موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

ومنها : صحيحة يعقوب بن يقطين قال : « سألت العبد الصالح عليه‌السلام عن غسل الميِّت أفيه وضوء الصلاة أم لا؟ فقال : غسل الميِّت تبدأ بمرافقه فتغسل بالحرض ... » (١). فإنّ السؤال فيها عن وجوب الوضوء في غسل الميِّت ، والإمام عليه‌السلام أجابه بشي‌ء آخر ، فلو كان واجباً لأجاب بقوله نعم ، فعدم الجواب عنه والإجابة بشي‌ء آخر كالصريح في عدم اعتبار الوضوء في غسل الميِّت.

ومنها : أن غسل الميِّت كغسل الجنابة ولا يعتبر الوضوء في غسل الجنابة. ومقتضى هذه الوجوه عدم وجوب الوضوء في غسل الميِّت بوجه.

هل يستحب الوضوء في غسل الميِّت؟

الجهة الثانية : هل يستحب الوضوء في غسل الميِّت أو لا دليل على مشروعيته؟

المعروف بينهم هو الاستحباب ، وقد قوى في الحدائق عدم مشروعيته (٢) والوجه في الحكم باستحبابه هو الأمر بالوضوء في أخبار غسل الميِّت المتقدمة ، فإن مقتضى الجمع بينها وبين الوجوه المتقدمة النافية لوجوبه من المطلقات وغيرها ، رفع اليد عن ظهورها في الوجوب بحملها على الاستحباب.

والعامّة وإن نسب إليهم الوضوء في غسل الميِّت إلاّ أنّه لا وجه لحمل الأخبار الآمرة بالوضوء على التقية ، لأنّ الحمل على التقية إنّما هو في صورة المعارضة ولا معارضة في المقام ، لوجود الجمع الدلالي ، وهو رفع اليد عن ظهور الأخبار الآمرة في الوجوب وحملها على الاستحباب.

وأمّا ما ذكره صاحب الحدائق قدس‌سره من أنّ الحمل على التقيّة غير موقوف على المعارضة ، بل ذكر في مقدّماته أنّ الحمل على التقيّة غير موقوف على القول به من المخالفين ، لدلالة الأخبار على أنّهم عليهم‌السلام ألقوا الخلاف بين الناس حقناً‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٤٨٣ / أبواب غسل الميِّت ب ٢ ح ٧.

(٢) الحدائق ٣ : ٤٤٧.

٢١

لدماء الشيعة وتحفظاً عليهم (١) ، فممّا لا يصغي إليه ، لحجية الظهور والسند ، وهي تقتضي العمل بالرواية إلاّ أن يكون لها معارض وتنتهي النوبة إلى الترجيح بموافقة العامّة ومخالفتهم ، ليحمل الموافق على التقيّة ويؤخذ بالمخالف.

فالصحيح استحباب الوضوء في غسل الميِّت ، ولا سيما على مسلكنا من أنّ الوجوب والاستحباب خارجان عن المداليل اللّفظية والصيغ ، وإنّما يستفادان من وجود القرينة على الترخيص وعدمها ، فالحاكم بالوجوب أو الاستحباب هو العقل فإنّه في المقام نرى القرينة على الترخيص موجودة وهي الوجوه المتقدِّمة المستدل بها على عدم الوجوب ، فالعقل ينتزع الاستحباب من ذلك لا محالة.

هل الاستحباب خاص بما قبل الغسل؟

الجهة الثالثة : هل الاستحباب يختص بما قبل الغسل أو أنّه مستحب قبله وبعده؟.

قد يقال : بعدم مشروعية الوضوء بعد التغسيل ، لأنّ الأخبار الآمرة به مشتملة على كلمة « ثمّ يوضأ الميِّت ثمّ يغسل رأسه ووجهه » ففي رواية معاوية بن عمار قال : « أمرني أبو عبد الله عليه‌السلام أن أعصر بطنه ثمّ أُوضيه بالأشنان ثمّ أغسل رأسه بالسدر ولحييه ... » (٢) وهي تدل على التراخي فلا دليل على مشروعية الوضوء بعد التغسيل.

هذا ، ولكن يمكن القول باستحباب الوضوء مطلقاً ولو بعد التغسيل ، وذلك للمطلقات الدالّة على أن كل غسل معه وضوء إلاّ غسل الجنابة ، وأنّ الجنابة ليس قبلها ولا بعدها وضوء (٣).

__________________

(١) الحدائق ١ : ٥ / المقدمة الأُولى.

(٢) الوسائل ٢ : ٤٨٤ / أبواب غسل الميِّت ب ٢ ح ٨ وهي معتبرة وقد قدّمنا [ في ص ٣ ] أن في التهذيب : « ثمّ أوضيه ثمّ اغسله بالأشنان ... ».

(٣) الوسائل ٢ : ٢٤٨ / أبواب الجنابة ب ٣٥ ح ١ ، ٢.

٢٢

وأمّا هذه الأخبار الدالّة على التقييد بكون الوضوء قبل التغسيل فلا تنافي بينها وبين الأخبار المطلقة ليحمل على المقيد ، فان حمل المطلق على المقيد إنّما هو من جهة التنافي بينهما ، لدلالة المقيد على الإلزام بالتقييد ، والمطلق ينفيه ومن ثمة حمل المطلق على المقيد في الواجبات. وأمّا في غير الإلزاميات فلا تنافي بينهما كي يحتاج إلى الحمل ، إذ لا إلزام في المقيد ، بل يؤخذ بكلا الدليلين ويحمل المقيد على أفضل الأفراد ومن هنا ذكر الماتن قدس‌سره أنّ الوضوء مستحب وإن كان الأولى أن يكون قبل الغسل ، هذا.

والصحيح عدم استحباب الوضوء بعد غسل الميِّت ، وذلك لأنّه يتوقف على أمرين لا نلتزم بشي‌ء منهما.

أحدهما : أن يقال باستحباب العمل الّذي بلغ فيه الثواب ، والالتزام بالتسامح في أدلّة السنن بالمعاملة مع الرواية الضعيفة معاملة الرواية المعتبرة ، أو القول بأن مراسيل ابن أبي عمير كمسانيده في الاعتبار ، لأنّه لا يروي ولا يرسل إلاّ عن ثقة.

وثانيهما : أنّ الرواية الضعيفة تقتضي استحباب العمل ولو كانت معارضة بما يدل على عدم استحبابه ، وذلك تمسّكاً بإطلاق أخبار من بلغ ، لدلالتها على استحباب العمل الّذي بلغ فيه الثواب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عارضتها رواية أُخرى أم لم تعارضها ، وذلك لاحتمال أن تكون الرواية الدالّة على الاستحباب مطابقة للواقع. إذن يمكننا في المقام الحكم باستحباب الوضوء بعد غسل الميِّت للرواية المتقدِّمة الدالّة على أن في كل غسل وضوءاً إلاّ الجنابة ، وإن كانت ضعيفة بالإرسال لأن ابن أبي عمير يرويها عن حماد بن عثمان أو غيره ، ومعارضة بصحيحة سليمان بن خالد عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « الوضوء بعد الغسل بدعة » (١) فان كل بدعة ضلالة ، والضلالة في النار.

إلاّ أنّ شيئاً من الأمرين المتقدمين بل الأُمور الثلاثة لم يثبت بدليل ، لعدم دلالة‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٤٥ / أبواب الجنابة ب ٣٣ ح ٩.

٢٣

[٨٧٩] مسألة ٤ : ليس لماء غسل الميِّت حد (١) بل المناط كونه بمقدار يفي بالواجبات أو مع المستحبّات. نعم ، في بعض الأخبار أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أوصى إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام أن يغسله بست قرب ، والتأسي به صلى‌الله‌عليه‌وآله حسن مستحسن.

______________________________________________________

أخبار من بلغ على استحباب العمل الّذي بلغ فيه الثواب عند عدم كونها معارضة فضلاً عمّا إذا كانت معارضة. كما أن مراسيل ابن أبي عمير كمراسيل غيره لا يمكن الاعتماد عليها في الاستدلال.

إذن مقتضى الأخبار الواردة في المقام استحباب الوضوء قبل غسل الميِّت لا بعده.

نعم ، لا بأس بالإتيان بالتوضؤ بعد الغسل إذا لم يوضأ الميِّت قبل التغسيل رجاءً لعدم حرمة الوضوء بعد الغسل ذاتاً ، وإنّما يكون بدعة فيما إذا أتى بعنوان الأمر من استحباب أو وجوب ، ولا دلالة في الصحيحة المتقدمة على حرمته عند الإتيان به رجاءً لاحتمال الاستحباب واقعاً.

لا حدّ لماء غسل الميِّت‌

(١) لصحيحة الصفار : « كتب إلى أبي محمّد عليه‌السلام في الماء الّذي يغسل به الميِّت كم حدّه؟ فوقّع عليه‌السلام : حد غسل الميِّت ، يغسل حتّى يطهر إن شاء الله » (١).

رواها المشايخ الثلاثة عن الصفار ، وأسنادهم إليه صحيحة ، وقال الصدوق : هذا التوقيع في جملة توقيعاته عليه‌السلام عندي بخطه عليه‌السلام في صحيفة (٢) وهي صريحة في أن ماء الغسل لا حدّ له ، فيختلف باختلاف الأموات من الصغر والكبر ووساخة الميِّت ونظافته.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٥٣٦ / أبواب غسل الميِّت ب ٢٧ ح ١. الكافي ٣ : ١٥٠ / ٣ ، التهذيب ١ : ٤٣١ / ١٣٧٧.

(٢) الفقيه ١ : ٨٦ / ٣٩٦.

٢٤

[٨٨٠] مسألة ٥ : إذا تعذّر أحد الخليطين سقط اعتباره واكتفي بالماء القراح (*) بدله ويأتي بالأخيرين. وإن تعذّر كلاهما سقطا وغسل بالقراح ثلاثة أغسال (١).

______________________________________________________

نعم ، في رواية ابن البختري عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : يا علي إذا أنا مت فغسلني بسبع قرب من بئر غرس » (٢) ، إلاّ أنّ الوصية ليست لها دلالة على الوجوب ، لجواز أن يكون ذلك أفضل ، ولا سيما بلحاظ التقييد بكون الماء من بئر غرس ، لعدم وجوبه قطعاً.

نعم ، في رواية فضيل سكّرة قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جعلت فداك هل للماء الّذي يغسل به الميِّت حد محدود؟ قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعلي عليه‌السلام إذا أنا متّ فاستق لي سبع ( ست ) قرب من ماء بئر غرس فاغسلني وكفني وحنطني ... » (٣) وهي تدل على التحديد بسبع أو ست قرب ، لأنّه عليه‌السلام بصدد الجواب عن الحد في الماء الّذي يغسل به الميِّت ، فذكر وصيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودلالته على التحديد ظاهرة.

إلاّ أنّها ضعيفة السند بفضيل سكّرة أو ابن سكّرة كما في بعض الأخبار لعدم ثبوت وثاقته أو مدحه ، وغاية ما يمكن القول في حقّه أنّه إمامي وحسب ، فالصحيح أنّ ماء غسل الميِّت لا حدّ له.

إذا تعذّر أحد الخليطين‌

(١) إذا تعذّر الغسل بماء السدر أو بماء الكافور أو القراح هل يسقط وجوب‌

__________________

(*) الأحوط عند تعذّر أحد الخليطين أو كليهما أن يجمع بين التيمم والتغسيل بالماء القراح بدل المتعذّر ، كما أنّ الأحوط عند تعذّر الماء القراح أن يجمع بين التيمم والتغسيل بماء السدر أو الكافور بدل التغسيل بالماء القراح.

(١) الوسائل ٢ : ٥٣٦ / أبواب غسل الميِّت ب ٢٨ ح ١.

(٢) الوسائل ٢ : ٥٣٧ / أبواب غسل الميِّت ب ٢٨ ح ٢.

٢٥

التغسيل عن المكلّفين وينتقل الأمر إلى التيمم؟ أو أنّ الساقط هو المتعذّر من الأغسال وتجب الغسلتان أو الغسل الآخر غير المتعذّر؟

المعروف بل المتسالم عليه بين الأصحاب وجوب الغسلين غير المتعذّرين وسقوط الغسل المتعذّر فقط.

وهذا لا لقاعدة الميسور كما قد يتوهّم وذلك لأنّها لم تثبت بدليل ، والأخبار (١) المستدل بها على تلك القاعدة نبوية أو علوية ضعاف ، كما لا يمكن العمل بها في المقام نظراً إلى أنّ المشهور عملوا بها في هذه المسألة ، وذلك لأنّ الرواية الضعيفة إن قلنا بانجبار ضعفها بعمل المشهور على طبقها فلا بدّ من العمل على طبقها في جميع الموارد ، وإن لم تنجبر الرواية الضعيفة بالعمل لا يمكن العمل بها مطلقاً. وأمّا العمل بها في مورد ، لأنّ المشهور عملوا بها في ذلك المورد دون المورد الآخر فهو تقليد من المشهور وليس من الاستدلال والاستنباط في شي‌ء.

بل الوجه في ذلك : أنّ الأغسال الثلاثة واجبات مستقلّة لا ربط لأحدها بالآخر وإن كانت النتيجة واحدة من جميعها وهي الطهور إلاّ أنّها واجبات متعددة ، لا أنّ الواجب واحد وهي أجزاؤه.

وقد صرّح بذلك صاحب الجواهر قدس‌سره عند التكلم على أن غسل الميِّت كغسل الجنابة ، حيث ذكر أن كل واحد من الأغسال الثلاثة كغسل الجنابة (٢) ، مع أن هذا لم يرد في رواية وإنّما استفاده من الرواية لبنائه على أنّ الواجب متعدد وهو الأغسال الثلاثة وكل منها كغسل الجنابة.

وما استفاده هو الصحيح فهي واجبات متعددة ، إذن لو تعذّر واحد منها أو اثنان لم يكن وجه لسقوط الآخر عن الوجوب.

وهذا نظير ما ذكرناه وذكره المشهور أيضاً في الاستحاضة المتوسطة من أنّه‌

__________________

(١) عوالي اللئالي ٤ : ٥٨.

(٢) الجواهر ٤ : ١٣٣.

٢٦

يجب فيها الغسل والوضوء إلاّ أنّه لا يحتمل أن يكون المأمور به هو المجموع ، ويكون كل من الغسل والوضوء جزءاً من الواجب بحيث لو تعذّر الغسل سقط الوضوء أيضاً عن الوجوب وبالعكس ، أو لو شكّ في وضوئه بعد ما دخل في الغسل أو بالعكس لا يمكنه إجراء قاعدة الفراغ في السابق المشكوك نظراً إلى أنّه عمل واحد ولا تجري قاعدة الفراغ فيه ، لعدم الفراغ من العمل ، كما وجّه شيخنا الأنصاري قدس‌سره بذلك أي بكون الوضوء مثلاً عملاً واحداً قول المشهور في عدم جريان القاعدة في الطهارات الثلاثة (١).

فإن كلّ ذلك غير محتمل ، بل الغسل والوضوء واجبان مستقلاّن لا ربط لأحدهما بالآخر وإن كانت النتيجة واحدة وهي تحقق الطهارة ، وكيف كان فالأغسال واجبات متعددة ، وبهذا يمتاز غسل الميِّت عن باقي الأغسال ، حيث إنّ الواجب فيها شي‌ء واحد ، وفي غسل الميِّت الواجب متعدد.

وقد ورد في بعض الروايات « يغسل الميِّت ثلاث غسلات » كما في رواية الحلبي (٢) وإن كانت الرواية ضعيفة ، وورد في صحيحة سليمان بن خالد أنّه يغسل الميِّت مرّة بماء وسدر ... وأُخرى بماء وكافور (٣) ، وهذا يدلّنا على أنّ الأغسال واجبات متعددة فلا وجه لسقوط الجميع عن الوجوب عند تعذّر واحد منها أو اثنين ، هذا كلّه فيما إذا تعذّر واحد من الأغسال.

إذا تعذّر شرط أحد الأغسال

ثمّ إذا تعذّر شرط أحدها كما لو تعذّر السدر أو الكافور مع التمكّن من الغسل بالماء ، أو تعذّر الماء القراح مع التمكّن من التغسيل بماء السدر أو غيره فهل يجب‌

__________________

(١) فرائد الأُصول ٢ : ٧١٣.

(٢) الوسائل ٢ : ٤٨١ / أبواب غسل الميت ب ٢ ح ٤.

(٣) الوسائل ٢ : ٤٨٣ / أبواب غسل الميِّت ب ٢ ح ٦.

٢٧

الغسل بالماء القراح مثلاً عند تعذّر ماء السدر أو يسقط الأمر بالغسل رأساً ، وينتقل إلى التيمم بدلاً عن الغسل بماء السدر المتعذّر؟

المشهور وجوب الغسل بالماء القراح عند تعذّر الخليط ، إلاّ أنّ الصحيح عدم وجوب الغسل حينئذ والانتقال إلى التيمم ، وذلك لأنّ الحكم بوجوب الغسل بالماء القراح حينئذ إمّا أن يستند إلى قاعدة الميسور أو إلى الاستصحاب ، ولا يتم شي‌ء منهما.

أمّا قاعدة الميسور ، فلمّا أشرنا إليه من عدم ثبوتها بدليل. على أنّا لو قلنا بتمامية القاعدة لا يمكن التمسّك بها في أمثال المقام ممّا يعدّ الميسور مغايراً مع المعسور لا ميسوراً منه. وهذا نظير ما إذا أوجب المولى إكرام الهاشمي مثلاً ، فتعذّر فأكرم غير الهاشمي ، لأنّه ميسور لذلك المعسور لاشتراكهما في الإنسانية ، مع أنّهما متباينان عند العرف ، كيف ولا يستدلّون بها على وجوب الأجزاء الممكنة من الغسل عند تعذّر بعض أجزائه ، كما إذا فرضنا أنّ الماء في الغسل لا يفي إلاّ بثلاثة أخماس الميِّت أو بتسعة أعشاره ، فإنّهم لا يلتزمون بوجوب الغسل في ثلاثة أخماس أو تسعة أعشار الميِّت بدعوى أنّه ميسور من الغسل المتعذّر.

مع أنّ الأجزاء أولى بالتمسّك فيها بالقاعدة من الشروط ، لأن في تعذّر الشرط كما في المقام قد يقال : إنّ فاقد الشرط مغاير لواجده ، لأن أحدهما بشرط شي‌ء والآخر بشرط لا ، ولا تكون الماهية بشرط لا ميسوراً من الماهية بشرط شي‌ء وإنّما هما متغايران فلا مجال فيه للتمسّك بالقاعدة. وهذه المناقشة لا تأتي في الأجزاء ، إذ يمكن أن يقال : إن معظم الأجزاء ممكنة وتعدّ ميسوراً من الواجب المعسور عند العرف ومع هذا لم يلتزموا بوجوب الغسل في الأجزاء الممكنة فما ظنّك بالمشروط عند تعذّر شرطه كما في المقام.

وأمّا الاستصحاب ، بدعوى أنّ الغسل عند التمكّن من الخليط كان واجباً قطعاً وإذا تعذّر الخليط وشككنا في بقائه على الوجوب نستصحب وجوبه ونقول إنّه الآن‌

٢٨

كما كان.

وفيه : ما تعرّضنا له في استصحاب الوجوب عند تعذّر بعض أجزاء المركب ، وهو أنّه من الأصل الجاري في الأحكام ، ولا نلتزم بجريانه في الشبهات الحكمية كما ذكرنا غير مرّة.

ثمّ على تقدير القول بجريانه في الأحكام أيضاً لا مجال له في مثل المقام ، فيما إذا تعذّر الخليط قبل موت الميِّت إذ ليس هناك حالة سابقة ، فانّ الغسل لم يجب في زمان ليستصحب وجوبه ، بل من الأوّل يشك في وجوبه وعدمه.

اللهمّ إلاّ أن يستصحب معلّقاً بأن يقال : لو كان الميِّت قد مات في حال التمكّن من الخليط كان الغسل واجباً لوجوب الغسل بالخليط وأنّه الآن كما كان.

وفيه : أنّ الاستصحاب التعليقي لا يجري في الأحكام فضلاً عن الموضوعات كما في المقام.

وأمّا إذا تعذّر الخليط بعد الموت فالغسل وإن علمنا بوجوبه حينئذ إلاّ أنّه لا مجال لاستصحابه بعد تعذّر الخليط لارتفاع موضوعه ، فانّ الواجب هو الغسل بماء السدر ولم يبق سدر ليجب التغسيل به ، ومع ارتفاع الموضوع لا مجال للاستصحاب. وهو نظير ما إذا خلط الماء بالسدر واشتغل بالتغسيل وأُهرق في أثنائه ، أفيمكن استصحاب وجوب التغسيل حينئذ والحكم بوجوب التغسيل في الباقي بالماء القراح؟ ومن الظاهر أنّه لا يجري الاستصحاب المذكور لارتفاع موضوعه وهو السدر.

فالمتحصل : أن مقتضى القاعدة عدم وجوب التغسيل بالماء القراح حينئذ ، بل يجب التيمم بدلاً عنه ، إلاّ أنّ المشهور لما بنوا على وجوب الغسل بالماء القراح فنجمع بين التيمم والغسل بالماء القراح تحفظاً على فتوى المشهور ، وإن كانت القاعدة تقتضي عدم وجوب الغسل كما عرفت.

ومن هذا يظهر الحال عند تعذّر الكافور أو الماء القراح ، فان مقتضى القاعدة فيهما سقوط الغسل والانتقال إلى التيمم ، إلاّ أنّه يجمع بينه وبين الغسل بالماء القراح عند‌

٢٩

تعذّر الكافور أو بينه وبين الغسل بماء السدر أو ماء الكافور عند تعذّر القراح للاحتياط ، هذا.

ما استدلّ به صاحب الجواهر ( قدس‌سره )

وقد استدلّ في الجواهر على مذهب المشهور بما ورد في المحرم من أنّه إذا مات غسل بالماء القراح بدلاً عن الغسل بالكافور (١) ، بضميمة ما دلّ على أنّ المتعذّر عقلاً كالمتعذّر شرعاً ، بتقريب أنّ الانتقال إلى الغسل بالماء القراح إنّما هو من جهة تعذّر الغسل بالكافور ، لأنّ المحرم حال حياته يحرم عليه استعمال الكافور فكذا حال مماته بتنزيل الشارع ، وحيث إنّ المتعذّر العقلي كالمتعذّر الشرعي فنتعدى عن المحرم إلى كل مورد تعذّر فيه الغسل بالكافور ونحوه عقلاً (٢).

وأورد عليه شيخنا الأنصاري قدس‌سره بأنّ الثابت أنّ المتعذّر شرعاً كالمتعذّر عقلاً دون العكس (٣).

والّذي ينبغي أن يقال في المقام : إنّ الحكم إذا ترتب على عنوان التعذّر لم يفرق في ترتبه بين التعذّر الشرعي والعقلي ، فما ثبت للتعذّر العقلي يثبت للشرعي أيضاً وبالعكس ، فلو ورد أنّ الصلاة قائماً إذا حرمت فتصلّي قاعداً ، معناه أنّ الشارع إذا سدّ عليك الطريق إلى الصلاة قائماً فصلّ جالساً ، ولا فرق فيه بين الانسداد العقلي والشرعي ، فما أورده شيخنا الأنصاري قدس‌سره على صاحب الجواهر قدس‌سره لا يمكن المساعدة عليه.

وأمّا إذا لم يترتب الحكم على عنوان التعذّر وإنّما ورد على مورد التعذّر كما في المقام حيث دلّت الرواية على أنّ المحرم يغسل بالقراح بدلاً عن الغسل بالكافور ولم يعلل ذلك بأنّه لتعذر التغسيل بالكافور ، كما أنّ الحكم لم يرد على عنوان التعذّر بأن‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٥٠٣ / أبواب غسل الميِّت ب ١٣ ، المستدرك ٢ : ١٧٦ / أبواب غسل الميِّت ب ١٣.

(٢) الجواهر ٤ : ١٤٠.

(٣) كتاب الطّهارة : ٢٩٠ السطر ١٨ / في غسل الأموات.

٣٠

ونوى بالأوّل ما هو بدل السدر ، وبالثاني ما هو بدل الكافور (١).

______________________________________________________

يقول إذا تعذّر الغسل بالكافور وجب الغسل بالقراح ، وإنّما ورد الحكم على التغسيل بالماء القراح بدلاً عن الكافور في المحرم ، نعم هو مورد التعذّر ، فكأن الشارع نزّل المحرم الميِّت منزلة المحرم الحي في حرمة استعمال الكافور عليه ، فلا يمكننا التعدّي عنه إلى غيره ، فإنّه في الحقيقة تخصيص في الأدلّة الدالّة على أنّ الميِّت يغسل ثلاثاً بالسدر والكافور والقراح. حيث دلّ على أنّ المحرم لا يغسل بالكافور بل يغسل بالماء القراح. ومعه كيف يمكننا التعدِّي عنه إلى موارد تعذّر السدر أو الكافور مع عدم دلالة الدليل عليه.

فالصحيح ما ذكرناه من أن مقتضى القاعدة الانتقال إلى التيمم بدلاً عن الخليط وإن كان الأحوط الجمع بين التيمم وبين الغسل بالماء القراح خروجاً عن مخالفة المشهور.

ما ينوي بالغسل الأوّل والثاني‌

(١) كما ذكره المحقق الثاني (١) قدس‌سره لمراعاة الترتيب الواجب بين الغسلات لأنّ المؤخر لو قدّم وجب إعادته ، ولأجله لا بدّ أن ينوي البدلية عن الأوّل في الغسل الأوّل وعن الثاني في الغسل الثاني.

وقد ناقش فيه صاحب الجواهر قدس‌سره بقوله : فيه تأمّل ، بل منع (٢) وما ذكره قدس‌سره هو الصحيح ، إذ ليس للبدلية عين ولا أثر في المقام ، فإنّ البدلية إنّما هي فيما إذا كان المأمور به المتعذّر شيئاً والبدل شيئاً آخر ، فإنّه عند تعدّد المتعذّر المأمور به يجب قصد البدلية كما أُفيد ، نظير ما إذا وجب على المكلّف الغسل والوضوء فتعذّرا ، فإنّه ينوي في بدليهما من التيممين البدلية عن الغسل أو الوضوء ، وإلاّ لم يتميز‌

__________________

(١) جامع المقاصد : ١ : ٣٧٢ / غسل الميِّت.

(٢) الجواهر ٤ : ١٤٠.

٣١

[٨٨١] مسألة ٦ : إذا تعذّر الماء ييمم ثلاثة تيممات بدلاً عن الأغسال على الترتيب (١).

______________________________________________________

أنّ التيمم المأتي به بدل عن أيّهما.

وأمّا في المقام فلا ، وذلك لأن وجوب الغسل بالماء القراح بدلاً عن الغسل بالسدر والكافور إنّما يثبت بقاعدة الميسور والاستصحاب ، ومقتضاهما أنّ الغسل بالماء القراح عين الواجب الأوّل لا أنّه بدله ، فكأنّ الواجب مركب من أمرين وجزأين : الغسل بالماء القراح والخلط بالسدر أو الكافور ، أو من الشرط والمشروط ، وقد تعذّر أحد الجزأين أو الشرط وسقط عن الوجوب وبقي الجزء الآخر أو المشروط على وجوبه ، لا أنّ الغسل بالقراح بدل عن الواجب بل هو عين الواجب الأوّل فلا يجب قصد البدلية وإن كان أحوط.

حكم ما إذا تعذّر الماء‌

(١) الكلام في هذه المسألة يقع في مقامين :

أحدهما : في أنّ الغسل بالماء إذا تعذّر ولم يمكن تغسيل الميِّت بالماء والسدر وبالماء والكافور وبالماء القراح هل ينتقل الأمر إلى التيمم أو يدفن من غير غسل ، كما إذا لم يكن عنده مماثل ولو من الكتابي ولا محرم ، فإنّه يدفن من دون غسل كما تقدّم.

وثانيهما : بعد ثبوت أنّ الوظيفة حينئذ وجوب التيمم يقع الكلام في أنّ الواجب تيمم واحد بدلاً عن الجميع أو ثلاثة تيممات.

هل ينتقل الأمر إلى التيمم؟ أمّا المقام الأوّل : فالمشهور بل المتسالم عليه بينهم وجوب التيمم ، وقد استدلّ عليه بوجوه.

منها : الإجماع ، وفيه : أنّ المطمأن به أو المظنون أو المحتمل استناد المجمعين في ذلك‌

٣٢

إلى أحد الوجوه الآتية فلا يكون الإجماع تعبّدياً كاشفاً عن قول المعصوم عليه‌السلام.

ومنها : رواية زيد بن علي عن آبائه عليهم‌السلام عن علي عليه‌السلام « قال : إنّ قوماً أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : يا رسول الله مات صاحب لنا وهو مجدور فان غسلناه انسلخ ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يمموه » (١).

وهذه الرواية وإن كانت بحسب الدلالة ظاهرة إلاّ أنّها ضعيفة السند.

ومنها : المطلقات الدالّة على أنّ التراب أو التيمم أحد الطهورين (٢) فان مقتضاها كفاية التيمم عن الغسل في المقام.

وقد ناقش فيها صاحب الجواهر قدس‌سره بوجهين :

أحدهما : أنّ المستفاد من المطلقات أنّ التيمم أحد الطهورين ويكفي عن الماء ، وأمّا أنّه يكفي عن السدر والكافور فلم يدلّنا عليه دليل.

وثانيهما : أنّ الأخبار إنّما دلّت على أنّ التيمم يكفي في رفع الحدث ، وأمّا أنّه يكفي في رفع الخبث والحدث فلا يكاد يستفاد من الأخبار ، وغسل الميِّت إنّما كان موجباً لرفع الحدث والخبث فلا يكون التيمم بدلاً عن مثله (٣).

ولا يمكن المساعدة على شي‌ء من المناقشتين :

أمّا الاولى : فلأن ما ذكره إنّما يتم لو كان الواجب هو الغسل بالسدر والكافور أو بالماء المضاف بهما ، وظاهر الأخبار أنّ التيمم أحد الطهورين فهو بدل عن الماء لا عن السدر والكافور. وليس الأمر كذلك ، بل الواجب هو الغسل بالماء المطلق وغاية الأمر أنّه يشترط أن يلقى فيه قليل من السدر والكافور بحيث لا يخرج الماء عن إطلاقه ، والتيمم بدل عن المأمور به ، والسدر والكافور من خصوصياته لا أنّهما‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٥١٣ / أبواب غسل الميِّت ب ١٦ ح ٣.

(٢) الوسائل ٣ : ٣٨٥ / أبواب التيمم ب ٢٣.

(٣) الجواهر ٤ : ١٤٣.

٣٣

المأمور به.

وهو نظير ما إذا أمر بالغسل من ماء البئر فإنّه إذا تعذّر قام التيمم مقامه ، ولا يتوهّم أنّه كان مقيّداً ومتخصّصاً بخصوصية البئر ، والتيمم لا يكون بدلاً عن البئر.

وأمّا المناقشة الثانية : فتندفع بأنّه إن أراد بذلك أنّ التيمم لا يوجب رفع الخبث فهو متين إلاّ أنّه أجنبي عمّا نحن فيه.

وإن أراد أنّه لا يكون بدلاً عن الغسل الرافع للحدث الّذي يكفي في رفع الخبث أيضاً ، ففيه أنّه خلاف المطلقات الّتي تدل على بدلية التيمم عن الغسل الرافع للحدث لا بشرط (١) فسواء كان رافعاً للخبث أيضاً أم لم يكن ، فيقوم التيمم مقام ذلك الغسل في رفع الحدث وإن لم يوجب ارتفاع خبثه.

ويؤيّده ما دلّ على أن غسل الميِّت هو غسل الجنابة لخروج النطفة منه حال موته (٢) ولا إشكال أنّ التيمم يقوم مقام غسل الجنابة.

والإنصاف أن هذا الوجه متين ، وبه نحكم بوجوب التيمم عند تعذّر الغسل بالماء.

ومنها : صحيحة عبد الرّحمن بن أبي نجران المروية في الفقيه عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام : « ثلاثة نفر كانوا في سفر أحدهم جنب والثاني ميت ، والثالث على غير وضوء ، وحضرت الصلاة ومعهم من الماء قدر ما يكفي أحدهم ، مَن يأخذ الماء وكيف يصنعون؟ قال عليه‌السلام : يغتسل الجنب ويدفن الميِّت بتيمم ، ويتيمم الّذي هو على غير وضوء ، لأن غسل الجنابة فريضة وغسل الميِّت سنّة والتيمم للآخر جائز » (٣). حيث دلّت على أنّ الميِّت عند عدم التمكّن من تغسيله يدفن بالتيمم.

وقد استدلّ صاحب المدارك قدس‌سره بعين هذه الرواية على عدم وجوب التيمم حينئذ ، ولكن أسندها إلى عبد الرّحمن بن الحجاج ونقلها بدون لفظة « بتيمم » ‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٨٥ / أبواب التيمم ب ٢٣.

(٢) الوسائل ٢ : ٤٨٦ / أبواب غسل الميِّت ب ٣.

(٣) الوسائل ٣ : ٣٧٥ / أبواب التيمم ب ١٨ ح ١ ، الفقيه ١ : ٥٩ / ٢٢٢.

٣٤

بعد قوله عليه‌السلام « يدفن الميِّت » (١).

وقد أورد عليه في الحدائق أنّ الراوي للرواية في كتب الحديث عبد الرّحمن بن أبي نجران لا عبد الرّحمن بن الحجاج ، نعم لا أثر للاختلاف فيه لاعتبار كليهما (٢).

وتوصيف صاحب المدارك لها بالصحّة وإن كان صحيحاً إلاّ أنّ الصحيح هو رواية الفقيه ، وهي مشتملة على لفظة « بتيمم » بعد « يدفن الميِّت » وهي تدل على خلاف مقصوده.

نعم ، رواها الشيخ في التهذيب بدون لفظة « بتيمم » (٣) إلاّ أنّها ضعيفة من جهة اشتمالها على محمّد بن عيسى وهو مردد بين الثقة والضعيف ، ومن جهة إرسالها ، فان عبد الرّحمن يرويها عن رجل حدّثه ، هذا.

ولكن صاحب الوسائل رواها عن الفقيه والتهذيب مشتملة على لفظة « بتيمم » حيث قال بعد نقل الرواية عن الفقيه : ونقله محمّد بن الحسن بإسناده إلى الصفار نحوه. إذ لو كانت رواية التهذيب غير مشتملة على تلك اللّفظة لأشار إليه كما هو دأبه في الكتاب ، ولا سيما في الاختلافات الّتي تختلف الأحكام بها ، وحيث إن له طريقاً صحيحاً إلى التهذيب فبنقله يثبت أن نسخة التهذيب مشتملة على تلك الكلمة.

إلاّ أن صاحب الحدائق قدس‌سره وغيره يروون عن التهذيب من دون كلمة « بتيمم » ومعه يدخل المقام في اختلاف النسخ فلا يثبت أن رواية الشيخ أيّهما ، فلا تشملها أدلّة اعتبار الخبر ، فإن باخبار كل واحد من الرواة وإن كان يثبت موضوع وخبر أعني خبر الراوي الآخر فيشمله أدلّة الاعتبار ، إلاّ أنّه يتم إلى الشيخ ، وأمّا هو فلا يعلم أنّه أخبر عن أي شي‌ء حتّى يشمله أدلّة الاعتبار ، فلا يمكننا الاعتماد على رواية الشيخ ولو بناءً على صحّة سندها كما إذا عملنا بالمراسيل ، وبنينا على أن محمّد‌

__________________

(١) المدارك ٢ : ٨٥ / غسل الميِّت.

(٢) الحدائق ٣ : ٤٧٣.

(٣) التهذيب ١ : ١٠٩ / ٢٨٥.

٣٥

ابن عيسى العبيدي موثق كما هو الصحيح ، وذلك لعدم ثبوت رواية الشيخ.

ومعه يبقى صحيح الفقيه المشتمل على لفظة « بتيمم » سليماً عن المعارض.

ولا يتوهّم أنّها معارضة برواية الشيخ ، وذلك لأنّا قد نطمئن بأن للشيخ روايتين : إحداهما مشتملة على لفظة « بتيمم » والأُخرى غير مشتملة عليها ، فيقع التعارض بين رواية الفقيه وإحدى روايتي الشيخ المشتملة على لفظة « بتيمم » وبين روايته الأُخرى الفاقدة لتلك اللّفظة ، لدلالتها على وجوب دفن الميِّت بلا تيمم ، ودلالة الروايتين الأوّلتين على وجوب دفنه بالتيمم.

وذلك غير محتمل في المقام ، لأن للشيخ رواية واحدة فقط ، ولا ندري أنّها مشتملة على تلك اللّفظة أو فاقدة لها ، ومع عدم ثبوت رواية الشيخ وأنّها أيّ شي‌ء ، لا تشملها أدلّة الاعتبار ، فلا تعارض رواية الفقيه ، هذا كلّه في رواية الشيخ.

بل يمكن أن يقال : إنّ رواية الفقيه أيضاً لم يثبت اشتمالها على لفظة « بتيمم » وذلك لأن صاحب الوسائل والحدائق وغيرهما وإن نقلا الرواية مشتملة على تلك اللّفظة ، إلاّ أن صاحبي الوافي (١) والمنتقى (٢) نقلا الرواية عن الفقيه فاقدة للكلمة ، بل وكذلك العلاّمة المجلسي قدس‌سره في نسخة الفقيه المصحّحة بتصحيحه الموجودة عندنا فإنّها أيضاً فاقدة للفظة « بتيمم ».

ومقتضى نقل هذين أو هؤلاء الثقات ، أن نسخ الفقيه كانت فاقدة لكلمة « بتيمم » فتكون رواية الفقيه كرواية التهذيب مرددة بين اشتمالها على الكلمة وعدمه ، فلا تثبت رواية الفقيه أنّها أيّ شي‌ء ، فلا تشملها أدلّة الاعتبار.

ودعوى : أنّ الأمر إذا دار بين النقيصة والزيادة تؤخذ بالزيادة ، لأنّ الغالب هو السهو والاشتباه بنقل الرواية مع إسقاط لفظة أو أقل أو أكثر ، وأمّا الاشتباه والسهو‌

__________________

(١) الوافي ٦ : ٥٦٩ / ٤٩٥٥ ، أبواب التيمم ب ٦١.

(٢) المنتقى ١ : ٣٤٦ / أبواب التيمم.

٣٦

بإضافة لفظة أو أكثر فهو نادر.

مندفعة بأن غاية ما يترتب على ذلك هو الظن باشتمال الرواية على لفظة « بتيمم » فسقطت منها ، والظن لا أثر له شرعاً ، بل المظنون عدم اشتمال الرواية على تلك الكلمة كما يؤيّده سياق التعليل الوارد فيها ، لأنّ التيمم لو كان جائزاً للميت أيضاً لكان الأولى أن يقول عليه‌السلام والتيمم لهما جائز ، ولم يكن وجه لقوله عليه‌السلام « والتيمم للآخر جائز » أي للمحدث بالأصغر ، إلاّ أن هذا الظن كسابقه لا يمكن الاعتماد عليه.

نعم ، لم يظهر معنى صحيح للتعليل الوارد فيها ، وذلك لأن قوله عليه‌السلام « لأنّ الغسل من الجنابة فريضة وغسل الميِّت سنّة » إن أُريد منه أن غسل الجنابة واجب فلا أثر له ، لأن غسل الميِّت أيضاً واجب.

وإن أُريد منه أن غسل الجنابة ممّا ثبت وجوبه بالكتاب دون غسل الميِّت ، فإنّه ثبت وجوبه من السنّة ، فهو صحيح لقوله تعالى ( ... وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ... ) (١) المفسّر بالاغتسال ، وقوله تعالى ( ... وَلا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ... ) (٢) وقد ورد الفرض والسنّة بهذا المعنى في بعض الروايات ، كالأخبار الواردة في إعادة الصلاة من الركوع والسجود والطهور والقبلة دون التشهّد ونحوه ، حيث ورد فيها أنّ الركوع والسجود والطهور والقبلة فرض والتشهّد سنّة (٣).

إلاّ أنّ الوضوء للمحدث بالأصغر أيضاً فرض ثبت بالكتاب لقوله تعالى ( ... إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ... ) (٤).

والّذي أظن أن صاحب المدارك قدس‌سره نقل الرواية عن الفقيه غير مشتملة‌

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

(٢) النِّساء ٤ : ٤٣.

(٣) روى مضمونه في الوسائل ٦ : ٤٠١ / أبواب التشهّد ب ٧ ح ١.

(٤) المائدة ٥ : ٦.

٣٧

على لفظة « بتيمم » كصاحبي الوافي والمنتقى ، وإن اشتبه في إسنادها إلى عبد الرّحمن بن الحجاج ولم يسندها إلى عبد الرّحمن بن أبي نجران ، وذلك لأنّه وصف الرواية بالصحّة ، ولا يكاد يخفى عليه صحّة الرواية وضعفها ، ولا نحتمل في حقّه أن يروي الرواية عن الشيخ مع إرسالها ويعبّر عنها بالصحّة ، كيف وهو من فرسان ميدان الرجال ولا يخفى عليه مثله (١).

فتحصل : أنّ الرواية لا يمكن الاستدلال بها على وجوب دفن الميِّت بالتيمم ولا على وجوب دفن الميِّت من غير تيمم ، هذا.

وقد يستدل على وجوب دفنه بالتيمم كما في الجواهر (٢) برواية التفليسي : « سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن ميت وجنب اجتمعا ومعهما ما يكفي أحدهما أيّهما يغتسل؟ قال عليه‌السلام : إذا اجتمعت سنّة وفريضة بدئ بالفرض » (٣).

وفيه : أنّها لا تدل على وجوب دفن الميِّت بالتيمم ، وإنّما تدل على أنّه لا بدّ من الابتداء بالفرض ، وأمّا أنّه يدفن الميِّت مع التيمم فلا ، على أن سندها ضعيف بالتفليسي.

ورواية الحسين بن النضر الأرمني قال : « سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن القوم يكونون في السفر فيموت منهم ميت ومعهم جنب ومعهم ماء قليل قدر ما يكفي أحدهما ، أيّهما يبدأ به؟ قال : يغتسل الجنب ويدفن (٤) الميِّت ، لأنّ هذا فريضة وهذا سنّة » (٥).

وفيه : أنّها أيضاً لا تدل على وجوب دفن الميِّت بالتيمم أو بدونه إلاّ بالإطلاق وسندها ضعيف بالحسين بن النضر الأرمني لعدم توثيقه ولا مدحه.

__________________

(١) وقد نقل خارج البحث عن بعض الطلبة أن صاحب المدارك نقل الرواية في بحث التيمم عن الفقيه وراجعناه ورأينا الأمر كما نقله وعليه فنقله عنه هو المتعيّن [ راجع المدارك ٢ : ٢٥١ ].

(٢) الجواهر ٥ : ٢٥٦ / كتاب التيمم.

(٣) الوسائل ٣ : ٣٧٦ / أبواب التيمم ب ١٨ ح ٣.

(٤) وفي التهذيب ١ : ١١٠ / ٢٨٧ ، والاستبصار ١ : ١٠٢ / ٣٣١ « ويترك ».

(٥) الوسائل ٣ : ٣٧٦ / أبواب التيمم ب ١٨ ح ٤.

٣٨

والأحوط تيمّم آخر بقصد بدليّة المجموع ، وإن نوى في التيمم الثالث ما في الذمّة من بدلية الجميع أو خصوص الماء القراح كفى في الاحتياط (*).

______________________________________________________

هل الواجب ثلاثة تيمّمات

وأمّا المقام الثاني : وهو أنّ الواجب هل هو تيمم واحد بدلاً عن الجميع ، أو أنّ الواجب ثلاثة تيممات؟

المشهور بينهم هو الأوّل ، نظراً إلى أنّ الأغسال وإن كانت متعدِّدة إلاّ أنّ الأثر المترتب عليها واحد وهو حصول الطهارة للميت ، فإذا تعذّرت وجب التيمم بدلاً عنها وحيث أنّ الأثر واحد فلا يجب بدلاً عنها إلاّ تيمم واحد.

وعن العلاّمة (٢) والمحقق الثاني (٣) قدس‌سرهما وجوب ثلاثة تيممات لتعدّد الواجب ، وهذا هو الصحيح ، وذلك لأن ما ذكره المشهور من وجوب تيمم واحد نظراً إلى وحدة الأثر منتقض بما إذا وجب على المكلّف ضمّ الوضوء إلى الغسل كما في غير غسل الجنابة أو ضمّ الغسل إلى الوضوء كما في الاستحاضة المتوسطة فإنّ الأثر المترتب عليهما شي‌ء واحد وهو حصول الطهارة للمكلّف ، إلاّ أنّه إذا تعذّر على المكلّف وجب عليه تيممان بدلاً عن الجميع ، فانّ المشهور لا يلتزم بذلك في مثله بل يلتزمون بوجوب التيمم بدلاً عن الغسل تارة وبدلاً عن الوضوء تارة أُخرى ، كما أنّه إذا وجد ماء بمقدار أحدهما يأتي به ويتيمم بدلاً عن الآخر.

وحل ذلك : أنّ الأثر المترتب عليهما وإن كان واحداً كما ذكر المشهور ، إلاّ أن كلاًّ من الغسل والوضوء مأمور به في نفسه ،

وقد استفدنا من أدلّة البدلية أنّ التيمم بدل عن الغسل والوضوء فمع تعذّرهما تنتهي النوبة إلى بدلهما ، فتيمم بدل عن الغسل وتيمم‌

__________________

(*) كما أنّه يكفي فيه قصد ما في الذمّة في أحد التيممين الأوّلين.

(١) نهاية الإحكام ٢ : ٢٢٧ / أحكام تغسيل الميِّت.

(٢) جامع المقاصد ١ : ٣٧٣ / غسل الميِّت.

٣٩

آخر بدل عن الوضوء.

والأمر في المقام كذلك ، لأنّ الواجب متعدد وهو كل واحد من الأغسال ، ومن ثمة ورد في بعض الأخبار أنّ الواجب في غسل الميِّت ثلاثة أغسال (١) وفاقاً لصاحب الجواهر قدس‌سره حيث عبّر بلفظة « كل » بقوله : « إن كل واحد من الأغسال الثلاثة كغسل الجنابة » (٢) ومع تعدد الواجب لا بدّ من تعدد التيمم بدلاً عن الأغسال المتعذرة ، هذا.

بل يمكن أن يقال : إن ما ذكره المشهور من أن أثر الأغسال واحد وهو حصول الطهارة فبدلها تيمم واحد لو تمّ ، فإنّما يتم على مسلكهم من أنّ الطهارة مترتبة على الغسل والوضوء والتيمم ، وتلك محصلات للطهارة وأسباب لها ، ومن هنا ذهبوا إلى عدم جريان البراءة عند الشك في اعتبار شي‌ء في الغسل والوضوء والتيمم ، نظراً إلى أنّ المأمور به أمر بسيط وهو الطهارة ولا شك فيه ، وإنّما الشك في المحصّل ومعه لا بدّ من الاحتياط.

وبهذا علل شيخنا الأنصاري قدس‌سره عدم جريان قاعدة التجاوز في تلك الأُمور ، بدعوى أنّ الطهارة شي‌ء واحد لا يتحقق التجاوز فيها عند الشك في الأثناء (٣).

وأمّا بناءً على ما سلكناه من أنّ الطهارة هي نفس الوضوء أو الغسل ، فإنّه اعتبر نوراً في الأخبار أو نوراً على نور (٤) ، لا أنّها شي‌ء آخر يترتب عليها ، وقد ورد في صحيحة زرارة « وهو على وضوء » (٥) وفي جملة من الأخبار أنّ الوضوء ينقضه كذا ولا ينقضه كذا (٦) ومن الظاهر أنّ الكون على الشي‌ء أو انتقاضه إنّما يتصوّر فيما إذا كان‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٤٧٩ / أبواب غسل الميِّت ب ٢ ح ١ ، ٢ وغيرهما.

(٢) لاحظ الجواهر ٤ : ١٣٣ ولكن لم يعبّر بلفظة ( كل ) إلاّ أن عبارته دالّة عليه.

(٣) فرائد الأُصول ٢ : ٧١٣.

(٤) الوسائل ١ : ٣٧٧ / أبواب الوضوء ب ٨ ح ٨.

(٥) الوسائل ١ : ٢٤٥ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ١.

(٦) الوسائل ١ : ٢٤٥ ٢٥٦ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ٣.

٤٠