موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

على منكبه الأيمن ويضع يده اليسرى على منكبه الأيسر بقوة ويدني فمه من اذنه ويحركه تحريكاً شديداً ثم يقول : « يا فلان بن فلان اسمع افهم » ثلاث مرات : « الله ربك ، ومحمّد نبيك ، والإسلام دينك ، والقرآن كتابك ، وعليّ إمامك ، والحسن إمامك ... إلى آخر الأئمة عليهم‌السلام أفهمت يا فلان » ، ويعيد عليه هذا التلقين ثلاث مرات ثم يقول : « ثبتك الله بالقول الثابت ، هداك الله إلى صراط مستقيم ، عرّف الله بينك وبين أوليائك في مستقر من رحمته ، اللهمّ جاف الأرض عن جنبيه واصعد بروحه إليك ولقّه منك برهاناً ، اللهمّ عفوك عفوك ».

وأجمع كلمة في التلقين أن يقول : « اسمع افهم يا فلان بن فلان » ثلاث مرّات ذاكراً اسمه واسم أبيه ، ثم يقول : « هل أنت على العهد الذي فارقتنا عليه من شهادة أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأن محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله عبده ورسوله وسيد النبيين وخاتم المرسلين ، وأن علياً أمير المؤمنين وسيد الوصيين وإمام افترض الله طاعته على العالمين ، وأن الحسن والحسين وعليّ بن الحسين ومحمّد بن عليّ وجعفر بن محمّد وموسى بن جعفر وعليّ بن موسى ومحمّد بن عليّ وعليّ بن محمّد والحسن بن عليّ والقائم الحجة المهدي ( صلوات الله عليهم ) أئمة المؤمنين وحجج الله على الخلق أجمعين ، وأئمتك أئمة هدى بك أبرار. يا فلان بن فلان إذا أتاك الملكان المقربان رسولين من عند الله تبارك وتعالى وسألاك عن ربك وعن نبيك وعن دينك وعن كتابك وعن قبلتك وعن أئمتك فلا تخف ولا تحزن وقل في جوابهما : الله ربِّي ، ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله نبيِّي ، والإسلام ديني ، والقرآن كتابي ، والكعبة قبلتي ، وأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب إمامي والحسن بن عليّ المجتبى إمامي ، والحسين بن عليّ الشهيد بكربلاء إمامي ، وعليّ زين العابدين إمامي ، ومحمّد الباقر إمامي ، وجعفر الصادق إمامي ، وموسى الكاظم إمامي ، وعليّ الرضا إمامي ، ومحمّد الجواد إمامي ، وعليّ الهادي إمامي‌

٣٢١

والحسن العسكري إمامي ، والحجة المنتظر إمامي ، هؤلاء صلوات الله عليهم أجمعين أئمتي وسادتي وقادتي وشفعائي ، بهم أتولى ومن أعدائهم أتبرأ في الدنيا والآخرة. ثم اعلم يا فلان بن فلان أن الله تبارك وتعالى نعم الرب ، وأن محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله نعم الرسول ، وأن عليّ بن أبي طالب وأولاده المعصومين الأئمة الاثني عشر نعم الأئمة ، وأن ما جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حق ، وأن الموت حق ، وسؤال منكر ونكير في القبر حق ، والبعث حق ، والنشور حق والصراط حق ، والميزان حق ، وتطاير الكتب حق ، وأن الجنة حق ، والنار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور » ثم يقول : « أفهمت يا فلان » ، وفي الحديث أنه يقول : فهمت. ثم يقول : « ثبّتك الله بالقول الثابت وهداك الله إلى صراط مستقيم ، عرّف الله بينك وبين أوليائك في مستقر من رحمته » ، ثم يقول : « اللهمّ جاف الأرض عن جنبيه ، واصعد بروحه إليك ، ولقّه منك برهاناً ، اللهمّ عفوك عفوك » ، والأولى أن يلقّن بما ذكر من العربي وبلسان الميِّت أيضاً إن كان غير عربي.

الرابع عشر : أن يسدّ اللّحد باللبن لحفظ الميِّت من وقوع التراب عليه والأولى الابتداء من طرف رأسه ، وإن أحكمت اللبن بالطين كان أحسن.

الخامس عشر : أن يخرج المباشر من طرف الرجلين ، فإنه باب القبر.

السادس عشر : أن يكون من يضعه في القبر على طهارة مكشوف الرأس نازعاً عمامته ورداءه ونعليه بل وخفّيه إلاّ لضرورة.

السابع عشر : أن يهيل غير ذي الرحم ممن حضر التراب عليه بظهر الكف قائلاً : « إنّا لله وإنّا إليه راجعون » على ما مر.

الثامن عشر : أن يكون المباشر لوضع المرأة في القبر محارمها أو زوجها ومع عدمهم فأرحامها ، وإلاّ فالأجانب ، ولا يبعد أن يكون الأولى بالنسبة إلى الرجلِ‌

٣٢٢

الأجانبَ.

التاسع عشر : رفع القبر عن الأرض بمقدار أربع أصابع مضمومة أو مفرجة.

العشرون : تربيع القبر بمعنى كونه ذا أربع زوايا قائمة ، وتسطيحه ، ويكره تسنيمه بل تركه أحوط.

الحادي والعشرون : أن يجعل على القبر علامة.

الثاني والعشرون : أن يرشّ عليه الماء ، والأولى أن يستقبل القبلة ويبتدئ بالرش من عند الرأس إلى الرجل ثم يدور به على القبر حتى يرجع إلى الرأس ثم يرشّ على الوسط ما يفضل من الماء. ولا يبعد استحباب الرشّ إلى أربعين يوماً أو أربعين شهراً.

الثالث والعشرون : أن يضع الحاضرون بعد الرشّ أصابعهم مفرجات على القبر بحيث يبقى أثرها ، والأولى أن يكون مستقبل القبلة ومن طرف رأس الميِّت واستحباب الوضع المذكور آكد بالنسبة إلى من لم يصلّ على الميِّت ، وإذا كان الميِّت هاشمياً فالأولى أن يكون الوضع على وجه يكون أثر الأصابع أزيد بأن يزيد في غمز اليد ، ويستحب أن يقول حين الوضع : « بسم الله ختمتك من الشيطان أن يدخلك » وأيضاً يستحب أن يقرأ مستقبلاً للقبلة سبع مرات إنّا أنزلناه ، وأن يستغفر له ويقول : « اللهمّ جاف الأرض عن جنبيه ، واصعد إليك روحه ، ولقّه منك رضواناً ، وأسكن قبره من رحمتك ما تغنيه به عن رحمة من سواك » أو يقول : « اللهمّ ارحم غربته ، وصِل وحدته ، وآنس وحشته ، وآمن روعته ، وأفض عليه من رحمتك ، وأسكن إليه من برد عفوك وسعة غفرانك ورحمتك ما يستغني بها عن رحمة من سواك ، واحشره مع من كان يتولاّه » ، ولا تختص هذه الكيفية بهذه الحالة ، بل يستحب عند زيارة كل مؤمن قراءة إنّا أنزلناه سبع مرات وطلب المغفرة وقراءة الدعاء المذكور.

٣٢٣

الرابع والعشرون : أن يلقنه الولي أو من يأذن له تلقيناً آخر بعد تمام الدّفن ورجوع الحاضرين بصوت عال بنحو ما ذكر ، فان هذا التلقين يوجب عدم سؤال النكيرين منه ، فالتلقين يستحب في ثلاثة مواضع : حال الاحتضار وبعد الوضع في القبر وبعد الدّفن ورجوع الحاضرين ، وبعضهم ذكر استحبابه بعد التكفين أيضاً. ويستحب الاستقبال حال التلقين ، وينبغي في التلقين بعد الدّفن وضع الفم عند الرأس وقبض القبر بالكفين.

الخامس والعشرون : أن يكتب اسم الميِّت على القبر أو على لوح أو حجر وينصب عند رأسه.

السادس والعشرون : أن يجعل في فمه فصّ عقيق مكتوب عليه : « لا إله إلاّ الله ربي ، محمّد نبيّي ، عليّ والحسن والحسين إلى آخر الأئمة أئمتي ».

السابع والعشرون : أن يوضع على قبره شي‌ء من الحصى على ما ذكره بعضهم والأولى كونها حمرا.

الثامن والعشرون : تعزية المصاب وتسليته قبل الدّفن وبعده ، والثاني أفضل والمرجع فيها إلى العرف ، ويكفي في ثوابها رؤية المصاب إياه ، ولا حدّ لزمانها ولو أدّت إلى تجديد حزن قد نسي كان تركها أولى. ويجوز الجلوس للتعزية ولا حد له أيضاً ، وحدّه بعضهم بيومين أو ثلاثة ، وبعضهم على أن الأزيد من يوم مكروه ، ولكن إن كان الجلوس بقصد قراءة القرآن والدعاء لا يبعد رجحانه.

التاسع والعشرون : إرسال الطعام إلى أهل الميِّت ثلاثة أيام ، ويكره الأكل عندهم ، وفي خبر : أنه عمل أهل الجاهلية.

الثلاثون : شهادة أربعين أو خمسين من المؤمنين للميت بخير بأن يقولوا : « اللهمّ إنّا لا نعلم منه إلاّ خيراً وأنت أعلم به منّا ».

الواحد والثلاثون : البكاء على المؤمن.

٣٢٤

الثاني والثلاثون : أن يسلّي صاحب المصيبة نفسه بتذكر موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنه أعظم المصائب.

الثالث والثلاثون : الصبر على المصيبة والاحتساب والتأسي بالأنبياء والأوصياء والصلحاء خصوصاً في موت الأولاد.

الرابع والثلاثون : قول ( إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) كلما تذكر.

الخامس والثلاثون : زيارة قبور المؤمنين والسلام عليهم ، يقول : « السلام عليكم يا أهل الديار ... إلخ » وقراءة القرآن وطلب الرحمة والمغفرة لهم ، ويتأكد في يوم الاثنين والخميس خصوصاً عصره وصبيحة السبت للرجال والنساء بشرط عدم الجزع والصبر.

ويستحب أن يقول : « السلام على أهل الديار من المؤمنين ، رحم الله المتقدمين منكم والمتأخرين ، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون ».

ويستحب للزائر أن يضع يده على القبر وأن يكون مستقبلاً وأن يقرأ « إنّا أنزلناه » سبع مرات.

ويستحب أيضاً قراءة الحمد والمعوذتين وآية الكرسي كل منها ثلاث مرات والأولى أن يكون جالساً مستقبل القبلة ويجوز قائماً.

ويستحب أيضاً قراءة « يس » ويستحب أيضاً أن يقول : « بسم الله الرّحمن الرّحيم السّلام على أهل لا إله إلاّ الله ، من أهل لا إله إلاّ الله ، يا أهل لا إله إلاّ الله ، كيف وجدتم قول لا إله إلاّ الله من لا إله إلاّ الله ، يا لا إله إلاّ الله بحق لا إله إلاّ الله اغفر لمن قال لا إله إلاّ الله ، واحشرنا في زمرة من قال لا إله إلاّ الله ، محمّد رسول الله عليّ وليّ الله ».

السادس والثلاثون : طلب الحاجة عند قبر الوالدين.

السابع والثلاثون : إحكام بناء القبر.

٣٢٥

الثامن والثلاثون : دفن الأقارب متقاربين.

التاسع والثلاثون : التحميد والاسترجاع وسؤال الخلف عند موت الولد.

الأربعون : صلاة الهدية ليلة الدّفن وهي على رواية ركعتان يقرأ في الأُولى الحمد وآية الكرسي وفي الثانية الحمد والقدر عشر مرات ، ويقول بعد الصلاة : « اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد ، وابعث ثوابها إلى قبر فلان ».

وفي رواية أُخرى في الركعة الأُولى الحمد وقل هو الله أحد مرتين وفي الثانية الحمد والتكاثر عشر مرات ، وإن أتى بالكيفيتين كان أولى.

وتكفي صلاة واحدة من شخص واحد ، وإتيان أربعين أولى لكن لا بقصد الورود والخصوصية ، كما أنه يجوز التعدد من شخص واحد بقصد إهداء الثواب والأحوط قراءة آية الكرسي إلى ( هُمْ فِيها خالِدُونَ ).

والظاهر أن وقته تمام الليل وإن كان الأولى أوله بعد العشاء ولو أتى بغير الكيفية المذكورة سهواً أعاد ولو كان بترك آية من إنّا أنزلناه وآية من آية الكرسي ، ولو نسي من أخذ الأجرة عليها فتركها أو ترك شيئاً منها وجب عليه ردها إلى صاحبها ، وإن لم يعرفه تصدق بها عن صاحبها ، وإن علم برضاه أتى بالصلاة في وقت آخر وأهدى ثوابها إلى الميِّت لا بقصد الورود.

[١٠٠٨] مسألة ١ : إذا نقل الميِّت إلى مكان آخر كالعتبات أو أخِّر الدّفن إلى مدّة فصلاة ليلة الدّفن تؤخر إلى ليلة الدّفن.

[١٠٠٩] مسألة ٢ : لا فرق في استحباب التعزية لأهل المصيبة بين الرجال والنساء حتى الشابات منهن متحرزاً عما تكون به الفتنة ، ولا بأس بتعزية أهل الذمّة مع الاحتراز عن الدعاء لهم بالأجر إلاّ مع مصلحة تقتضي ذلك.

[١٠١٠] مسألة ٣ : يستحب الوصية بمال لطعام مأتمه بعد موته.

٣٢٦

فصل

في مكروهات الدّفن

وهي أيضاً أُمور :

الأوّل : دفن ميتين في قبر واحد بل قيل بحرمته مطلقاً ، وقيل بحرمته مع كون أحدهما امرأة أجنبية ، والأقوى الجواز مطلقاً مع الكراهة ، نعم الأحوط الترك إلاّ لضرورة ، ومعها الأولى جعل حائل بينهما ، وكذا يكره حمل جنازة الرجل والمرأة على سرير واحد ، والأحوط تركه أيضاً (١).

الثاني : فرش القبر بالساج ونحوه من الآجر والحجر إلاّ إذا كانت الأرض ندية ، وأما فرش ظهر القبر بالآجر ونحوه فلا بأس به ، كما أن فرشه بمثل حصير وقطيفة لا بأس به وإن قيل بكراهته أيضا.

الثالث : نزول الأب في قبر ولده خوفاً من جزعه وفوات أجره ، بل إذا خيف من ذلك في سائر الأرحام أيضاً يكون مكروهاً ، بل قد يقال بكراهة نزول الأرحام مطلقاً إلاّ الزوج في قبر زوجته والمحرم في قبر محارمه.

الرابع : أن يهيل ذو الرحم على رحمه التراب ، فإنه يورث قساوة القلب.

الخامس : سدّ القبر بتراب غير ترابه ، وكذا تطيينه بغير ترابه ، فإنه ثقل على الميِّت.

______________________________________________________

فصل في مكروهات الدّفن‌

(١) تقدّم الكلام في ذلك في المسألة الثانية عشرة من مسائل الدّفن مفصّلاً فلاحظ.

٣٢٧

السادس : تجصيصه أو تطيينه لغير ضرورة وإمكان الإحكام المندوب بدونه والقدر المتيقن من الكراهة إنما هو بالنسبة إلى باطن القبر لا ظاهره وإن قيل بالإطلاق.

السابع : تجديد القبر بعد اندراسه إلاّ قبور الأنبياء والأوصياء والصلحاء والعلماء.

الثامن : تسنيمه ، بل الأحوط تركه (١).

______________________________________________________

كراهة تسنيم القبر‌

(١) لا إشكال في أن تربيع القبر وتسطيحه مستحب في الشريعة المقدسة ، لورود الأمر به في جملة من الروايات (١) ، كما أن تسنيم القبر مكروه لأنه شعار أهل الخلاف.

وقد وقع الكلام في حرمته ، واستدل عليها بالنهي عن التسنيم في الفقه الرضوي (٢) إلاّ أنه لا يمكن الاعتماد عليه كما تقدم غير مرة.

وبرواية أبي الجارود عن الأصبغ بن نباتة قال « قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : من حدّد قبراً ... » (٣) بناء على أن النسخة الصحيحة « حدد » أي جعل القبر محدداً وعلى وجه التسنيم.

لكن تقدّم (٤) أن سند الرواية ضعيف ، لورود الذم في أبي الجارود فقد ورد أنه كذاب وأنه كافر ، كما أن متنها لم يثبت لتردده بين احتمالات ونسخ متعدِّدة.

واستدل عليها بالأخبار الآمرة بتربيع القبر ، لأنه إذا وجب حرم خلافه وهو التسنيم :

__________________

(١) ونذكر مصادرها عند ذكرها.

(٢) المستدرك ٢ : ٣٤٦ / أبواب أحكام الدفن ب ٣٨ ح ٢ ، فقه الرضا : ١٧٥.

(٣) الوسائل ٣ : ٢٠٨ / أبواب الدّفن ب ٤٣ ح ١. واستظهر الأُستاذ في [ المعجم ٨ : ٣٣٥ ] وثاقة أبي الجارود زياد بن المنذر ، فالأولى الإشكال في السند من جهة محمد بن سنان.

(٤) في ص ٣١١.

٣٢٨

التاسع : البناء عليه عدا قبور من ذكر ، والظاهر عدم كراهة الدّفن تحت البناء والسقف.

______________________________________________________

منها : رواية السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة فقال : لا تدع صورة إلاّ محوتها ولا قبراً إلاّ سويته ولا كلباً إلاّ قتلته » (١) أي جعلت القبر على غير صورة التسنيم والتحديد. لكن الرواية ضعيفة لأن في سندها النوفلي عن السكوني (٢) فلا يمكن الاستدلال بها على الحرمة ، بل غاية الأمر أن يستدل بها على الكراهة بناء على التسامح في أدلّة السنن.

ومنها : رواية جابر بن يزيد عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « ما على أحدكم إذا دفن ميته وسوى عليه وانصرف عن قبره أن يتخلف عند قبره ثم يقول ... » (٣) أي لماذا لا يتخلف أحد أرحام الميِّت عند قبره ليلقنه الشهادتين ، حيث جعلت تسوية القبر مفروغاً عنها عند الأمر بالتخلف عند قبر الميِّت.

وفيه : أن الرواية ضعيفة السند بعمرو بن شمر وغيره.

كما أن دلالتها على المدعى قاصرة ، لأن المراد بالتسوية فيها هو إتمام الدّفن والقبر لا التسوية في مقابل التسنيم ، بل التسوية بهذا المعنى تستعمل اليوم أيضاً فتقول للطعام المطبوخ إنه مستوي أي تام الطبخ.

ومنها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث : قال : « وإذا حثي عليه التراب وسوى قبره فضع كفك على قبره ... » (٤) ، وهي وإن كانت معتبرة سنداً إلاّ أنها قاصرة الدلالة على المدعى ، لأن التسوية بمعنى الإتمام لا بمعنى التربيع ، لعدم مناسبته مع حث التراب عليه.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٢٠٩ / أبواب الدّفن ب ٤٣ ح ٢.

(٢) رجع سيدنا الأُستاذ عن ذلك فيما بعد في المعجم ٧ : ١٢٢.

(٣) الوسائل ٣ : ٢٠١ / أبواب الدّفن ب ٣٥ ح ٢.

(٤) الوسائل ٣ : ١٩٧ / أبواب الدّفن ب ٣٣ ح ١.

٣٢٩

العاشر : اتخاذ المقبرة مسجداً إلاّ مقبرة الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام والعلماء.

الحادي عشر : المقام على القبور إلاّ الأنبياء عليهم‌السلام والأئمة عليهم‌السلام.

الثاني عشر : الجلوس على القبر.

الثالث عشر : البول والغائط في المقابر.

الرابع عشر : الضحك في المقابر.

الخامس عشر : الدّفن في الدور.

السادس عشر : تنجيس القبور وتكثيفها بما يوجب هتك حرمة الميِّت.

السابع عشر : المشي على القبر من غير ضرورة.

الثامن عشر : الاتّكاء على القبر.

التاسع عشر : إنزال الميِّت في القبر بغتة من غير أن توضع الجنازة قريباً منه‌

______________________________________________________

ومنها : رواية محمد بن مسلم قال : « سألت أحدهما عليهما‌السلام عن الميِّت فقال : تسله من قبل الرجلين وتلزق القبر بالأرض إلاّ قدر أربع أصابع مفرجات تربع قبره » (١).

وهي ضعيفة السند بسهل بن زياد على طريق الكليني (٢) ، على أن متنها ليس ثابتاً إذ نقلت الرواية « وترفع قبره » بدلاً عن « تربع قبره » ، إلى غير ذلك من الروايات (٣). والمتحصل : أن التسنيم لا دليل على حرمته وإن كان الأحوط تركه كما في المتن.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ١٨١ / أبواب الدّفن ب ٢٢ ح ٢.

(٢) الكافي ٣ : ١٩٥ / ٣.

(٣) الوسائل ٣ : ١٨٢ / أبواب الدّفن ب ٢٢ ح ٥ ، ١٩٤ ب ٣١ ح ٩ ، ١٢ وغيرها من الموارد.

٣٣٠

ثم ترفع وتوضع في دفعات كما مر.

العشرون : رفع القبر عن الأرض أزيد من أربع أصابع مفرجات.

الحادي والعشرون : نقل الميِّت من بلد موته إلى بلد آخر (١) إلاّ إلى المشاهد المشرّفة والأماكن المقدّسة والمواضع المحترمة كالنقل من عرفات إلى مكة والنقل‌

______________________________________________________

جواز نقل الميِّت إلى بلد آخر‌

(١) الكلام في هذه المسألة إنما هو في جواز نقل الميِّت في نفسه مع قطع النظر عما قد يستلزمه من النبش أو فساد الميِّت وتعفنه. والكلام يقع في جهات :

الجهة الاولى : أن نقل الميِّت بما هو نقل إلى الأماكن المتبركة أو غير المتبركة أمر سائغ ، وقد ادعى الإجماع على جوازه على كراهة جماعة كالمحقق (١) والعلاّمة (٢) والشهيد (٣) والمحقق الكركي (٤).

وهذا الإجماع إن تمّ فهو وإلاّ فمقتضى القاعدة جواز النقل من دون كراهة ، وذلك للإطلاقات حيث إن ما دلّ على وجوب الدّفن لم يقيد ببلد الموت ومكانه.

وقد استدلّ على الكراهة بعد الإجماع المتقدِّم برواية الدعائم عن علي عليه‌السلام : « أنه رفع إليه أن رجلاً مات بالرستاق فحملوه إلى الكوفة فأنهكهم عقوبة وقال : ادفنوا الأجساد في مصارعها ، ولا تفعلوا فعل اليهود تنقل موتاهم إلى بيت المقدس ... إلخ » (٥).

__________________

(١) المعتبر ١ : ٣٠٧.

(٢) التذكرة ٢ : ١٠٢.

(٣) الذكرى : ٦٤ السطر الأخير.

(٤) جامع المقاصد ١ : ٤٥٠.

(٥) المستدرك ٢ : ٣١٣ / أبواب الدّفن ب ١٣ ح ١٥ ، دعائم الإسلام ١ : ٢٣٨.

٣٣١

إلى النجف فان الدّفن فيه يدفع عذاب القبر وسؤال الملكين ، وإلى كربلاء والكاظمية وسائر قبور الأئمة بل إلى مقابر العلماء والصّلحاء ، بل لا يبعد استحباب النقل من بعض المشاهد إلى آخر لبعض المرجّحات الشرعية.

______________________________________________________

وفيه : أن روايات دعائم الإسلام ضعيفة لإرسالها فلا يمكن الاعتماد عليها في الكراهة إلاّ بناء على التسامح في أدلّة السنن والمكروهات.

واستدل بالأخبار الآمرة بالتعجيل في تجهيز الميِّت ودفنه وأنه لو مات أول النهار استحب أن يدفن قبل الزوال لتكون قيلولته في قبره. وقد عقد في الوسائل لذلك باباً نقل فيه عدة روايات (١).

والوجه في الاستدلال بها أن استحباب التعجيل في الدّفن يستلزم كراهة النقل لأن فيه تأخيراً في الدّفن. ولكن الروايات المذكورة بأجمعها ضعيفة السند فلا يثبت بها استحباب التعجيل فضلاً عن كراهة النقل والتأخير.

نعم يمكن الاستدلال على استحباب التعجيل بقوله تعالى ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) (٢) وقوله تعالى ( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) (٣) حيث دلّتا على استحباب التعجيل والمسارعة في كل ما هو مأمور به شرعاً.

إلاّ أن استحباب التعجيل في الدّفن لا يقتضي كراهة النقل ، فإن التأخير موجب لعدم العمل بالاستحباب لا أنه ارتكاب للمكروه. على أن النقل لا يلازم التأخير ، بل قد يكون الدّفن موجباً لترك المسارعة والتعجيل في الدّفن بخلاف النقل ، كما إذا كان الهواء بارداً غايته أو حارّاً غايته بحيث لا يمكن الحفر إلاّ في مدة طويلة أو لم يكن هناك آلة الحفر موجودة ولكن يمكن النقل إلى بلد ثان بالوسائط المستحدثة السريعة‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٤٧١ / أبواب الاحتضار ب ٤٧.

(٢) البقرة ٢ : ١٤٨.

(٣) آل عمران ٣ : ١٣٣.

٣٣٢

ودفنه في زمان قريب.

فالمتحصل : أنه لم تثبت كراهة في النقل بوجه فهو أمر سائغ من دون كراهة. وهذا الحكم لا يفرق فيه بين النقل إلى الأماكن القريبة والبعيدة كما هو ظاهر.

الجهة الثانية : النقل إلى الأماكن المتبركة كالمشاهد المشرفة وغيرها من الأماكن التي يتقرّب بالدّفن فيها إلى الله سبحانه جائز بل مستحب ، كالنقل إلى بيوت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كالمعصومة عليها‌السلام وغيرها من قبور الأئمة وبناتهم ، أو النقل إلى قبر عالم من العلماء أو سيد من السادات للتوسّل بهم والاستشفاع بقبورهم ، بل عن المحقق في المعتبر أنه مذهب علمائنا خاصّة ، وعليه عمل الأصحاب من زمن الأئمة عليهم‌السلام إلى الآن وهو مشهور بينهم لا يتناكرونه (١).

ولا كراهة فيه بوجه ، لأن المدرك في الكراهة إن كان هو الإجماع المدعى فلا إجماع في النقل إلى الأماكن المتبركة ، وإن كان المدرك هو استحباب المسارعة إلى الخيرات فالنقل إلى المشاهد المشرفة وما بحكمها هي عين المسارعة إلى الخيرات لأنه توسل واستشفاع بهم عليهم‌السلام ، نعم لو تمت رواية الدعائم من حيث السند لدلّت على مبغوضية النقل ولو إلى الأماكن المتبركة ، لدلالتها على ذم نقل الموتى إلى بيت المقدس كما عرفت ، إلاّ أنها مرسلة لا يمكن الاعتماد عليها.

ويؤيد ما ذكرناه رواية علي بن سليمان قال : « كتبت إليه أسأله عن الميِّت يموت بعرفات يدفن بعرفات أو ينقل إلى الحرم فأيهما أفضل؟ فكتب : يحمل إلى الحرم ويدفن فهو أفضل » (٢).

والمروي عن إرشاد الديلمي وفرحة الغري من قضية اليماني الحامل لجنازة أبيه فقال له علي عليه‌السلام : لِمَ لا دفنته في أرضكم؟ قال أوصى بذلك ، فقال له : ادفن‌

__________________

(١) المعتبر ١ : ٣٠٧.

(٢) الوسائل ١٣ : ٢٨٧ / أبواب مقدمات الطواف ب ٤٤ ح ٢.

٣٣٣

فقام فدفنه في الغري (١) فإنه يدل على التقرير منه عليه‌السلام لذلك.

والمتحصل : أن نقل الميِّت إلى المشاهد المشرفة وما بحكمها لا كراهة فيه سواء أوصى الميِّت بذلك أم لم يوص به ، هذا.

وعن الشهيد قدس‌سره التفصيل بين الشهيد فلا بدّ أن يدفن في مصرعه وبين غيره فلا مانع من نقله إلى غير بلد الموت (٢). وهذا التفصيل لم يظهر له مستند في الأخبار ، وهو قدس‌سره اعتمد في ذلك على رواية الدعائم المتقدمة ، وقد عرفت ضعفها لإرسالها. فلا فرق بين الشهيد وغيره ، فان نقل الميِّت إلى المشاهد المشرفة للتوسّل بهم عليهم‌السلام والاستشفاع والتبرك راجح كما تقدّم.

الجهة الثالثة : فيما إذا استلزم نقل الميِّت تغيراً فيه ، وهذا على قسمين وصورتين :

الصورة الاولى : أن يكون التغير مستنداً إلى اختيار المكلف كتقطيع الميِّت.

الصورة الثانية : ما إذا لم يستند التغير إلى اختياره بل تغير الميِّت وأنتن لحرارة الهواء أو طول المدة ونحوهما.

أمّا الصورة الاولى : فلا نعرف من يفتي بجواز النقل المستلزم للتغير الصادر عن الاختيار من الأصحاب سوى الشيخ الكبير حيث نسب إليه القول بجواز النقل وإن استلزم التقطيع وجعل الميِّت إرباً (٣). واستدل على ذلك بوجوه :

منها : أصالة الإباحة ، لعدم العلم بحرمة النقل المستلزم لتقطيع الميِّت والأصل إباحته.

ومنها : إطلاقات كلمات الأصحاب حيث ذكروا أن النقل من بلد الموت إلى غيره‌

__________________

(١) المستدرك ٢ : ٣١٠ / أبواب الدّفن ب ١٣ ح ٧ ، إرشاد القلوب : ٤٤٠. ليس في المصدر : في الغري.

(٢) الذكرى : ٦٥ السطر ٥.

(٣) حكاه عنه في الجواهر ٤ : ٣٤٨.

٣٣٤

والظاهر عدم الفرق في جواز النقل بين كونه قبل الدّفن أو بعده ، ومن قال بحرمة الثاني فمراده ما إذا استلزم النبش ، وإلاّ فلو فرض خروج الميِّت عن قبره بعد دفنه بسبب من سبع أو ظالم أو صبي أو نحو ذلك لا مانع من جواز نقله إلى المشاهد مثلاً‌

______________________________________________________

جائز على كراهة ما لم يستلزم التقطيع إلاّ إلى المشاهد المشرفة ، حيث لم يقيدوا ذلك بما إذا لم يستلزم التقطيع الاختياري.

ومنها : إطلاق ما دل على جواز النقل كرواية اليماني المتقدمة ، على أن الميِّت في تلك المدّة [ التي ] ينقل فيها من اليمن إلى الغري يتغير عادة ، فبذلك لا بدّ من الحكم بجواز التقطيع للنقل إلى المشاهد المشرفة.

وهذا مما لا يعد هتكاً للميت بل هو كرامة له ، فإن الإحياء قد تقطع بعض أعضائهم لأجل مصلحة تقتضي التقطيع من دون أن يعد ذلك هتكاً له ، هذا.

ولا يمكن المساعدة على شي‌ء من ذلك. أما قضية الأصل فلأن تقطيع الميِّت في نفسه محرم ، بل فيه الدية ، وفي قطع الرأس دية كاملة ، ومعه كيف يمكن دعوى أن الأصل إباحة التقطيع لدى النقل بل هو أمر محرم.

وأما إطلاق كلمات الأصحاب ففيه : أن استثناء المشاهد المشرفة إنما يرجع إلى إفتائهم بكراهة النقل ، بمعنى أن النقل مكروه إلاّ إذا كان النقل إلى المشاهد المشرفة لا أنه استثناء من حرمة النقل المستلزم للتقطيع الاختياري.

وأما إطلاق أدلة النقل فليس لنا دليل يعتمد عليه في النقل يكون مطلقاً بالإضافة إلى استلزامه التقطيع الاختياري ، وإنما قلنا بجواز النقل لعدم قيام الدليل على حرمته كما تقدم ، ورجحانه في النقل إلى المشاهد من جهة أنه توسل واستشفاع بهم عليهم‌السلام. ورواية اليماني ضعيفة كما عرفت.

على أن النقل لو كان له دليل معتمد عليه لم يمكن التمسك بإطلاقه بالإضافة إلى النقل المستلزم للتقطيع الاختياري ، وذلك لأن الدليل إنما ينظر إلى إثبات الجواز أو‌

٣٣٥

ثم لا يبعد جواز النقل إلى المشاهد المشرفة وإن استلزم فساد الميِّت إذا لم يوجب أذية المسلمين ، فان من تمسك بهم فاز ، ومن أتاهم فقد نجا ، ومن لجأ إليهم أمن ومن اعتصم بهم فقد اعتصم بالله تعالى ، والمتوسل بهم غير خائب صلوات الله عليهم أجمعين.

______________________________________________________

الرجحان للنقل بعنوانه لا من جهة العناوين الأُخرى كاستلزامه التقطيع المحرم ، نظير ما دلّ على استحباب أكل الرمان ، حيث لا يمكن التمسك بإطلاقه لإثبات استحباب أكله وإن كان الرمان مال الغير من دون إذنه ، فإنه يدل على استحباب أكل الرمان بعنوانه الأولي لا بعنوان كونه مغصوباً محرماً.

وأمّا دعوى أن التقطيع للنقل إلى المشاهد المشرفة لا يعد هتكاً بل هو كرامة له فتندفع بأن الهتك أمر عرفي ، ولا ينبغي التردد في أن تقطيع بدن الميِّت يعد عند العرف هتكاً للميت. ولا يقاس ذلك بتقطيع بعض الأعضاء حال الحياة ، والفارق هو النظر العرفي كما بيناه.

فالمتحصل : أن النقل إذا كان مستلزماً للتغير في الميِّت بفعل المكلف واختياره محكوم بحرمته.

وأمّا الصورة الثانية : وهي ما إذا كان النقل يستلزم التغير في الميِّت لكن لا بفعل المكلف بل لحرارة الهواء أو لطول المدة ونحوهما فقد ذكر الماتن قدس‌سره أن النقل جائز حينئذ ما لم تنتشر رائحته على نحو يوجب أذية المسلمين.

وذهب صاحب الجواهر (١) إلى حرمته واستدلّ عليها بوجوه :

الأوّل : أن ذلك هتك للميِّت وهتك لحرمته وإن لم تنتشر رائحته في الخارج.

ويدفعه : أن إبقاء الميِّت مدّة ينتن في تلك المدّة إنما يعد هتكاً إذا لم يقصد به النقل‌

__________________

(١) الجواهر ٤ : ٣٤٨.

٣٣٦

إلى مكان يناسبه ، وإلاّ فهو كرامة للميت واحترام له لدى العرف ، فيختلف ذلك باختلاف ما يقصد من النقل عرفاً ، فاذا كان المقصود به هو الدّفن في الأمكنة الشريفة له فلا يعد عرفاً هتكاً بل هو نوع احترام وتجليل له ، ولا سيما إذا لم تظهر رائحته إلى الخارج ، فانّ الميِّت ينتن لا محالة إما تحت الأرض أو فوقها.

الثاني : أن الحكمة في الأمر بدفن الميِّت إنما هي عدم انتشار رائحته خارج القبر فالنقل المستلزم لانتشار رائحته منافٍ للحكمة الداعية إلى الأمر به وهو أمر غير جائز.

والجواب عنه : أن الحكمة في الأمر بالدّفن وإن كانت تلك إلاّ أن الكلام في تلك الحكمة هل هي علة تامة لوجوب الدّفن أو أنها حكمة من الحكم النوعية التي تدعو إلى جعل الوجوب؟

ولا ينبغي توهم كونها العلة التامة لوجوب الدّفن ، وإلاّ لزم الالتزام بعدم وجوب الدّفن فيما إذا أمكن إبقاء الميِّت في الخارج على نحو لا يطرأ عليه النتن والفساد كما في زماننا هذا ، بل في الأزمنة المتقدِّمة أيضاً حيث كانوا يحفظون الميِّت بالدواء من غير أن يفسد أو ينتن ، وكذا فيما إذا كانت الأرض على وجه لا تمنع عن انتشار رائحة الميِّت بدفنه ، مع أنّ الدّفن واجب في كلتا الصورتين من غير نكير.

وهذا يدلنا على أن عدم انتشار الرائحة حكمة نوعية داعية إلى جعل وجوب الدّفن ، وبما أنه مطلق حيث لم يقيد بما إذا انتشرت رائحة الميِّت وتغير أم لم تنتشر ولم يتغير فلا بدّ من الالتزام بوجوب الدّفن في كلتا الصورتين.

الثالث : أن تأخير الدّفن عن الغسل والصلاة والتجهيز إذا كان مستلزماً لطروء الفساد على الميِّت أمر غير جائز ، فإنه لا بدّ حينئذ من تقديم الدّفن من غير غسل ثم يصلّى على قبره ، فاذا لم يجز التأخير المستلزم لطروء الفساد بالإضافة إلى الواجب كالغسل والصلاة فلا يجوز تأخيره بالإضافة إلى الأمر المستحب وهو النقل إلى المشاهد المشرفة بطريق أولى.

٣٣٧

والجواب عن ذلك : أن عدم جواز تأخير الدّفن في مفروض المسألة أمر لم يرد في نص ولم يقم عليه إجماع تعبّدي ، وإنما أفتى به جماعة ، نعم لا إشكال في جواز الدّفن قبل التغسيل والصلاة عليه حينئذ وأما حرمة تأخيره فلا ، فاذا لم يعد إبقاؤه وتأخيره المستلزم لطروء الفساد عليه إهانة في حقه كما لا يعد فلا يمكننا الحكم بحرمة النقل.

نعم قد يتوهم أن ما دل على الأمر بالدّفن عام زماني ويدلّ على وجوب الدّفن في كل آنٍ ، ومن ثمة لو خرج الميِّت عن قبره بسبب من الأسباب وجب دفنه ثانياً ، وإنما خرجنا عن عمومه بمقدار التغسيل والصلاة عليه ونحوهما ، وأمّا بالإضافة إلى النقل فلا ، فمقتضى العموم أو الإطلاق الزماني في دليل الدّفن عدم جواز النقل حينئذ.

وفيه : أن هذا الوجه لو تمّ لاستلزم الحكم بوجوب الدّفن وعدم جواز تأخيره حتى فيما نقطع بعدم طروء الفساد على الميِّت لو بقي ساعة أو ساعتين لبرودة الهواء ، كما يستلزم عدم جواز النقل إلى المشاهد المشرفة حتى إذا لم يستلزم طروء الفساد عليه مع أنه ممّا لا يمكن الالتزام به.

وهذا الوجه أيضاً ساقط ، وسره أنّ ما دلّ على وجوب الدّفن كقوله عليه‌السلام : « يغسل ويكفن ثم يصلى عليه فيدفن » ليس له إطلاق زماني بوجه ، وإنما يدلّ على وجوب الدّفن كوجوب غيره من الأُمور اللاّزمة في التجهيز.

وعليه فالصحيح ما أفاده الماتن قدس‌سره من جواز النقل ، بل رجحانه إلى المشاهد المشرفة وإن كان ذلك مستلزماً لطروء الفساد على الميِّت لا باختيار المكلف.

الكلام في جواز النقل بعد النبش

قد يقع الكلام في حرمة النبش وجوازه بما هو نقل وتحويل للميت من قبر إلى قبر كما إذا أخرجه السيل أو الزلزال أو نبش قبره عصياناً ونحو ذلك ، وأُخرى من حيث كون النقل ذا مقدمة محرمة وهي النبش. وفي الحقيقة يقع الكلام في حرمة النبش لنقل الميِّت وعدم حرمته.

٣٣٨

الصورة الأُولى : إذا كان النقل والتحويل من قبر إلى قبر آخر أو إلى بلد آخر إهانة للميت وهتكاً له فلا إشكال في حرمة نقله ، لأن حرمة المؤمن ميتاً كحرمته حياً.

وأمّا إذا لم يعد هتكاً له فهو كالنقل قبل الدّفن ، فان قلنا بجوازه كما هو الصحيح فهو أيضاً جائز ، وإن منعنا عنه فهو أيضاً ممنوع ، وحيث ذكرنا أن نقل الموتى أمر جائز بل راجح إذا كان النقل إلى المشاهد المشرفة فلا مناص من الحكم بجوازه أيضاً في المقام إذا كان النقل لمصلحة الميِّت ، بل وكذلك الحال فيما إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة وكان النقل وعدمه متساويين ، وإن كان ظاهر كلام ابن الجنيد اختصاص الجواز بما إذا كان النقل مصلحة للميت (١).

ثم إن الظاهر جواز التحويل من دون كراهة وإن ذهب ابن حمزة إلى كراهته (٢) وذلك لعدم دلالة الدليل على كراهة النقل بعد النبش ، نعم لو تم ما تقدم من دعوى وجوب الدّفن على نحو العموم الأزماني وأن الخارج عنه هو زمان التغسيل والتكفين والصلاة دون غيره لم يجز النقل إلى قبر آخر أو بلد آخر لاستلزامه البطء والتأخير بخلاف إقباره في قبره الأوّل.

إلاّ أنّا قدمنا أنه لا دليل يدل على وجوب الدّفن بنحو العموم الأزماني ، وإنما الدليل يدل على وجوب الدّفن وحسب ، ونحن أيضاً ندفن الميِّت ثانياً ، ولا تقييد فيه بأن يكون في قبره السابق أو في قبرٍ غيره ، هذا كله في النقل بعد النبش بما هو نقل.

الصورة الثانية : هي النقل المحرم مقدمته وهي النبش ، فان كان النقل بنبشه موجباً لإهانة الميِّت أو لم يكن صلاحاً للميت فلا ينبغي الإشكال في حرمته لحرمة النبش حينئذ.

وأما إذا لم تعد إهانة للميت وكان صلاحاً له كما إذا نبش لكي ينقل إلى الأعتاب المقدّسة والمتبركة فالمشهور بينهم عدم الجواز ، واختاره صاحب الجواهر ( قدس‌

__________________

(١) حكاه عنه في المختلف ٢ : ٣٢٩.

(٢) الوسيلة : ٦٩.

٣٣٩

سره ) (١) بل عن السرائر إنه بدعة وحرام (٢) ، لكن ذهب جملة من المحققين إلى الجواز كالمحقق والشهيد الثانيين (٣) ، وهذا هو الأظهر.

وذلك لأن المستند في المنع إن كان هو الإجماع على حرمة النبش إلاّ في صور مستثناة وليس منها المقام فتبقى تحت إطلاق معقد الإجماع كما عن صاحب الجواهر ففيه : أن الإجماع على حرمة النبش ليس إجماعاً تعبدياً ولو في غير المقام ، وإنما هو من أجل كون النبش وكشف الميِّت بعد تغيره ونتن رائحته إهانة له وليس من جهة الإجماع التعبدي ، على أنه لا يمكن دعوى الإجماع في المقام مع ذهاب المحقق والشهيد الثانيين إلى الجواز.

وإن كان المستند أن النبش لأجل النقل توهين للميت وهتك له ، ففيه : أن النبش لأجل النقل إلى المشاهد المشرفة أو المكان المناسب للميت تعظيم له وإكرام له ولا يعد ذلك توهيناً بوجه.

ودعوى أن ذلك بدعة محرمة كما عن السرائر غير مسموعة ، لأن غاية ما هناك عدم وقوع النقل بعد النبش في عصرهم عليهم‌السلام لا أنه كان بدعة ، ومتى كان ذلك محرماً ليكون بدعة؟ وأما العموم الأزماني في أدلّة وجوب الدّفن فهو غير ثابت كما تقدّم. فالظاهر أن النبش لأجل النقل إلى الأماكن المتبركة أو المناسبة للميت أمر جائز لا محذور فيه.

ثم إن ذلك لا يفرق فيه بين إيصاء الميِّت به وعدمه ، لأنّا إن قلنا بالجواز لم يكن فرق فيه بين صورتي الوصية وعدمها ، وإن قلنا بالحرمة فالأمر أيضاً كذلك ، لأن الوصية إنما تكون نافذة في الأُمور المباحة ، ضرورة أن الوصية لا تقلب الحرمة إلى الجواز.

__________________

(١) الجواهر ٤ : ٣٦٠.

(٢) السرائر ١ : ١٧٠.

(٣) جامع المقاصد ١ : ٤٥١ ، الروض : ٣٢٠ السطر ٢٦.

٣٤٠