موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

[١٠٨٥] مسألة ٢٧ : إذا شك في ضيق الوقت وسعته بنى على البقاء وتوضأ أو اغتسل (*) ، وأمّا إذا علم ضيقه وشك في كفايته لتحصيل الطهارة والصلاة وعدمها وخاف الفوت إذا حصلها فلا يبعد الانتقال إلى التيمّم (١)

______________________________________________________

متمكناً من الماء فأراقه ، ومن ثمة احتاط الماتن هنا احتياطاً شديداً ، هذا.

إلاّ أن مقتضى ما استفدناه من الإجماع القطعي وما هو المرتكز في الأذهان وما دلّت عليه الصحيحة الواردة في المستحاضة من أنها لا تدع الصلاة بحال (١) أن الصلاة وظيفة كل مكلف في كل حال ومنهم المكلف في مفروض المسألة أعني من عجّز نفسه عن الماء بالاختيار فتجب عليه الصلاة قطعاً ، وقد علمنا أن لا صلاة إلاّ بطهور ، وهو في حقه منحصر بالتراب.

وهذا يدلّنا على أن وظيفة المكلف في أمثال المقام هو الصلاة في الوقت بالتيمّم ولا حاجة معه إلى القضاء ولا إلى الاحتياط ، نعم لا إشكال في أنه عصى ربه باختياره وتأخيره كما قدّمناه في مسألة من أراق الماء باختياره ، إلاّ أن عصيانه لا يمنع من انتقال وظيفته إلى التيمّم ، والمسوغ له هو القاعدة الارتكازية كما ذكرناه.

إذا شك في ضيق الوقت‌

(١) في المسألة صورتان :

الاولى : أن يعلم بأن صلاته مع الطهارة المائية تستوعب من الوقت خمس دقائق مثلاً ويشك في أن الباقي من الوقت خمس دقائق أو أقل أو أكثر.

وفي هذه الصورة من الشك في سعة الوقت وضيقه أجرى الماتن قدس‌سره استصحاب بقاء الوقت للشك في سعته وضيقه ، فإنه كما يجري الاستصحاب في الأُمور السابقة يجري في الأُمور المستقبلة ، وبه يحرز بقاء الوقت كما لو أحرزناه بالعلم الوجداني.

__________________

(*) فيه إشكال ، والظاهر وجوب التيمّم في كلتا الصورتين.

(١) تقدّمت في المسألة السابقة ص ١٥٥.

١٦١

والفرق بين الصورتين : أن في الأُولى يحتمل سعة الوقت وفي الثانية يعلم ضيقه فيصدق خوف الفوت فيها دون الاولى. والحاصل أن المجوز للانتقال إلى التيمّم خوف الفوت الصادق في الصورة الثانية دون الأُولى.

______________________________________________________

الثانية : أن يعلم بالمقدار الباقي من الوقت وأنه خمس دقائق مثلاً ويشك في وقت صلاته مع الطهارة المائية وأنه يستلزم خمس دقائق أو أكثر.

وفي هذه الصورة بنى الماتن على عدم جريان الاستصحاب في الوقت لأنه معلوم المقدار يعلم ببقاء خمس دقائق من العصر وتغيب الشمس بعدها فليس هناك مورد ومجرى للاستصحاب ، وبما أنه يخاف فوت الفريضة في وقتها فيجوز له أن يتيمم ويصلِّي ، هذا.

وتفصيل الكلام في هذه المسألة يقع في موردين :

الأوّل : في جريان الاستصحاب في كلتا الصورتين وعدمه.

الثاني : في حكم المسألة بلحاظ القرينة الخارجية.

أمّا المورد الأوّل : فالصحيح أن المسألتين كلتاهما مورد للاستصحاب.

أمّا المسألة الاولى : أعني ما إذا شك في سعة الوقت وضيقه مع العلم بمقدار الوقت الذي يستوعبه عمله أي الشك في عمود الزمان فلأن المستفاد من الأدلّة الواردة في الأوقات أن اللازم أمران : أحدهما : إيجاد الصلاة ، والآخر : أن لا يكون الوقت المضروب غاية منقضياً بأن يصلِّي الظهر والوقت باقٍ ، ولا يعتبر في الفريضة شي‌ء آخر زائد على ذلك.

والمكلف في مفروض المسألة أحرز أحد الجزأين بالوجدان لإيجاده الصلاة وأحرز الجزء الآخر بالتعبّد والاستصحاب لاقتضائه بقاء الوقت وعدم انقضائه. وبضم الوجدان إلى الأصل يثبت أنه أوجد الظهر مثلاً والوقت باق ، نظير ما إذا كان عالماً ببقاء الوقت. وقد عرفت أنه لا يعتبر في الصلاة شي‌ء زائد على ذلك ليتوهّم أن الاستصحاب أصل مثبت بالإضافة إليه.

١٦٢

وأمّا المسألة الثانية : أعني ما إذا كان الزمان بحسب العمود معلوماً لا شك فيه كما لو علم أن الباقي من الوقت خمس دقائق ، إلاّ أنه لا يدري الوقت الذي يستدعيه عمله مع الطهارة المائية هل هو خمس دقائق أو أكثر فلأن الاستصحاب وإن كان لا يجري بحسب عمود الزمان لمعلوميته إلاّ أنه يجري بلحاظ الحادث الآخر وهو انقضاء الصلاة مع الطهارة المائية قبله وعدمه ، لأنه مشكوك بهذا اللحاظ ، ولا مانع من أن يكون شي‌ء في نفسه معلوماً ومشكوكاً فيه بالإضافة إلى شي‌ء آخر كما نبّهنا عليه في بعض تنبيهات الاستصحاب عند التعرض لمسألة ما إذا مات المورث وأسلم الوارث وشككنا في المتقدم منهما والمتأخر (١).

وفي المقام يشك في ذلك الزمان المعلوم مقداره هل ينقضي قبل إتمام المكلف صلاته بطهارة مائية أم لا؟ ومقتضى الاستصحاب بقاؤه وعدم انقضائه قبل إتمام الصلاة.

إذن من حيث جريان الاستصحاب لا فرق بين المسألتين.

وأمّا المورد الثاني : فمقتضى صحيحة الحلبي الواردة في الأوقات ، في حديث قال : « سألته عن رجل نسي الأُولى والعصر جميعاً ثم ذكر ذلك عند غروب الشمس فقال : إن كان في وقت لا يخاف فوت إحداهما فليصل الظهر ثم يصلِّي العصر ، وإن هو خاف أن تفوته فليبدأ بالعصر ولا يؤخرها فتفوته فيكون قد فاتتاه جميعاً ، ولكن يصلِّي العصر فيما قد بقي من وقتها ثم ليصل الاولى بعد ذلك على أثرها » (٢) أن خوف الفوت طريق إلى ضيق الوقت وأنه موجب لسقوط الاستصحاب ، لأنه لو لم يكن طريقاً معتبراً شرعاً ومانعاً عن جريان الاستصحاب لكان مقتضى استصحاب بقاء الوقت عند خوف الفوت وجوب البدء بصلاة الظهر قبل العصر مراعاةً للترتيب ، كما لو كان عالماً ببقاء الوقت ، فلا وجه لأمره عليه‌السلام بالابتداء بالعصر إلاّ سقوط الاستصحاب عند خوف الفوت.

__________________

(١) مصباح الأُصول ٣ : ١٧٧.

(٢) الوسائل ٤ : ١٢٩ / أبواب المواقيت ب ٤ ح ١٨.

١٦٣

[١٠٨٦] مسألة ٢٨ : إذا لم يكن عنده الماء وضاق الوقت عن تحصيله مع قدرته عليه بحيث استلزم خروج الوقت ولو في بعض أجزاء الصلاة انتقل أيضاً إلى التيمّم‌

______________________________________________________

وكذلك الحال في حسنة زرارة بعلي بن إبراهيم بن هاشم (١) الواردة في طلب المسافر الماء ، عن أحدهما عليهما‌السلام قال : « إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت ، فإذا خاف أن يفوته الوقت فليتيمم وليصل » (٢) ، لأنه لو لم يكن خوف الفوت طريقاً إلى ضيق الوقت ومانعاً عن جريان الاستصحاب لم يكن موجب لتيمّمه ، بل وظيفته أن يتوضأ ويصلِّي.

إذن خوف الفوت طريق شرعي إلى ضيق الوقت ومانع عن جريان الاستصحاب وهذا متحقق في كلتا المسألتين :

أمّا الثانية فلوضوح أنه يخاف فوت الوقت إذا توضأ أو اغتسل لاحتمال أن يكون وقت عمله مع الطهارة المائية زائداً على خمس دقائق في المثال.

وأما الاولى فكذلك أيضاً ، لأنه بالوجدان يحتمل أن يكون الوقت خارجاً قبل إتمام صلاته لو اشتغل بالطهارة المائية ، فالخوف متحقق في كلتا المسألتين بالوجدان ، إذ لا فرق فيه بين أن يكون منشؤه الشك في سعة الزمان وضيقه وبين أن يكون هو الشك في أن عمله مع الطهارة المائية يستوعب أي مقدار من الوقت؟ فإنه على كلا التقديرين يخاف فوت الوقت على تقدير اشتغاله بالطهارة المائية ، ومعه ينتقل أمره إلى التيمّم في كلتا المسألتين. فلا فرق فيهما من حيث جريان الاستصحاب فيهما في نفسه وبين كونهما مورداً للتيمم كما عرفت.

__________________

(١) المناسب : حسنة زرارة بإبراهيم بن هاشم.

(٢) الوسائل ٣ : ٣٤١ / أبواب التيمّم ب ١ ح ١.

١٦٤

وهذه الصورة أقل إشكالاً من الصورة السابقة (١) وهي ضيقه عن استعماله مع وجوده ، لصدق عدم الوجدان في هذه الصورة بخلاف السابقة (*) ، بل يمكن أن يقال بعدم الإشكال أصلاً فلا حاجة إلى الاحتياط بالقضاء هنا.

______________________________________________________

إذا ضاق عليه الوقت ولم يكن عنده الماء‌

(١) بل الصحيح أن هذه الصورة مع الصورة السابقة متساويتان وليس هناك مزية لإحداهما على الأُخرى ، وذلك لما قدّمناه من أن المراد بالفقدان في الآية المباركة إنما هو فقدان الماء بالإضافة إلى طبيعي الصلاة ، فإن من لم يجد الماء في أوّل الزوال وكان متمكناً منه بعد ساعة لا يجوز له التيمّم.

كما أن المراد من الفقدان ليس هو الفقدان الحقيقي ، بل المراد منه هو عدم التمكن من استعمال الماء في الوضوء أو الغسل بقرينة ذكر المرضي في الآية الكريمة ، فإنه واجد للماء غالباً ولكن لا يتمكّن من استعماله ، فالمراد منه هو عدم التمكّن من استعمال الماء في الوضوء أو الغسل وإن كان واجداً للماء.

وعليه فالمكلف في كلتا المسألتين فاقد للماء بمعنى عدم تمكنه من استعماله في الوضوء والغسل للصلاة لضيق الوقت ، وهو في الحقيقة واجد للماء في كلتيهما :

أمّا في المسألة الأُولى فواضح لفرض وجدانه الماء.

وأمّا في المسألة الثانية فلأنه متمكن من تحصيل الماء والمسير إليه والغسل والتوضي به ، إلاّ أن الوقت لا يسعهما مع صلاته. فهما من حيث التمكّن من الماء ومن حيث العجز عن استعماله في الغسل أو الوضوء للصلاة من جهة ضيق الوقت سيّان.

نعم المسألة الثانية منصوصة ، حيث ورد في رواية حسين العامري : عمن سأله عن « رجل أجنب فلم يقدر على الماء وحضرت الصلاة فتيمم بالصعيد ثم مرّ بالماء ولم يغتسل وانتظر ماءً آخر وراء ذلك فدخل وقت الصلاة الأُخرى ولم ينته إلى الماء وخاف فوت الصلاة ، قال : يتيمم ويصلِّي ، فان تيمّمه الأوّل انتقض حين مرّ بالماء ولم‌

__________________

(*) الظاهر صدق عدم الوجدان فيها أيضاً ، فإن العبرة بعدم الوجدان بالإضافة إلى الصلاة لا مطلقاً.

١٦٥

[١٠٨٧] مسألة ٢٩ : من كانت وظيفته التيمّم من جهة ضيق الوقت عن استعمال الماء إذا خالف وتوضأ أو اغتسل بطل (١)

______________________________________________________

يغتسل » (١) حيث استفيد منها أمران :

أحدهما : أن وجدان الماء ناقض للتيمم ، وبهذه المناسبة روى في الوسائل الرواية في باب انتقاض التيمّم بوجدان الماء.

وثانيهما : أنه إذا تمكن من تحصيل الماء وخاف فوت الصلاة لضيق الوقت على تقدير الطهارة المائية جاز له التيمّم.

إلاّ أن وجود النص وعدمه سيان بعد كون الحكم في المسألتين مطابقاً للقاعدة وصدق الفقدان بمعناه المتقدم ، على أن النص ضعيف من جهات :

الاولى : كونها مروية عن حسين العامري وهو ممن لم يوثق في الرجال.

والثانية : كونها مرسلة ، لأن الحسين رواها عمن سأله ولا يعلم أنه من هو.

والثالثة : كونها مضمرة. ونحن وإن كنّا نعمل بالمضمرات لكنه فيما إذا كان المضمر من أجلاء الرواة وأكابرهم لا في مثل المقام ، إذ من المحتمل أن يكون سؤاله متوجهاً إلى غير الإمام عليه‌السلام مثل رؤساء المذاهب الباطلة أو أحد العلماء أو نحوهما.

المأمور بالتيمّم إذا خالف وظيفته‌

(١) للمسألة صور ثلاث : وذلك لأن المكلف الآتي بالوضوء أو الغسل مع كونه مأموراً بالتيمّم قد يكون عالماً بضيق الوقت وبأنه مأمور بالتيمّم وخالف ، وقد يكون جاهلاً بالحال. ثم الجاهل قد يأتي بهما بقصد الوضوء أو الغسل للصلاة وقد يأتي بهما بقصد غير الصلاة من الغايات كقراءة المصحف أو دخول المسجد أو لغاية استحبابهما النفسي ، فهذه صور ثلاث :

الصورة الأُولى : ما إذا كان المكلف عالماً بالحال ، فان أتى بهما لأجل استحبابهما النفسي أو لسائر الغايات المترتبة عليهما فلا ينبغي الإشكال في صحتهما ، حيث أتى بهما‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٧٧ / أبواب التيمّم ب ١٩ ح ٢.

١٦٦

لأنه ليس مأموراً بالوضوء لأجل تلك الصلاة ، هذا إذا قصد الوضوء لأجل تلك الصلاة ، وأما إذا توضأ بقصد غاية أُخرى من غاياته أو بقصد الكون على الطهارة صح على ما هو الأقوى من أن الأمر بالشي‌ء لا يقتضي النهي عن ضدّه. ولو كان جاهلاً بالضيق وأن وظيفته التيمّم فتوضأ فالظاهر أنه كذلك ، فيصح إن كان قاصداً لإحدى الغايات الأُخر ويبطل (*) إن قصد الأمر المتوجه إليه من قبل تلك الصلاة.

______________________________________________________

قاصداً التقرّب بهما وهما مأمور بهما واقعاً ، وقد ذكرنا في محلِّه أنّا لا نلتزم بكون الأمر بالشي‌ء مقتضياً للنهي عن ضده بل كلا الضدين يقعان مأموراً بهما على وجه الترتب.

وإن أتى بهما بقصد الصلاة فإن قصد التشريع بعمله أي مع علمه بعدم الأمر بهما من قبل الأمر بالصلاة أتى بهما بانياً على كونهما مأموراً بهما من قبل الصلاة فلا تأمّل في بطلانهما لحرمة التشريع ، ولا يمكن أن يقع المحرم عبادة ومحبوباً.

ولو لم يقصد بهما التشريع ، كما لو نوى بهما المقدمية لطبيعي الصلاة ولو قضاءً ، ولم يقصد كونهما مأموراً بهما بالأمر الفعلي ، فلا مانع من الحكم بصحتهما في هذه الصورة لكونه مأموراً بهما ولو لأجل القضاء. إلاّ أن هذا أمر نادر جدّاً ، لأن من يأتي بالوضوء أو الغسل من جهة المقدمية للصلاة يقصد بطهارته كونها مأموراً بها بالفعل.

الصورة الثانية : ما إذا كان المكلف جاهلاً بالحال وأتى بهما لا بقصد الصلاة. ولا ينبغي الارتياب في صحتهما ، لأنهما مأمور بهما من جهة استحبابهما النفسي أو المقدمية لسائر الغايات وقد قصد بهما التقرب فيقعان صحيحين لا محالة.

اللهمّ إلاّ أن يقال بأن الأمر بالشي‌ء يقتضي النهي عن ضده وأن النهي الواقعي يقتضي فساد العبادة وإن كان مجهولاً للمكلف على ما قويناه في محلِّه (١) ، فإنه يقتضي الحكم بفساد الغسل أو الوضوء في مفروض الكلام ، وذلك لأنه مأمور بالتيمّم ، وهو‌

__________________

(*) لا تبعد الصحّة في فرض الجهل بل مع العلم أيضاً إذا لم يقصد به التشريع.

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٤ : ٢٣٤.

١٦٧

يقتضي النهي عن الغسل أو الوضوء ، والمحرم والمنهي عنه لا يقع عبادة لأنه مبغوض. إلاّ أنّا لا نلتزم بكون الأمر بالشي‌ء يقتضي النهي عن ضدّه ، بل كلا الضدّين مأمور بهما على وجه الترتب كما حققناه في محلِّه (١).

الصورة الثالثة : ما إذا كان المكلف جاهلاً بالضيق وقد أتى بالوضوء أو الغسل بقصد المقدمية للصلاة. وقد ذكر الماتن قدس‌سره أنهما محكومان بالبطلان ، لأن ما قصده من المقدمية للصلاة لا واقع له ، وما له واقع من المحبوبية النفسية أو المقدمية لسائر الغايات ليس مقصوداً له.

ولكن الصحيح صحّة الغسل والوضوء في هذه الصورة أيضاً ، لأن المطلوب في العبادات أمران : الإتيان بذات العمل ، وإضافته إلى الله سبحانه نحو إضافة. وكلا الأمرين واقع ومتحقق في المقام ، غاية الأمر أنه تخيل أن الإضافة والمقربية من جهة أنهما مقدمتان للصلاة ، وأخطأ في هذا الخيال ، فان إضافتهما ومقربيتهما إنما هي من جهة المحبوبية الذاتية أو سائر الغايات ، وهو خطأ في التطبيق وتخلف في الداعي وهو لا يوجب البطلان.

نعم لو قلنا بما التزم به الماتن قدس‌سره في مبحث الوضوء (٢) من أن الوضوء والغسل أمران قابلان للتقييد ، وأتى بهما المكلف بقيد كونهما مقدمة للصلاة لا بدّ من الحكم ببطلانهما ، إذ لا واقع لما أتى به لعدم كونهما مقيدين بذاك القيد.

إلاّ أنّا ذكرنا أن الوضوء والغسل طبيعة واحدة وشي‌ء فأرد لا يقبل التقييد ، وإنما يمكن فيهما تخلف الداعي والخطأ في التطبيق ومعه لا بدّ من الحكم بصحتهما.

فتحصل : أن الغسل أو الوضوء محكومان بالصحّة على جميع التقادير المذكورة سوى ما وقع على وجه التشريع.

إلى هنا نختم الكلام في هذا الجزء حامدين مصلِّين ، ونشرع الجزء العاشر من المسألة (٣٠) التيمّم لأجل الضيق مع وجدان الماء ... إن شاء الله.

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٣ : ٩٤.

(٢) في الثامن من شرائط الوضوء قبل المسألة [٥٦٠].

١٦٨

[١٠٨٨] مسألة ٣٠ : التيمّم لأجل الضيق مع وجدان الماء لا يبيح إلاّ الصلاة الّتي ضاق وقتها فلا ينفع لصلاة أُخرى غير تلك الصلاة ولو صار فاقداً للماء حينها ، بل لو فقد الماء في أثناء الصلاة الأُولى أيضاً لا تكفي لصلاة أُخرى بل لا بدّ من تجديد التيمّم لها وإن كان يحتمل (*) الكفاية في هذه الصورة (١).

______________________________________________________

ما يُستباح بالتيمّم لأجل الضيق‌

(١) إذا لم يتمكّن المكلّف من الصلاة مع الطّهارة المائية في وقتها لضيق الوقت مع وجدانه الماء خارجاً لا إشكال في أنّ وظيفته الصلاة مع الطّهارة الترابية ، لأنّ الصلاة فريضة على كل مكلّف ولا تسقط بحال وهي مشروطة بالطّهارة ، وحيث إنّ الطّهارة المائية غير متيسرة لأجل ضيق الوقت فلا مناص من الإتيان بها مع التيمّم ، وهذا لا تردد فيه.

كما أنّه لا خلاف في أنّ هذا التيمّم لا يباح به غير الصلاة الّتي ضاق وقتها وقد تيمّم لأجل إتيانها أداءً ، ولا يسوغ الدخول به في سائر الصلوات وغير الصلوات ممّا يشترط فيه الطّهارة إذا أمكنه أن يأتي بها مع الطّهارة المائية ، لأنّ المفروض أنّ المكلّف واجد للماء بالنسبة إليها وهو مأمور بالوضوء أو الغسل لها دون التيمّم إلاّ بالإضافة إلى الصلاة الّتي ضاق وقتها.

وإنّما الكلام فيما لو تيمّم لصلاة كالعصر لضيق وقتها وكان حينذاك متمكّناً من الوضوء لصلاة المغرب الّتي بعد العصر إلاّ أنّه صار فاقداً للماء بالإضافة إلى صلاة المغرب أثناء صلاة العصر المأتي بها مع التيمّم ، أو صار فاقداً للماء وقت صلاة المغرب أو كان واجداً للماء بعد العصر لكنّه عجز عنه بعد ذلك وفي وقتها ، فهل يجوز الاكتفاء فيها بذاك التيمّم الّذي أتى به لصلاة العصر أو لا بدّ من تجديد التيمّم بالإضافة إلى غير صلاة العصر من الصلوات الّتي عجز عن الطّهارة المائية لها بعد تمكّنه منها حال‌

__________________

(*) لكنّه بعيد.

١٦٩

شروعه في العصر؟

ذهب الماتن قدس‌سره إلى عدم جواز الإتيان بغير العصر من الصلوات بالتيمّم الّذي أتى به لصلاة العصر ، وإن احتمل الكفاية في صورة ما إذا طرأه العجز عن الماء أثناء صلاة العصر.

والصحيح أنّ التيمّم المأتي به لأجل الضيق لا يباح به غير الفريضة الّتي ضاق وقتها ، ولا بدّ من تيمّم آخر لاستباحة غيرها من الصلوات سواء طرأ عليه العجز عن الماء بعد العصر أو في أثناء صلاتها.

وتوضيحه : أنّا ذكرنا سابقاً أنّ التيمّم وظيفة من لم يتمكّن من استعمال الماء خارجاً سواء كان عجزه من الماء مستنداً إلى فقدانه حقيقة كما قد يتفق في الأسفار والبراري ، أو مستنداً إلى عدم قدرته على الاستعمال ولو مع وجدانه الماء كما يتفق كثيراً في المريض ، وقد قلنا : إنّ المراد من الآية الكريمة ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ) (١) إنّما هو عدم التمكّن من استعمال الماء خارجاً لا فقدان الماء حقيقة ، بقرينة قوله تعالى ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى ).

ولا فرق في عدم التمكّن من استعماله بين العجز حقيقة وتكويناً عن الاستعمال وبين عدم التمكّن من الاستعمال شرعاً وتعبّداً كما لو كان الماء موجوداً عنده وهو مغصوب أو مستلزم للتهلكة مثلاً ، وعند العجز عن استعمال الماء في الغسل أو الوضوء تكويناً أو تشريعاً ينتقل الأمر إلى التيمّم ، هذا.

وقد يجوز التيمّم في حقّ المكلّف لا من أجل عجزه عن الماء وفقدانه بل من جهة ترخيص الشارع في ترك الطّهارة المائية ، وهو يستلزم جواز التيمّم ، وذلك في موردين :

أحدهما : في موارد كون الوضوء أو الغسل حرجياً ، حيث إنّ الإقدام على الأمر العسير سائغ في الشريعة المقدّسة إلاّ أنّ الشارع امتناناً رخص للمكلّف في تركه ، ففي مثله لو ترك المكلّف الوضوء لترخيص الشارع فيه لا مناص من جواز التيمّم في‌

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

١٧٠

حقّه ، لأنّ الصلاة لا تسقط بحال وهي مشروطة بالطهور ، مع أنّ المكلّف متمكّن من استعمال الماء في الغسل أو الوضوء تكويناً وتشريعاً.

ثانيهما : موارد التزاحم ، كما إذا زاحم الغسل أو الوضوء واجب أهم مثل حفظ النفس المحترمة وقد صرف المكلّف الماء فيما هو الأهم فإنّه يجوز التيمّم في حقّه بعد ذلك ، لأنّه مكلّف بالصلاة ولا صلاة إلاّ بطهور.

والوجه في جواز التيمّم وعدم وجوبه حينئذ هو أنّ الأمر بالشي‌ء لا يقتضي النهي عن ضدّه ، فالأمر بصرف الماء في الواجب الأهم لا يقتضي النهي عن الوضوء ، وحيث إنّه أمر محبوب في نفسه أي هو مستحب نفسي فيجوز للمكلّف الإتيان به وترك التيمّم ، لأنّه واجد الماء ، وإن كان عصى بمخالفة الأمر بصرف الماء في الواجب الأهم. فالتيمّم جائز في هذه الصورة وليس بمتعين مع كون المكلّف واجداً للماء.

تصحيح الوضوء في موضع التيمّم بالترتب‌

بل ويمكن القول بوجوب الوضوء فضلاً عن جوازه ، وذلك مبني على ما هو الصحيح من إمكان الترتب ، فهو مكلّف بالواجب الأهم وصرف الماء فيه ، وعلى تقدير المخالفة يجب المهم عليه وهو صرف الماء في الوضوء أو الغسل. وكيف كان يسوغ للمكلّف التيمّم في حقّه في هذين الموردين مع كونه واجد الماء ومتمكّناً من استعماله عقلاً وشرعاً.

إذا عرفت هذا فنقول : المكلّف كما قدّمناه مأمور بالتيمّم لأجل الصلاة الّتي فرضنا ضيق وقتها كالعصر ، وهو متمكّن من استعمال الماء في الوضوء بالإضافة إلى الصلاة الّتي بعد العصر عقلاً وشرعاً. أمّا عقلاً فلأجل وجدان الماء وقدرته على استعماله حسب المفروض ، فله أن يتوضأ تهيؤاً لإيقاع صلاة المغرب مثلاً في أوّل وقتها. كما أنّه متمكّن شرعاً ، وذلك لما تقدم من أنّ الأمر بالشي‌ء لا يقتضي النهي عن ضدّه ، وحيث إنّ الوضوء مستحب نفساً فيجوز للمكلّف أن يترك العمل بأمر التيمّم ويأتي بالوضوء ، بل لا مانع من إيجابه بالترتب.

١٧١

وكيف كان ، فالمكلّف متمكّن من استعمال الماء في الوضوء بالنسبة إلى الصلاة الواقعة بعد العصر ، وإنّما لا يأتي به لكونه مزاحماً للتيمم الواجب لصلاة العصر ، فالتيمّم بالإضافة إلى ما يتمكّن فيه من استعمال الماء ليس سائغاً وإنّما يسوغ لصلاة العصر فقط لضيق وقتها ، والأمر بالتيمّم لأجلها لا يجعله فاقداً وغير متمكّن من استعمال الماء لأجل غيرها من الصلوات ، بل هو متمكّن منه عقلاً وشرعاً كما مرّ ، وإنّما لا يتوضأ لها لأجل كونه مزاحماً للتيمم الواجب لصلاة العصر لا لكونه فاقداً للماء ولا يتمكّن من استعماله.

إذن لا يسوغ به غير الصلاة الّتي ضاق وقتها ، بلا فرق في ذلك بين طروء العجز عن استعمال الماء عليه لأجل غير صلاة العصر من الصلوات بعد العصر وبين طروء العجز عنه في أثناء صلاة العصر ، لأنّ المكلّف بالإضافة إلى كلتا الحالتين متمكّن من استعمال الماء قبل العصر في ظرف تيممه لصلاة العصر ، وليس له مسوغ في التيمّم لغيرها لتمكّنه من استعماله لغير العصر حسب الفرض ، فلو طرأ العجز عن استعماله بعد التمكّن منه فهو موضوع جديد ذو حكم جديد فيجب عليه التيمّم ثانياً لتحقق موضوعه.

وبتقريب آخر : أنّ المستفاد من الآية المباركة والروايات أنّ التيمّم وظيفة من لم يتمكّن من استعمال الماء بعد دخول وقت الصلاة ، لأنّ المراد بالقيام إليها في قوله تعالى ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) هو القيام للإتيان بها ، وهو لا يسوغ إلاّ بعد دخول وقتها ، وكذلك الحال في الوضوء ، فلا مسوغ للتيمم قبل دخول الوقت ولو مع العلم بعدم التمكّن من الماء بعد دخول وقتها ، ومن ثمة جاز ترك الوضوء أو الاغتسال قبل الوقت لمن علم بعدم تمكّنه منهما بعد دخوله ، بل جاز إراقة الماء قبل دخول وقت الصلاة ، لعدم كونه مأموراً بشي‌ء من الطهارتين قبل الوقت وجواز التيمّم للفاقد والوضوء للواجد بعده. إذن لا يكفي التيمّم المأتي به لأجل فريضة للفريضة الّتي لم يدخل وقتها بعد.

١٧٢

[١٠٨٩] مسألة ٣١ : لا يستباح بالتيمّم لأجل الضيق غير تلك الصلاة من الغايات الأُخر حتّى في حال الصلاة ، فلا يجوز له مسّ كتابة القرآن (١)

______________________________________________________

نعم علمنا بمقتضى الروايات (١) أنّ المتيمم لصلاة يجوز له أن يأتي بصلاة أُخرى في وقتها بذلك التيمّم إذا كان موضوع التيمّم باقياً بحاله ، كمن تيمّم للظهرين لكونه مريضاً ولم ينتقض تيممه بشي‌ء وقد دخل وقت العشاءين ، فلا يجب عليه التيمّم ثانياً لصلاتهما إذا بقي مريضاً. وأمّا لو تيمّم لصلاة العصر وهو متمكّن من الوضوء لغيرها ثمّ بعد ذلك تبدّل التمكّن بالعجز فلا دليل على كفاية ذاك التيمّم عن التيمّم لصلاة المغرب ، بل كفاية التيمّم بالإضافة إلى العصر ليس منصوصاً ، ومن هنا ذهب جمع إلى أنّه غير مأمور بالوضوء لضيق الوقت ولا بالتيمّم لكونه واجداً للماء فهو فاقد الطهورين يجب أن يقضي صلاته بعد الوقت ، وإنّما التزمنا بكفايته لما تقدّم من الوجه (٢).

ومن هذا يظهر عدم الفرق بين طرو العجز بعد العصر في مثالنا وبين طروئه في أثنائها ، وإن كان يظهر من الماتن وجود الفرق بينهما ، وذلك لأنّ المدار على الوجدان والفقدان عند التيمّم لصلاة العصر ، فمن كان واجداً للماء لغير العصر حينئذ لم يكف تيممه هذا للعجز اللاّحق المتجدّد ، ولم يظهر لنا وجه التفرقة.

وأمّا لو كان واجداً للماء بعد العصر وطرأ العجز بعد ذلك فلا شبهة في انتقاض تيممه السابق ووجوب تيمّم ثانٍ ، لكون وجدان الماء من نواقض التيمّم.

ما يستباح بالتيمّم‌

(١) لعين ما قدّمناه في المسألة السابقة ، لأنّ المكلّف يتمكّن من استعمال الماء لسائر الغايات ، وإنّما لا يتمكّن من الماء بالإضافة إلى العصر في مثالنا ، فلا يكفي تيممه هذا لغيرها.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٧٩ / أبواب التيمّم ب ٢٠.

(٢) في أوّل المسألة.

١٧٣

ولو في حال الصلاة (١) وكذا لا يجوز له قراءة العزائم إن كان بدلاً عن الغسل فصحته واستباحته مقصورة على خصوص تلك الصلاة.

[١٠٩٠] مسألة ٣٢ : يشترط في الانتقال إلى التيمّم ضيق الوقت عن واجبات الصلاة فقط فلو كان كافياً لها دون المستحبات وجب الوضوء (٢) والاقتصار عليها بل لو لم يكف لقراءة السورة تركها وتوضأ لسقوط وجوبها في ضيق الوقت (٣).

[١٠٩١] مسألة ٣٣ : في جواز التيمّم لضيق الوقت عن المستحبّات المؤقتة إشكال (*) فلو ضاق وقت صلاة اللّيل مع وجود الماء والتمكّن من استعماله يشكل الانتقال إلى التيمّم (٤).

______________________________________________________

(١) لسعة وقت المس أو غيره ، فله أن يتم صلاته ثمّ يتوضأ للمس الواجب أو المستحب ، اللهمّ إلاّ أن يضيق وقت المس الواجب كما لو وقع المصحف في مكان يعدّ بقاؤه فيه هتكاً للمصحف فيكفي له التيمّم المأتي به لصلاة العصر لأجل ضيق الوقت.

(٢) لتمكّنه من الواجب مع الطّهارة المائية فلا مسوغ للتيمم حينئذ.

(٣) للأخبار الدالّة على عدم وجوب السورة عند الاستعجال ولو لأجل الأُمور الدنيويّة فضلاً عن الأُخرويّة (١) بل قد ورد في بعض النصوص عدم وجوب السورة مطلقاً (٢) وحملت على صورة الاستعجال جمعاً بينها وبين الأخبار الدالّة على الوجوب.

التيمّم للمستحبّات المؤقتة‌

(٤) منشأ الإشكال أنّ المسوغ للتيمم إنّما هو عدم التمكّن من استعمال الماء في‌

__________________

(*) لكنّه ضعيف.

(١) الوسائل ٦ : ٤٠ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٢ ح ٢ ، ٤ ، ٦.

(٢) الوسائل ٦ : ٣٩ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٢ ح ١ ، ٣.

١٧٤

الغسل أو الوضوء عقلاً أو شرعاً ، وليس المكلّف في موارد ضيق الوقت عاجزاً عن استعماله عقلاً وهو ظاهر ، وكذلك شرعاً لعدم كون الاستعمال محرماً بوجه.

إلاّ أنّ المؤقت في الواجبات لمّا كان مورداً لإلزام الشارع بإتيانها في وقتها وهي مشروطة بالطّهارة ولا يسع الوقت للطهارة المائية وجب الإتيان بها مع الطّهارة الترابية ، وإلاّ فالمكلّف واجد للماء عقلاً وشرعاً ، وإنّما شرع له التيمّم من جهة الإلزام الشرعي المتوجه إلى المكلّف في الإتيان بالمؤقت المشروط بالطّهارة.

وحيث إنّ المستحب كصلاة اللّيل ليس مورداً للإلزام ، والمكلّف غير مجبور على العمل وهو في سعة منه شرعاً وواجد للماء عقلاً وشرعاً لا يجوز له التيمّم بدلاً عن الوضوء أو الغسل. فضيق الوقت غير مسوغ له في المستحبات ، هذا.

ويمكن أن يقال : إنّه لا فرق في مسوغية الضيق للتيمم بين الواجب والمستحب ولا مدخلية للإلزام الشرعي بإتيان العمل وعدمه في جواز الاكتفاء بالطّهارة الترابية.

ووجهه : أنّا ذكرنا أنّ المراد من عدم التمكّن من الماء عقلاً أو شرعاً هو عدم التمكّن منه بالإضافة إلى الصلاة أو غيرها ممّا هو مشروط بالطّهارة وإن كان المكلّف متمكّناً منه بالإضافة إلى غيرها ، ومن هنا أجزنا التيمّم عند ضيق الوقت في الواجبات مع كون المكلّف واجداً للماء ومتمكّناً من استعماله عقلاً وهو ظاهر وشرعاً لعدم حرمة التصرّف في الماء ، لكنّه كان بحيث لو توضأ أو اغتسل لم يتمكّن من إتيان المؤقت في وقته ، وحيث إنّه فاقد للماء بالإضافة إلى الصلاة الواجبة ساغ له التيمّم بدلاً عن الوضوء أو الغسل.

والفقدان الإضافي كما يتحقق في الواجبات كذا يتحقق في المستحبّات ، لأنّ المكلّف يتمكّن من استعمال الماء عقلاً وشرعاً إلاّ أنّه لو تصدى لتحصيل الطّهارة المائية لم يتمكّن من إتيان صلاة اللّيل في وقتها ، فهو فاقد للماء بالإضافة إلى الفعل المستحب وهو مثل الفقدان بالإضافة إلى الفعل الواجب مسوغ للتيمم. وكون المكلّف ملزماً بالإتيان بالفعل وعدمه أجنبي عن صدق الفقدان الإضافي.

١٧٥

[١٠٩٢] مسألة ٣٤ : إذا توضأ باعتقاد سعة الوقت فبان ضيقه فقد مرّ أنّه إذا كان وضوءه بقصد الأمر المتوجّه إليه من قِبَل تلك الصلاة بطل (*) لعدم الأمر به (١) وإذا أتى به بقصد غاية أُخرى أو الكون على الطّهارة صحّ ، وكذا إذا قصد المجموع من الغايات الّتي يكون مأموراً بالوضوء فعلاً لأجلها.

______________________________________________________

بل يمكن الاستدلال على ذلك بالآية المباركة ، فإنّ قوله تعالى ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ... ) مطلق يشمل الواجبة والمستحبة ، لدلالته على أنّ المدار في وجوب التيمّم على عدم التمكّن من الماء عند القيام إلى مطلق الصلاة.

ولا يفرق فيما ذكرنا بين أن يكون المستحب ممّا يجوز قضاؤه أو لم يشرع فيه القضاء لأنّ الّذي يقوم للصلاة المستحبّة يصدق عليه أنّه لم يجد الماء وأنّه فاقده بالإضافة إلى الفعل المستحب أداءً وإن كان واجداً للماء ومتمكّناً من استعماله بالإضافة إلى قضائه. فمشروعية قضاء الفعل المستحب وعدمها ليسا دخيلين في المدّعى.

التوضؤ باعتقاد سعة الوقت فبان الضيق‌

(١) قد قدّمنا في المباحث السابقة (١) أنّ الوضوء ليس من الموارد القابلة للتقييد لأنّه أمر جزئي ولا معنى للتقييد فيه ، وإنّما تلك الموارد من قبيل التخلّف في الدواعي والوضوء فيها محكوم بالصحّة مطلقاً ، لأنّه مستحب نفسي وواقع على وجه الصحّة حتّى فيما إذا كان الوقت ضيقاً واقعاً ، لأن أمر المكلّف بالتيمّم حينئذ لا يوجب النهي عن الوضوء ، فلو توضأ عند ضيق الوقت واقعاً حكم بصحّته وجاز له أن يرتب عليه آثار الطّهارة الصحيحة فضلاً عمّا إذا توهم الضيق ولم يكن الوقت ضيقاً واقعا.

__________________

(*) تقدم الكلام فيه [ في المسألة ١٠٨٧ ].

(١) شرح العروة ٥ : ٤٢٤.

١٧٦

وأمّا لو تيمّم باعتقاد الضيق فبان سعته بعد الصلاة فالظاهر وجوب إعادتها وإن تبيّن قبل الشروع فيها وكان الوقت واسعاً توضأ وجوباً ، وإن لم يكن واسعاً فعلاً بعد ما كان واسعاً أوّلاً وجب إعادة التيمّم (١).

______________________________________________________

التيمّم باعتقاد الضيق فبان السعة‌

(١) للمسألة صور ثلاثة :

الاولى : أن ينكشف بعد الصلاة مع الطّهارة الترابية سعة الوقت للصلاة مع الطّهارة المائية.

الثّانية : أن تنكشف السعة بعد التيمّم وقبل الصلاة ، أو بعدها (١) أنّ الوقت كان واسعاً للصلاة مع الطّهارة المائية عند التيمّم ولكنّه عند الانكشاف لا يسع الوقت إلاّ للصلاة بتيمم.

أمّا الصورة الأُولى : فالصحيح فيها بطلان التيمّم والصلاة ولزوم إعادتها بطهارة مائية ، وذلك لما قدّمناه من أنّ المسوغ للتيمم عند ضيق الوقت واقعاً هو كون المكلّف لا يتمكّن من استعمال الماء بالإضافة إلى الصلاة وإن كان متمكّناً منه بالإضافة إلى غيرها ، ومن هنا قلنا إنّ التيمّم لضيق الوقت لا يشرع به باقي الغايات المتقيّدة بالطّهارة.

وهذا غير متحقق عند تخيل الضيق مع السعة واقعاً ، لأنّ المكلّف متمكّن من استعمال الماء حينئذ حتّى بالإضافة إلى الصلاة فلا مسوغ للتيمم في حقّه. وتخيل الضيق ليس من مسوغاته لأنّه مجرّد خيال.

وبعبارة اخرى : أنّ المصحّح للتيمم إنّما هو الأمر بالصلاة مع الطّهارة الترابية ، ولا أمر بها في مفروض الكلام ، والأمر الخيالي ليس مسوغاً للتيمم كما مرّ.

ولا فرق فيما ذكرناه بين القول بجواز البدار لذوي الأعذار والقول بعدمه ، وذلك‌

__________________

(١) أي ينكشف بعد الصلاة أنّ الوقت ... ، وهذه هي الصورة الثالثة للمسألة.

١٧٧

لأنّ القول بجوازه إنّما هو فيما إذا كان المكلّف معذوراً في ترك الطّهارة المائية وكان عذره مستوعباً للوقت ، وليس الأمر كذلك في المقام لأنّه لا عذر للمكلّف حسب الفرض. وتوهم الضيق ليس بعذر شرعي فلا يصح منه التيمّم ليجوز له البدار أو لا يجوز.

وأمّا الصورة الثّانية : فلا ينبغي التردّد في بطلان التيمّم حينئذ حتّى لو بنينا على صحّة التيمّم في الصورة السابقة بناءً على أن تخيل الضيق مسوغ للتيمم ، وذلك لأنّ وجدان الماء من أسباب انتقاض التيمّم.

وأمّا الصورة الثّالثة : فلا بدّ من الحكم ببطلان التيمّم فيها ، لعدم جوازه في حقّ المكلّف واقعاً ، لأنّ المدار في الانتقال إلى التيمّم إنّما هو عدم التمكّن من استعمال الماء في مجموع الوقت ، والمفروض أنّ المكلّف كان يتمكّن من استعماله حين التيمّم ، فهو تيمّم وقع بلا مسوغ حتّى بناءً على جواز البدار ، لأنّه إنّما هو في من كان معذوراً واستمرّ عذره (١) إلى آخر الوقت.

وليس الأمر كذلك في المقام ، لأنّ المصحّح للتيمم حينئذ إنّما هو الأمر بالصلاة ، وإلاّ فهو واجد للماء عقلاً وشرعاً ، بل لو توضأ حكمنا بصحّته كما مرّ (٢) لكنّه لمّا كان مكلّفاً بالصلاة ولا صلاة إلاّ بطهور وهو غير متمكّن من الماء لصلاته ساغ له الصلاة مع التيمّم ، فالمسوغ هو الأمر بالصلاة مع التيمّم ، ولا أمر بالصلاة مع التيمّم في مفروض الكلام فكيف يمكن الحكم بصحّته؟.

وأمّا بعد الانكشاف فحيث إنّه لا يتمكّن من استعمال الماء حينئذ بالإضافة إلى الصلاة ساغ له التيمّم والصلاة. فما أفاده الماتن قدس‌سره من أنّ المكلّف في تلك الصورة يعيد تيممه هو الصحيح.

__________________

(١) المناسب : واستمرّ عذره.

(٢) في ص ١٧١.

١٧٨

الثامن : عدم إمكان استعمال الماء لمانع شرعي (١) كما إذا كان الماء (*) في آنية الذهب أو الفضّة وكان الظرف منحصراً فيها بحيث لا يتمكّن من تفريغه في ظرف آخر (٢) أو كان في إناء مغصوب كذلك (٣) فإنّه ينتقل إلى التيمّم ، وكذا إذا كان محرم الاستعمال من جهة أُخرى.

______________________________________________________

الثامن من مسوغات التيمّم‌

(١) وإن كان استعماله ممكناً عقلاً ، وقد قدمنا أنّ المراد بالوجدان في الآية الكريمة هو التمكّن من استعماله عقلاً وشرعاً ، وذلك بقرينة ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى ) ، ومع عدم التمكّن من إحدى الجهتين ينتقل أمره إلى التيمّم ، أمّا عند عدم التمكّن عقلاً فهو ظاهر وأمّا عند عدم التمكّن شرعاً فلأنّ نهي الشارع عن التصرف والاستعمال معجز مولوي عن استعماله ، فهو كما إذا لم يكن متمكّناً منه عقلاً. وقد بيّن الماتن لذلك صغريين :

إحداهما : ما إذا كان الماء في آنية الذهب والفضّة.

وثانيتهما : ما إذا حرم استعمال الآنية لغصبها أو لجهة أُخرى محرمة لاستعمالها.

(٢) بل وكذلك الحال فيما إذا لم ينحصر الظرف في آنيتهما إلاّ أنّ الظرف كان بحيث عُدّ أخذ الماء منه وتفريغه في ظرف آخر استعمالاً له ، وهذا كما لو كان الماء في حب من الذهب أو الفضّة ، فإن استعمال الماء حينئذ إنّما هو بتفريغ الماء الموجود فيه في ظرف آخر ، لأن استعماله بالأخذ منه من دون واسطة وتفريغ في ظرف آخر أمر غير متعارف. وهو نظير السماور على ما ذكرنا في محلِّه (١) فإن استعماله إنّما هو بتفريغ الماء الموجود فيه في ظرف آخر من القوري أو الفنجان.

(٣) الظاهر أنّ كلمة « كذلك » صدرت منه قدس‌سره اشتباهاً ، وذلك للفرق الواضح بين الإناء المغصوب والإناء من النقدين ، فان إناءهما على تقدير عدم انحصار‌

__________________

(*) هذا مبني على حرمة استعمال آنية الذهب والفضّة في غير الأكل والشرب ، وقد تقدّم أنّها مبنيّة على الاحتياط.

(١) في شرح العروة ٤ : ٣٠١.

١٧٩

[١٠٩٣] مسألة ٣٥ : إذا كان جنباً ولم يكن عنده ماء وكان موجوداً في المسجد فإن أمكنه أخذ الماء بالمرور وجب ولم ينتقل إلى التيمّم (١) ، وإن لم يكن له آنية لأخذ الماء أو كان عنده ولم يمكن أخذ الماء إلاّ بالمكث (٢) فإن أمكنه الاغتسال فيه بالمرور وجب ذلك ، وإن لم يمكن ذلك أيضاً أو كان الماء في أحد المسجدين أي المسجد الحرام أو مسجد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فالظاهر وجوب التيمّم لأجل الدخول في المسجد (*) وأخذ الماء أو الاغتسال فيه. وهذا التيمّم إنّما يبيح خصوص هذا الفعل (٣) أي الدخول والأخذ أو الدخول والاغتسال ، ولا يرد الإشكال بأنّه يلزم من صحّته بطلانه حيث إنّه يلزم منه كونه واجداً للماء فيبطل كما لا يخفى.

______________________________________________________

الظرف فيه وعدم كون التفريغ منه في إناء آخر استعمالاً له عرفاً لا مانع من الوضوء أو الغسل بمائهما بتفريغ مائهما في ظرف آخر ، لأنّه استعمال مباح.

وهذا بخلاف الآنية المغصوبة فإنّ الوضوء أو الاغتسال من الماء الموجود فيها ولو بتفريغ مائها في ظرف ثانٍ وعدم عده استعمالاً للمغصوب ، فهو ليس جائزاً لأنّه تصرّف في مال الغير وهو حرام.

(١) بناءً على ما اختاره في بحوث أحكام الجنابة من أنّ الجنب يجوز له أخذ الشي‌ء من المساجد لا بناءً على ما اخترناه من حرمته (١).

(٢) أو كان متمكّناً من الأخذ حال المرور إلاّ أنّا بنينا على حرمة أخذ الجنب من المسجد شيئاً.

مناقشة ودفع :

(٣) إشارة إلى دفع ما ربما يورد على ما ذكره من أنّ التيمّم إنّما يسوغ للفاقد فلو‌

__________________

(*) تقدم أنّ الأظهر وجوب التيمّم للصلاة حينئذ ، ولا يسوغ به المكث في المسجد والدخول في المسجدين.

(١) شرح العروة ٦ : ٣١٧.

١٨٠