موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

[١٠١١] مسألة ١ : يجوز البكاء على الميِّت (١) ولو كان مع الصوت ، بل قد يكون راجحاً كما إذا كان مسكِّناً للحزن وحرقة القلب بشرط أن لا يكون منافياً للرضا بقضاء الله ، ولا فرق بين الرّحم وغيره ، بل قد مر استحباب البكاء على المؤمن ، بل يستفاد من بعض الأخبار جواز البكاء على الأليف الضال.

______________________________________________________

فما ربما يظهر من الماتن قدس‌سره من اختصاص الجواز بما إذا أوصى الميِّت بذلك وسيأتي في استثنائه الثاني عشر من حرمة النبش مما لا وجه له ، نعم يمكن أن يقال : إن المقتضي لحرمة النبش قاصر في صورة الوصية ، لأن مدركها الإجماع وهو دليل لبِّي يقتصر فيه على المورد المتيقن وهو غير صورة الوصية بالنقل ، وأما مع الوصيّة به فلم ينعقد إجماع على حرمته ، والظاهر أن نظر الماتن قدس‌سره إلى ذلك.

بقي الكلام فيما إذا أوصى الميِّت بأن لا يدفن مدة ويبقى وديعة وأمانة ويدفن بعد ذلك في الأماكن المتبركة أو غيرها فهل هذه الوصية نافذة أم لا؟

ذهب بعضهم إلى ذلك كشيخنا الأُستاذ قدس‌سره في تعليقته على المتن ، لكن الظاهر عدم نفوذها لأنها وصية على خلاف ظاهر الأوامر الواردة في الدّفن ، لأن ظاهرها هو وجوب الدّفن المتعارف بعد الغسل والتكفين والصلاة ، فبقاؤه مدة من دون دفن أمر غير جائز ، والوصية لا تقلب الحرمة إلى الجواز ، فالدّفن ثم النبش والنقل أولى وأحوط من الإيصاء بجعله وديعة ونقله بعد ذلك.

جواز البكاء على الميِّت‌

(١) والوجه في ذلك أُمور :

الأوّل : الأصل ، فإن كل ما لم يقم دليل على حرمته في الشريعة المقدسة فهو محكوم بالحلية ، ولم يدلّنا دليل على حرمة البكاء على الميِّت.

الثاني : السيرة المستمرة المتصلة بزمان المعصومين عليهم‌السلام ولم يردعوا عنها بوجه ، فلو كان البكاء على الميِّت محرماً لانتشرت حرمته ووصلت إلينا متواترة‌

٣٤١

والخبر الذي ينقل من أن الميِّت يعذب ببكاء أهله ضعيف منافٍ لقوله تعالى ( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) وأما البكاء المشتمل على الجزع وعدم الصبر فجائز ما لم يكن مقروناً بعدم الرضا بقضاء الله ، نعم يوجب حبط الأجر ، ولا يبعد كراهته.

______________________________________________________

لكثرة الابتلاء بالأموات والبكاء عليهم.

الثالث : الأخبار الواردة في أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكى على إبراهيم وقال : « تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب » ، وبكى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً على جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة ، وكذلك بكت الصديقة عليها‌السلام على رقية بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى أبيها ( صلوات الله عليه وآله ) وبكى علي بن الحسين عليه‌السلام على شهداء الطف مدّة مديدة ، بل عدّت الصدِّيقة الطاهرة وزين العابدين عليهما‌السلام من البكّائين الخمسة لكثرة بكائهما (١) ، بل ورد الأمر بالبكاء عند وجدان الوجد على الميِّت في رواية الصيقل فراجع (٢).

نعم ورد في حسنة معاوية بن وهب عن أبي عبد الله عليه‌السلام « كل الجزع والبكاء مكروه ما سوى الجزع والبكاء لقتل الحسين عليه‌السلام » (٣).

إلاّ أنه في مقابل السيرة والأخبار لا بدّ من تأويل الكراهة فيها بحملها على كون البكاء مكروهاً عرفياً لعدم مناسبته مع الوقار والعظمة والمنزلة ومن ثمة لم ير بعض الأعاظم قدس‌سرهم باكياً على ولده المقتول لدى الناس وقالوا : إنه كان يبكي عليه في الخلوات في داره لا أنه مكروه شرعي ، أو يحمل على أن مجموع الجزع والبكاء مكروه ، فان الجزع غير مرغوب فيه شرعاً إلاّ على أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٢٧٩ / أبواب الدّفن ب ٨٧.

(٢) الحديث ٢ من الباب المتقدم ذكره.

(٣) الوسائل ٣ : ٢٨٢ / أبواب الدّفن ب ٨٧ ح ٩.

٣٤٢

[١٠١٢] مسألة ٢ : يجوز النّوح على الميِّت بالنظم والنثر ما لم يتضمّن الكذب (١)

______________________________________________________

وقد روت العامّة كما في صحيحي البخاري ومسلم ـ (١) النهي عن البكاء على الميِّت لأن الميِّت يعذب ببكاء أهله.

وهي مضافاً إلى ضعف سندها ليست قابلة للتصديق ولا بدّ من ضربها على الجدار ، لمخالفتها صريح الكتاب قال تعالى ( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) (٢) فإنه بعيد عن العدل الإلهي أن يعذب الميِّت ببكاء شخص آخر وفعل غير الميِّت وإن ارتكب أعظم المحرمات ، أو تؤوَّل الرواية بأن الميِّت يتأذّى عند بكاء أهله كما كان يتأذّى ببكائهم حال حياته لا أنه يعذّب من قبل الله سبحانه. إذن فالبكاء على الميِّت سائغ من دون كراهة.

جواز النّوح على الميِّت‌

(١) للأصل والسيرة كما تقدم في المسألة السابقة ، ولأن النياحة لو كانت محرمة لوصلت إلينا حرمتها بالتواتر ، بل ورد أن فاطمة الزهراء ( سلام الله عليها ) ناحت على أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) وأوصى الباقر الصادق عليهما‌السلام بأن يقيم عليه النياحة في منى عشر سنوات (٤).

نعم ورد في بعض الأخبار كراهة أن تشارط النائحة أُجرتها من الابتداء ، وورد الأمر بأن تقبل ما يعطى لها بعد العمل (٥) وهو أمر آخر. وما دل عليه ضعيف السند‌

__________________

(١) صحيح البخاري ٢ : ١٠٠ ، صحيح مسلم ٢ : ٦٣٨.

(٢) الأنعام ٦ : ١٦٤.

(٣) الوسائل ٣ : ٢٤٢ / أبواب الدّفن ب ٧٠ ح ٤.

(٤) الوسائل ١٧ : ١٢٥ / أبواب ما يكتسب به ب ١٧ ح ١.

(٥) الوسائل : الباب المتقدم ذكره.

٣٤٣

واستحبابه يبتني على التسامح في أدلة السنن ، بل ورد في بعضها جواز أخذ الأُجرة على نياحتها ، فلو كانت النياحة محرمة لم يجز أن تأخذ عليها الأُجرة بوجه.

نعم ذهب ابن حمزة (١) والشيخ (٢) قدس‌سرهما إلى حرمة النياحة ، وادعى الشيخ الإجماع عليها في مبسوطه (٣) ، إلاّ أن هذه الدعوى غير قابلة التصديق منه قدس‌سره حيث إن جواز النياحة ممّا يلتزم به المشهور فكيف يقوم معه الإجماع على حرمتها. ولعلّه أراد بالنياحة النياحة المرسومة عند العرب ، ولا إشكال في حرمتها لاشتمالها على الكذب ، حيث كانوا يصفون الميِّت بأوصاف غير واجد لها في حياته ككونه شجاعاً أو كريماً سخياً مع أنه جبان أو بخيل ، وهو كذب حرام.

نعم ورد النهي عن النياحة في جملة من الأخبار ، ففي رواية جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال « قلت له : ما الجزع؟ قال : أشد الجزع الصراخ بالويل والعويل ولطم الوجه والصدر وجز الشعر من النواصي ، ومن أقام النواحة فقد ترك الصبر وأخذ في غير طريقه » (٤) إلاّ أنها ضعيفة السند بأبي جميلة مفضل بن عمر على طريق وبه وبسهل بن زياد على طريق آخر.

وفي مرسلة الصدوق قال : من ألفاظ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الموجزة التي لم يسبق إليها : « النياحة من عمل الجاهلية » (٥) وهي مضافاً إلى ضعف سندها قابلة الحمل على إرادة النياحة الباطلة المرسومة عند العرب بمناسبة قوله : « من عمل الجاهلية » أي بحسب مناسبة الحكم والموضوع ، إلى غير ذلك من الأخبار الضعاف (٦) فراجع.

__________________

(١) الوسيلة : ٦٩.

(٢) المبسوط ١ : ١٨٩.

(٣) المبسوط ١ : ١٨٩.

(٤) الوسائل ٣ : ٢٧١ / أبواب الدّفن ب ٨٣ ح ١.

(٥) الحديث ٢ من المصدر المتقدِّم ، الفقيه ٤ : ٢٧١ / ٨٢٨.

(٦) منها الحديث ٥ من الباب المتقدِّم.

٣٤٤

وما لم يكن مشتملاً على الويل والثبور (١) لكن يكره في الليل ، ويجوز أخذ الأُجرة عليه إذا لم يكن بالباطل ، لكن الأولى أن لا يشترط أوّلا.

______________________________________________________

فتحصل : أن النياحة الصحيحة أمر جائز ولم تثبت كراهتها فضلاً عن حرمتها ما لم تشتمل على الكذب ونحوه ، فما عنون به الباب في الوسائل من كراهة النياحة ليس صحيحاً ، فإن الكراهة كالحرمة حكم شرعي يحتاج إلى دليل ولا دليل عليها.

(١) ذكروا أن الدعاء بالويل والثبور محرم منهي عنه لجملة من الأخبار كما عن مشكاة الأنوار نقلاً عن كتاب المحاسن عن الصادق عليه‌السلام : « في قول الله عزّ وجلّ ( وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) المعروف أن لا يشققن جيباً ولا يلطمن وجهاً ولا يدعون ويلاً » (١) ، وما ورد في وصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفاطمة عليها‌السلام : « إذا أنا متّ فلا تخمشي عليَّ وجهاً ... ولا تنادي بالويل ... » (٢) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها حين قتل جعفر بن أبي طالب : « لا تدعي بذُل ولا ثكل ... » (٣).

بل ورد اللعن على الداعية بالويل والثبور في بعض الروايات كما عن أبي أمامة : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعن الخامشة وجهها والشاقة جيبها والداعية بالويل والثبور » (٤).

إلاّ أن تلك الأخبار لضعف سندها لا يمكن الاعتماد عليها والحكم بحرمة الدعاء بالويل والثبور ، بل هو أمر جائز ما لم يكن مستنداً إلى عدم الرضا بقضاء الله سبحانه لأنه أمر محرم.

__________________

(١) المستدرك ٢ : ٤٥٠ / أبواب الدّفن ب ٧١ ح ٦ ، مشكاة الأنوار : ٢٠٤.

(٢) الوسائل ٣ : ٢٧٢ / أبواب الدّفن ب ٨٣ ح ٥.

(٣) الوسائل ٣ : ٢٧٢ / أبواب الدّفن ب ٨٣ ح ٤.

(٤) المستدرك ٢ : ٤٥٢ / أبواب الدّفن ب ٧١ ح ١٣.

٣٤٥

[١٠١٣] مسألة ٣ : لا يجوز اللّطم والخدش (١) وجزّ الشعر (٢) ، بل والصراخ الخارج عن حدّ الاعتدال على الأحوط (٣)

______________________________________________________

عدم جواز اللّطم والخدش‌

(١) وهذا كسابقه ، وإن ورد النهي عنه في بعض الأخبار ولعن الخامشة وجهها في رواية أبي أمامة ، وعن دعائم الإسلام عن جعفر بن محمد أنه أوصى عند ما احتضر فقال : « لا يلطمن عليَّ خداً ولا يشققن عليَّ جيباً ، فما من امرأة تشق جيبها إلاّ صدع لها في جهنم صدع كلما زادت زيدت » (١).

إلاّ أن الأخبار لضعف أسنادها لا يمكن الاعتماد عليها في الحكم بالحرمة بوجه.

حكم جز الشعر‌

(٢) ورد النهي عن ذلك في رواية خالد بن سدير (٢) وقد أثبت فيها الكفارة على جز الشعر ونتفه أيضاً ، إلاّ أن خالداً هذا ضعيف لعدم توثيقه ، بل ذكر الشيخ حسين آل عصفور أن الصدوق ذكر أن كتاب خالد بن سدير موضوع منه أو من غيره (٣) ومعه لا يمكن الحكم بحرمة الجز فضلاً عن إثبات الكفارة فيه.

حكم الصراخ العالي‌

(٣) ورد في خبر الحسن الصيقل عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : « لا ينبغي الصياح على الميِّت ولا شق الثياب » (٤) وأُورد على الاستدلال به أن كلمة « لا ينبغي » ‌

__________________

(١) المستدرك ٢ : ٤٥٦ / أبواب الدّفن ب ٧٢ ح ٢ ، دعائم الإسلام ١ : ٢٢٦.

(٢) الوسائل ٢٢ : ٤٠٢ / أبواب الكفّارات ب ٣١ ح ١ ، وقد استبعد سيِّدنا الأُستاذ موضوعية كتابه. راجع [ المعجم ٨ : ٧٢ ] ترجمة خالد بن سدير.

(٣) عيون الحقائق الناظرة ٢ : ٣١٢.

(٤) الوسائل ٣ : ٢٧٣ / أبواب الدّفن ب ٨٤ ح ٢ ، وفيه امرأة الحسن الصيقل ، وفي السند سهل ابن زياد أيضاً.

٣٤٦

وكذا لا يجوز شق الثوب على غير الأب والأخ والأحوط تركه فيهما أيضا (١).

______________________________________________________

ظاهرة في الكراهة أو في استحباب الترك لا في الحرمة.

ولكن قدّمنا نحن أن الكلمة ظاهرة في الحرمة ، لأن معنى « لا ينبغي » لا يتيسّر ولا يتمكّن ، على ما استشهدنا عليه باستعمالها بهذا المعنى في موارد في الكتاب ، وإن لم ير استعمالها بصيغة الماضي وإنما يستعمل المضارع فقط ، ومعنى عدم التيسر شرعاً ليس هو إلاّ الحرمة ، فلا محذور في الاستدلال بالرواية من هذه الجهة ، نعم لا مجال للاستدلال بها من جهة ضعف سندها بالحسن الصيقل.

حكم شقّ الثوب‌

(١) وعن الحلبي (١) حرمة الشق مطلقاً ، وعن بعض جوازه للنساء دون الرجال وعن ثالث جوازه في الأقارب من أب وأُم وأخ وأُخت ونحوها دون غيرهم. والمعروف عدم جوازه إلاّ في موردين :

أحدهما : شق الولد على أبيه.

وثانيهما : شق الأخ على أخيه.

وقد استدل على الحرمة أوّلاً : بأن الشق إظهار للسخط على قضاء الله سبحانه ومناف للرضا به فيحرم.

وفيه : أن بين الشق والسخط عموماً وخصوصاً من وجه ، فإنه قد لا يشق ثوبه على الميِّت لكونه ثميناً ومحبوباً لديه إلاّ أنه ساخط لقضائه جدّاً ، وقد يشق ثوبه مع الرضا بقضاء الله سبحانه ، وقد يجتمعان ، وكلامنا في حرمة الشق في نفسه.

وثانياً : بأن ذلك تضييع للمال وهو تبذير محرم.

وفيه : أنه إذا كان له غرض عقلائي في شق ثوبه لم يعد من التبذير المحرم ، فإن الإنسان قد يريد إظهار تأثره في موت أقربائه أو صديقه ، وإظهار ذلك قد يكون‌

__________________

(١) لم نجده في كتابه ، ولعلّه الحلِّي في السرائر ١ : ١٧٢ كما نقل عنه في الحدائق ٤ : ١٥١.

٣٤٧

بضرب اليد على اليد وأُخرى بشق الجيب ، فلا محذور فيه من هذه الجهة.

وثالثاً : بالأخبار الناهية عن ذلك ، وقد تقدم بعضها كرواية امرأة الحسن الصيقل إلاّ أنها ضعيفة السند كما تقدم ، والعمدة منها على ما صرح به المحقق الهمداني قدس‌سره (١) حيث قال : أوثقها في النفس ما حكي عن المبسوط ، حيث إن الشيخ قدس‌سره ذكر فيه أن شق الجيب محرم إلاّ في موت الأب للابن وفي موت الأخ للأخ وبه رواية (٢). وقد أخذ المتأخِّرون ذلك عن الشيخ وجعلوه مرسلة له واستدلّوا بها في كتبهم.

إلاّ أنه لم يعلم أن الشيخ أراد بذلك غير الأخبار المتقدمة الدالّة على النهي عن شق الثياب ، هذا من حيث إثبات الحرمة.

وأما استثناؤه فمن المطمأن به أنه أراد من ذلك ما ورد في الإمام العسكري عليه‌السلام من أنه شق جيبه في موت أبيه ( سلام الله عليهما ) واعترض عليه بأنه فعل لم ير من إمام من الأئمة عليهم‌السلام فأجابه بقوله : يا أحمق ما لك وذاك ، قد شق موسى على هارون (٣).

فدلّتنا هذه الأخبار على جواز شق الولد على والده لأنه أمر صنعه العسكري عليه‌السلام كما دلتنا على جوازه للأخ في موت أخيه لأنه عليه‌السلام استشهد بفعل موسى في موت أخيه هارون.

وفيه : أن هذه الروايات المجوزة والمانعة (٤) ضعيفة السند ولا يمكن الاعتماد عليها.

نعم استثنى الأصحاب من حرمة تلك الأُمور الإتيان بها في حق الأئمة والحسين عليهم‌السلام مستندين فيه إلى ما فعلته الفاطميات على الحسين بن علي من لطم الخد وشق الجيب كما ورد في رواية خالد بن سدير (٥).

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الطّهارة ) : ٤٣٠ السطر ٢٥.

(٢) المبسوط ١ : ١٨٩.

(٣) الوسائل ٣ : ٢٧٤ / أبواب الدّفن ب ٨٤ ح ٧.

(٤) الوسائل ٣ : ٢٧٣ / أبواب الدّفن ب ٨٤.

(٥) يأتي ذكر مصدرها بعد قليل.

٣٤٨

[١٠١٤] مسألة ٤ : في جز المرأة شعرها في المصيبة كفارة شهر رمضان (*) وفي نتفه كفّارة اليمين ، وكذا في خدشها وجهها (١).

[١٠١٥] مسألة ٥ : في شق الرجل ثوبه في موت زوجته أو ولده كفارة اليمين وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام.

[١٠١٦] مسألة ٦ : يحرم نبش قبر المؤمن وإن كان طفلاً أو مجنوناً (٢)

______________________________________________________

وهذا لا يمكن المساعدة عليه ، لأنها على تقدير حرمتها مطلقة. والرواية الدالّة على صدورها من الفاطميات ضعيفة السند ولا يمكن الاعتماد عليها ، والذي يسهل الخطب أنها أفعال لم تثبت حرمتها مطلقاً. إذن لا مانع شرعاً من الإتيان بها في مصايب الأئمة الطاهرين عليهم‌السلام وغير الأئمة.

جزّ المرأة شعرها‌

(١) كذا ذكره المشهور ، ولكنه لم يرد بذلك رواية ولو كانت ضعيفة السند ، وإنما ورد ذلك في خبر خالد بن سدير (٢) إلاّ أنه أثبت الكفارة مع إدماء الوجه المخدوش لا مطلقاً. والمشهور أعرف بما قالوا.

حرمة نبش قبر المؤمن‌

(٢) قد استدل على حرمة النبش بوجوه :

الأوّل : الإجماع ، كما عن جماعة ، وعن بعضهم دعوى إجماع المسلمين عليه وكونه معروفاً لدى المتشرعة قديماً وحديثاً.

وفيه : أن الإجماع المدعى ليس إجماعاً تعبدياً وإنما هو مدركي ولو احتمالاً ، فلا بدّ‌

__________________

(*) على الأحوط الأولى فيه وفيما بعده ، وكذا الحال في المسألة الخامسة.

(١) الوسائل ٢٢ : ٤٠٢ / أبواب الكفارات ب ٣١ ح ١.

٣٤٩

من ملاحظة ذلك المدرك ولا موقع للإجماع حينئذ.

الثاني : أن النبش مثلة بالميِّت وهتك له ، وحرمة المؤمن ميتاً كحرمته حياً.

وفيه : أن النسبة بين النبش المدعى حرمته وبين الهتك عموم من وجه ، فان النبش لا يعد هتكاً في جملة من الموارد كما سيتضح ، وعلى هذا الوجه تكون جملة من الموارد المستثناة خارجة عن حرمة النبش خروجاً تخصصياً لا تخصيصياً ، وهذا كما إذا دفن في أرض مغصوبة فلا يكون نبشه حينئذ موجباً للهتك من الابتداء ، فلم يكن النبش متصفاً بالحرمة ليكون استثناؤه تخصيصاً بل هو خروج تخصصي ، وكذا إذا دفن في أرض لا تناسب الميِّت ونبش ليدفن في أرض تناسبه أو لينقل إلى العتبات المقدسة ليدفن فيها.

الثالث : ما ذكره بعض الأعاظم من أن الدّفن كما يجب حدوثاً كذلك يجب بحسب البقاء ، لعدم احتمال أن يكون الواجب مجرد دفنه آناً ما ثم يجوز إبقاؤه من غير دفن بل الواجب إنما هو ستره وإقباره مطلقاً حدوثاً وبقاء.

وفيه : أن الأمر وإن كان كذلك إلاّ أن ذلك لا ينافي جواز النبش ، لأن المدعى ليس هو إخراج الميِّت عن القبر وإبقاءه من غير دفن وإنما ينبش ليدفن ثانياً ، فالدّفن حدوثاً وبقاء متحقق وإنما ينبش ويخرج من قبره آناً أو ساعة مثلاً.

نعم لو تمت الدعوى المتقدمة من أن أدلة الدّفن لها عموم أزماني يقتضي وجوب الدّفن في كل آن آن كان نبشه وإخراج الميِّت من قبره ولو آناً ما محرماً ، لأنه مخالف للدفن الواجب في كل آن ، إلاّ أنّا قدمنا أنّا لم نجد في أدلة الدّفن ما يكون له عموم أزماني بوجه ، لأنها إنما تدل على وجوب الدّفن وحسب من دون دلالة على العموم الأزماني.

وعليه فالمدار في حرمة النبش على صدق الهتك والتوهين ، وفي أي مورد لم يلزم من نبشه هتك جاز النبش لا محالة.

٣٥٠

إلاّ مع العلم باندراسه وصيرورته تراباً (١) ولا يكفي الظن به (٢). وإن بقي عظماً فان كان صلباً ففي جواز نبشه إشكال (٣) وأما مع كونه مجرد صورة بحيث يصير تراباً بأدنى حركة فالظاهر جوازه (٤) ، نعم لا يجوز نبش قبور الشهداء والعلماء والصلحاء وأولاد الأئمة عليهم‌السلام ولو بعد الاندراس وإن طالت المدّة (٥)

______________________________________________________

(١) لعدم كون النبش حينئذ من نبش قبر المؤمن ، إذ لا مؤمن وإنما هو تراب ، نعم كان مؤمن فيه سابقاً. ولا يلزم من النبش هتك بوجه ، بل قد يكون موضع واحد قبراً لأشخاص كثيرين لاندراس الأوّل ودفن الثاني فيه بعد ذلك وكذا الثالث بعد اندراس الثاني ، وقد ورد أن كل قطعة من قطعات الأرض بدن إنسان ، أي الأعم من المسلم والكافر وقد اندرس وصار تراباً.

(٢) وإنما يجوز إذا ثبت الاندراس بالعلم الوجداني أو البينة الشرعية ، وليس الظن بحجة شرعاً.

(٣) والوجه في الإشكال صدق عنوان المؤمن عليه ، لعدم اندراسه ولعدم تلاشي عظامه.

(٤) لأنه صورة البدن وإلاّ فهو في الحقيقة تراب ، ولا يصدق على نبشه نبش قبر المؤمن.

عدم جواز النبش في قبور الشهداء وأمثالهم‌

(٥) لصدق الهتك على نبشها ولو بعد الاندراس وإن لم يكن ميت ، لأن المدار في حرمة النبش على صدق الهتك ولا دليل على حرمته في نفسه ، وقد لا يحرم النبش وإن ظهر به الميِّت كما إذا فتح باب السرداب لجعل ميت آخر فيه فظهر جسد الميِّت الموجود فيه ، فإنه نبش غير محرم لعدم الهتك على المؤمن ، هذا كله إذا علمنا بالاندراس وعدمه.

وأما إذا شككنا في الاندراس فهل يجوز النبش حينئذ؟ الصحيح عدم جوازه‌

٣٥١

سيما المتخذ منها مزاراً أو مستجاراً ، والظاهر توقف صدق النبش على بروز جسد الميِّت ، فلو أُخرج بعض تراب القبر وحفر من دون أن يظهر جسده لا يكون من النبش المحرم ، والأولى الإناطة بالعرف وهتك الحرمة. وكذا لا يصدق النبش إذا كان الميِّت في سرداب وفتح بابه لوضع ميت آخر خصوصاً إذا لم يظهر جسد الميِّت ، وكذا إذا كان الميِّت موضوعاً على وجه الأرض وبني عليه بناء لعدم إمكان الدّفن أو باعتقاد جوازه أو عصياناً فإنّ إخراجه لا يكون من النبش وكذا إذا كان في تابوت من صخرة أو نحوها.

[١٠١٧] مسألة ٧ : يستثني من حرمة النبش موارد :

الأوّل : إذا دفن في المكان المغصوب عدواناً أو جهلاً أو نسياناً فإنه يجب نبشه مع عدم رضا المالك ببقائه (١)

______________________________________________________

وهذا لا للاستصحاب التعبّدي بأن يقال كان الميِّت ولم يندرس سابقاً والأصل أنه الآن كذلك ، وذلك لعدم ترتب الأثر الشرعي على الاندراس أو عدمه في نفسه ، وإنما الأثر لما يلازمه عادة من استلزام النبش الهتك وعدمه ، بل لتحقق موضوع الحرمة بالوجدان كما إذا علمنا بعدم الاندراس ، وذلك لأن الهتك كما يصدق عند العلم بالاندراس (١) كذلك يتحقق عرفاً عند الاحتمال ، فان النبش مع احتمال عدم اندراسه هتك عرفاً فيحرم النبش.

الموارد المستثناة عن حرمة النبش‌

(١) لعدم كون الدّفن حينئذ دفناً مأموراً به شرعاً ، لأن الواجب إنما هو الدّفن في الأرض المباحة فإذا دفن في الأرض المغصوبة وجب إخراجه منها ، لحرمة إبقائه فيها مع عدم رضا المالك به ، ولا يتحقق الهتك بإخراجه.

وليس المقام من موارد تزاحم حق الميِّت والمالك ، إذ لا حق للميت لعدم كون‌

__________________

(١) الصحيح : بعدم الاندراس.

٣٥٢

الدّفن دفناً مأموراً به ، ومقتضى حق المالك إخراجه من أرضه حينئذ.

وهل يجب على المالك قبول القيمة إذا بذلت له؟ الصحيح عدم الوجوب ، لأنه لا يجب عليه إيجاد الموضوع وهو الدّفن المأمور به بأن يرضى بدفنه في أرضه ليكون الدّفن مأموراً به ويحرم نبشه لكونه هتكاً حينئذ ، ومع عدم كون الدّفن مأموراً به يجوز للمالك أن لا يرضى ببقاء الميِّت في أرضه ولا يقبل الثمن ، لأنه مقتضى كون الناس مسلّطين على أموالهم ، هذا إذا كان هناك موضع ثانٍ صالح لدفن الميِّت فيه.

وأمّا إذا انحصرت الأرض المدفون فيها بدون رضا المالك به فلا يجوز نبشه وإخراجه منها لغير المالك ، لأنه إنما كان جائزاً في الصورة الأُولى مقدمة للدفن الواجب ، ومع انحصار الأرض بتلك الأرض وعدم وجود مدفن آخر قابل له لا يجب الدّفن لعدم كونه مقدوراً ، ومع عدم وجوبه لا موجب للنبش فالنبش على غير المالك محرم.

وأما المالك فهو من موارد تزاحم حق الميِّت وحق المالك. أما المالك فلأجل كونه مسلطاً على ماله ولا يجوز التصرف فيه إلاّ بإذنه ، وأما الميِّت فلأجل وجوب دفنه وعدم رضا الشارع ببقائه من غير دفن لتنهتك حرمته وتأكله السباع وتخرج

رائحته ونتنه ، فلو أُخرج من قبره بقي بلا دفن لانحصار الأرض بتلك الأرض.

والصحيح عدم جواز النبش للمالك أيضاً ، لما أشرنا إليه من أن الشارع لا يرضى ببقاء الميِّت بلا دفن لتأكله السباع أو ينتن وتهتك حرمته. ويكفي في ذلك إطلاقات أدلة الدّفن ، لأنه واجب على المكلفين الذين منهم المالك فلا يجوز له النبش لأنه خلاف الدّفن الواجب عليه.

ولا يقاس هذا بالكفن الذي قلنا بعدم وجوب بذله على المؤمنين إذا لم يكن للميت مال يشترى به الكفن ، إذ الواجب على المكلفين إنما هو الكفْن لا الكفَن ، فاذا لم يوجد كفَن يدفن عارياً ، فان الدّفن عارياً لا يوجب الهتك عليه إذ لا يبقى الكفَن إلاّ أياماً معدودة ، وهذا بخلاف الدّفن في مفروض الكلام ، فإنه واجب وموجب لبذل الأرض لانحصار المدفن بها ، فإنه لو أخرجه من أرضه لبقي الميِّت بلا دفن وأكلته السباع وانتشرت رائحته ونتنه وأوجب ذلك هتكه وهو حرام.

٣٥٣

وأمّا حديث « لا ضرر » فهو غير جارٍ في المقام حتى يترتب عليه جواز إخراج الميِّت من أرضه ، كما لو أدخله الجائر في ملكه من دون اختياره حياً ، فان المالك يجوز له إخراجه من أرضه حينئذ فليكن الأمر بعد موته كذلك. والوجه في عدم جريانه :

أوّلاً : أن ذلك لا يوجب ضرراً على المالك إما لبذل ثمن الأرض له إذا كان هناك باذل له ، وإما لأنه لا يوجب نقصاً في أرضه ، إذ لا منافاة بين أن يدفن الميِّت في أرضه وبين جواز الانتفاع بأرضه كما كان ينتفع بها قبل الدّفن.

وثانياً : أن قاعدة « لا ضرر » إنما شرعت للامتنان ، فاذا لزم من جريانها في مورد خلاف الامتنان على غيره فلا مقتضي لجريانها ، والأمر في المقام كذلك ، لأنها لو جرت في حق المالك لتضرره ببقاء الميِّت في أرضه لأوجب ذلك خلاف الامتنان على الميِّت لاستلزامه بقاء الميِّت بلا دفن لتأكله السباع وتهتك حرمته وهو أيضاً من أفراد المسلمين. وعلى هذا لا يجوز للمالك إخراج الميِّت من أرضه ، هذا بحسب البقاء.

ومنه يظهر الحال في الحدوث كما لو لم يكن من الابتداء أرض صالحة للدفن سوى تلك الأرض ولو بإجبار الظالم على دفنه فيها وعدم ترخيصه الدّفن في غيرها ، فإنه يجب أن يدفن ابتداءً وحدوثاً في تلك الأرض لعين ما تقدم.

ثم إن ما ذكرناه من جواز النبش إذا دفن في أرض الغير من دون رضاه لا يختص بما إذا كانت الأرض ملكاً للغير ، بل يأتي فيما إذا كانت منفعتها ملكاً للغير كما لو كانت الأرض مستأجرة لأحد ولم يرض المستأجر بدفن الميِّت فيها ، فان الدّفن فيها تصرف في المنفعة من دون رضا مالكها ، هذا كله فيما إذا كان الدّفن محرماً حدوثاً.

وأما إذا كان الدّفن محرماً بقاء إلاّ أنه بحسب الحدوث كان جائزاً فهل يجوز النبش حينئذ أو لا يجوز؟ فيه كلام ، وتوضيح ذلك أن في المسألة صوراً :

الصور المتصوّرة في المسألة

الأُولى : ما إذا دفن الميِّت في أرض الغير غفلة واشتباهاً أو نسياناً أو جهلاً بالغصبية وبعد ذلك التفت إلى أنها ملك الغير وهو غير راض بالدّفن فيها. مال صاحب الجواهر قدس‌سره في هذه الصورة إلى أن حكم البقاء حكم الحدوث‌

٣٥٤

وحيث إنه كان سائغاً فهو سائغ بقاء فلا يجوز نبشه حينئذ ، ولكنه احتاط بدفع القيمة للمالك وإرضائه بالدّفن (١) وكأنه للجمع بين الحقين.

ولكن الصحيح هو جواز النبش حينئذ ، لأن الدّفن كان بحسب الواقع محرماً لأنه في ملك الغير من غير رضاه ، والحرمة الواقعية لا تنقلب عما هي عليه بالجهل والاشتباه ، غاية الأمر أن لا يعاقب الدافن لأنه معذور بسبب الجهل أو الغفلة ، وهذا أمر آخر أجنبي عن بقاء الميِّت في أرض الغير ، وحيث إن الدّفن لم يكن مأموراً به واقعاً فلا مانع من النبش مقدمة للدفن الواجب وهو الدّفن في الأرض المباحة ، هذا كلّه في صورة الجهل بالغصبية.

وأمّا إذا نسي الغصبية فدفن الميِّت فيها فلا يأتي فيه ما ذكرناه عند الجهل بالغصبية ، لأن الجهل لا يرفع الحرمة الواقعية كما مر ، والنسيان موجب لسقوط الحرمة واقعاً وكون الدّفن مباحاً واقعاً ، ومعه يقع مصداقاً للمأمور به فيسقط به الأمر بالدّفن ، فلا يبقى مقتض ومسوغ لإباحة النبش ، لأنّا إنما أجزنا النبش مقدّمة للدفن المأمور به فيما إذا كان غير مأمور به ، وفي المقام حيث كان الدّفن مصداقاً للمأمور به فلا مرخص في النبش بوجه.

نعم هذا إذا كان ناسي الغصبية غير الغاصب للأرض ، فلو كان الغاصب هو الناسي فنسيانه غير رافع للحرمة الواقعية ، لأنه من الامتناع بالاختيار ، والحرمة حينئذ هي الحرمة السابقة على النسيان ، حيث حرم عليه جميع التصرفات فيما غصبه إلى آخر تصرفاته ، والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، وهذا بخلاف ما إذا كان الناسي شخصاً غير الغاصب.

وكيف كان ، فرق واضح بين الجهل والنسيان على ما فصلناه عند التكلّم عن التوضؤ من الماء المغصوب ، حيث قلنا إنه محرم واقعاً عند الجهل بالغصبية والوضوء باطل لا محالة ، وأمّا عند النسيان فهو أمر محلّل واقعاً ، لسقوط الحرمة عنه واقعاً وكونه مصداقاً للمأمور به وقابلاً للتقرّب به ، فان مجرّد المبغوضية الواقعية لا تمنع من التقرّب‌

__________________

(١) لاحظ الجواهر ٤ : ٣٥٥.

٣٥٥

به بعد ترخيص الشارع فيه واقعاً (١).

ثم إن هذا كله بالإضافة إلى غير مالك الأرض من سائر المكلفين ، وذلك لسقوط الواجب الكفائي بالدّفن في الأرض المغصوبة نسياناً فلا مرخص لهم في نبشه ودفنه في موضع مباح.

وأمّا بالإضافة إلى نفس المالك فلا يبعد جواز النبش حتى إذا دفن الميِّت في أرضه نسياناً ، وذلك لأنه من تزاحم الحقين ، حيث إن نبشه يوجب هتكه فرضاً ، فحق حرمة الميِّت يقتضي عدم جواز النبش ، مع أن تركه وإبقاءه في قبره ينافي حق المالك لتضرّره بذلك لدخول النقص على أرضه ولو لأجل كونه موجباً للخوف من القبر والميِّت ، ونحن لو لم نرجح الحق الراجع إلى الحي ولم نناقش في أن النبش لأجل كون الأرض مغصوبة ليست هتكاً له فالحقان متساويان ويتساقطان ، ويبقى عموم تسلط الناس على أموالهم بحاله وهو يقتضي جواز إخراج الميِّت من قبره ودفنه في أرض أُخرى مباحة.

وبهذا ظهر أن الميِّت كما يجوز نبشه عند دفنه في الأرض المغصوبة عمداً وعلماً بالغصبية كذلك يجوز نبشه إذا دفن فيها جهلاً أو نسياناً ، إلاّ أن ذلك بملاكين ، فإنه عند العلم أو الجهل بالغصبية بملاك عدم كون الدّفن مأموراً به واقعاً فينبش مقدمة للدفن المأمور به ، ولا يفرق فيه بين المالك وغيره ، وأمّا عند النسيان فبملاك تزاحم الحقين وعموم « الناس مسلّطون على أموالهم » (٢) ومن ثمة يختص الجواز بالمالك دون غيره من المكلّفين ، لكون الدّفن مأموراً به واقعاً وموجباً لسقوط الواجب الكفائي عنهم.

الصورة الثانية : ما إذا كان الدّفن في أرض الغير جائزاً ظاهراً وواقعاً بحسب الحدوث ، لعدم تمكن المالك من إظهار عدم الرضا حينئذ شرعاً لكنه أظهر عدم الرضا بدفن الميِّت في أرضه بحسب البقاء ، كما لو استأجر أحد أرضاً لخصوص دفن الأموات فيها أو لعموم التصرّفات التي يشاؤها ومنها دفن الميِّت فيها فدفن ميتاً في هذه الأرض لجوازه بالإجارة إلاّ أن المالك بعد انقضاء الإجارة أظهر عدم رضاه بدفنه فيها.

__________________

(١) شرح العروة ٥ : ٣١٧ فما بعد.

(٢) عوالي اللّئالي ١ : ٢٢٢ ، البحار ٢ : ٢٧٢ / ٧.

٣٥٦

والصحيح في هذه الصورة عدم جواز النبش لا للمالك ولا لغيره ، ذلك لأنّا إنما جوزنا النبش لعدم كون الدّفن مأموراً به فينبش مقدمة للدفن الواجب ، وفي مفروضنا حيث إن الدّفن سائغ ومصداق للمأمور به وقد سقط به الأمر بالدّفن فلا مقتضي ولا مسوغ لنبش القبر حينئذ.

ودعوى أن ذلك موجب لتضرّر المالك ، مندفعة بأنه هو الذي أقدم على هذا الضرر حيث آجر أرضه للدفن خاصّة أو لما يعمه.

وقد يقال في هذه الصورة إن إجارة الأرض للدفن أو لما يعمه يقتضي بحسب الارتكاز جواز الدّفن فيها بقاء أيضاً ، وهو من الشرط في ضمن العقد ارتكازاً. وهذه الدعوى ليست بعيدة فيما إذا علم المؤجر والمستأجر بما ذكرناه من عدم جواز النبش لا للمالك ولا لغيره حينئذ وكانا ملتفتين إليه ، وأما إذا كانا جاهلين أو غافلين عنه فلا إذ لا اشتراط حينئذ بوجه ، والشرط الارتكازي الذي يثبت مطلقاً ولو مع غفلة المتبايعين إنما هو الشرط الذي يكون ثابتاً عند العقلاء كما في خيار الغبن ، فإنه ثابت للمتعاقدين ولو مع غفلتهما ، وفي أمثال المقام حيث ثبت الشرط شرعاً لا عند العقلاء فلا يثبت إلاّ مع الالتفات.

الصورة الثالثة : ما إذا جاز الدّفن في أرض الغير بإذن من المالك إلاّ أنه ندم بعد الدّفن وأظهر عدم رضاه بحسب البقاء.

ذكر المحقق الهمداني قدس‌سره أن النبش محرم حينئذ لأنه منافٍ لحق الميِّت حيث ثبت له حق الدّفن في تلك الأرض بإجازة المالك فإخراجه منها بعد ذلك ينافي حق الميِّت ، وذكر أن من هذا القبيل ما إذا أجاز له في غرس شجر له في أرضه أو لأن يصلِّي في داره وبعد الغرس والدخول في الصلاة أظهر عدم رضاه ببقاء شجرة أو صلاته فيها ، فإنه لا يجب القلع وقطع الصلاة حينئذ لثبوت الحق لهما في الغرس والصلاة بإجازة المالك ، فاظهاره عدم الرضا بذلك ينافي ذلك الحق ، وذكر قدس‌سره أن عدم الجواز في المقام أظهر من المثالين المذكورين في كلامه (١).

__________________

(١) مصباح الفقيه ( الطّهارة ) : ٤٢٨ السطر ٣٣.

٣٥٧

وكذا إذا كان كفنه مغصوباً (١) أو دفن معه مال مغصوب ، بل لو دفن معه ماله المنتقل بعد موته إلى الوارث (٢) فيجوز نبشه لإخراجه (٣)

______________________________________________________

وفيه : أنه لم يقم دليل على ثبوت حق للميت أو للغارس والمصلي بإجازة المالك وإنما هو إباحة محضة ، وحيث إنها ليست بلازمة فله الرجوع فيما أباحه لغيره ، فلا يكون إخراج الميِّت أو قلع الشجرة أو قطع الصلاة منافياً للحق.

وقد تقدم في كلام صاحب الجواهر قدس‌سره أن حكم الدّفن بحسب البقاء هو حكمه بحسب الحدوث ، وحيث إنه كان سائغاً ابتداء وبحسب الحدوث فيكون سائغاً بقاء أيضاً (١). وقد تقدّم أنه لا ملازمة بين الأمرين بوجه.

نعم في خصوص الدّفن الأمر كما أفاده ، فلا يجوز النبش في مفروض المسألة لكن لا لما ذكراه ، بل لما قدمناه من أن جواز النبش إنما هو فيما إذا كان الدّفن محرماً وغير مأمور به فيجوز النبش مقدمة لإيجاد الدّفن الواجب ، وحيث إن الدّفن في مفروض المسألة كان سائغاً ومصداقاً للمأمور به وقد سقط به الأمر بالدّفن فلا مسوغ حينئذ للنبش لا للمالك ولا لغيره ، وإلاّ فلا حق للميِّت ولا للمصلِّي ولا للغارس بوجه ، ولا مانع من قلع الشجرة فيما إذا لم يرض المالك بها بقاء ، وكذلك لا مانع من قطع الصلاة لعدم حرمته حينئذ ، إذ الدليل على حرمته هو الإجماع وهو لا يشمل ما إذا لم يرض المالك بإتمام الصلاة.

(١) فإن الكفن حينئذ محرم وليس كفناً مأموراً به ، فكأن الميِّت دفن من دون كفن فينبش مقدّمة للكفن المأمور به ، إلى آخر ما ذكرناه في الدّفن في الأرض المغصوبة.

(٢) لأنه مال الوارث ، وحكمه حكم مال غيره من الملاك.

جواز النّبش لإخراج المال‌

(٣) والسر في ذلك أنه من تزاحم الحقّين ، حق الميِّت لفرض أن النبش هتك في‌

__________________

(١) تقدّم في ص ٣٥٤ ٣٥٥.

٣٥٨

حقه وحق المالك لأن ترك النبش موجب لتضرره وذهاب ماله ، ونحن لو لم نرجح حق الحي ولم نناقش في أن النبش لأخذ المال لا يصدق عليه الهتك عرفاً فالحقان متساويان فيتساقطان ، ويبقى عموم « الناس مسلطون على أموالهم » بحاله وهو يقتضي جواز النبش كما تقدم في مسألة الدّفن في الأرض المغصوبة ، وهذا مما لا ينبغي التأمل فيه.

وإنما الكلام في أن النبش جائز في مطلق المال المدفون مع الميِّت ولو كان قليلاً وفي مطلق الميِّت ولو كان قبر معصوم عليه‌السلام أو من يأتي تلوه من العلماء العظماء ونحوهم ، أو يختص بالمال المعتد به لدى العقلاء وبغير المعصوم وشبهه؟

الصحيح هو الثاني ، فإن المال القليل لا يحتمل جواز النبش له وهتك الميِّت لأجل إخراج فلس ونحوه مما لا يعتد به العقلاء ، فحق الميِّت أقوى من حق المالك بلا كلام كما أن القبر إذا كان قبر معصوم لم يجز نبشه ولو لأجل مال معتد به لدى العقلاء ، لأنه هتك في حقه.

نعم ورد في رواية المغيرة بن شعبة أنه دفن مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتمه ثم نبش قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخرج الخاتم وأنه كان يفتخر بذلك لأنه آخر من عهد عهداً بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) إلاّ أن الرواية ضعيفة السند ، وهي مكذوبة ومروية من طرق العامة ، وراويها المغيرة من أعداء أمير المؤمنين عليه‌السلام فلا يمكن الاعتداد بها ، إذ حكي أنه لم يكن حاضراً عند دفن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. على أن ظاهرها أنه دفن خاتمه معه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمداً ، والدّفن العمدي لا نرخص فيه النبش حتى في غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنه الذي أقدم على تضرره بدفنه مع الميِّت فكيف بقبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) السيرة الحلبية ٣ : ٤٩٥ ، المهذب ١ : ١٤٥.

٣٥٩

نعم لو أوصى بدفن دعاء أو قرآن أو خاتم معه لا يجوز نبشه لأخذه (١) بل لو ظهر بوجه من الوجوه لا يجوز أخذه (٢) كما لا يجوز عدم العمل بوصيّته من الأوّل.

الثاني : إذا كان مدفوناً بلا غسل أو بلا كفن أو تبين بطلان غسله أو كون كفنه على غير الوجه الشرعي كما إذا كان من جلد الميتة أو غير المأكول أو حريراً (٣) فيجوز نبشه لتدارك ذلك ما لم يكن موجباً لهتكه ، وأما إذا دفن بالتيمّم لفقد الماء فوجد الماء بعد دفنه أو كفن بالحرير لتعذّر غيره (٤) ففي جواز نبشه إشكال (٥).

______________________________________________________

(١) إذا كانت الوصية نافذة.

(٢) بل تجب إعادته معه عملاً بالوصيّة النافذة.

إذا دفن بلا غسل ونحوه‌

(٣) والجامع أن يدفن الميِّت بلا غسل أو بلا كفن صحيح مأمور به شرعاً ، إما لعدم الغسل أو الكفن أصلاً أو لكون غسله أو كفنه على الوجه الباطل ، كما إذا غسله من غير الخليطين أو كفنه بالحرير ونحو ذلك ، فان الدّفن في هذه الصور دفن باطل وغير مأمور به شرعاً ، فلا مانع من النبش مقدمة للدفن الصحيح بأن يغسل أو يكفن صحيحاً ثم يدفن ، فان النبش حينئذ لا يعد هتكاً للميت كما هو حال النبش لو كان لغرض صحيح عند العقلاء.

(٤) بأن يكون الميِّت قد غسل أو كفن غسلاً أو كفناً عذريا ، بأن يغسل بالماء القراح بدلاً عن الخليطين لتعذّرهما ، أو يمم الميِّت بدلاً عن الغسل لفقد الماء ، أو كفن بالحرير لتعذر القطن وغيره ثم بعد الدّفن تمكن من الغسل والكفن الاختياريين.

(٥) ولكنّه قدس‌سره يظهر منه في المسألة العاشرة من كيفية غسل الميِّت عدم جواز النبش حالئذٍ ، حيث ذكر أنه إذا ارتفع العذر عن الغسل أو عن خلط الخليطين أو أحدهما بعد التيمّم أو بعد الغسل بالقراح قبل الدّفن تجب الإعادة ، وكذا بعد الدّفن إذا اتفق خروجه على الأحوط ، حيث قيد الجواز أو الوجوب بما إذا خرج الميِّت من‌

٣٦٠