل فهو ممّا لا دليل عليه ، وذلك لأنّا إن استفدنا من الآية المباركة والروايات أنّ التيمّم لا بدّ أن يكون بالأرض تراباً كان أو حجراً أو غيرهما فلا بدّ من الالتزام بجواز التيمّم بمطلق وجه الأرض كما عليه المشهور ، وإن استفدنا منهما أنّ التيمّم مختص بالتراب الخالص بأن فسّرنا الصعيد به فلا بدّ من الالتزام بعدم جوازه بالحجر والرمل ونحوهما ، نعم ورد الأمر بالتيمّم بالثوب المغبر (١) أو لبد السرج (٢) وأمّا في الحجر والرمل فلا أمر.

إذن لا موقع للتفصيل بين الاختيار والاضطرار وتخصيص ما يتيمّم به بالتراب على الأوّل دون الثّاني ، بل العمدة هو القولان الأوّلان في تفسير الصعيد وأنّه هل هو مطلق وجه الأرض أو هو التراب بحيث لولاه كان المكلّف فاقد الطهورين ، بلا فرق في ذلك بين الاختيار والاضطرار.

إذا عرفت ذلك فنقول : الكلام في ذلك يقع في مقامين :

المقام الأوّل : فيما يقتضيه الأصل العملي فيما لو لم نستفد أحد الوجهين من الأدلّة وشككنا في جواز التيمّم بغير التراب.

فنقول : حيث إنّ التكليف بالجامع بين التراب وغيره معلوم ونشك في أنّه هل هو مقيّد بخصوص التراب أم لا ، فهو شك بين المطلق والمقيّد ، ولا تجري البراءة في الإطلاق لأنّه خلاف الامتنان ، بخلاف التقييد لأنّ فيه كلفة زائدة ونفيه موافق للامتنان فتجري البراءة عن التقييد بالتراب لا محالة على ما بيّناه غير مرّة من أنّه كلّما دار الأمر بين الأقل والأكثر تجري البراءة عن الأكثر ، هذا.

وقد يتوهّم أنّ المقام من موارد الاشتغال ، للعلم بتوجّه الأمر بالصلاة مع الطهور ونشك في أن محصلها هو التيمّم بالتراب خاصّة أو بالأعم منه ومن الحجر والرمل من وجه الأرض ، ولمّا كان الشك في المحصل فلا مناص من الاحتياط والإتيان بالتيمّم بخصوص التراب.

__________________

(١) ، (٢) الوسائل ٣ : ٣٥٣ / أبواب التيمّم ب ٩.

١٨٨

ويدفعه : ما ذكرناه غير مرّة من أنّ الطهور المعتبر في الصلاة فيما دلّ على أنّه « لا صلاة إلاّ بطهور » (١) معناه نفس الماء والتراب ، كما أنّ الوضوء اسم لنفس العمل الخارجي لا أنّه اسم لما يتحصّل ويتحقق من تلك الأفعال الخارجيّة ، فمعنى قوله : « لا صلاة إلاّ بطهور » أنّه لا صلاة إلاّ مع استعمال الماء أو التراب.

وحيث إنّ الأمر في التراب (٢) يدور بين الأقل والأكثر ، والأقل معلوم الاعتبار والشك في اعتبار الزائد عليه فندفعه بالبراءة لا محالة ، فهو شك في المكلّف به لا في المحصل ، كما ذكرناه في الشك فيما يعتبر في الوضوء (٣) والغسل فلاحظ.

المقام الثّاني : فيما يستفاد من الأدلّة اللفظية ، فنقول :

استدلّ السيِّد المرتضى (٤) على ما اختاره من اختصاص ما يتيمّم به بالتراب بما حكي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله : « جعلت لي الأرض مسجداً وترابها طهوراً » (٥) نظراً إلى أنّ الطهور لو كان أعم من التراب وغيره لكان تقييد الطهور بالتراب لغواً ظاهرا.

ويدفعه : أنّ هذه اللفظة « وترابها » لم يثبت صدورها عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحديث ، نعم رواه في جامع أحاديث الشيعة عن بعض نسخ الفقيه (٦) ولم تثبت صحّة تلك النسخة ، مضافاً إلى إرساله.

بل في الحدائق ما مضمونه : أنّ تلك اللفظة إنّما توجد في كلمات الفقهاء ، وأمّا الروايات فهي خالية عنها (٧) وقد روى واحدة من رواياته عن نفس الفقيه.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٦٥ / أبواب الوضوء ب ١ ح ١ ، ٦.

(٢) لعلّ الأنسب بدل التراب : ما يتيمّم به.

(٣) في موارد منها شرح العروة ٥ : ٥١ ، ٦٣.

(٤) المسائل الناصريات : ١٥٣.

(٥) الوسائل ٣ : ٣٥٠ / أبواب التيمّم ب ٧ ح ٣ ، ٤ ، ٢.

(٦) جامع أحاديث الشيعة : ٣ : ٩١ / أبواب التيمّم ب ٩ ح ١.

(٧) الحدائق ٤ : ٢٩٦.

١٨٩

وفي الوسائل نقل أربع روايات (١) أُولاها من الكافي (٢) وثانيها من الفقيه (٣) واثنتان من الخصال (٤) وجميعها خالية عن هذه الزيادة.

وكذلك روي هذا الحديث عن الخصال (٥) والعلل (٦) إلاّ أن في سنده ضعفاً ، ولا سيما أن فيه أبا البختري وهو وهب بن وهب الّذي قيل في حقّه : أنّه أكذب أهل البرية ، نعم في جامع الأحاديث (٧) أنّه روى هذا عن العلل عن حفص بن البختري وهو لا بأس به ، لكن بقية السند ضعيف فليلاحظ.

وكذلك نقل هذا الحديث عن عوالي اللئالي عن فخر المحققين (٨) وهو مرسل.

وعن أمالي ابن الشيخ : « ... وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، أينما كنت أتيمّم من تربتها وأُصلِّي عليها » (٩) وهذه الرواية لا بأس بجلّ سندها ، إلاّ أن فيه محمّد بن علي بن رياح أو ابن رباح ، وهو ضعيف. على أن دلالتها قابلة للمناقشة ، لأنّ الطهور فيه قد حمل على نفس الأرض كما أنّ المسجدية قد حملت عليها.

وأمّا قوله : « أينما كنت أتيمّم من تربتها » فالظاهر أنّ المراد من تربتها مطلق وجه الأرض ، وذلك بقرينة أنّ الصلاة لا يعتبر فيها أن تقع على خصوص تربة الأرض بل هنا قرينة جلية على أنّ المراد من تربتها إمّا مطلق وجه الأرض أو أنّ التربة‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٥٠ / أبواب التيمّم ب ٧.

(٢) الكافي ٢ : ١٤ / ١.

(٣) الفقيه ١ : ١٥٥ / ٧٢٤.

(٤) الخصال : ٢٠١ ، ٢٩٢.

(٥) الخصال : ٤٢٥.

(٦) العلل : ١٢٧.

(٧) جامع أحاديث الشيعة ٣ : ٩٣ / أبواب التيمّم ب ٩ ح ٤.

(٨) جامع أحاديث الشيعة ٣ : ٩٦ / أبواب التيمّم ب ٩ ح ٩ ، عوالي اللئالي ٢ : ٢٠٨.

(٩) جامع أحاديث الشيعة : ٣ : ٩٢ / أبواب التيمّم ب ٩ ح ٢ ، أمالي الطوسي : ٥٦ ، والظاهر أنّ الصحيح علي بن محمّد بن رباح كما في نسخة المستدرك [ ٢ : ٥٢٩ / أبواب التيمّم ب ٥ ح ٥ ] وهو ثقة ، ولكن في جامع الأحاديث رواه عن أبيه ، ولم يرد توثيق في أبيه فليلاحظ.

١٩٠

ذكرت من جهة أغلبية التربة ، وتلك القرينة هي قوله : « أينما كنت » ومن المعلوم أنّ في مثل الفلوات والصحاري لا يوجد في أكثرها تربة بل هي رمل ، فما معنى قوله : « وأُصلِّي عليها أينما كنت » فالظاهر أنّ مراده صلى‌الله‌عليه‌وآله من « تربتها » مطلق وجه الأرض وهي الّتي كان يصلِّي عليها أينما كان ولا ينتقل من مكانه ، وكذلك كان يتيمّم به.

ثمّ إنّ هذه الروايات المتعدّدة المنقولة والفاقدة لكلمة « ترابها » بعضها معتبر من حيث السند ، وهو الّذي رواه في المستدرك عن أمالي ابن الشيخ (١) إلاّ أن في سنده ابن أبان (٢).

لكن رواه في جامع الأحاديث وصرّح بالحسن أو بالحسين بن أبان (٣) وهو معتبر (٤) ، وعلى هذا يطمأن أن ما ورد عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو قوله : « جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً » من دون كلمة « وترابها أو وتربتها » ، هذا كلّه في الوجه الأوّل ممّا استدلّ به على اختصاص ما يتيمّم به بالتراب.

وممّا استدلّ به على ذلك أيضاً قوله تعالى ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) (٥) فإنّ الصعيد بمعنى التراب على ما فسّره به جملة من اللّغويين كالجوهري (٦) وابن فارس في المجمل (٧) وعن أبي عبيدة أنّه هو التراب الخالص (٨).

ويدفعه : أنّ تفسير الصعيد بالتراب لم يتحقق ، لأنّ المحكي عن الأكثرين أنّ‌

__________________

(١) الصحيح : أمالي الصدوق : ١٧٩ / ٦.

(٢) المستدرك ٢ : ٥٢٩ / أبواب التيمّم ب ٥ ح ٤.

(٣) جامع أحاديث الشيعة ٣ : ٩٢ / أبواب التيمّم ب ٩ ح ١ ، والموجود في المصدر المذكور هو الحسين بن الحسن بن أبان ، كذا في أمالي الصدوق.

(٤) الحسن بن أبان والحسين بن الحسن بن أبان غير مذكورين بتوثيق.

(٥) المائدة ٥ : ٦.

(٦) الصحاح ٢ : ٤٩٨.

(٧) مجمل اللّغة ٢ : ٥٣٤.

(٨) جمهرة اللّغة ٢ : ٦٥٤.

١٩١

الصعيد بمعنى مطلق وجه الأرض ، كما يراد به هذا المعنى في غير الآية الكريمة المذكورة مثل قوله تعالى ( فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً ) (١) ومثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ويحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة على صعيد واحد » (٢) أي أرض واحدة ، بل عن الزجاج أنّه قال : لا أعلم خلافاً بين أهل اللّغة في أنّ الصعيد وجه الأرض (٣).

إذن لا يمكننا تفسير الصعيد في آية التيمّم بشي‌ء من المحتملين بل يصبح اللّفظ مجملاً ، لأنّ التفسير إذا كان مختلفاً فيه لا يمكن الاعتماد على شي‌ء من الأقوال ولا يطمأن به ، هذا.

وقد يقال بأنّ الآية المباركة وإن كانت مجملة في نفسها إلاّ أنّها قد فسّرت في بعض الأخبار بأنّ الصعيد أعالي الأرض ، فقد ورد في الفقه الرضوي (٤) ومعاني الأخبار للصدوق (٥) أنّ الصعيد هو الموضع المرتفع عن الأرض ، فتكون الآية دليلاً على عدم اختصاص ما يتيمّم به بالتراب.

إلاّ أنّه أيضاً ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، لأن تفسير الصعيد بهذا المعنى وإن كان يقتضيه المناسبة بين الحكم وموضوعه ، لأنّ الصعيد لعلّه مأخوذ من الصعود بحسب مفهومه الوضعي وهو بمعنى الارتفاع ، والموضع المرتفع الّذي ينحدر عنه الماء طبعاً يكون طيباً لأنّه لا تطؤه الأقدام ولا تمشي عليه الأرجل ، فمعنى الآية اقصدوا مكاناً عالياً لا تطؤه الأقدام وهو طاهر. إلاّ أن تفسيره بذلك قد ورد في الفقه الرضوي وهو لم يثبت كونه رواية فضلاً عن كونها معتبرة ، كما ورد في معاني الأخبار مرسلاً ولا يمكن الاعتماد عليه بوجه وإن كان صاحب الحدائق قدس‌سره (٦) قد اعتمد عليها في تفسير الآية الكريمة.

__________________

(١) الكهف ١٨ : ٤٠.

(٢) معالم الزلفى : ١٤٥ / ب ٢٢ في صفة المحشر.

(٣) لسان العرب ٣ : ٢٥٤.

(٤) المستدرك ٢ : ٥٢٨ / أبواب التيمّم ب ٥ ح ٢ ، فقه الرضا : ٩٠.

(٥) حكي ذلك عن تفسير الصافي ١ : ٤٢٠ / سورة النِّساء الآية ٤٣ فليراجع ، ثمّ إنه لم نعثر على رأي الصدوق في المصدر المذكور.

(٦) الحدائق ٤ : ٢٤٥.

١٩٢

إذن لا يمكننا تفسير الصعيد في الآية بالتراب ولا بمطلق وجه الأرض فتصبح مجملة.

الأخبار الدالّة على اختصاص الصعيد بالتراب‌

الوجه الثّالث (١) : ممّا استدل به على الاختصاص هو جملة من الروايات منها : صحيحة جميل بن دراج ومحمّد بن حمران « أنّهما سألا أبا عبد الله عليه‌السلام عن إمام قوم أصابته جنابة في السفر وليس معه من الماء ما يكفيه للغسل أيتوضأ بعضهم ويصلِّي بهم؟ فقال : لا ، ولكن يتيمّم الجنب ويصلِّي بهم ، فانّ الله عزّ وجلّ جعل التراب طهوراً كما جعل الماء طهوراً » (٢) حيث خصّ الطهور بالتراب لا بمطلق وجه الأرض.

وهذه الرواية رويت بطرق (٣) عديدة :

منها : طريق الصدوق وهو صحيح.

ومنها : ما رواه الشيخ بإسناده عن محمّد بن علي بن محبوب عن يعقوب بن يزيد عن ابن أبي عمير عنهما (٤) ، لكن ترك لفظ « بعضهم ».

ومنها : ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير مثله (٥) لكن ترك قوله : « كما جعل الماء طهوراً ».

ولم يرتض شيخنا المحقق الهمداني قدس‌سره الاستدلال بها وادعى قصورها عن التأييد فضلاً عن أن يستدل بها (٦) لكن لم يذكر الوجه في القصور.

__________________

(١) وقد ذكر الوجه الأوّل في ص ١٨٩ بلسان : استدلّ السيِّد المرتضى ، والثّاني في ص ١٩١ بلسان : وممّا استدلّ به ....

(٢) الوسائل ٣ : ٣٨٦ / أبواب التيمّم ب ٢٤ ح ٢.

(٣) الفقيه ١ : ٦٠ / ٢٢٣.

(٤) التهذيب ١ : ٤٠٤ / ١٢٦٤.

(٥) الكافي ٣ : ٦٦ / ٣.

(٦) مصباح الفقيه ( كتاب الطّهارة ) : ٤٧٠ السطر ٢٨.

١٩٣

وما أفاده هو الصحيح ، لأنّ هذه الصحيحة إنّما وردت لبيان أن الجنب يسوغ له أن يتيمّم أو يتوضأ (١) ويصلِّي إماماً لأنّ الطّهارة الترابية كالطهارة المائية ، وقد أثبت الطهور للتراب في هذه الصحيحة ، وليس في ذلك دلالة على انحصار الطهور به بل هو مصداق من مصاديقه ، وهو نظير قولنا : الطّهارة الترابية كالطهارة المائية. فهل نريد بذلك خصوص التيمّم بالتراب أو بكل ما يصح التيمّم به. إذن لا يمكن الاستدلال بها على تخصيص ما يتيمّم به بالتراب.

وبعبارة اخرى : أنّ الصحيحة بحسب السؤال ناظرة إلى أنّه هل يجوز للجنب أن يؤم غيره من المتطهرين إذا تيمّم أو توضأ؟ والجواب ناظر إلى أنّ الطّهارة الترابية كالمائية ، ولا دلالة لها على حصر التيمّم بالتراب. وتعبيرها « جعل التراب طهوراً » مثل تعبيرنا اليوم « الطّهارة الترابية » إذ لا نظر لنا في هذا التعبير إلى انحصار التيمّم بالتراب ، بل التعبير بذلك ناظر أو ناشئ من كثرة التراب ، وعليه فالتعبير عادي لا إشعار فيه بالحصر فضلاً عن الدلالة.

ومنها : صحيحة رفاعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا كانت الأرض مبتلّة ليس فيها تراب ولا ماء فانظر أجفّ موضع تجده فتيمم منه ، فإنّ ذلك توسيع من الله عزّ وجلّ. قال : فان كان في ثلج فلينظر لبد سرجه فليتيمم من غباره أو شي‌ء مغبر ، وإن كان في حال لا يجد إلاّ الطين فلا بأس أن يتيمّم منه » (٢).

نظراً إلى قوله : « ليس فيها تراب » فإنّه لم يفرض في الانتقال إلى أجف موضع انعدام غير التراب من أجزاء الأرض ، فلو كان يسوغ التيمّم بمطلق وجه الأرض للزم فرض عدم غير التراب.

وفيه : أنّها فرضت الأرض كلّها مبتلة ، إذ الإمام عليه‌السلام ناظر فيها إلى الجفاف والرطوبة ، ومن ثمة ذكر ابتداءً أنّ الأرض كلّها مبتلة ولم يقل : التراب مبتل فمعنى « ليس فيها تراب » أي ليس فيها شي‌ء جاف أعم من التراب وغيره ممّا يصح التيمّم به ، وإنّما ذكر التراب لأغلبيته وأكثريته فلا دلالة لها على الحصر ، ومعه يكون‌

__________________

(١) الظاهر زيادة ( أو يتوضأ ) ، كذا ( أو توضأ ) الآتية.

(٢) الوسائل ٣ : ٣٥٤ / أبواب التيمّم ب ٩ ح ٤.

١٩٤

معنى قوله : « ليس فيها تراب » أي شي‌ء يصح التيمّم به في مقابل الماء الّذي يصح التوضؤ به ، وليس في ذكر التراب نظر إلى الحصر وعدم صحّة التيمّم بغير التراب.

ومنها : صحيحة ابن المغيرة قال : « إن كانت الأرض مبتلة وليس فيها تراب ولا ماء فانظر أجف موضع تجده فتيمم من غباره أو شي‌ء مغبر ، وإن كان في حال لا يجد إلاّ الطين فلا بأس أن يتيمّم به » (١).

وهي كسابقتها في عدم الدلالة على الحصر ، لأنّها ناظرة إلى الجفاف والرطوبة إلى آخر ما ذكرناه في سابقتها. على أنّها مقطوعة ، لعدم النقل فيها عن الإمام عليه‌السلام وإنّما هو فتوى من ابن المغيرة ولا يمكن الاعتماد عليها.

ومنها : رواية علي بن مطر عن بعض أصحابنا قال : « سألت الرضا عليه‌السلام عن الرجل لا يصيب الماء ولا التراب أيتيمّم بالطين؟ قال : نعم ، صعيد طيب وماء طهور » (٢).

وفيه : مضافاً إلى إرسالها وضعفها بعلي بن مطر لأنّه لم يوثق في نفسه ، لا دلالة فيها على الحصر ، لأنّ السائل فرض أنّ الأرض ليس فيها غير التراب وأنّ الأرض منحصرة بالطين من جهة المطر أو غيره ، فجواز التيمّم بالطين عند عدم التراب لا يدل على عدم جواز التيمّم بسائر أجزاء الأرض.

ومنها : رواية معاوية بن ميسرة قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل في السفر لا يجد الماء تيمّم فصلّى ثمّ أتى الماء وعليه شي‌ء من الوقت أيمضي على صلاته أم يتوضأ ويعيد الصلاة؟ قال يمضي على صلاته فان ربّ الماء هو ربّ التراب » (٣).

وهذه الرواية من حديث الدلالة لا بأس بها ، لأنّها تدل على أن انحصار ما يتيمّم به بالتراب كأنه مفروغ عنه عنده ، لأنّ السائل لم يذكر أنّه تيمّم بأي شي‌ء ، وقد ذكر‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٥٦ / أبواب التيمّم ب ٩ ح ١٠.

(٢) الوسائل ٣ : ٣٥٤ / أبواب التيمّم ب ٩ ح ٦.

(٣) الوسائل ٣ : ٣٧٠ / أبواب التيمّم ب ١٤ ح ١٣.

١٩٥

الإمام عليه‌السلام أنّ التراب طهور ولم يقل : إنّ ربّ الماء هو ربّ الأرض ، فهو مشعر بانحصار الطهور في التيمّم بالتراب.

ويدفعه : أنّ الرواية ضعيفة السند بابن ميسرة وهو ابن شريح القاضي ، هذا.

ومن جملة ما استدلّ به القائل باختصاص ما يتيمّم به بالتراب هو صحيحة زرارة قال « قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : ألا تخبرني من أين علمت وقلت إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين وذكر الحديث إلى أن قال قال أبو جعفر عليه‌السلام : ثمّ فصّل بين الكلام فقال ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) فعرفنا حين قال ( بِرُؤُسِكُمْ ) أنّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء إلى أن قال ثمّ قال ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ ) فلمّا أن وضع الوضوء عمّن لم يجد الماء أثبت بعض الغسل مسحاً ، لأنّه قال ( بِوُجُوهِكُمْ ) ثمّ وصل به ( وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ) أي من ذلك التيمّم ، لأنّه علم أنّ ذلك أجمع لم يجر على الوجه ، لأنّه يعلق من ذلك الصعيد ببعض الكف ولا يعلق ببعضها ، ثمّ قال ( ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ) والحرج الضيق » (١).

وذلك بتقريب أنّ الصحيحة دلّت على أنّ التيمّم يعتبر فيه المسح بدلاً عن بعض الغسل المعتبر في الوضوء ، وإنّما قال ( وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ) للدلالة على أنّ المسح بالتراب بدلاً عن الغسل بالماء لا يتحقق في الوجه بتمامه ، إذ العلوق من الأرض والتراب إنّما يختص ببعض الكف ولا يعلق بجميعها ، فعند المسح بالكف الّتي علق التراب ببعضها لا يتحقق مسح الوجه بالتراب إلاّ بمقدار العلوق الموجود في اليد.

إذن تدلّنا الصحيحة على أن ما يتيمّم به لا بدّ أن يكون فيه العلوق أي ما يعلق باليد عند ضرب اليدين عليه ، وهذا لا يتحقق إلاّ في التيمّم بالتراب ، لأنّ الحجر أو الرمل لا يعلق منهما شي‌ء باليد الّتي ضربت عليهما ، هذا.

ويرد على الاستدلال بهذه الصحيحة :

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٦٤ / أبواب التيمّم ب ١٣ ح ١ ، ١ : ٤١٢ / أبواب الوضوء ب ٢٣ ح ١.

١٩٦

أوّلاً : أنّ الصحيحة لا دلالة لها على اعتبار العلوق في التيمّم ، لأنّ المراد بقوله تعالى ( وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ) أي من ذلك التيمّم إن كان هو التبعيض ، ومرجع الضمير هو التراب ، بمعنى أنّ المسح في التيمّم لا بدّ أن يكون كالغسل في الوضوء ، فكما أن أعضاءه تغسل بالماء كذا تمسح اليدان والوجه عند التيمّم بالتراب الّذي علق ببعض الكف عند ضرب اليدين عليه ، فالغرض من قوله تعالى ( وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ) هو التبعيض ، لأن مسح الوجه واليدين بالتراب لا يتحقق في التيمّم بتمام الكف ، فإنّها عند ضربها على التراب لا يعلق التراب بجميعها بل ببعضها كما هو المشاهد خارجاً ، فيكون المسح ببعض التراب العالق بالكف. فهذا المعنى غير معتبر في التيمّم قطعاً. ويدلّنا عليه الأخبار الواردة في النفض (١) لأن نفض اليدين بعد الضرب لا يبقي على الكفّ شيئاً من التراب حتّى يكون المسح بالتراب ، وإنّما المعتبر فيه هو المسح بالكفين لا بالتراب.

وإن أريد من مرجع الضمير في قوله تعالى ( وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ) أثر التراب نظراً إلى أنّه تراب أيضاً وهو لا يزول بالنفض ، فهو وإن كان كما أُفيد إلاّ أنّه خلاف ما نطقت به الصحيحة ، لأنّ الأثر والغبار يعلق بتمام الكف عند ضربها على التراب لا أنّه يعلق ببعضها ، وهي صريحة في أنّ العلوق يختص ببعض الكف ولا يوجد في تمامها. إذن لا يمكن أن يراد منه شي‌ء من المحتملين ، وما يراد منه الله أعلم به.

ولعلّ المراد بالصحيحة أنّ كلمة « من » نشوية للدلالة على الابتداء وأنّ المسح في التيمّم لا يمكن أن يكون مثل الغسل في الوضوء ، لأنّه في الوضوء تغسل الأعضاء بتمامها بالماء وليست أعضاء التيمّم تمسح بالتراب بل لا بدّ في التيمّم من مسح الأعضاء باليدين مبدوءاً بالتراب ، فهو مسح نشأ وابتدأ بالتراب لا أنّ المسح ببعض التراب.

إذن لا دلالة للصحيحة على أنّ التيمّم يعتبر فيه العلوق ، بل تدل على أنّه يعتبر فيه المسح الّذي منشؤه الأرض علق منها شي‌ء باليدين أم لم يعلق بهما. هذا كلّه الإيراد الأوّل على الاستدلال بالصحيحة على الاختصاص.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٩٢ / أبواب التيمّم ب ٢٩.

١٩٧

وثانياً : لو تنازلنا عن ذلك وقلنا بدلالة الصحيحة على اعتبار العلوق فلا وجه لدعوى تخصيص العلوق بالتراب ، فانّ الوجدان أقوى شاهد على أنّه عند ضرب اليدين على الرمل والحجر يعلق شي‌ء منهما باليدين وهو الغبار النازل عليهما بالريح والعجّ ، واليدان تتأثران بهما عند ضربهما عليهما. فلا اختصاص للعلوق بالتراب ، اللهمّ إلاّ أن يغسل الحجر أو ينزل المطر عليه فلا يكون فيه حينئذ علوق.

وثالثاً : لو أغمضنا عن ذلك أيضاً لا ينبغي الشبهة في أنّ الحجر لو كسرناه وطحنّاه لعلق منه شي‌ء باليدين ، فليست الأحجار والرمال ممّا لا علوق فيها ، ولا يمكن أن يستفاد من الصحيحة اختصاص ما يتيمّم به بالتراب وعدم جوازه بالحجر ونحوه فانّ العلوق فيه متحقق.

فالمتحصل : أنّ الصحيحة لا دلالة فيها على اختصاص ما يتيمّم به بالتراب ، فيجوز التيمّم بما يصدق عليه الأرض من تراب وحجر ورمل ومدر وغيرها.

ويؤكّد ما ذكرناه رواية السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي عليه‌السلام : « أنّه سئل عن التيمّم بالجص ، فقال : نعم ، فقيل : بالنورة ، فقال : نعم ، فقيل : بالرماد ، فقال : لا ، لأنّه ليس يخرج من الأرض إنّما يخرج من الشجر » (١) حيث دلّت على أنّ الجص والنورة ممّا يصح التيمّم به ، وظاهرها أنّ المراد بها هو الجص والنورة المطبوخان وبقرينة المقابلة استفيد منها أنّهما من الأرض ، ومعها تدل الرواية على جواز التيمّم بالأجزاء الأرضية من التراب وغيره.

وهذه الرواية وإن عبر عنها صاحب الحدائق قدس‌سره بالحسنة حيث قال بعد نقله الرواية في [ ٤ : ٣٠٠ ] : وهذا السكوني ضعيف لكن روايته حسنة. إلاّ أنّ الصحيح ضعف الرواية من جهتين :

إحداهما : من جهة أحمد بن محمّد بن يحيى الواقع في سندها لأنّه لم يوثق ، وقد نبّهنا عليه مراراً ، فلا يمكن الاعتماد على روايته وإن كان كثير الرواية جدّاً.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٥٢ / أبواب التيمّم ب ٨ ح ١.

١٩٨

وممّا ينبغي التنبيه عليه في المقام أنّ مشايخ النجاشي كلّهم موثقون بتوثيقه ، حيث صرّح في مورد بأنّ الرّجل لم يكن مورداً للاعتماد فتركت الرواية عنه (١) فدلّ هذا التصريح على أن كلّ من يروي عنه النجاشي من دون واسطة فهو موثق عنده وموثوق برواياته. وقد وجدنا في كتابه روايته عن أحمد بن محمّد بن يحيى ، ومقتضى ذلك هو الحكم بوثاقته كبقيّة مشايخه ، إلاّ أنّه بالتدقيق ظهر أنّ النجاشي قدس‌سره لم يدرك زمن أحمد بن محمّد بن يحيى ، وأنّه ينقل عنه مع الواسطة في مائة وخمسين مورداً على ما عثرنا عليه ، وفي الغالب يكون الواسطة بينهما هو ابن شاذان أعني محمّد بن علي بن شاذان وأحمد بن شاذان ، وبه ظهر أنّ النسخة مغلوطة جزماً وأنّه ليس الرجل من مشايخ النجاشي فهو ضعيف لعدم توثيقه.

وثانيتهما : اشتمال سند الرواية على أحمد بن الحسين ، لأنّه المعروف بـ « دندان » الّذي يروي عن فضالة ويروي عنه محمّد بن علي بن محبوب ، وهو غير موثق ، هذا بناءً على نسخة الوافي (٢) والوسائل.

وقد نقل في جامع الرواة سند الرواية هكذا : محمّد بن علي بن محبوب عن أحمد عن الحسين عن فضالة (٣). وأحمد هذا قد يكون أحمد بن محمّد بن عيسى أو يكون أحمد بن محمّد بن خالد ، ولا يحتمل غيرهما بقرينة نقل ابن محبوب عنه ، وعلى كل فهو معتمد عليه ، كما أنّ الحسين هو ابن سعيد بقرينة روايته عن فضالة ، فالسند على هذا صحيح من هذه الجهة. ومن كان يعتمد على أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار لا بدّ أن يعتمد على هذه الرواية لاعتبارها.

ولعلّ كون ابن يحيى مورداً للاعتبار عند صاحب الحدائق قدس‌سره أوجب‌

__________________

(١) راجع قول النجاشي في [ رجال النجاشي : ٨٥ / ٢٠٧ ] ترجمة أحمد بن محمّد بن عبيد الله بن الحسن بن عيّاش ( عباس ) الجوهري ، وكذلك في [ ٣٩٦ / ١٠٥٩ ] ترجمة محمّد بن عبد الله أبي المفضل الشيباني ، وغيرهما.

(٢) الوافي ٦ : ٥٧٤ / ٤٩٦٤.

(٣) جامع الرواة ١ : ٤٧.

١٩٩

عدّها حسنة ، إلاّ أنّه لا يمكن الاعتماد على تلك النسخة لعدم العلم بصحّتها ، وبالأخص أنّ الوسائل والوافي نقلاها كما بيناه ، ومعه لا يمكن الاعتماد على الرواية بوجه (١).

الأخبار الدالّة على جواز التيمّم بمطلق وجه الأرض‌

ثمّ إنّه بإزاء هذه الروايات روايات عديدة معتبرة تدل على جواز التيمّم بمطلق وجه الأرض ، وإليك بعضها :

منها : صحيحة الحلبي : « أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يمر بالركية وليس معه دلو ، قال : ليس عليه أن يدخل الركية لأنّ ربّ الماء هو ربّ الأرض فليتيمم » (٢) ورواه البرقي أيضاً (٣).

ومنها : ما عن الحسين بن أبي العلاء قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يمر بالركية وليس معه دلو ، قال : ليس عليه أن ينزل الركية ، إنّ ربّ الماء هو ربّ الأرض فليتيمم » (٤).

ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سمعته يقول : إذا لم تجد ماءً وأردت التيمّم فأخّر التيمّم إلى آخر الوقت ، فان فاتك الماء لم تفتك الأرض » (٥).

__________________

(١) ويمكن تصحيح سند الرواية من الجهتين ، أمّا الأُولى فبأن للشيخ قدس‌سره [ في الفهرست : ١٤٥ / ٦١٣ ] طريقاً صحيحاً إلى جميع كتب وروايات محمّد بن علي بن محبوب غير طريقه إليها بواسطة أحمد بن محمّد بن يحيى. وأمّا الثّانية فلما هو مذكور في المعجم ٢ : ٩٩ عند ذكر هذه الرواية في اختلاف النسخ : بأنّه لا يبعد وقوع التحريف فيه ، والصحيح : أحمد عن الحسين عن فضالة ، بقرينة سائر الروايات.

(٢) الوسائل ٣ : ٣٤٣ / أبواب التيمّم ب ٣ ح ١.

(٣) المحاسن ٢ : ١٢٢ / ١٣٣٦.

(٤) الوسائل ٣ : ٣٤٤ / أبواب التيمّم ب ٣ ح ٤.

(٥) الوسائل ٣ : ٣٨٤ / أبواب التيمّم ب ٢٢ ح ١.

٢٠٠