موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

الخوف موضوع لجواز التيمّم لا أنه طريق إليه ، والمدار على احتمال الضرر لا على الضرر الواقعي كما قدّمناه وقلنا : إن المريض غالباً يحتمل الضرر في استعماله الماء ببطء مرضه أو صعوبة علاجه ونحوهما ، والقطع بالضرر نادر جدّاً. إذن فهو عند خوفه من الضرر باستعمال الماء يجب عليه التيمّم واقعاً وقد أتى بما هو الواجب في حقه فلا وجه للحكم ببطلانه ووجوب الإعادة عليه. هذا إذا خاف الضرر ، وأما لو اعتقد تضرره بالماء فحكمه كذلك بطريق أولى ، إذ لا يحتمل مع الاعتقاد انتفاء الضرر أصلاً بخلاف الخوف من الضرر ، فلو ثبت الحكم المذكور عند الخوف ثبت مع اعتقاد الضرر بطريق أولى.

ويندفع : بأنّا لو سلمنا ما ذكره من أن الخوف موضوع للحكم بجواز التيمّم وليس طريقاً إلى الضرر ، ولم نقل إنه خلاف المتفاهم العرفي من مثل قوله : « يخاف على نفسه من البرد » (١) لأن الظاهر من الخوف وغيره من الأوصاف النفسانية هو الطريقية ، كما في الظن بل اليقين كما في قوله تعالى ( حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) (٢) مع ذلك أيضاً لا يمكننا المساعدة على ما أفاده حتى فيما إذا كان اعتقاده أو خوفه مطابقاً للواقع بأن كان استعمال الماء مضراً بحاله واقعاً.

وذلك لأن الموضوع للحكم بجواز التيمّم إنما هو الخوف المستوعب للوقت لا الخوف ساعة ، حتى لو كان مضراً واقعاً في تلك الساعة فلا نلتزم بصحته فضلاً عما إذا لم يكن مضراً واقعاً.

وأما الصورة الثانية أعني ما إذا انكشف الخلاف وعدم الضرر قبل الصلاة فقد جزم الماتن قدس‌سره فيها ببطلان التيمّم ، وهو الصحيح.

وليس الوجه في ذلك ما قد يتوهم من أن القدر المتيقن من أدلّة مسوغية الخوف للتيمم ما إذا كان موضوع المشروعية وهو الخوف باقياً ، وأما إذا ارتفع لانكشاف عدم الضرر فلا بدّ من الرجوع إلى عموم أو إطلاق ما دل على وجوب الوضوء أو‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٤٨ / أبواب التيمّم ب ٥ ح ٧ ، ٨.

(٢) البقرة ٢ : ١٨٧.

١٢١

الغسل.

وذلك لأن ما دل على مسوغية الخوف للتيمم مثل قوله : « لو يخاف على نفسه من البرد لا يغتسل ويتيمم » أو قوله تعالى ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى ) (١) بالتقريب المتقدم حيث قلنا إن المريض غالباً يحتمل الضرر في استعمال الماء لا أنه يقطع بالضرر ليس فيه أي إجمال حتى يؤخذ بالقدر المتيقن منه ، بل هو مطلق يعم ما إذا بقي الخوف وما إذا ارتفع تمسكاً بإطلاقه ، بل الأمر كذلك حتى مع قطع النظر عن هذا الإطلاق لأن الخوف المتأخر الباقي لا يؤثر في مسوغية الخوف الحادث السابق ، ولا يكون ارتفاعه موجباً لسقوط ما سبق من الخوف عن الموضوعية والمسبوقية ، ومع الشك يرجع إلى إطلاق أدلة الخوف لا إلى إطلاق أدلة وجوب الوضوء أو الغسل.

بل الوجه فيما أفاده الماتن قدس‌سره ما دلّ على أن وجدان الماء ناقض للتيمم كناقضية الحدث للطهارة المائية ، وحيث إنه انكشف الخلاف وتبين أنه متمكن من استعمال الماء فقد صار واجداً للماء وهو ناقض للتيمم. هذا كله في إحدى صورتي عمل المكلف بوظيفته الفعلية.

والصورة الأُخرى وهي ما إذا اعتقد عدم الضرر في استعمال الماء فتوضأ أو اغتسل ثم انكشف ضرره في حقه ولزوم التيمّم عليه فقد ذهب الماتن قدس‌سره فيها إلى صحّة وضوئه أو غسله وعدم وجوب التيمّم عليه ، وهذا هو الصحيح.

وذلك لأن الضرر الواقعي إذا لم يبلغ مرتبة الحرمة كالحرج ، وقلنا في المسألة السابقة بتخيّر المكلف بين الوضوء أو الغسل وبين التيمّم خلافاً للمحقق النائيني قدس‌سره لا يكون هنا نقض لوضوئه أو غسله.

وتوضيحه : أن قاعدتي نفي الضرر والحرج إن قلنا بأنهما تختصان بالأحكام الإلزامية دون أن تشمل الأحكام الترخيصية والاستحباب النفسي للوضوء وغيره من الطهارات الثلاثة حتى فيما علمنا بالضرر فضلاً عمّا إذا احتملناه كما في المقام فلا إشكال.

__________________

(١) النساء ٤ : ٤٣.

١٢٢

وكذلك الحال فيما لو لم نقل بالاختصاص ولم نقل بالتخيير في المسألة السابقة وذلك لأن دليل نفي الضرر والحرج إنما وردا للامتنان على الأُمة ولا امتنان في شمولهما للمقام ، لأن الحكم ببطلان الغسل أو الوضوء السابق وإعادة الطهور بالتيمّم ليس فيه امتنان على العباد. إذن لا وجه للحكم بالبطلان ووجوب التيمّم حينئذ.

وأمّا إذا بلغ الضرر مرتبة الحرمة فقد يقال بالبطلان نظراً إلى حرمة الوضوء حينئذ حرمة واقعية ، والأمر المحرم المبغوض للمولى لا يمكن أن يقع مصداقاً للواجب فيبطل.

ولا يبتني هذا على جواز اجتماع الأمر والنهي أو امتناعه ، لأن القائل بالجواز لا يلتزم بالصحّة في أمثال المقام مما لا يكون هناك معنونان وعنوانان اجتمعا في مورد واحد اتفاقاً ، بل المعنون شي‌ء واحد له حكمان ، فإن أفعال الغسل والوضوء حين التضرر محرمة ، لأن المحرم وإن كان هو عنوان الضرر إلاّ أنه لما كان أمراً توليدياً من الوضوء والغسل كان نفس الوضوء والغسل بذاتهما محرمين كما أنهما بذاتهما واجبان فليس هناك معنونان.

وفي مثله لا بدّ من الالتزام بالبطلان كما التزمنا به في صورة الوضوء بالماء المغصوب جهلاً بالغصبية ، لأن المحرم لا يمكن صيرورته مصداقاً للواجب ، هذا.

ويمكن الجواب عن ذلك بما ذكرناه في مبحث الوضوء من أنه لو توضأ بالماء المغصوب ناسياً لغصبيته وقع وضوءه صحيحاً ، لأن النسيان يرفع الحرمة واقعاً لعدم إمكان تكليف الناسي ، ومع عدم الحرمة لا يمكن استكشاف المبغوضية فيقع الوضوء صحيحاً ومتعلقاً للوجوب لا محالة.

وهذا غير الجهل بالغصبية ، إذ مع الجهل لا ترتفع الحرمة الواقعية ، ومع بقاء الحرمة لا يمكن الحكم بصحّة الوضوء لأنه لا يمكن أن يكون الحرام مصداقاً للواجب (١).

ومقامنا هذا من قبيل النسيان لا الجهل ، لأن المدار في سقوط الحكم الواقعي وعدم إمكان التكليف الواقعي عدم قابلية الحكم للبعث أو الانزجار به ، فان الحكم إنما هو‌

__________________

(١) شرح العروة ٥ : ٣١٧ فما بعد.

١٢٣

[١٠٧٨] مسألة ٢٠ : إذا أجنب عمداً مع العلم بكون استعمال الماء مضراً وجب التيمّم وصح عمله لكن لمّا ذكر بعض العلماء وجوب الغسل في الصورة المفروضة وإن كان مضراً (١)

______________________________________________________

لأجل أن ينبعث المكلف عن بعثه وينزجر عن زجره ، وهذا لا يتصور في النسيان أو اعتقاد الخلاف كما في المقام ، لأنه اعتقد عدم الضرر فتوضأ أو اغتسل ومعه لا يمكنه الانبعاث والانزجار بنهي الشارع عن ارتكاب الضرر أو الأمر بتركه فاذا سقطت الحرمة واقعاً فلا وجه لبطلان الوضوء أو الغسل ، بل الصحيح أن يحكم بصحتهما.

الإجناب عمداً مع العلم بضررية الماء‌

(١) نسب ذلك إلى الشيخ (١) والصدوق (٢) والمفيد (٣) قدس‌سرهم واختاره في الوسائل وعقد باباً عنونه بباب وجوب تحمل المشقة الشديدة في الغسل لمن تعمد الجنابة (٤) وذهب إليه غيرهم. وكأن ذلك من جهة أن تجويز التيمّم في حق من احتمل الضرر من باب الإرفاق والامتنان ، ولا إرفاق بمن أجنب نفسه متعمداً.

إلاّ أن المعروف عندهم عدم الفرق بين من أجنب نفسه متعمداً وبين من أجنب من دون تعمد ، فان كلا منهما إذا احتمل الضرر في غسله ينتقل إلى التيمّم.

ومنشأ الاختلاف بينهم هو اختلاف الأنظار فيما يستفاد من الأخبار ، فقد ورد في مرفوعة علي بن أحمد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن مجدور أصابته جنابة ، قال : إن كان أجنب هو فليغتسل وإن كان احتلم فليتيمم » (٥).

__________________

(١) الخلاف ١ : ١٥٦ مسألة ١٠٨.

(٢) الهداية : ١٩.

(٣) المقنعة : ٦٠.

(٤) الوسائل ٣ : ٣٧٣ / أبواب التيمّم ب ١٧.

(٥) الوسائل ٣ : ٣٧٣ / أبواب التيمّم ب ١٧ ح ١.

١٢٤

وفي مرفوعة إبراهيم بن هاشم قال : « إن أجنب فعليه أن يغتسل على ما كان منه وإن احتلم يتيمم » (١).

وهاتان الروايتان كالصريح في المدعى ، إلاّ أنهما ضعيفتان من حيث السند فلا يمكن الاعتماد عليهما. ولا يمكن دعوى انجبارهما بعمل الأصحاب [ لتكونا ] كالصحيحة أو الموثقة في الاعتبار ، لما تقدّم من أن المعروف بينهم عدم الفرق بين متعمد الجنابة وبين المجنب لا عن اختياره.

وفي صحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه « سئل عن رجل كان في أرض باردة فتخوف إن هو اغتسل أن يصيبه عنت ( مشقة ) من الغسل كيف يصنع؟ قال : يغتسل وإن أصابه ما أصابه ، قال : وذكر أنه كان وجعاً شديد الوجع فأصابته جنابة وهو في مكان بارد وكانت ليلة شديدة الريح باردة فدعوت الغلمة فقلت لهم : احملوني فاغسلوني ، فقالوا : إنّا نخاف عليك ، فقلت لهم : ليس بدّ فحملوني ووضعوني على خشبات ثم صبوا الماء فغسلوني » (٢).

وفي صحيحة محمد بن مسلم قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل تصيبه الجنابة في أرض باردة ولا يجد الماء وعسى أن يكون الماء جامداً ، فقال : يغتسل على ما كان. حدثه رجل أنه فعل ذلك فمرض شهراً من البرد فقال عليه‌السلام : اغتسل على ما كان فإنه لا بدّ من الغسل. وذكر أبو عبد الله عليه‌السلام أنه اضطر إليه وهو مريض فأتوه به مسخناً فاغتسل » (٣).

وهاتان الروايتان صحيحتان من حيث السند ، إلاّ أن دلالتهما قاصرة ، فإنه لم يذكر فيهما أن الجنابة كانت اختيارية بل هما مطلقتان ، فيحتمل أن يكون وجوب الاغتسال على من أصابته الجنابة مطلقاً مع المشقة فيه حكماً مختصاً به ولم تكن المشقة‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٧٣ / أبواب التيمّم ب ١٧ ح ٢.

(٢) الوسائل ٣ : ٣٧٣ / أبواب التيمّم ب ١٧ ح ٣.

(٣) الوسائل ٣ : ٣٧٤ / أبواب التيمّم ب ١٧ ح ٤.

١٢٥

موجبة لارتفاع وجوب الغسل عنه.

نعم ذكر صاحب الوسائل قدس‌سره أن ذيل الروايتين قرينة على اختصاص الجنابة بالعمد ، لما ورد في الرواية الصحيحة من أن الإمام عليه‌السلام لا يحتلم فتكون الجنابة في الصحيحتين يراد منها الجنابة العمدية.

وفيه : أنّا لو سلمنا أن الإمام عليه‌السلام لا يحتلم مع أن الاحتلام ليس نقصاً على الإنسان حتى يتنزّه عنه ، بل هو أمر عادي طبيعي للإنسان فمع ذلك لا يمكن المساعدة عليه ، لأنه عليه‌السلام ذكر الحكم في صدر الصحيحتين على نحو الكبرى الكلية ثم طبقها على نفسه ، فليست الصحيحة واردة في خصوص المتعمد ، والمرفوعتان المتقدمتان لا تقبلان أن تكونا قرينة على الاختصاص لضعفهما ، والصحيحتان مطلقتان.

والنسبة بينهما وبين الآية المباركة والأخبار الواردة في أن الوظيفة عند احتمال الضرر تنتقل إلى التيمّم (١) هي التباين ، لأنهما يدلان على أن وظيفة المجنب على الإطلاق عند احتمال الضرر هي التيمّم ، والصحيحتان تدلان على أن وظيفته الغسل والترجيح مع الأخبار المتقدمة لموافقتها الشهرة وكونها على وفق الكتاب وإطلاقه.

فالمتحصل : أن الإجناب سواء كان عمدياً أم غير عمدي حكمه التيمّم عند احتمال الضرر كما ذهب المشهور إليه ، هذا كلّه في صورة كون الضرر المحتمل غير الموت.

وأما إذا كان المحتمل على تقدير الاغتسال هو الموت فلا يحتمل أن يكون مشمولاً للحكم السابق على تقدير القول به ، وذلك :

أولاً : لقصور المقتضي ، لأن الصحيحتين وردتا في من يخاف العنت أي المشقة في الاغتسال أو في من احتمل أن يمرض شهراً ، ولم تكونا واردتين في من يحتمل الموت.

وثانياً : لو أغمضنا عن ذلك وقلنا بإطلاق الصحيحتين وأن مراده عليه‌السلام من قوله : « أصابه ما أصابه » يعم العنت وغيره فالنسبة بينهما وبين ما دلّ على أن‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٤٦ / أبواب التيمّم ب ٥.

١٢٦

فالأولى الجمع بينه وبين التيمّم (*) (١)

______________________________________________________

الوظيفة عند احتمال الموت هو التيمّم أعني صحيحة عبد الله بن سنان : « أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل تصيبه الجنابة في الليلة الباردة فيخاف على نفسه التلف إن اغتسل ، فقال عليه‌السلام : يتيمم ... » (١) عموم من وجه ، لعموم الصحيحة للجنابة العمدية وغيرها مع اختصاصها باحتمال الموت ، وعمومية الصحيحتين من حيث احتمال الضرر الأعم من الموت وغيره على الفرض مع اختصاصهما بالجنابة العمدية فيتعارضان في من أجنب نفسه بالاختيار واحتمل الموت إذا اغتسل ، ولا بدّ من الرجوع معه إلى عموم ما دل على حرمة إلقاء النفس في التهلكة وعدم جواز التسبيب للقتل ، ومعه يكون المكلف عاجزاً عن الماء فتنتقل وظيفته إلى التيمّم.

والجمع بين الصحيحة وبين الصحيحتين المتقدمتين بحملها على ما إذا احتمل ضرراً غير التلف جمع تبرعي ، نظير الجمع بين ما دل على أن ثمن العذرة سحت وما دل على أن ثمن العذرة لا بأس به (٢) بحمل المانعة على عذرة الإنسان والمرخصة على عذرة الحيوان غيره.

والذي يؤكد ما ذكرناه قيام السيرة على إتيان الأهل مع عدم التمكن من الماء لمرض أو سفر لا يوجد فيه الماء أو لغير ذلك ، فلو كانت الوظيفة هي الغسل عند احتمال الضرر لشاع هذا الحكم وانتشر مع أنه لم ينقل عن الأئمة عليهم‌السلام ولا عن أصحابهم في رواية فضلاً عن كونها معتبرة.

الاحتياط بالجمع بين الغسل والتيمّم‌

(١) هذا منه قدس‌سره احتياط لكنه إنما يتم فيما إذا كان الضرر المحتمل مما‌

__________________

(*) إذا كان الضرر المترتب على الغسل مما يحرم إيجاده أو قلنا بحرمة الإضرار بالنفس مطلقاً كما ربما يظهر من المتن ونسب إلى المشهور فلا وجه لأولوية الجمع كما هو ظاهر ، بل يتعيّن عليه التيمّم.

(١) الوسائل ٣ : ٣٦٦ / أبواب التيمّم ب ١٤ ح ٢.

(٢) الوسائل ١٧ : ١٧٥ / أبواب ما يكتسب به ب ٤٠ ح ١ ، ٢ ، ٣.

١٢٧

بل الأولى مع ذلك إعادة الغسل والصلاة بعد زوال العذر (١).

______________________________________________________

[ لا ] يعلم بعدم رضا الشارع به أو قلنا بعدم حرمة الإضرار بالنفس كما تقدّم (١) نقله عن شيخنا الأنصاري قدس‌سره وإلاّ فمع حرمته لا معنى للاحتياط بالإتيان بالمحرم فليس المورد حينئذ من موارد الاحتياط.

الاحتياط بإعادة الغسل والصلاة‌

(١) هذا الاحتياط مثل سابقه في غير محله ، وذلك لأن وظيفة المكلف في مفروض المسألة لا تخلو إما أن تكون هي الاغتسال أو هي التيمّم.

أمّا على الأوّل فعدم الحاجة إلى إعادة الغسل والصلاة ظاهرة ، لأن المكلف قد اغتسل وصلّى على الفرض فما الموجب لإعادتهما ثانياً؟ وهذا واضح.

وأما على الثاني فلأنه قد أتى بما هو وظيفته من التيمّم والصلاة ، وقد دل غير واحد من الأخبار على أن الصلاة المأتي بها بالطهارة الترابية لا تعاد بعد وجدان الماء (٢).

ولا يمكن أن يكون الوجه في هذا الاحتياط صحيحة عبد الله بن سنان : « أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل تصيبه الجنابة في الليلة الباردة فيخاف على نفسه التلف إن اغتسل ، فقال : يتيمم ويصلِّي فإذا أمن من البرد اغتسل وأعاد الصلاة » (٣) كما قيل.

والوجه في ذلك أن الصحيحة خارجة عما نحن فيه ، لأن قوله : « تصيبه الجنابة » إما ظاهر في الجنابة غير العمدية وإما أنها تعم الإجناب العمدي وغير العمدي. ومقتضى الاعتماد على هذه الصحيحة أن يحتاط الماتن في كل من أصابته الجنابة اختيارية كانت أم غير اختيارية بالجمع بين الوظيفتين فيما إذا احتمل الضرر في غسله لا في خصوص من أجنب عمداً مع العلم بالضرر في الاغتسال ، مع أن الماتن احتاط في‌

__________________

(١) في ص ١١٤.

(٢) الوسائل ٣ : ٣٦٦ / أبواب التيمّم ب ١٤.

(٣) تقدّمت في المسألة المتقدِّمة.

١٢٨

[١٠٧٩] مسألة ٢١ : لا يجوز للمتطهر بعد دخول الوقت إبطال وضوئه بالحدث الأصغر إذا لم يتمكن من الوضوء بعده كما مرّ (١) ، لكن يجوز له الجماع مع عدم إمكان الغسل ، والفارق وجود النص في الجماع ، ومع ذلك الأحوط تركه أيضا (٢).

______________________________________________________

خصوص الجنابة العمدية.

ويمكن حمل الصحيحة على ما إذا حصل الأمن من البرد في الوقت فإنه يبطل تيمّمه حينئذ بصيرورته واجداً للماء ويجب عليه إعادة الغسل والصلاة. وحملها على هذا أولى من حملها على ما إذا حصل الأمن بعد الوقت ، لأنها حينئذ تصير مطروحة لمعارضتها مع الأخبار المشار إليها الواردة في أن من صلّى مع التيمّم لا يعيدها فيما إذا وجد الماء.

(١) وقد تقدّمت هذه المسألة (١) فلا نعيدها.

المستثنى من الكلية المتقدمة‌

(٢) استثني من الكبرى الكلية المتقدمة خصوص من أراد أن يجامع أهله ، وذلك للنص فروى في الوسائل عن الشيخ قدس‌سره عن إسحاق بن عمار بطريق فيه علي بن السندي قال : « سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن الرجل يكون مع أهله في السفر فلا يجد الماء يأتي أهله؟ فقال : ما أُحب أن يفعل ذلك إلاّ أن يكون شبقاً أو يخاف على نفسه » (٢).

وهي وإن كانت من حيث السند ضعيفة ، لأن فيه علي بن السندي أو السري وهو ضعيف ، نعم احتمل أن يكون علي بن إسماعيل بن السندي وقد وثقه ابن الصباح ولكنه بنفسه لم يوثق فلا يمكن الاعتماد على رواية الرجل. إلاّ أن هذه الرواية نقلها‌

__________________

(١) في ص ١٠٥.

(٢) الوسائل ٣ : ٣٩٠ / أبواب التيمّم ب ٢٧ ح ١ ، التهذيب ١ : ٤٠٥ / ١٢٦٩.

١٢٩

الرابع : الحرج في تحصيل الماء (١) أو في استعماله وإن لم يكن ضرر أو خوفه.

______________________________________________________

الكليني والشيخ قدس‌سرهما بسند صحيح مع إضافة نقلها في الوسائل (١) فلا تأمل فيها من حيث السند.

وأمّا من حيث الدلالة فهي ظاهرة حيث دلت بإطلاقها وترك الاستفصال فيها عن أن يكون للمكلف ماء كافٍ لوضوئه أو لم يكن له ماء كاف لوضوئه على أنه يمكنه أن يجامع أهله مطلقاً ، سواء كان له ماء يكفيه لوضوئه وإن لم يكن كافياً لغسله أو لم يكن له ماء أصلاً حتى يجب عليه التيمّم بدلاً عن الوضوء.

إذا كان تحصيل الماء حرجيا‌

(١) ولو كان لبرودة الهواء أو غيرها مما يوجب المشقة والحرج ، وهذا وإن لم يرد فيه نص ظاهر إلاّ أنه يستفاد مما دل على أن المكلف متى لم تجب عليه الطهارة المائية وجبت عليه الطهارة الترابية كموثقة سماعة قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يكون معه الماء في السفر فيخاف قلته ، قال : يتيمم بالصعيد ويستبقي الماء فان الله عزّ وجلّ جعلهما طهوراً : الماء والصعيد » (٢) لدلالتها على أن المكلف إذا لم يجب عليه الوضوء لا بدّ من أن يتيمم ، وما ورد في الاغتسال من البئر من قوله عليه‌السلام : « ولا تفسد على القوم ماءهم فان رب الصعيد والماء واحد » (٣) وغيرهما من الأخبار.

وحيث إن مقتضى أدلة نفي الحرج عدم وجوب الوضوء على المكلف في مفروض المقام فتجب عليه الطهارة الترابية لما عرفت.

__________________

(١) الوسائل ٢٠ : ١٠٩ / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب ٥٠ ح ١ ، الكافي ٥ : ٤٩٥ / ٣ ، التهذيب ٧ : ٤١٨ / ١٦٧٧. والوارد في الوسائل هو : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام .... إلخ » وإن كانت نسخة التهذيب هكذا : سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام .... ، ثم إن الشيخ لم ينقل الإضافة المشار إليها.

(٢) الوسائل ٣ : ٣٨٨ / أبواب التيمّم ب ٢٥ ح ٣.

(٣) الوسائل ٣ : ٣٤٤ / أبواب التيمّم ب ٣ ح ٢.

١٣٠

الخامس : الخوف من استعمال الماء (*) (١) على نفسه أو أولاده وعياله أو بعض متعلقيه أو صديقه فعلاً أو بعد ذلك من التلف بالعطش أو حدوث مرض بل أو حرج أو مشقة لا تتحمل. ولا يعتبر العلم بذلك بل ولا الظن ، بل يكفي احتمال يوجب الخوف حتى إذا كان موهوماً ، فإنه قد يحصل الخوف مع الوهم إذا كان المطلب عظيماً فيتيمم حينئذ ، وكذا إذا خاف على دوابه أو على نفسٍ محترمة وإن لم تكن مرتبطة به‌

______________________________________________________

على أنّ ذلك يمكن استفادته من الأدلة الأولية وإن لم تكن رواية في البين ، وذلك لدلالة الأدلة على أنه « لا صلاة إلاّ بطهور » وأن الطهارة معتبرة في الصلاة ، فإذا فرضنا أن الطهارة المائية ليست واجبة على المكلف لدليل نفي الحرج أو غيره يتعين عليه إما الصلاة بلا طهور أو الصلاة بالتراب ، وحيث لا سبيل إلى الأوّل لأن الصلاة لا تترك بحالٍ فيجب أن يصلِّي مع التيمّم لا محالة ، لانحصار الطهور بالماء والصعيد ، فاذا لم يجب الأوّل يتعين وجوب الثاني. مع أن دلالة الأخبار واضحة كما عرفت.

الخوف من استعمال الماء‌

(١) الفرق بين هذا المسوغ والمسوغ الثالث الخوف من استعمال الماء على نفسه أو عضو من أعضائه بتلف أو عيب ... هو أن الضرر أو الحرج في المسوغ الثالث يترتب على استعمال الماء بالتوضي أو الاغتسال به ، وفي المسوغ الخامس يترتب الضرر على عطشه أو عطش من يهمه أمره ، هذا العطش مسبب من عدم استبقائه الماء ومن استعماله في الوضوء أو الغسل ، ولا ضرر في استعمال الماء في الوضوء والغسل ولا حرج أصلاً.

__________________

(*) الخوف المسوغ للتيمم إنما يتحقق في موارد : الأوّل : أن يخاف من صرف الماء في الطهارة على نفسه فعلاً أو فيما بعد من عطش مؤد إلى التلف أو المرض أو الحرج. الثاني : أن يخاف على غيره من التلف أو ما دونه مع فرض وجوب حفظه عليه. الثالث : أن يخاف من العطش على غيره ممن يهمه أمره على نحو يقع في الضرر أو الحرج ، وفي غير ذلك لا يجوز له حفظ الماء بل يجب صرفه في الطهارة ، وبذلك يظهر الحال في الفروع المذكورة في المتن.

١٣١

ولا فرق في المسوغ الخامس بين الخوف من استعمال الماء على عطش نفسه أو أولاده أو غيرهم ، فعلاً أو يخاف عليهم بعد ذلك.

والدليل على مسوغيته للتيمم مطابقته للقاعدة العامة ودلالة النصوص عليه.

أمّا من حيث القاعدة فلأن ما يحتمله من التلف بالعطش أو حدوث المرض أو غيرهما إن كان راجعاً إلى نفسه فتشمله قاعدتا نفي الضرر والحرج ، لأنه ضرر أو حرج يترتب على الوضوء أو الغسل لا مباشرة بل مع الواسطة ، ولا فرق في شمولهما للضرر مع الواسطة وله مباشرة وبلا واسطة.

وأمّا إذا كان الضرر أو الحرج راجعاً إلى غيره ممن يهمه أمره ويقع في حرج ومشقة بسبب ما يناله من عدم استبقاء الماء كولده وزوجته ونحوهما فمقتضى قاعدة نفي الحرج عدم وجوب الوضوء أو الغسل ، لأن فيهما مشقة وحرجاً عليه. وهذا لا يختص بالولد والزوجة ونحوهما بل يعم الضيف الوارد عليه فيما إذا احتمل عطشه في الأثناء على تقدير استعماله الماء في طهوره ، فان بقاء ضيفه عطشاناً صعب وشاق عليه. فعدم وجوب الطهارة المائية في أمثال هذه الموارد على طبق القاعدة.

وأمّا إذا كان ما يحتمله من الضرر والعطش راجعاً إلى غيره بأن احتمل تلفه عطشاً إذا صرف هو ماءه في طهوره فإنه في مثل ذلك يتزاحم الأمر بالصلاة مع الطهارة المائية مع الأمر بحفظ النفس المحترمة ، وحيث إن الأمر الأوّل مشروط بالقدرة شرعاً وبالتمكن من استعمال الماء والأمر الثاني غير مشروط فيتقدم وجوب حفظ النفس على وجوب الطهارة المائية لأنه معجز مولوي عن الطهارة المائية ، والممتنع شرعاً مثل الممتنع عقلاً فلا يجب عليه الوضوء والغسل بالماء.

وإن شئت قلت : إن الأمر بالصلاة مع الطهارة المائية له بدل ، والأمر بحفظ النفس المحترمة ليس له بدل ، وعند تزاحم مثلهما يتقدم ما ليس له بدل على ما له البدل فيجب التيمّم ، وكذلك إذا خاف التلف على نفسه.

وأمّا في غير هذا المورد كما لو كان ما يحتمله من الضرر المسبب من العطش الراجع إلى الغير لا يبلغ حد التلف بل كان وضوء المكلف أو اغتساله به موجباً لوقوع بعض‌

١٣٢

من في القافلة مثلاً في المشقة والحرج فلا يجوز له ترك الطهارة المائية والانتقال إلى التيمّم ، هذا كله على ما تقتضيه القاعدة.

وأمّا بحسب النصوص فهي مطابقة للقاعدة أيضاً :

فمنها : صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : « في رجل أصابته جنابة في السفر وليس معه إلاّ ماء قليل ويخاف إن هو اغتسل أن يعطش قال : إن خاف عطشاً فلا يهريق منه قطرة وليتيمم بالصعيد فان الصعيد أحب إليَّ » (١).

وهي من حيث السند صحيحة على طريق الشيخ وحسنة (٢) على طريق الكليني (٣) ومن حيث الدلالة ظاهرة لكنها مختصة بما إذا احتمل وخاف العطش على نفسه.

ومنها : رواية محمد الحلبي قال « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الجنب يكون معه الماء القليل فان هو اغتسل به خاف العطش أيغتسل به أو يتيمم؟ فقال : بل يتيمم ، وكذلك إذا أراد الوضوء » (٤) وهي من حيث الدلالة كسابقتها ، ومن حيث السند ضعيفة بمحمد بن سنان وإن عبر عنها في « الحدائق » بالصحيحة (٥).

ومنها : رواية ابن أبي يعفور قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يجنب ومعه من الماء قدر ما يكفيه لشربه أيتيمم أو يتوضأ به؟ قال : يتيمم أفضل ، ألا ترى أنه إنما جعل عليه نصف الطهور » (٦).

وهي كسابقتها دلالة وسنداً ، لوقوع معلى بن محمد في سندها ، وهو لم يوثق ولم يمدح فهي ضعيفة ، لا صحيحة ولا حسنة ولا موثقة وإن وصفها في الحدائق بالحسنة (٧) ولكن لم يظهر لنا وجهه.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٨٨ / أبواب التيمّم ب ٢٥ ح ١.

(٢) التهذيب ١ : ٤٠٤ / ١٢٦٧.

(٣) الكافي ٣ : ٦٥ / ١.

(٤) الوسائل ٣ : ٣٨٨ / أبواب التيمّم ب ٢٥ ح ٢. ولهذه الرواية طريق آخر صحيح وليس فيه محمد بن سنان فراجعه.

(٥) ، (٧) الحدائق ٤ : ٢٨٩.

(٦) الوسائل ٣ : ٣٨٩ / أبواب التيمّم ب ٢٥ ح ٤.

١٣٣

ومنها : موثقة سماعة المتقدِّمة ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يكون معه الماء في السفر فيخاف قلّته؟ قال : يتيمم بالصعيد ويستبقي الماء ، فان الله عزّ وجلّ جعلهما طهوراً : الماء والصعيد » (١).

وهي موثقة سنداً وتامة دلالة من دون اختصاصها بما إذا خاف العطش على نفسه بل تعم جميع الموارد المذكورة في المتن ، وذلك لعدم تقييد خوف قلّة الماء بما إذا كان على نفسه أو ولده أو من يهمه أمره أو حيوانه أو صديقه أو غيره فيشمل كل مورد يخاف قلة الماء فيه.

وقد يورد على الاستدلال بها بكونها ليست مطلقة وبصدد البيان ، وإلاّ لشملت ما إذا خاف قلة الماء لتنظيف بدنه وغسل ثيابه وظروفه مع أنه لا يحتمل في هذه الموارد الانتقال إلى التيمّم.

ويدفعه : أن قوله : « ومعه من الماء ... » معناه أنه يستصحب معه الماء في سفره والماء معه ، ولم تجر العادة في أسفار العصور المتقدمة التي كانوا يسافرون فيها على الإبل والفرس والحمير على حمل الماء لغسل ظروفهم وتنظيف أبدانهم ، بل يستصحبون الماء لضروراتهم من الشرب والوضوء ونحوهما ، فالموثقة لا تشمل إلاّ ما هو المعتاد المتعارف في حملهم الماء عند الأسفار.

هذا على أنّا لو سلمنا شمول الموثقة لحمل الماء لأجل تنظيف أبدانهم وظروفهم ونحو ذلك فنخرج عن إطلاقها بالمقدار الذي نقطع بعدم مسوغيته للتيمم ويبقى غير المقطوع به مشمولاً لإطلاق الموثقة. فالمتحصل تطابق النصوص مع القاعدة.

الأقسام المتصورة في المسألة :

وحاصل ما أفاده الماتن قدس‌سره أن الأقسام في المقام ثلاثة :

الأوّل : أن تكون النفس التي يحتمل طروء العطش لها ويسبب صرف الماء في الطهور تلفها نفساً واجبة الحفظ على المكلف لكونها محترمة ويحرم قتلها وإتلافها.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٨٨ / أبواب التيمّم ب ٢٥ ح ٣.

١٣٤

وأمّا الخوف على غير المحترم كالحربي والمرتد الفطري ومن وجب قتله في الشرع فلا يسوّغ التيمّم ، كما أن غير المحترم الذي لا يجب قتله بل يجوز كالكلب العقور والخنزير والذئب ونحوها لا يوجبه وإن كان الظاهر جوازه. ففي بعض صور خوف العطش يجب حفظ الماء وعدم استعماله كخوف تلف النفس أو الغير ممن يجب حفظه وكخوف حدوث مرض ونحوه ، وفي بعضها يجوز حفظه ولا يجب مثل تلف النفس المحترمة التي لا يجب حفظها وإن كان لا يجوز قتلها أيضاً ، وفي بعضها يحرم حفظه بل يجب استعماله في الوضوء أو الغسل كما في النفوس التي يجب إتلافها ففي الصورة الثالثة لا يجوز التيمّم ، وفي الثانية يجوز ، ويجوز الوضوء أو الغسل أيضاً ، وفي الاولى يجب ولا يجوز الوضوء أو الغسل.

______________________________________________________

ولا ينبغي الإشكال في وجوب استبقاء الماء لتلك النفس المحترمة وحفظها وانتقال وظيفته إلى التيمّم.

الثاني : أن تكون النفس التي يخاف العطش عليها غير واجبة الحفظ. وهذه النفس قد تكون محترمة مثل الذمي الذي هو محترم النفس ، حيث لا يجوز قتله لكنه لا دليل على وجوب حفظ نفسه من التلف ، نعم حفظ نفسه جائز شرعاً. ومثل الحيوان المملوك حيث لا يجوز إتلافه من دون إذن المالك ، بل مع إذنه إذا كان الإتلاف على غير الوجه الشرعي في الذبح ، إلاّ أنه لا يجب حفظه وإنما هو جائز شرعاً. وقد لا تكون النفس محترمة كالذئب والكلب غير العقور والخنزير إذا لم يكن في معرض الإضرار بالمسلمين ، فإنها أنفس لا يجب التحفظ عليها كما لا يحرم قتلها.

وفي هذه الصورة حكم بالتخيير بين التيمّم لجواز أن يصرف في حفظ هذه الأنفس لجوازه شرعاً على الفرض ، بل قد يكون راجحاً لقوله عليه‌السلام : لكل كبد حرى أجر (١) ومعه يكون غير واجد الماء فيسوغ له التيمّم ، وبين الوضوء أو الغسل بالماء‌

__________________

(١) راجع الوسائل ٩ : ٤٧٣ / أبواب الصدقة ب ٤٩ ، وكذلك المستدرك ٧ : ٢٥٠ / أبواب الصدقة ب ٤٥ ، حيث ذكر فيهما مضمون هذا القول.

١٣٥

لأنه لا يجب عليه إبقاء تلك النفوس ولا يجب عليه حفظها فيصدق عليه واجد الماء.

الثالث : أن تكون النفس محرمة الحفظ مثل الكافر الحربي والمرتد الفطري والزاني بالمحرم واللاّئط وأمثالهم ممن حكم الشرع عليهم بالقتل ، ومثل الكلب العقور المؤذي للمسلمين ونحوه ، فان حفظ هذه النفوس محرم شرعاً لكونها محكومة بالقتل.

وفي هذا القسم حكم الماتن بوجوب الوضوء أو الغسل على المكلف ولم يسوغ له التيمّم لغرض استبقاء الماء لحفظ هذه النفوس من العطش ، لكونها نفوساً لا يجوز حفظها من الموت والتلف. هذا خلاصة ما أفاده الماتن في المقام.

ولكن ممّا ذكرناه في الكبرى المتقدِّمة تظهر الخدشة فيما أفاده قدس‌سره في المقام.

وتوضيحه : أن ما أفاده في القسم الأوّل مما لا شبهة فيه ، لأن حفظ النفس المحترمة واجب شرعاً ولا بدل له فيتقدم على وجوب الصلاة مع الطهارة المائية التي لها بدل وهو الصلاة مع التيمّم ، حيث يكون حفظ النفس معجزاً مولوياً للمكلف عن استعمال الماء ، ومع عدم التمكن من استعمال الماء شرعاً أو عقلاً ينتقل الأمر إلى التيمّم.

وأمّا ما ذكره في القسم الثاني والثالث فلا يمكن المساعدة عليه : أما القسم الثاني الذي حكم فيه بالتخيير بين الطهارة المائية والترابية فلأن الجواز الطبعي لا ينافي الوجوب الفعلي لعارض كالتزاحم ، فإن سقي الماء للذمي أو الدابة المملوكة أو الذئب مثلاً وإن كان سائغاً في نفسه وطبعه لكنه لما كان مزاحماً لوجوب الوضوء فعلاً لتحقق شرطه وهو التمكن من استعمال الماء شرعاً وعقلاً أما عقلاً فواضح ، وأمّا شرعاً فلجواز صرف الماء في وضوئه وغسله وإن كان صرفه في سقي الذمي أو الدابة جائزاً في نفسه فلا يجوز التيمّم وترك الطهارة المائية لسقي الماء للذمي ونحوه.

وكذلك الحال إذا قلنا باستحباب السقي في بعض الموارد لقوله عليه‌السلام : « لكل كبد حرى أجر » (١) لأن الاستحباب لا يزاحم الوجوب ، ومع التمكّن من‌

__________________

(١) تقدمت قريباً.

١٣٦

[١٠٨٠] مسألة ٢٢ : إذا كان معه ماء طاهر يكفي لطهارته وماء نجس بقدر حاجته إلى شربه لا يكفي في عدم الانتقال إلى التيمّم (١) لأن وجود الماء النجس‌

______________________________________________________

استعمال الماء عقلاً وشرعاً لا يسوغ له التيمّم بل تجب الطهارة المائية ، اللهمّ إلاّ أن يدخل تحت الكبرى المتقدمة بأن يكون تلف النفس المذكورة ضرراً عليه أو حرجياً في حقه لأنه ممن يهمه أمره كما لو كان الذمي خادمه وسائق سيارته ونحو ذلك ، فان الوضوء أو الغسل لا يجب عليه حينئذ ووظيفته التيمّم.

وأما القسم الثالث : فلوضوح أن كون النفس محكومة بالقتل لا ينافي جواز سقيها الماء ، إذ ليس من المحرمات إعطاء الماء للكافر فطرياً ليشربه ولا سيما بعد توبته وخصوصاً إذا قلنا بقبولها منه وصيرورته كواحد من المسلمين وإن وجب قتله ، لعدم منافاة قبول توبته مع وجوب قتله ، لأنه لا يجعله محرم السقي بل يجوز سقيه أو يستحب ، وحكم قتله إنما هو صلاحية الحاكم الشرعي ولا يجوز قتله لكل أحد.

وعليه لا يتعيّن الوضوء أو الغسل لما ذكره ، بل يتعيّن لما ذكرناه من أنه متمكن من استعمال الماء عقلاً وشرعاً فلا بدّ من الطهارة المائية وإن كان السقي جائزاً في طبعه. اللهمّ إلاّ أن تكون تلكم النفوس ممن يهم المكلف أمرها ويقع في الضيق والحرج من تلفها كما تقدم.

إذن فالصحيح ما قدمناه من أن العطش المسبب للتلف أو الضرر أو الحرج إن كان محتمل الطروء على نفس المكلف فلا إشكال في تعين التيمّم أو جوازه. وإن كان محتمل الطروء على غيره فان كان هو التلف يتعين التيمّم أيضاً ، وإن كان هو الضرر أو الحرج وكان ممن يهمه أمره ويقع من ضرره أو حرجه في عسر وحرج يجوز التيمّم ، وإن لم يكن يهمه أمره كذلك فلا يجوز التيمّم كما مرّ.

إذا كان له ماءان طاهر ونجس‌

(١) لما أشار إليه قدس‌سره من عدم جواز شرب الماء النجس. وحرمته فعلية‌

١٣٧

حيث إنه يحرم شربه كالعدم ، فيجب التيمّم وحفظ الماء الطاهر لشربه ، نعم لو كان الخوف على دابته لا على نفسه يجب عليه الوضوء أو الغسل (١) وصرف الماء النجس في حفظ دابته ، بل وكذا إذا خاف على طفل من العطش (٢) فإنه لا دليل على حرمة إشرابه الماء المتنجس ، وأما لو فرض شرب الطفل بنفسه فالأمر أسهل (٣) فيستعمل الماء الطاهر في الوضوء مثلاً ويحفظ الماء النجس ليشربه الطفل بل يمكن أن يقال إذا خاف على رفيقه أيضاً يجوز التوضؤ وإبقاء الماء النجس لشربه (٤) فإنه لا دليل على وجوب رفع اضطرار الغير من شرب النجس نعم لو‌

______________________________________________________

وإن كان الشرب أمراً متأخراً ، والممنوع الشرعي كالممنوع العقلي فلا يجوز استبقاء النجس لشربه ، بل يتعين عليه أن يحفظ الماء الطاهر لرفع عطشه وتنتقل وظيفته إلى التيمّم.

(١) لما بينّاه في محلِّه من جواز سقي الماء النجس لغير المكلفين من الحيوان والأطفال (١) ، ومعه يستبقي الماء الطاهر له وهو واجد للماء الطاهر فيجب عليه الوضوء أو الاغتسال.

(٢) لما تقدّم في التعليق السابق.

(٣) لأنه ليس من إشراب الماء النجس له ليحتمل حرمته. ومنعه عنه ليس واجباً من غير إشكال.

(٤) لما أشار إليه من أن رفع الإضرار (٢) عن الغير لا دليل على وجوبه ، وهو بعد صرف المكلف الماء الطاهر في وضوئه أو غسله مضطر إلى شرب الماء النجس وهو جائز للمضطر ، لأنه ما من شي‌ء حرّمه الله سبحانه إلاّ وقد أحلّه في مورد الضرورة (٣).

__________________

(١) شرح العروة ٢ : ٢٧٥.

(٢) لعلّ المناسب : الاضطرار.

(٣) الوسائل ٥ : ٤٨٣ / أبواب القيام ب ١ ح ٧ وغيره ، حيث ذكر مضمونه.

١٣٨

نعم لو كان رفيقه عطشاناً فعلاً لا يجوز إعطاؤه (*) الماء النجس ليشرب مع وجود الماء الطاهر (١)

______________________________________________________

(١) ولا نرى أي مانع عن الجواز ، إلاّ أن يتوهّم أن ذلك محرم لأنه إعانة على الإثم ، حيث إن شرب النجس مبغوض للشارع فصرفه الماء الطاهر في الطهور مع إعطائه الماء النجس إعانة على الإثم وهي حرام ، إلاّ أنه مورد المناقشة كبرى وصغرى.

عدم حرمة الإعانة على الإثم‌

أما بحسب الكبرى : فلأنه لا دليل على حرمة الإعانة على الإثم. والمستفاد من قوله تعالى ( وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) (١) والأخبار الواردة في حرمة كون الإنسان من أعوان الظلمة (٢) أمران :

أحدهما : حرمة التعاون على الإثم بأن يصدر الإثم من شخصين فصاعداً على نحو الاجتماع والشركة ، كما لو قتل اثنان أو جماعة شخصا.

وثانيهما : حرمة كون الإنسان من أعوان الظلمة بأن يسجل اسمه في ديوانهم ، وأما مثل إعطاء العصا لمن يضرب شخصاً عدواناً فهو ليس من التعاون على الإثم ، ولا أنه موجب لكونه من أعوان الظلمة بل هو إعانة على الإثم ، ولا دليل على حرمتها لأن التعاون غير الإعانة ، والكون من أعوان الظلمة غير إعانة الظالم ، والنسبة بينهما عموم من وجه كما هو ظاهر.

وأما بحسب الصغرى : فالرفيق قد يكون عالماً بنجاسة الماء وقد يكون جاهلاً بها.

__________________

(*) فيه إشكال ، وعلى فرض عدم الجواز يجب المنع ولو باشر الشرب بنفسه.

(١) المائدة ٥ : ٢.

(٢) الوسائل ١٧ : ١٧٧ / أبواب ما يكتسب به ب ٤٢ ، ٤٣ ، ٤٤.

١٣٩

كما أنه لو باشر الشرب بنفسه لا يجب منعه (١).

______________________________________________________

وعلى الأوّل : إذا منع المكلف عن شرب رفيقه ماءه الطاهر ولو لمانع شرعي لوجوب الوضوء أو الغسل عليه بقي الرفيق مضطراً إلى شرب النجس وهو جائز في حقه ، لما تقدم من أنه ما من شي‌ء حرمة الله سبحانه إلاّ وقد أحله في مورد الضرورة فلا يصدر منه إثم ليكون إعطاء الماء النجس له إعانة على الإثم.

وعلى الثاني : فالأمر أظهر ، لأنه زائداً على كونه مضطراً إلى شرب الماء النجس هو جاهل بنجاسته حسب الفرض ، وهو يصدر منه مباحاً فلا إثم ليكون الإعطاء إعانة له على الإثم ، وعليه لا موجب لحرمة الإعطاء له.

وأمّا حرمة التسبيب إلى الحرام فهي وإن كانت كذلك أي أن التسبيب محرم ، لما استفدناه من الأخبار الآمرة بوجوب إعلام المشتري بالنجاسة وقلنا : كما يحرم صدور الحرام من المكلف مباشرة يحرم صدوره منه بالتسبيب ، بل قلنا : إن ذلك مستفاد من نفس النهي والمنع والتحريم عرفاً ولو مع الغض عن الروايات إلاّ أنها تختص بما إذا كان الفعل الصادر بالتسبيب محرماً ، وليس الأمر في المقام كذلك ، لأن شرب الماء النجس يصدر من الرفيق مباحاً لجهله بنجاسته واضطراره إلى شربه.

إذن لا مانع من إعطاء الماء النجس للرفيق كي يشربه ولو مع وجود الماء الطاهر.

عدم وجوب المنع عن شرب الماء النجس‌

(١) هذا الحكم على ما سلكناه من جواز إعطاء الماء النجس للرفيق بمكان من الوضوح ، لأنه إذا جاز إعطاؤه له لكونه مباحاً له لا يجب منعه لو باشر شربه ، فان المباح لا يجب المنع عنه ، لكن يشكل ذلك على ما ذكره الماتن قدس‌سره من عدم جواز إعطائه له لحرمته ولكونه صادراً عنه على وجه غير مباح ، فإنه إذا صدر عنه محرماً وجب منعه عنه لوجوب النهي عن المنكر.

والذي أظنه قوياً أن لفظة ( لا ) في قوله : لا يجب منعه ، زائدة وهي من اشتباه‌

١٤٠