موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

السادس : إذا عارض استعمال الماء في الوضوء أو الغسل واجب أهم كما إذا كان بدنه أو ثوبه نجساً ولم يكن عنده من الماء إلاّ بقدر أحد الأمرين من رفع الحدث أو الخبث ففي هذه الصورة يجب استعماله (*) في رفع الخبث ويتيمم ، لأن الوضوء له بدل وهو التيمّم بخلاف رفع الخبث (١) مع أنه منصوص في بعض صوره ، والأولى أن يرفع الخبث أولاً ثم يتيمم ليتحقق كونه فاقداً للماء حال التيمّم ،

______________________________________________________

النساخ ، والقرينة عليه قوله : كما أنه لو باشر بنفسه. فإنه يقتضي موافقة اللاحق للسابق عليه ، ومعناه أنه كما لا يجوز إعطاؤه للرفيق يجب منعه عنه لا أنه لا يجب منعه ، وإلاّ لوجب أن يقول : لكن لو باشر لا يجب منعه ، أو : نعم لو ... ، وغيرهما مما يدل على الاستدراك أو الرجوع ومغايرة حكم اللاحق مع حكم سابقه.

إذا زاحم استعمال الماء في الطهارة واجب أهم‌

(١) الظاهر أن ذلك من المسلمات عندهم وأنه إذا دار الأمر بين واجب أهم لأنه لا بدل له وواجب آخر له بدل يقدم الأوّل على ما له البدل ، فان تم هذا وكان إجماعياً فهو وإلاّ فللمناقشة فيه مجال.

والظاهر أن المسألة غير إجماعية ، فإنهم لم يعللوها بكونها تعبدية بل بأن الطهارة الحدثية الوضوء والغسل له بدل. والكلام في ذلك يقع في مقامين :

أحدهما : في كبرى المسألة.

وثانيهما : في صغراها.

المقام الأوّل : بحسب الكبرى ، ولا ينبغي التأمل في أن الواجب إذا زاحمه واجب آخر وكان أحدهما أهم من الآخر قدم الأهم منهما ، وهو معجز مولوي وموجب لسلب قدرة المكلف عن غيره المهم كما ذكرناه في مثل مزاحمة الأمر بإزالة النجاسة‌

__________________

(*) على الأحوط ، والأظهر التخيير.

١٤١

عن المسجد والأمر بالصلاة.

ثم إذا كان الواجبان المتزاحمان أحدهما ممّا له البدل والآخر مما لا بدل له هل يكون ما لا بدل له أهم مما له البدل ليتقدّم عليه ، أو أن الواجب الذي لا بدل له لا يوجب أهميته وتقدمه على مزاحمة؟

وتفصيل الكلام في المقام : أن الواجب قد يزاحمه واجب آخر له إبدال عرضية كخصال الكفارة إذا فرضنا أن واجباً يزاحمه إطعام ستين مسكيناً مثلاً. وفي مثله لا بدّ من الإتيان بكلا الواجبين لخروجهما عن التزاحم حقيقة ، حيث إن الأمر فيما له إبدال عرضية قد تعلق بالجامع بينها لا بكل واحد من الخصال بخصوصه على ما شرحناه في الواجب التخييري (١) مفصّلاً ، ولا تزاحم بين الواجب والجامع بين الأبدال ، إنما المزاحمة بينه وبين خصوص إطعام ستين مسكيناً على الفرض ، وليس الإطعام مأموراً به ، كما لا مزاحمة بينه وبين صيام شهرين متتابعين ، وهذا ظاهر.

ونظيره ما إذا كان لأحدهما أفراد طولية وكان الواجب مزاحماً لفردٍ منها دون فرد كما في إزالة النجاسة عن المسجد في سعة الوقت للصلاة ووجوب صلاة الآيات والوقت يسعها والفريضة وغيرهما من الأمثلة وهذا خارج عن التزاحم حقيقةً أيضاً ، لأن الواجب إنما يزاحم فرداً من الفريضة والفرد ليس مأموراً به ، وإنما تعلق الأمر بالطبيعي وهو لا يزاحم الواجب فيجب في مثله الإتيان بكليهما.

ومثله ما إذا زاحم واجب مع الصلاة تماماً في مواضع التخيير ، فإنه مزاحم لفرد من الواجبين التخييريين لا مع المأمور به الجامع بين القصر والتمام ، ومعه يجب الصلاة قصراً مع الإتيان بالواجب الآخر لعدم التزاحم بينهما.

وقد يكون الواجب مزاحماً لواجب آخر له بدل طولي كالتيمّم بالنسبة إلى الوضوء وهل كون أحدهما مما لا بدل له يوجب أهميته عما له البدل ليتقدّم عليه؟

قد يقال بأن ما لا بدل له لا يلزم أن يكون أهم ، بل قد يكون ما له البدل الطولي‌

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٤ : ٤٠.

١٤٢

كالوضوء أهم من مزاحمة ، غاية الأمر إذا لم يتمكن المكلف من الطهارة المائية انتقل إلى البدل وأمّا مع تمكّنه منها كما في المقام فلا موجب للانتقال إلى البدل بوجه هذا.

والذي ينبغي أن يقال : إن الواجب إذا لم يكن له بدل يتقدم على الواجب الآخر الذي له بدل ، وذلك لأنّا نستكشف من جعل البدل لمثل الوضوء أو الغسل أن إيجابه ليس إيجاباً مطلقاً وإنما تعلق الأمر به مشروطاً بالقدرة عليه شرعاً ، لأنّا ذكرنا أن المراد من الوجدان في الآية المباركة إنما عدم العذر المطلق ، فالأمر بالوضوء مشروط بأن لا يكون هناك أي عذر عند المكلف في تركه ، وإلاّ انتقل الأمر إلى بدله وهو التيمّم.

وحيث إن الواجب الذي لا بدل له مطلق وغير مشروط بالقدرة الشرعية فلا مناص من أن يتقدم على ما له البدل ، فإنه حينئذ معجز مولوي وعذر شرعي موجب لسلب قدرة المكلف على الوضوء فينتقل معه إلى التيمّم. هذا كلّه بحسب كبرى المسألة.

المقام الثاني : بحسب الصغرى ، أي تطبيقها على الطهارة الحدثية والخبثية. وللمناقشة فيما ذكروه مجال واسع ، وذلك لأن الأمر بالطهارة الخبثية ليس أمراً نفسيّاً وليست الطهارتان واجبتين نفسيتين ليلاحظ التزاحم بينهما ، بل وجوبهما وجوب ضمني شرطي فمعنى وجوب الوضوء أو الغسل هو أن الشارع أمر بالصلاة عن طهارة مائية ، كما أن معنى الأمر بإزالة الخبث عن الثوب والبدن هو أن الشارع أوجب الصلاة مع طهارة البدن والثياب.

إذن فالتزاحم بين الأمر بالصلاة مع الطهارة المائية وبين الأمر بالصلاة مع الطهارة الخبثية ، ولكل واحد منهما بدل ، فالصلاة مع التيمّم بدل الصلاة عن طهارة مائية والصلاة عارياً أو في البدن أو الثوب المتنجس كما هو المختار هي بدل عن الصلاة مع طهارة البدن والثوب من الخبث. إذن لا وجه للحكم بتقدّم أحدهما على الآخر بل المكلف يتخيّر بينهما ، هذا.

١٤٣

عدم معقولية التزاحم في غير النفسيين‌

والتحقيق أن أمثال الوضوء أو الغسل والطهارة من الخبث خارجة عن باب التزاحم بالكلية ، وذلك لأن التزاحم إنما يقع بين التكليفين النفسيين إذا لم يتمكن المكلف من امتثالهما معاً ، وأما التكليف الواحد إذا دار الأمر فيه بين ترك جزء أو جزء آخر أو بين شرط أو شرط آخر فهو خارج عن باب التزاحم ، لأن مقتضى القاعدة في مثله سقوط التكليف رأساً لعدم تمكن المكلف من شرط الواجب أو جزئه.

إلاّ أنّا في الصلاة لما علمنا أنها لا تسقط بحال علمنا أن الشارع قد جعل أمره بالصلاة في حق المكلف إما مقيداً بالطهارة الحدثية المائية وإما مقيداً بالطهارة الخبثية ولا يمكنه جعلها مقيدة بكلتيهما ، فالمجعول هو أحدهما في حقه فيدخل المقام وأمثاله في باب التعارض.

وحيث إن مقتضى إطلاق شرطية الوضوء أن الصلاة يعتبر فيها الوضوء مطلقاً تمكن المكلف من الطهارة الخبثية أم لم يتمكّن ومقتضى إطلاق شرطية الطهارة الخبثية اعتبارها مطلقاً تمكن المكلف من الوضوء أو الغسل أم لم يتمكن ولا يمكن الأخذ بكلا الإطلاقين لعجز المكلف عن امتثالهما على الفرض فيسقط الإطلاقان وتدفع شرطية خصوص كل واحد منهما بالبراءة فينتج حينئذ التخيير بين الأمرين.

ولكن الشهرة والإجماع المدعى في كلام جماعة قد قاما على تقديم الطهارة الخبثية على ما سبق ومعه فالأحوط أن يختار الطهارة الخبثية مع التيمّم بدلاً عن الوضوء أو الغسل ، كما أن الأحوط أن يقدم صرف الماء في إزالة النجاسة على التيمّم ثم يتيمم بعده ، هذا.

وقد يستدل على تقديم الطهارة الخبثية والمستدل هو صاحب الجواهر قدس‌سره برواية أبي عبيدة ( الحذاء ) قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المرأة الحائض ترى الطهر وهي في السفر وليس معها من الماء ما يكفيها لغسلها وقد حضرت الصلاة ، قال عليه‌السلام : إذا كان معها بقدر ما تغسل به فرجها فتغسله ثم‌

١٤٤

تتيمم وتصلِّي » (١) بتقريب أنها دلّت على تقديم الطهارة الخبثية مطلقاً حتى فيما إذا كانت متمكنة من الوضوء. وقال في الجواهر : لتقديمه إزالة النجاسة فيه على الوضوء لوجوبه عليها لولاها (٢).

وقد أُورد على الاستدلال المذكور بوجهين :

أحدهما : أن الحائض ليست مكلفة بالوضوء مع الاغتسال أو أنه محل إشكال ، ومع عدم وجوب الوضوء عليها لا دوران في حقها بين الوضوء وبين الطهارة الخبثية فلا تنطبق الرواية على المقام.

ويدفعه : أن الاغتسال من الحيض والجنابة وإن كان يغني عن الوضوء إلاّ أن التيمّم بدلاً عن الغسل لم يتم دليل على كفايته عن الوضوء ، والمفروض في مورد الرواية أن الحائض تتيمم ولا تغتسل. إذن يدور أمرها بين الوضوء والطهارة الخبثية وقد قدم الإمام عليه‌السلام الطهارة الخبثية على الحدثية فلا مناقشة في الاستدلال بها من هذه الجهة.

ثانيهما : أن ظاهر الرواية أن المرتكز في ذهن السائل أن الماء لو كان يكفي لغسلها لوجب عليها الاغتسال وتقديم الطهارة الحدثية أعني (٣) غسل فرجها ، لقول السائل : « وليس معها من الماء ما يكفيها لغسلها » والإمام عليه‌السلام لم يردعه عن هذا الارتكاز وهو إمضاء منه له. إذن الرواية على خلاف المطلوب أدل.

ويرده : أن صحّة الغسل مشروطة بطهارة بدنها وإزالة النجاسة عنه ، فغسل فرجها لازم ومعتبر في اغتسالها من الحيض ، ومعه لا ارتكاز لكون الغسل واجباً عليها دون غسل فرجها لتدل الرواية على أن الطهارة الحدثية متقدمة على الطهارة الخبثية ، بل غسل فرجها لازم على تقدير كفاية الماء لغسلها أيضاً. فلا مناقشة في الرواية من هذه الجهة أيضاً.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣١٢ / أبواب الحيض ب ٢١ ح ١.

(٢) الجواهر ٥ : ٢٢٣.

(٣) الصحيح : على.

١٤٥

وإذا توضأ أو اغتسل حينئذ بطل (*) لأنه مأمور بالتيمّم ولا أمر بالوضوء أو الغسل (١)

______________________________________________________

نعم يرد على الاستدلال بها أمران :

أحدهما : ضعف سندها بسهل بن زياد ، وإن كان أبو عبيدة فيها موثقاً لأنه الحذاء لا المدائني بقرينة رواية ابن رئاب عنه ، لأنه الذي يروي الأصل لأبي عبيدة الحذاء.

وثانيهما : أن محل الكلام إنما هو صورة دوران الأمر بين التيمّم والوضوء على أن يكون كل واحد منهما كافياً في الطهارة في نفسه ، وليس مورد الرواية كذلك ، إذ لا بدّ للحائض من الوضوء حتى لو تيممت ولا يكفيها الوضوء وحده إذا لم تتيمم ، فلا يدور أمرها بين الوضوء والتيمّم بل يجب على الحائض الوضوء والتيمّم وهو غير محل الكلام.

فلو كانت الرواية صحيحة السند أو معتبرة لا يمكننا التعدِّي عن موردها إلى ما لو دار أمر المكلف بين التيمّم والوضوء. وكيف كان ، لا يمكن الاستدلال بالرواية في المقام نعم الأحوط أن يختار الطهارة الخبثية ويتيمم ، لأنه الموافق للشهرة والإجماع المدعى في المسألة.

المأمور بالتيمّم إذا أتى بالطهارة المائية بطلت‌

(١) إذا بنينا على ما ذكرناه من التخيير فلا إشكال في صحّة وضوئه وغسله ، وأما لو بنينا على لزوم تقديم الطهارة الخبثية على الحدثية ومع ذلك توضأ المكلف أو اغتسل وقدم الطهارة الحدثية فهل يحكم بصحتهما أو بطلانهما؟

ذهب الماتن إلى بطلانهما نظراً إلى أنه لا أمر بهما حينئذ فيقعان باطلين.

وربما يقال بصحّة الوضوء والغسل حينئذ بالترتب وأنه وإن كان مأموراً بالتيمّم‌

__________________

(*) وللصحّة وجه حتى على القول بوجوب صرف الماء في رفع الخبث.

١٤٦

ابتداء إلاّ أنه لما عصاه ولم يصرف الماء في تحصيل الطهارة الخبثية فهو واجد الماء ومأمور بالوضوء أو الغسل فيصح منه ، إذ لا موجب لرفع اليد عن أمره مطلقاً وإنما يرفع اليد عن أمره إذا صرف الماء في الطهارة الخبثية.

وقد تصحح طهارته المائية بالملاك ، لأن الوضوء أو الغسل إنما سقط الأمر به لعدم تمكن المكلف منهما مع نجاسة بدنه وثيابه لكنه مشتمل على الملاك وباقٍ على المحبوبية ومعه لا مانع من الحكم بصحته في مفروض الكلام.

ويدفعهما : أن الترتب يحتاج إلى دليل ، وهو إنما قام عليه إذا كان هناك تكليفان نفسيان أحدهما أهم من الآخر ، فان إطلاق المهم لا مناص من رفع اليد عنه بمقدار الضرورة وارتفاع الأمر بالضدّين وهو ما لو أراد امتثال التكليف بالأهم ، وأما لو عصاه فهو قادر على الإتيان به ، فالإطلاق يقتضي وجوبه ، والمحذور منحصر في الأمر بهما عرضاً لا طولاً ، وهو واضح.

وأمّا إذا فرضنا التكليف واحداً وفرضنا جعله مقيداً بقيد كالطهارة الخبثية وعصى المكلف ذلك المقيد فلا يسعنا الحكم بأنه عند عصيان القيد مقيد بقيد آخر ، لأنه أمر يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه ، بل مقتضى وقوعه مع القيد الآخر من دون أمر هو الفساد ، فلا يجري الترتب في المقام.

وأمّا الملاك فإنما يمكن استكشافه من الأمر ، ومع سقوطه تحتاج دعوى الملاك إلى علم الغيب بوجوده ، هذا.

ويمكن تصحيح الطهارة المائية حينئذ بما قدمناه من أنها مستحبات نفسية ، وقد رفعنا اليد عن استحبابها النفسي عند صرف الماء في إزالة النجاسة عن الثوب والبدن ، لأن الأمر به معجز مولوي عن الماء ، وأما لو عصاه فهو واجد للماء حقيقة والوضوء باق على استحبابه النفسي فيمكنه الإتيان به بأمره النفسي ويقع صحيحاً.

١٤٧

نعم لو لم يكن عنده ما يتيمم به أيضاً يتعين صرفه في رفع الحدث (١) لأن الأمر يدور بين الصلاة مع نجاسة البدن أو الثوب أو مع الحدث وفقد الطهورين فمراعاة رفع الحدث أهم ، مع أن الأقوى بطلان صلاة فاقد الطهورين فلا ينفعه رفع الخبث حينئذ.

[١٠٨١] مسألة ٢٣ : إذا كان معه ما يكفيه لوضوئه أو غسل بعض مواضع النجس من بدنه أو ثوبه بحيث لو تيمم أيضاً يلزم الصلاة مع النجاسة ففي تقديم رفع الخبث حينئذ على رفع الحدث إشكال ، بل لا يبعد تقديم الثاني (*) (٢)

______________________________________________________

(١) أمّا بناء على سقوط الصلاة عن فاقد الطهورين فلوضوح أن الأمر بتطهير الثوب أو البدن إنما هو لأجل الصلاة ، ومع عدم وجوبها لفقدانه الطهورين بصرفه الماء في تطهير ثوبه وبدنه لا يجب عليه تطهيرهما.

وأمّا بناء على عدم سقوطها عن فاقد الطهورين فلدوران الأمر بين صرفه الماء في تطهيرهما مع الصلاة محدثاً لأنه فاقد الطهورين فيصلي من دون تيمم ووضوء ، وبين صرفه في الوضوء والصلاة مع نجاسة الثوب أو البدن ، والثاني هو المتعين لأن تقديم ما لا بدل له على مسلكهم إنما هو في فرض بقاء الموضوع وهو الصلاة مع الطهور وأمّا لو كان تقديمه مستلزماً لفوات الموضوع فلا إجماع ولا شهرة في تقديم الطهارة الخبثية على الحدثية.

وبعبارة اخرى : أدلة تقديم الطهارة الخبثية قاصرة الشمول لمثل المقام الذي ينتفي فيه الموضوع على تقدير تقديم الطهارة الخبثية.

(٢) هناك فرعان :

أحدهما : ما إذا كانت النجاسة متعددة لكن في خصوص الثوب أو خصوص البدن ودار أمره بين صرف الماء في الوضوء والصلاة عارياً أو مع الثوب أو البدن المتنجس بنجاسة متعدِّدة وبين صرف الماء في إزالة بعض النجاسات ويصلِّي متيمماً مع بعض‌

__________________

(*) بل هو بعيد ، والأظهر التخيير وإن كان الأولى استعماله في رفع الخبث ، وكذا الحال فيما بعده.

١٤٨

نعم لو كان بدنه وثوبه كلاهما نجساً وكان معه من الماء ما يكفي لأحد الأُمور من الوضوء أو تطهير البدن أو الثوب ربما يقال بتقديم تطهير البدن والتيمّم ثم الصلاة مع نجاسة الثوب أو عرياناً على اختلاف القولين ، ولا يخلو ما ذكره من وجه.

______________________________________________________

النجاسات في ثوبه أو بدنه.

وثانيهما : ما إذا كانت النجاسة المتعددة في ثوبه وبدنه معاً بأن كانت إحداهما في ثوبه والأُخرى في بدنه ودار أمره بين الطهارة الحدثية والخبثية كما في الفرع السابق.

أمّا الفرع الأوّل : فإن بنينا على أن المانع عن الصلاة إنما هو طبيعي النجاسة وليست المانعية انحلالية ليكون كل فرد منها مانعاً مستقلا ، بل المانع هو الطبيعي ولا فرق فيه بين قلّة أفراده وكثرتها ، وكذا في نظائرها كمانعية ما لا يؤكل لحمه بأن قلنا إن المانع هو الطبيعي منه ولا اعتبار بأفراده قلّت أو كثرت ، تعين تقديم الوضوء على إزالة بعض النجاسات كما استقربه الماتن قدس‌سره ، وذلك لأنه لو صرفه في إزالة بعضها لم يرتفع المانع عن الصلاة ، بل هو باقٍ بحاله لوجود بعضها الآخر على الفرض ، ومع وجود الطبيعي لا أثر لارتفاع بعض أفراده فتلزمه الصلاة مع الحدث والخبث.

وهذا بخلاف ما لو صرف الماء في الوضوء فيصلي مع الطهارة من الحدث وإن كان ثوبه أو بدنه متنجساً بنجاسة متعددة إلاّ أن مجموعها مانع واحد ، إذ لا اعتبار بتعدد الأفراد.

إلاّ أن الكلام في صحّة هذا المبنى ، لأن المستفاد من أمثال تلكم التكاليف هو الانحلال بلا فرق بين التكاليف النفسية والضمنية. مثلاً إذا نهى المولى عن شرب الخمر استفيد منه عرفاً أن كل فرد من أفراد الخمر ممنوع عن شربه بحيث لو اضطر إلى شرب فرد منها لم يجز له شرب فرد ثانٍ منها ، لأن كل فرد منها ممنوع منه بالاستقلال ، وكذا لو أمر بالصلاة مع طهارة الثوب أو البدن فيستفاد منه عرفاً أن كل‌

١٤٩

فرد من النجس مانع عن الصلاة. ومن هنا ذكر الفقهاء أنه لا بدّ من تقليل النجس في الصلاة. فالمانعية انحلالية لا أنها مترتبة على الطبيعي.

والصحيح حينئذ أن يقال : إن إحدى النجاستين مما لا بدّ من ارتكابها في الصلاة سواء صرف الماء في الوضوء أو في إزالة النجاسة ، فإحدى النجاستين مورد الاضطرار. إذن يدور الأمر بين صرف الماء في الطهارة الحدثية أو في إزالة النجاسة الزائدة ، وهي عين المسألة السابقة. وعلى ما ذكروه لا بدّ من تقديم الطهارة الخبثية التي لا بدل لها وعلى ما ذكرنا يتخير بين الأمرين ، واحتطنا باختيار الطهارة الخبثية للشهرة المحققة والإجماع المدعى.

وأمّا الفرع الثاني : فلا يأتي فيه ما احتملناه في سابقه من كون المانعية مترتبة على الطبيعي دون الأفراد ، وذلك لأن الثوب والبدن موضوعان متغايران ، ونجاسة كل منهما مانع مستقل لا أن المانع هو الطبيعي ، وفيه حينئذ لحاظان :

أحدهما : لحاظ الدوران بين صرف الماء في الطهارة الحدثية والصلاة مع النجاسة الزائدة في ثوبه أو بدنه وبين صرفه في النجاسة الزائدة والصلاة مع التيمّم. ويأتي فيه ما قدّمناه من التخيير أو تقديم الطهارة الخبثية على الحدثية.

وثانيهما : لحاظ الدوران بين تطهير الثوب وتطهير البدن وأن أيهما مقدم على الآخر فان بنينا على أن المقام من صغريات التزاحم فلا مناص من تقديم تطهير البدن على الثوب ، لأنه معلوم الأهمية أو أنه محتملها دون العكس. وأما بناء على ما هو الصحيح من أن المورد من المتعارضين فلا وجه لتقديم أحدهما على الآخر ، وذلك لأن مقتضى القاعدة حينئذ سقوط التكليف لعدم تمكن المكلف من شرطه ، إلاّ أنّا علمنا أن الأمر بالصلاة لا يسقط بحال وأنها واجبة حينئذ إما مشروطة بطهارة الثوب أو بطهارة البدن ، واعتبار خصوصية كل واحد منهما تدفع بالأصل البراءة فينتج التخيير بين تطهير البدن أو الثوب.

١٥٠

[١٠٨٢] مسألة ٢٤ : إذا دار أمره بين ترك الصلاة في الوقت أو شرب الماء النجس كما إذا كان معه ما يكفي لوضوئه من الماء الطاهر وكان معه ماء نجس بمقدار حاجته لشربه ومع ذلك لم يكن معه ما يتيمّم به بحيث لو شرب الماء الطاهر بقي فاقد الطهورين ففي تقديم أيهما إشكال (*) (١)

[١٠٨٣] مسألة ٢٥ : إذا كان معه ما يمكن تحصيل أحد الأمرين من ماء الوضوء أو الساتر لا يبعد ترجيح الساتر والانتقال إلى التيمّم لكن لا يخلو عن إشكال (**) ، والأولى صرفه في تحصيل الساتر أوّلاً ليتحقق كونه فاقد الماء ثم يتيمّم (٢).

______________________________________________________

الدوران بين الترك في الوقت أو شرب النجس‌

(١) بل قدم بعضهم ترك الصلاة في الوقت لئلاّ يشرب الماء النجس وهو كالاستشكال في ذلك عجيب ، فان المورد من موارد التزاحم ولا بدّ فيه من ملاحظة الأهم واختياره على تقدير الوجود ، والتخيير على تقدير التساوي.

والظاهر أنه لا إشكال في أهمية الصلاة في وقتها على ترك شرب النجس ، كيف وهي عماد الدين وهي الفارق بين المسلم والكافر وغير ذلك مما ورد في حق الصلاة (١) ومع أهميتها لا وجه للتوقف في الحكم بلزوم الصلاة في وقتها وإن استلزم شرب الماء النجس ، ولا سيما أنه ليس من الكبائر التي أوعد الله عليها النار في كتابه العزيز.

الدوران بين تحصيل الماء أو الساتر‌

(٢) هذه المسألة من فروع الكبرى المتقدمة ما إذا دار الأمر فيه بين [ ما ] لا بدل‌

__________________

(*) أظهره تقديم الصلاة عن طهارة.

(**) والأظهر التخيير ، وكذا الحال فيما بعده.

(١) الوسائل ٤ : ٢٣ / أبواب أعداد الفرائض ب ٦ ، ١١ ، وغيرهما.

١٥١

وإذا دار الأمر بين تحصيل الماء أو القبلة ففي تقديم أيهما إشكال (١).

______________________________________________________

له وما له البدل وأنه يقدم الأوّل لأهميته حيث إن الساتر لا بدل له بخلاف الطهارة المائية ، ولهذا يتقدم الساتر وينتقل الأمر إلى التيمّم.

وقد ظهرت المناقشة في ذلك مما سردناه سابقاً ، حيث قلنا إن تلك الموارد خارجة عن باب التزاحم وداخلة في كبرى التعارض ، لأن التزاحم إنما يقع بين التكليفين النفسيين دون ما إذا كان التكليف واحداً ودار الأمر فيه بين شرط وشرط آخر ومقتضى القاعدة حينئذ سقوط التكليف رأساً لعدم التمكن من شرطه ، لكنّا علمنا أن الصلاة لا تسقط بحال فيتعارض ما دل على شرطية كل من الوضوء والساتر ، ولا يمكن التحفّظ على كليهما ، وينفى احتمال شرطية خصوص أحدهما بأصل البراءة والنتيجة حينئذ هي التخيير ، هذا.

على أنّا لو سلمنا كونهما متزاحمين فليس أحدهما مما لا بدل له دون الآخر بل كلاهما ممّا له البدل ، وذلك لأن الطهارة المائية والتستر واجبان ضمنيان ، ولا وجه لملاحظتهما في نفسهما ، بل لا بدّ من ملاحظة الواجب النفسي الذي اعتبر ذلك الشرط قيداً له وهو الصلاة. ولا إشكال في أن الصلاة مع الطهارة المائية والصلاة مع الساتر لهما بدل وهو الصلاة مع الطهارة الترابية والصلاة عارياً.

إذن لا تنطبق الكبرى المتقدمة على المقام ولو مع البناء على أنه من التزاحم لا التعارض ، بل الحكم فيه هو التخيير ، نعم الأحوط ما ذكره الماتن قدس‌سره من تحصيل الساتر أوّلاً ليتحقق كونه فاقد الماء ثم يتيمم ويصلِّي.

الدوران بين تحصيل الماء أو القبلة‌

(١) الظاهر أن المسألة لا إشكال فيها ، لأنها كما تقدم من باب التعارض دون التزاحم ، لاختصاصه بالتكليفين النفسيين ، وليس المقام كذلك لوحدة التكليف ودوران الأمر بين شرط وشرط آخر ، وإطلاق كل من دليلي الشرطين يتساقطان وتنفى شرطية خصوص كل واحد منهما بالبراءة والنتيجة هي التخيير ، هذا.

١٥٢

السابع : ضيق الوقت عن استعمال الماء (١) بحيث لزم من الوضوء أو الغسل خروج وقت الصلاة ولو كان لوقوع جزء منها خارج الوقت.

______________________________________________________

على أنهما لو كانا من المتزاحمين لا يدخلان تحت كبرى دوران الأمر بين ما لا بدل له وما له البدل ، وذلك لأن القبلة على المختار وإن كانت هي نفس الكعبة المشرفة إلاّ أنها بالإضافة إلى من لا يتمكّن من التوجه إليها متسعة وهي ما بين المشرق والمغرب وليست القبلة بمعنى التوجه إلى نفس الكعبة مثل الطهور مما ينتفي بانتفائه الصلاة ، وإن ورد « لا صلاة إلاّ إلى القبلة » (١) إلاّ أنه محمول على صلاة المختار المتمكن من التوجه إليها جمعاً بينه وبين ما دل على صحّة الصلاة إلى غير القبلة عند العجز عنها ، كما أن التيمّم بدل الطهارة المائية.

إذن لكل من الصلاة مع الطهارة المائية والصلاة مع التوجّه إلى نفس الكعبة بدل فان البدلية لا بدّ من أن تلاحظ بالإضافة إلى الصلاة التي هي الواجب النفسي دون شرطها.

إذن فالصحيح ما ذكرناه من أن المقام من المتعارضين والحكم فيه هو التخيير. وهذا سارٍ في كل مورد دار الأمر فيه بين شرط وشرط آخر ، نعم على تقدير كونه من باب التزاحم لا يبعد أن تكون القبلة مرجحة على الطهارة المائية ، لما ورد من أنه « لا صلاة إلاّ إلى القبلة » ولم يرد لا صلاة إلاّ مع الطهارة المائية.

السابع من مسوغات التيمّم‌

(١) المسألة متسالم عليها بين الأصحاب ، بل ظاهر العلامة في المنتهي (٢) أنها إجماعية ، لأنه نسب القول بالعدم إلى بعض العامّة. وتفصيل الكلام فيها يقع في مسائل ثلاث :

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٠٠ / أبواب القبلة ب ٢ ، ١٠ ح ٩ ، ٢ ، وغيرهما من الموارد.

(٢) المنتهي ٣ : ٣٨.

١٥٣

المسألة الأُولى : ما إذا فرضنا أن الطهارة المائية تقتضي وقوع الصلاة بتمامها خارج الوقت فهل يجب على المكلف أن يتيمم ليوقع الصلاة في وقتها أو أنه فاقد الطهورين فهو لا يكلف بالصلاة؟

المعروف بل المتسالم عليه بينهم هو وجوب التيمّم ، لكن نسب الخلاف في المسألة صريحاً إلى الشيخ حسين آل عصفور (١) حيث ذهب إلى أن المكلف فاقد الطهورين ولا يجب عليه الوضوء لاستلزامه تأخير الفريضة عن وقتها ، كما لا يجب عليه التيمّم لكونه واجد الماء والتيمّم مشروع لفاقده.

ويمكن إسناد الخلاف في المقام إلى صاحب المدارك (٢) والشرائع (٣) وكشف اللثام (٤) وجامع المقاصد (٥) قدس‌سرهم وغيرهم ، لأنهم في المسألة المعروفة وهي ما إذا كان الماء موجوداً عنده إلاّ أنه أخل باستعماله وأخر الصلاة إلى أن ضاق الوقت عن الطهارة المائية والأداء ذهبوا إلى عدم مشروعية التيمّم لضيق الوقت.

وعلّله في المدارك بما يشمل المقام ، حيث ذكر بعد ما عنون المسألة : إن فيها قولين أظهرهما الأوّل يعني يتطهر ويقضي وهو خيرة المصنف في المعتبر ، لأن الصلاة واجب مشروط بالطهارة ، والتيمّم إنما يسوغ مع العجز عن استعمال الماء ، والحال أن المكلف واجد للماء متمكن من استعماله غاية الأمر أن الوقت لا يتسع لذلك ، ولم يثبت كون ذلك مسوغاً للتيمم. وتعليله هذا كما ترى شامل لمسألتنا أيضاً.

ثمّ (٦) يمكن المناقشة في ذلك بأن ظاهر المدارك اعتبار كون المكلف فاقداً للماء في طبعه في مشروعية التيمّم ، وليس الأمر كذلك في المسألة المعروفة ، لأنه واجد للماء طبعاً وإنما صار فاقداً له بتأخير صلاته اختياراً ، وهذا يخالف مسألتنا التي نبحث عنها لأن‌

__________________

(١) لم نعثر على ذلك.

(٢) المدارك ٢ : ١٨٥.

(٣) المعتبر ١ : ٣٦٦.

(٤) كشف اللثام ٢ : ٤٣٦.

(٥) جامع المقاصد ١ : ٤٦٧.

(٦) المناسب : نعم.

١٥٤

______________________________________________________

المكلف فاقد للماء في طبعه لا باختياره. فالمخالف الصريح هو الشيخ حسين آل عصفور فقط.

والصحيح في مسألتنا هو وجوب التيمّم لأجل ضيق الوقت ، وذلك لدلالة الآية الكريمة (١) والروايات (٢) عليه ، حيث إن المستفاد منهما بحسب الفهم العرفي أن المراد من عدم الوجدان هو عدم التمكن من استعمال الماء في الوضوء والغسل لا عدم التمكن منه مطلقاً وبالإضافة إلى جميع الأُمور ، وأن مدلولها أن من تمكن من الوضوء يتوضأ ومن تمكن من الغسل يغتسل ومن لم يتمكّن منهما يتيمّم وإن كان متمكناً من استعمال الماء في مثل الشرب وتنظيف ثوبه أو بدنه ونحوها ، وذلك لوضوح أن المكلف إذا كان متمكناً من شرب الماء واستعماله في التنظيف وشبهه لترخيص المالك إياه في ذلك ولم يتمكن من صرف الماء في الغسل أو الوضوء شرع له التيمّم بدلاً عنهما.

وذلك لصدق أنه فاقد الماء أي بالإضافة إلى الوضوء والغسل ، وحيث إن المكلف في مفروض المسألة لا يتمكن من استعمال الماء في الوضوء أو الاغتسال ولو لأجل ضيق الوقت جاز له التيمّم ووجب عليه الصلاة مع الطهارة الترابية.

إذن لا نحتاج في استفادة حكم المسألة إلى القرائن الخارجية وإنما نستفيده من نفس الآية والأخبار.

نعم لو أغمضنا عن ذلك وفرضنا أن المكلف لا يصدق عليه في المقام أنه فاقد الماء دخل المقام في كبرى فاقد الطهورين فلا يجب عليه الوضوء لاستلزامه تفويت الفريضة ولا يجب التيمّم لأنه واجد الماء.

إلاّ أنه مع ذلك لا بدّ من الالتزام بوجوب التيمّم ، وذلك لأنّا قد علمنا ببركة الإجماع القطعي وما ورد في المستحاضة من أنها لا تدع الصلاة بحال (٣) أن الصلاة واجبة على كل مكلف ، كما استفدنا ببركة ما دل على أنه « لا صلاة إلاّ بطهور » (٤) أن‌

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

(٢) الوسائل ٣ : ٣٤١ / أبواب التيمّم ب ١ ، ٢ ، وغيرهما.

(٣) الوسائل ٢ : ٣٧٣ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٥.

(٤) الوسائل ٢ : ٢٠٣ / أبواب الجنابة ب ١٤ ح ٢ وغيره من الموارد.

١٥٥

وربما يقال : إن المناط عدم إدراك ركعة منها في الوقت ، فلو دار الأمر بين التيمّم وإدراك تمام الوقت أو الوضوء وإدراك ركعة أو أزيد قدم الثاني ، لأنّ من أدرك ركعة من الوقت فقد أدرك الوقت ، لكن الأقوى ما ذكرنا. والقاعدة مختصة بما إذا لم يبق من الوقت فعلاً إلاّ مقدار ركعة ، فلا تشمل ما إذا بقي بمقدار تمام الصلاة ويؤخرها إلى أن يبقى مقدار ركعة ، فالمسألة من باب الدوران بين مراعاة الوقت ومراعاة الطهارة المائية ، والأوّل أهم ،

______________________________________________________

الصلاة يعتبر فيها الطهارة ، وعلمنا ببركة أدلة البدلية أن طهور من لا يتمكن من الماء هو التراب ، وبهذه الأدلة الثلاثة نجزم بأن المكلف مأمور بالصلاة في المقام وطهارته هي التراب فيجب عليه الصلاة مع الطهارة الترابية.

المسألة الثانية : ما إذا كانت الطهارة المائية مستلزمة لوقوع الصلاة خارج الوقت إلاّ بمقدار ركعة أو أكثر فهل تجب الطهارة المائية والصلاة في الوقت ركعة وإتمامها خارج الوقت ، أو أن اللازم هو الطهارة الترابية وإتيان الصلاة بتمامها في الوقت؟

ذكروا أن الأمر في المسألة يدور بين مراعاة الوقت ومراعاة الطهارة المائية ، وذلك لما دلّ على أن « من أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة » (١) وهو من باب التزاحم ويقدم فيه معلوم الأهمية أو محتملها على الآخر ، وحيث علمنا أن مراعاة الوقت أهم فيقدم فيتيمم ويأتي بالصلاة بتمامها في الوقت.

ولكن الماتن قدس‌سره احتاط مع هذا بالقضاء خارج الوقت خصوصاً إذا كان الواقع خارج الوقت شيئاً قليلا ، لعدم إحراز أو احتمال الأهمية حينئذ في الوقت.

وفيه : ما ذكرناه سابقاً من أن التزاحم إنما يتصور بين التكليفين النفسيين دون التكليف الواحد إذا دار الأمر فيه بين شرط وشرط آخر أو بين جزء وجزء آخر ، فهو خارج عن باب التزاحم رأساً ، ومقتضى القاعدة فيه هو السقوط ، لعدم إمكان امتثال‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢١٨ / أبواب المواقيت ب ٣٠ ح ٤ وغيره ممّا هو بهذا المضمون.

١٥٦

ومن المعلوم أن الوقت معتبر في تمام أجزاء الصلاة فمع استلزام الطهارة المائية خروج جزء من أجزائها خارج الوقت لا يجوز تحصيلها بل ينتقل إلى التيمّم ، لكن الأحوط القضاء مع ذلك خصوصاً (*) إذا استلزم وقوع جزء من الركعة خارج الوقت.

______________________________________________________

التكليف الواحد المتعلق بالجميع على الفرض ، ويحتاج إثبات الأمر بالفاقد لجزئه أو شرطه إلى دليل ، وهو موجود في باب الصلاة فإنها لا تسقط بحال.

إذن مقتضى ما دل على اعتبار الوقت أن الصلاة في حق المكلف مشروطة بالوقت كما أن مقتضى ما دل على اعتبار الطهارة المائية اشتراط الصلاة بها فيتعارضان ويتساقطان فيتخيّر المكلف بين مراعاة القبلة (١) أو الطهور بالماء ، هذا.

ولكن التعارض مبني على ما دلّ على أن « من أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة » (٢) يشمل المقام ، إذ بعد هذا التنزيل يقع التعارض بين الدليلين ، لأن مقتضى هذا التنزيل أن المكلف لا بدّ أن يصلِّي مع الوضوء لأنه وإن كان لا يدرك من الصلاة حينئذ إلاّ ركعة واحدة إلاّ أن من أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة ، كما أن مقتضى أدلّة اعتبار الوقت هو الانتقال إلى التيمّم فيتعارضان.

إلاّ أن التعارض غير صحيح ، لأن بعض أدلّة « من أدرك ... » وإن كان طريقه صحيحاً حيث وردت فيه جملة روايات كلها ضعاف سوى رواية واحدة وردت في صلاة الغداة (٣) لكنّا نقطع بعدم الفرق بين الغداة وباقي الفرائض إلاّ أن موضوعها مَن لم يتمكّن من الإتيان بطبيعي الصلاة بتمامها في الوقت ، لوضوح أنها لا تدل على جواز تأخير الصلاة اختياراً إلى أن يبقى من الوقت مقدار ركعة واحدة.

ومن الظاهر أن الدليل لا يحرز موضوعه وهو غير المتمكن من الصلاة بتمامها في‌

__________________

(*) الظاهر لزوم الطهارة المائية في هذا الفرض.

(١) المناسب : الوقت.

(٢) تقدّمت قريباً.

(٣) الوسائل ٤ : ٢١٧ / أبواب المواقيت ب ٣٠ ح ١.

١٥٧

الوقت في المقام ، ولا نظر له إلى إتيانه ، ومقتضى أدلة بدلية التراب أن المكلف متمكن من إتيان الصلاة بتمامها في وقتها فلا يكون المكلف مشمولاً لقاعدة من أدرك ، ولا تقع المعارضة بين الدليلين بل لا بدّ للمكلف من أن يتيمم ويصلِّي.

وهذا من غير فرق في ذلك بين أن يكون ما يقع خارج الوقت بمقدار ركعة أو أكثر أو أقل ، لأنه متمكن من إيقاع الصلاة بتمامها في الوقت إذا تيمم وهو بدل الوضوء فلا يسوغ له أن يتوضأ لتقع ركعة من صلاته أو أقل منها خارج الوقت ، لما مرّ من أن قاعدة من أدرك لا تشمل المقام.

المسألة الثالثة : ما إذا كان بعض أجزاء الصلاة واقعاً خارج الوقت على كل حال إلاّ أنه لو توضأ كان الواقع خارج الوقت أكثر مما لو تيمم ، كما لو فرضنا أن الركعة الرابعة لا بدّ أن تقع خارج الوقت على كل حال إلاّ أنه لو توضأ وقعت الركعة الثالثة معها خارج الوقت أيضاً ولو تيمم لا يقع من الصلاة خارج الوقت إلاّ الركعة الرابعة فهل لا بدّ من التيمّم أو أنه يتوضأ على خلاف المسألتين السابقتين؟

لم يتعرض الماتن قدس‌سره لهذه المسألة ، وهي تختلف باختلاف المسلكين ، فان بنينا على أن أمثال هذه المسألة داخلة في باب التزاحم فلا بدّ إما أن نلتزم بوجوب الوضوء أو التخيير بينه وبين التيمّم ، وذلك لوقوع التزاحم حينئذ بين الطهارة المائية والوقت ، لأنه لو تحفّظ على الطهارة المائية وقعت الركعة الثالثة خارج الوقت ولو تحفظ على الوقت في تلكم الركعة لم يتمكن من الطهارة المائية ، ولا بدّ معه من ملاحظة الأهم في البين ، ولا ينبغي الارتياب في أن الوقت أهم من الطهارة المائية حسبما تفيده النصوص ويشهد به القطع الخارجي.

إلاّ أن ذلك إنما هو في مجموع الصلاة ، فإنه لو دار الأمر بين أن يتوضأ ويصلِّي خارج الوقت وبين أن يصلِّي في الوقت بتيمم يقدم التيمّم على الوضوء تحفظاً على الوقت. وأما أهمية الوقت في بعض أجزاء الصلاة مثل الركعة الثالثة في مثالنا المتقدم بعد فرض أن بعضها لا بدّ أن يقع خارج الوقت فلم يثبت بدليل ، كما أنّا لا نحتمل فيه الأهمية. إذن لا بدّ من الحكم بالتخيير بين الأمرين أو تقديم الطهارة المائية لو قلنا بأهميتها.

١٥٨

[١٠٨٤] مسألة ٢٦ : إذا كان واجداً للماء وأخر الصلاة عمداً إلى أن ضاق الوقت عصى ولكن يجب عليه التيمّم والصلاة ولا يلزم القضاء وإن كان الأحوط احتياطاً شديدا (١).

______________________________________________________

ولو بنينا على ما سلكناه من أنّ أمثال المقام خارج عن باب التزاحم وداخل في باب التعارض فمقتضى القاعدة هو سقوط الأمر بالصلاة رأساً ، لعدم تمكن المكلف من شرطها وهو إيقاعها بتمامها في الوقت ، لفرض أن بعضها لا بدّ من وقوعه خارج الوقت. إلاّ أن الأخبار الواردة في أن « من أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة » (١) تدلّنا على أن الصلاة ليست ساقطة عن المكلف في مفروض الكلام وأنه متمكن من الوقت لتمكنه من إيقاع ركعة واحدة في وقتها مع الطهارة المائية ، لأن من أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة.

ولا فرق فيها حسب إطلاقها بين أن يكون الواقع خارج الوقت ركعة أو أقل أو أكثر ، لأن المدار على إدراك ركعة واحدة في الوقت ، وعليه يتعين الوضوء عليه والصلاة وإن وقع خارج الوقت حينئذ أكثر من ركعة وأكثر مما يقع في خارج الوقت لو تيمم.

الواجد إذا آخر الصلاة إلى أن ضاق الوقت‌

(١) هذه هي المسألة المعروفة التي تقدمت الإشارة إلى أنها محل الكلام عند الأصحاب. والمعروف فيها بينهم هو ما ذهب إليه الماتن قدس‌سره ، إلاّ أن جماعة مثل المحقق في المعتبر وكاشف اللثام وجامع المقاصد والمدارك ذهبوا إلى وجوب القضاء خارج الوقت مع الطهارة المائية ولا تشرع له الصلاة في الوقت مع التيمّم (٢) معلّلين ذلك بأن المكلف واجد للماء.

__________________

(١) تقدّمت قريباً.

(٢) وقد تقدّمت مصادر أقوالهم في ص ١٥٤.

١٥٩

وهذا هو الموافق للفهم العرفي والمستفاد من آية التيمّم وأخباره ، وذلك لأن المستفاد منهما أن التيمّم وظيفة من كان فاقد الماء بالإضافة إلى طبيعي الصلاة أي بما لها من الأفراد العرضية والطولية لوضوح أن من كان فاقداً للماء بالإضافة إلى الصلاة في السرداب مع كونه واجداً له بالنسبة إلى الصلاة في ساحة الدار لا يشرع التيمّم في حقه. وكذا من كان فاقداً للماء في أوّل الوقت لكونه مسافراً أو معذوراً بعذر آخر مع أنه واجد للماء ومتمكن منه آخر الوقت لا يشرع التيمّم في حقه ، فان المسوغ إنما هو الفقدان بالنسبة إلى طبيعي الصلاة لا أفرادها.

وحيث إن المكلف في المقام واجد للماء بالإضافة إلى الطبيعي ، لأن مفروض الكلام ما إذا كان واجداً للماء في أوّل الوقت فلا يشرع له التيمّم بمجرّد كونه فاقداً له بالإضافة إلى الفرد الذي يريد الإتيان به آخر الوقت ، لأنه إنما صار فاقداً له بالاختيار.

وصاحب المدارك قدس‌سره لا يرى الفقدان بالاختيار مسوغاً للتيمم ، بل المسوغ عنده إنما هو الفقدان الطبيعي ومن كان فاقداً للماء بطبيعة الحال لا من عجّز نفسه من الماء وأدرجها في الفاقد بالاختيار كما هو الحال في المقام.

وهذا هو الموافق للارتكاز العرفي في أمثال المقام ، فإذا أمر المولى عبده بطبخ الطعام مع الماء ، وعلى تقدير عدم التمكن منه أو العجز عنه أمره بشراء الخبز مثلاً ، ثم العبد أراق الماء باختياره ليندرج في موضوع وجوب شراء الخبز فان الفهم العرفي يقتضي عدم كفاية هذا العجز والفقدان في وجوب شراء الخبز في حقه.

وهذا هو الحال فيما إذا كان الوقت واسعاً أيضاً ، لعدم اختصاصه بضيق الوقت ، فلو أراق الماء أو صرفه في شي‌ء آخر أول الوقت مع عدم تمكنه منه إلى آخر الوقت فلا يسوغ له التيمّم بمقتضى ما يستفاد من الآية المباركة والأخبار وما هو المرتكز فيما لو كان الحكم معلقاً على عنوان اضطراري كعدم التمكّن وعدم القدرة وعدم التيسر ونحوها ، فلا يشمل الحكم من عجّز نفسه بالاختيار كما قدّمناه (١) في مسألة ما إذا كان‌

__________________

(١) في ص ١٠٥ ١٠٧.

١٦٠