موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

وذكر أن المستحاضة إذا ثقب دمها الكرسف يجب عليها الغسل لكل صلاة أو لكل صلاتين إذا جمعت بينهما ، وأمّا إذا لم يثقب الكرسف فلا غسل عليها ولا وضوء وأنه ليس من الأحداث ، فلو كانت متطهرة قبل خروج ذلك الدم فطهارتها لا ترتفع بذلك.

وذهب ابن الجنيد إلى أن الاستحاضة القليلة التي لا تثقب الكرسف توجب غسلاً واحداً في اليوم والليلة ، والاستحاضة الموجبة لثقب الكرسف يجب لها الغسل لكل صلاة أو صلاتين إذا جمعت بينهما.

فابن أبي عقيل وابن الجنيد اختلفا في المستحاضة بالقليلة ، حيث أوجب الثاني فيها الغسل ولم يوجب الأول فيها غسلاً ولا وضوء ، واتفقا على أن الاستحاضة منحصرة في القسمين : الكثيرة والقليلة ، ولا متوسطة فيهما.

أمّا ما ذهب إليه ابن أبي عقيل فكأنه من جهة حمل الأوامر الواردة في الأخبار بتوضؤ المستحاضة القليلة على التوضؤ من جهة سائر الأحداث كما في غير المستحاضة ، وناظر إلى نفي وجوب الغسل عنها ، لا أنها تثبت عليها حكماً زائداً على بقية المحدثين.

والصحيح ما ذهب إليه المشهور من أن الاستحاضة القليلة توجب الوضوء لكل صلاة ، وذلك للأخبار الدالة على ذلك ، ومنها صحيحة الصحّاف المتقدمة حيث ورد فيها : « فإن انقطع عنها الدم قبل ذلك فلتغتسل ولتصل ، وإن لم ينقطع الدم عنها إلاّ بعد ما تمضي الأيام التي ترى الدم فيها بيوم أو يومين فلتغتسل ثم تحتشي وتستذفر وتصلِّي الظهر والعصر ، ثم لتنظر فإن كان الدم فيما بينها وبين المغرب لا يسيل من خلف الكرسف فلتتوضأ ولتصل عند وقت كل صلاة ما لم تطرح الكرسف عنها ، فإن طرحت الكرسف عنها فسال الدم وجب عليها الغسل » الحديث (١).

فإنّها مضافاً إلى اشتمالها على كلمة « الفاء » في صدرها « فإن ذلك ليس من الرحم‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٧٤ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٧.

٢١

ولا من الطمث فلتتوضأ ... » (١) وهي تدل على أن وجوب الوضوء متفرع على رؤية الدم لا على حدث آخر دلت في ذيلها على أن الدم إذا لم يسل من القطنة والكرسف يجب عليها أن تتوضأ وتصلِّي عند وقت كل صلاة.

هذا على أن وضوءها لو كان من جهة الحدث لم يجب عليها إلاّ وضوء واحد ما لم تحدث ، ولم يكن وجه لوجوبه عليها عند كل صلاة ، على أن المرأة في مفروض الرواية قد اغتسلت من الحيض وهي طاهرة لا حدث لها لتتوضأ ، فلو لم تكن الاستحاضة القليلة من الأحداث لما وجب الوضوء عليها لكل صلاة.

وأمّا ما ذكره ابن الجنيد فهو مخالف لصريح الصحيحة ، حيث دلّت على وجوب الوضوء على المستحاضة إذا لم يسل الدم من القطنة ، كما أوجبت عليها الغسل إذا سال الدم ، ولم تدل على وجوب الغسل عليها في كلتا الصورتين.

إضافة وإعادة

ذكرنا أن المعروف في الاستحاضة القليلة وجوب الوضوء على المستحاضة عند كل صلاة ، وقد خالف في ذلك ابن أبي عقيل وابن الجنيد ، وحاصل كلامهما إنكار الاستحاضة المتوسطة ، فابن أبي عقيل ذهب إلى أن الاستحاضة القليلة ليست حدثاً ولا توجب غسلاً ولا وضوء ، ولكن إذا ثقب الدم الكرسف سواء سال أم لم يسل أعني الاستحاضة المتوسطة والكثيرة يجب معها الغسل لكل صلاة أو صلاتين وذكرنا أن ما ذهب إليه ابن أبي عقيل يدفعه صريح الأخبار الواردة في المقام.

منها : صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « المستحاضة تنظر أيامها فلا تصلِّي فيها ولا يقربها بعلها ، فإذا جازت أيامها ورأت الدم يثقب الكرسف اغتسلت للظهر والعصر تؤخر هذه وتعجل هذه ، وللمغرب والعشاء غسلاً تؤخر هذه وتعجل هذه ، وتغتسل للصبح ، وتحتشي وتستثفر ولا تحني ( تحيي ) وتضم‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٣٠ / أبواب الحيض ب ٣٠ ح ٣.

٢٢

فخذيها في المسجد وسائر جسدها خارج ، ولا يأتيها بعلها أيام قرئها ، وإن كان الدم لا يثقب الكرسف توضأت ودخلت المسجد وصلّت كل صلاة بوضوء ، وهذه يأتيها بعلها إلاّ في أيام حيضها » (١).

ومنها : صحيحة ابن نُعيم الصحاف عن أبي عبد الله عليه‌السلام « وإن لم ينقطع الدم عنها إلاّ بعد ما تمضي الأيام التي كانت ترى الدم فيها بيوم أو يومين فلتغتسل ثم تحتشي وتستذفر وتصلِّي الظهر والعصر ، ثم لتنظر فإن كان الدم فيما بينها وبين المغرب لا يسيل من خلف الكرسف فلتتوضأ ولتصل عند وقت كل صلاة ما لم تطرح الكرسف ، فإن طرحت الكرسف عنها فسال الدم وجب عليها الغسل ، وإن طرحت الكرسف عنها ولم يسل الدم فلتتوضأ ولتصل ولا غسل عليها ... » (٢).

وتقريب الاستدلال بهاتين الصحيحتين من وجوه ثلاثة :

الأوّل : أنهما جعلتا المستحاضة القليلة ، وهي التي لا يثقب دمها الكرسف ، في قبال المستحاضة الكثيرة ، وهي التي يثقب دمها الكرسف ويسيل ، ودلّتا على وجوب التوضؤ عند كل صلاة في الأُولى وعلى وجوب الغسل عند كل صلاة في الثانية ، وجعلها في مقابل الكثيرة يدل على أنها من الأحداث كالكثيرة إلاّ أن الواجب فيها الوضوء.

الثاني : أنهما اشتملتا على الجملة الشرطية ، حيث ورد في الصحيحة الأُولى « وإن كان الدم لا يثقب الكرسف توضأت » ، وفي الثانية « فإن كان الدم فيما بينها وبين المغرب لا يسيل من خلف الكرسف فلتتوضأ ولتصل » ، والجمل الشرطية ظاهرة الدلالة على تفرع الجزاء على الشرط أي حدوث الجزاء عند حدوث الشرط وأنه مستند إلى تحقق شرطه لا إلى أمر آخر ، وعليه فهما تدلان على أن وجوب الوضوء مستند إلى رؤية دم الاستحاضة لا إلى سبب آخر من أسباب الوضوء.

الثالث : أنهما دلّتا على وجوب الوضوء عند كل صلاة ، ومن الواضح أن الوضوء‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٧١ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ١.

(٢) الوسائل ٢ : ٣٧٤ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٧.

٢٣

لو كان مستنداً إلى سائر أسبابه لم يجب عند كل صلاة ، بل يكفيها الوضوء مرة واحدة في جميع صلواتها ما دامت لم تنقضه ، فمن ذلك يظهر أن موجب الوضوء في حقها ليس هو سائر الأسباب ، وإنما الموجب هو الاستحاضة وأنها حدث موجب للوضوء عند كل صلاة.

ومن جملة الأخبار الدالة على ما ذكرناه صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة « إذا أرادت الحائض أن تغتسل فلتستدخل قطنة ، فإن خرج فيها شي‌ء من الدم فلا تغتسل ، وإن لم تر شيئاً فلتغتسل ، وإن رأت بعد ذلك فلتتوضأ ولتصل » (١).

وقد قدمنا اختلاف النسخ فيها وأن بعضها مشتمل على كلمة « الصفرة » بعد قوله « بعد ذلك » ، وعلى كل حال تدل على أن وجوب الوضوء متفرع على رؤية الدم أو الصفرة لا أنه مستند إلى أسباب الوضوء.

ومنها غير ذلك من الروايات ، هذا.

وقد يستدل في المقام بما عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال سألته عن الطامث تقعد بعدد أيامها كيف تصنع؟ قال : تستظهر بيوم أو يومين ، ثم هي مستحاضة فلتغتسل وتستوثق من نفسها وتصلِّي كل صلاة بوضوء ما لم ينفذ ( يثقب ) الدم ، فإذا نفذ اغتسلت وصلّت » (٢).

ودلالة الرواية على المدعى ظاهرة إلاّ أنها ضعيفة السند ، لاشتمالها على محمد بن خالد الأشعري الذي لم يوثق في الرجال ، فلا يمكن الاستدلال بها في المقام وإن وصفت بالموثقة في كلام شيخنا الهمداني (٣) قدس‌سره وغيره (٤) ، هذا.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٠٨ / أبواب الحيض ب ١٧ ح ١. وتقدّمت في ص ١٢.

(٢) الوسائل ٢ : ٣٧٥ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٩.

(٣) مصباح الفقيه ( الطّهارة ) : ٣١٧ السطر ٢٨.

(٤) كالسيد الحكيم في المستمسك ٣ : ٣٨٤.

٢٤

أدلّة ابن أبي عقيل

وقد استدل لما ذهب إليه ابن أبي عقيل بوجوه :

منها : الأخبار الواردة في حصر نواقض الوضوء في الست (١) حيث إنها واردة في مقام بيان ما هو ناقض للوضوء ومع ذلك لم يذكر الاستحاضة ، فسكوته عليه‌السلام في تلك الأخبار عن ذكرها وعدم عدها من النواقض وهو في مقام البيان أقوى دليل على عدم كون الاستحاضة من الأحداث الموجبة للوضوء.

وفيه : أن غاية ما هناك دلالة هذه الأخبار على المدعى بإطلاقها وسكوتها في مقام البيان ، ولا مانع من رفع اليد عن ذلك الإطلاق بالأخبار المعتبرة الدالة على أن الاستحاضة من نواقض الوضوء.

وقد ذكر المحقق النائيني قدس‌سره أن أقوى إطلاق عثرنا عليه في الأبواب الفقهية قوله عليه‌السلام « لا يضر الصائم ما صنع إذا اجتنب أربع خصال أو ثلاث : الطعام والشراب والنساء والارتماس في الماء » (٢) والوجه في التردد بين الأربع والثلاث هو التردد في عد الطعام والشراب واحداً أو اثنين ، ومع ذلك رفعنا اليد عن إطلاقه بما ورد في بقية المفطرات من الروايات ، هذا.

وقد يقال وهو حسن لا بأس به إن النظر في أخبار حصر النواقض إنما هو إلى النواقض العامة غير المختصة بطائفة ولا سيما بلحاظ أن السائل من الرجال ، ولا نظر فيها إلى النواقض المختصة بالنساء ، حيث إن الاستحاضة مختصة بهنّ ، فلا تنافي بينها وبين ما دلّ على أن الاستحاضة من نواقض الوضوء.

وكيف كان فلا يمكننا رفع اليد عن الأخبار المتقدمة الصحيحة المعتبرة والظاهرة بل الصريحة من حيث الدلالة في قبال الإطلاق في أخبار حصر النواقض.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٤٥ ٢٥١ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ، ٢.

(٢) الوسائل ١٠ : ٣١ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ١ ح ١.

٢٥

ومنها : صحيحة زُرارة قال « قلت له : النفساء متى تصلِّي؟ فقال : تقعد بقدر حيضها وتستظهر بيومين ، فإن انقطع الدم ، وإلاّ اغتسلت واحتشت واستثفرت وصلّت ، فإن جاز الدم الكرسف تعصّبت واغتسلت ثم صلّت الغداة بغسل والظهر والعصر بغسل والمغرب والعشاء بغسل ، وإن لم يجز الدم الكرسف صلّت بغسل واحد ... » (١).

بتقريب أنها واردة في مقام البيان ، ومع ذلك سكتت عن وجوب الوضوء على المستحاضة ، فلو كان الوضوء واجباً على المستحاضة كالغسل تعرّضت لبيانه ، ومن عدم تعرضها لوجوب الوضوء يستكشف عدم وجوبه على المستحاضة.

والاستدلال بهذه الرواية حسن من جهة وفاسد من جهة ، وذلك لأن دلالتها على عدم وجوب الوضوء على المستحاضة مع وجوب الغسل في حقها وإن كانت صحيحة كما ذكر ، إلاّ أنها لا تدل على عدم وجوب الوضوء عليها في الاستحاضة القليلة لوضوح أنها سكتت عن إيجاب الوضوء عليها حينما وجب عليها الغسل ، وأمّا عدم وجوب الوضوء عليها عند عدم تكليفها بالغسل كما في المستحاضة القليلة فلا دلالة لها عليه بوجه ولا أنها واردة لبيانه.

ومنها : ما عن إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : المستحاضة تقعد أيام قرئها ، ثم تحتاط بيوم أو يومين ، فإذا هي رأت طهراً اغتسلت ، وإن هي لم تر طهراً اغتسلت واحتشت ، فلا تزال تصلِّي بذلك الغسل حتى يظهر الدم على الكرسف ، فإذا ظهر أعادت الغسل وأعادت الكرسف » (٢).

نظراً إلى دلالتها على أن المستحاضة ما دام لم يظهر دمها على الكرسف أي تجاوز عنه لا يجب عليها شي‌ء ، بل تصلِّي بالغسل الذي اغتسلت عن حيضها ، وإنما يجب عليها الغسل بعد ما ظهر دمها على الكرسف ، فهي قبل تجاوز الدم عن الكرسف ليست بذات حدث موجب لشي‌ء ، وبعده يجب الغسل دون الوضوء.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٧٣ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٥.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٧٥ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ١٠.

٢٦

والاستدلال بهذه الرواية مخدوش بحسب الدلالة والسند.

أمّا سنداً فلوقوع القاسم بن محمد الجوهري في سنده ، وهو ممن لم تثبت وثاقته.

وأمّا دلالة فلأنها إنما وردت لبيان أن المستحاضة بعد ما اغتسلت عن حيضها لا يجب في حقها غسل آخر ما دام لم يظهر الدم على الكرسف ، وأمّا أنها إذا لم يظهر دمها على الكرسف لا يجب الوضوء عليها فهو مما لا يكاد يستفاد منها بوجه.

هذا كله في الجواب عما ذهب إليه ابن أبي عقيل.

أدلّة ابن الجنيد

وأمّا ما ذهب إليه ابن الجنيد من أن دم الاستحاضة إن كان ثقب الكرسف وتجاوز عنه وجب على المرأة أن تغتسل لكل صلاة أو صلاتين ، وإذا لم يتجاوز عنه سواء لم يثقبه أو ثقبه ولم يتجاوز عنه (١) فيجب الغسل لكل نهار وليلة مرة واحدة ، وعليه فليس هناك استحاضة متوسطة وكثيرة وقليلة ، بل يدور الأمر بين وجوب الغسل لكل صلاة والغسل لكل يوم مرة واحدة ، فقد استدل له بروايتين :

إحداهما : موثقة سَماعة قال « قال : المستحاضة إذا ثقب الدم الكرسف اغتسلت لكل صلاتين وللفجر غسلاً ، وإن لم يجز الدم الكرسف فعليها الغسل لكل يوم مرة والوضوء لكل صلاة » (٢).

وذلك لإطلاق قوله « وإن لم يجز الدم الكرسف » وشموله لكل من صورتي ثقبه وعدم تجاوزه عنه وصورة عدم ثقبه أصلاً. وهي كما ترى تدل على أن أمر المستحاضة يدور بين الغسل لكل صلاة كما إذا ثقب الدم الكرسف وتجاوز عنه ، وبين الغسل لكل يوم وليلة مرة واحدة كما إذا لم يثقبه أصلاً أو ثقبه ولم يتجاوز عنه.

وثانيتهما : صحيحة زرارة قال « قلت له : النفساء متى تصلِّي؟ فقال : تقعد بقدر‌

__________________

(١) ما نقل عن ابن الجنيد هنا يُنافي ما نقل عنه في ص ٢١ من أنّ الاستحاضة القليلة هي التي لا تثقب الكرسف ، والصحيح ما نقله هناك.

(٢) الوسائل ٢ : ٣٧٤ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٦.

٢٧

حيضها وتستظهر بيومين فإن انقطع الدم ، وإلاّ اغتسلت واحتشت واستثفرت وصلّت فإن جاز الدم الكرسف تعصبت واغتسلت ثم صلّت الغداة بغسل والظهر والعصر بغسل والمغرب والعشاء بغسل ، وإن لم يجز الدم الكرسف صلّت بغسل واحد ... » (١).

وذلك بعين التقريب المتقدم في الموثقة ، وعليه فليس لنا استحاضة يجب فيها الوضوء لكل صلاة بل الأمر يدور بين الأمرين المتقدمين ، هذا.

ويمكن الجواب عما استدل به على ذلك المسلك بأن مراد ابن الجنيد إن كان أن دم الاستحاضة سواء كان دمها أحمر وأسود أم كان أصفر لا يجب معه الوضوء لكل صلاة ، بل دم الاستحاضة على إطلاقه إما أن يجب معه الغسل لكل صلاة وإما أن يجب معه الغسل مرة واحدة في كل يوم.

فيدفعه صريح الموثقة المتقدمة حيث ورد في ذيلها « هذا إن كان دمها عبيطاً ، وإن كان صفرة فعليها الوضوء » وهي كما ترى صريحة في أن دم الاستحاضة إذا كان صفرة لا يجب معها سوى الوضوء ، فالموثقة تدل على خلاف مراده لا أنها دليل له.

وإن أراد بما ذكره أن دم الاستحاضة الأحمر أو الأسود على قسمين ، قسم يجب معه الغسل لكل صلاة ، وقسم يجب معه الغسل مرة واحدة لكل يوم وليلة ، ولا قسم ثالث في دم الاستحاضة الأحمر أو الأسود يجب معه الوضوء ، فهو بظاهره ممّا لا بأس به ويمكن الاستدلال عليه بالموثقة والصحيحة المتقدمتين.

ما ذهب إليه المحقق الخراساني ( قدس‌سره )

بل هذا هو الذي ذهب إليه المحقق الخراساني قدس‌سره في فقهه (٢) ، مستدلاًّ عليه بالروايتين المتقدِّمتين ومعترضاً بهما على المشهور في جعلهم الاستحاضة مطلقاً على أقسام ثلاثة وإيجابهم الوضوء فيما إذا لم يثقب الكرسف ، مع أن الروايتين تدلان على أن دم الاستحاضة الأحمر أو الأسود يدور أمره بين وجوب الغسل معه لكل‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٧٣ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٥.

(٢) نقله عنه في المستمسك ٣ : ٣٨٦ / أقسام المستحاضة ، وراجع كتاب الدماء : ٨٤.

٢٨

صلاة وبين وجوب الغسل مرة واحدة في كل يوم وليلة ، وليس هناك دم استحاضة أحمر أو أسود يجب فيه الوضوء ، هذا.

ولكن يمكن المناقشة في الاستدلال بتلك الموثقة على ذلك بأنها ليست مسوقة لبيان أن حكم الاستحاضة يختلف باختلاف كيفية الدم ولونه وأنه إذا كان أحمر أو أسود يدور أمره بين القسمين المتقدِّمين ، وإذا كان أصفر يجب فيه الوضوء ، وإنما هي مسوقة لبيان اختلاف حكم دم الاستحاضة باختلاف كمّية الدم وقلته وكثرته ، بمعنى أنه إذا كان كثيراً على نحو يثقب الكرسف ويتجاوز عنه يجب الغسل لكل صلاة ، وإذا كان كثيراً على نحو يثقب الكرسف ولم يتجاوز عنه يجب الغسل لكل يوم وليلة مرة واحدة ، وإذا كان قليلاً بمقدار يعد عرفاً من الطوارئ والعوارض ولا يعد دماً ولو كان أحمر أو أسود ، لقلّته وضعفه حيث لم يثقب الكرسف يجب فيه الوضوء ، فالمراد بالصفرة هو الدم القليل المعد من الطوارئ والأعراض ولو كان أحمر.

ويشهد لذلك أمران :

أحدهما : أنه لم يقل وإن كان دماً أصفر ، ليتوهم أنها بصدد تقسيم الدم من حيث الصفرة وغيرها ، بل قال وإن كان صفرة ، إشارة إلى أن الدم لو كان من القلة بمكان لا يعد دماً عرفاً بل يعد من الأعراض يجب معه الوضوء ولو كان أحمر أو أسود ، فهي مسوقة لبيان اختلاف حكم الاستحاضة باختلاف كمية الدم من حيث الكثرة والقلة ، ولا نظر لها إلى تقسيمه من حيث الكيفية واللون.

ثانيهما : أن الرواية لو كانت واردة لبيان تقسيم الدم بحسب الكيفية واللون فقد تعرضت في الدم الأحمر لصورتين : الصورة الأُولى ما إذا ثقب الدم الكرسف وتجاوز عنه. الصورة الثانية ما إذا ثقبه ولم يتجاوز عنه. وهناك صورة ثالثة من الدم الأحمر لم يتعرّض لحكمها ، وهي ما إذا لم يثقبه أصلاً.

وهذا بخلاف ما إذا حملناها على كونها واردة لبيان كمية الدم وأنه إذا كان كثيراً قد يثقب فقط وقد يثقب ويتجاوز ، وهما صورتان ، وقد يكون قليلاً لا يثقب ولا يتجاوز عن الكرسف ، وهي التي يجب الوضوء فيها ، هذا كلّه.

٢٩

على أنّا لو سلمنا أن الروايتين مطلقتان من حيث كون الدم غير المتجاوز ثاقباً من غير تجاوز وما إذا لم يكن ثاقباً أصلاً ، وقد دلتا على أن الواجب في صورة عدم تجاوز الدم عن الكرسف هو الغسل مرة واحدة لكل يوم وليلة سواء ثقبه أم لم يثقبه ، فلا مناص من رفع اليد عن إطلاقهما وتقييدهما بما إذا كان الدم ثاقباً بمقتضى صريح صحيحة الصحّاف حيث ورد فيها « ثم لتنظر ، فإن كان الدم فيما بينها وبين المغرب لا يسيل من خلف الكرسف فلتتوضأ ولتصل عند وقت كل صلاة ما لم تطرح الكرسف عنها ، فإن طرحت الكرسف عنها فسال الدم وجب عليها الغسل ، وإن طرحت الكرسف عنها ولم يسل الدم فلتوضأ ولتصل ولا غسل عليها ، قال : وإن كان الدم إذا أمسكت الكرسف يسيل من خلف الكرسف صبيباً لا يرقأ ، فإن عليها أن تغتسل في كل يوم وليلة ثلاث مرات إلى أن قال وكذلك تفعل المستحاضة » (١).

حيث صرحت بأن دم الاستحاضة إذا لم يسل من خلف الكرسف أي لم يثقبه وجب على المستحاضة أن تتوضأ وتصلِّي ، ولا يجب عليها الغسل حينئذ ، وبها نقيد إطلاق قوله عليه‌السلام « وإن لم يجز الدم الكرسف فعليها الغسل » بما إذا لم يثقبه فإن اللازم حينئذ هو التوضؤ دون الاغتسال.

هذا كله فيما ذهب إليه المحقق الخراساني قدس‌سره عند كون دم الاستحاضة أحمر أو أسود ، حيث ذكر دورانه بين القسمين المتقدمين من غير أن يكون له قسم ثالث يجب فيه الوضوء.

وأمّا إذا كان صفرة فقد ذكر أن أمر الدم الأصفر يدور بين قسمين لا ثالث لهما فإنها إن كانت قليلة وجب معها الوضوء ، وإن كانت كثيرة يجب معها الغسل.

واستدلّ على ذلك بجملة من الأخبار الدالة على أن المستحاضة إذا رأت صفرة فلتتوضأ ، منها : الموثقة المتقدِّمة (٢) ، ومنها : صحيحة علي بن جعفر عن أخيه « ما دامت‌

__________________

(١) الوسائل ٢. ٣٧٤ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٧.

(٢) الوسائل ٢ : ٣٧٤ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٦.

٣٠

ترى الصفرة فلتتوضأ من الصفرة وتصلِّي ولا غسل عليها من صفرة تراها » (١) ، ومنها : صحيحة محمد بن مسلم الفاقدة لكلمة الصفرة (٢) ، ومنها : صحيحته الأُخرى (٣) ، ومنها : رواية علي بن جعفر الأُخرى ، « فإن رأت صفرة بعد غسلها فلا غسل عليها ، يجزئها الوضوء عند كل صلاة تصلِّي » (٤) ومنها غير ذلك من الأخبار.

وبإزاء هذه الأخبار روايتان تدلان على أن المستحاضة إذا رأت صفرة وجب عليها أن تغتسل.

إحداهما : صحيحة إسحاق بن عمّار ، قال « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المرأة الحبلى ترى الدم اليوم واليومين ، قال : إن كان دماً عبيطاً فلا تصلِّي ذينك اليومين ، وإن كان صفرة فلتغتسل عند كل صلاتين » (٥).

وثانيتهما : صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج ، قال « سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن امرأة نفست فمكثت ثلاثين يوماً أو أكثر ، ثم طهرت وصلّت ، ثم رأت دماً أو صفرة ، قال : إن كان صفرة فلتغتسل ولتصل ولا تمسك عن الصلاة » (٦).

وهاتان الطائفتان متعارضتان ، لدلالة إحداهما على وجوب الوضوء مع الدم الأصفر ، ودلالة ثانيتهما على وجوب الغسل معه ، إلاّ أن هناك شاهد جمع بينهما ، وهو ما رواه محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام ، قال « سألته عن الحبلى قد استبان حملها ، ترى ما ترى الحائض من الدم ، قال : تلك الهراقة من الدم ، إن كان دماً أحمر كثيراً فلا تصلِّي ، وإن كان قليلاً أصفر فليس عليها إلاّ الوضوء » (٧).

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٨٠ / أبواب الحيض ب ٤ ح ٨.

(٢) الوسائل ٢ : ٣٠٨ / أبواب الحيض ب ١٧ ح ١.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٧٩ / أبواب الحيض ب ٤ ح ١.

(٤) الوسائل ٢ : ٢٨٠ / أبواب الحيض ب ٤ ح ٧.

(٥) الوسائل ٢ : ٣٣١ / أبواب الحيض ب ٣٠ ح ٦.

(٦) الوسائل ٢ : ٣٩٣ / أبواب النفاس ب ٥ ح ٢.

(٧) الوسائل ٢ : ٣٣٤ / أبواب الحيض ب ٣٠ ح ١٦.

٣١

حيث تدل على أنّ وجوب الوضوء مع رؤية الدم الأصفر مختص بما إذا كان قليلاً وأمّا مع الكثرة فالواجب في حقها الاغتسال ، وبهذا يرتفع التعارض بين الطائفتين.

والنتيجة أنه ليس هناك قسم ثالث في الاستحاضة لا فيما إذا كان الدم أحمر ولا فيما إذا كان أصفر ، هذا.

والصحيح ما ذهب إليه المشهور من تقسيم الاستحاضة إلى أقسام ثلاثة : إما أن لا يثقب الدم الكرسف ويجب الوضوء معه ، وإما أن يثقب الدم الكرسف ولا يتجاوز عنه فيجب غسل واحد ، وإما أن يثقب ويتجاوز الدم عن الكرسف فتجب أغسال ثلاثة ، ولا يعتمد على ما فصّله المحقق الخراساني قدس‌سره كما عرفت.

توضيح المقال في جواب المحقق الخراساني ( قدس‌سره )

وتوضيح الكلام في الجواب عما أفاده يقع في مقامين : أحدهما في الدم الأحمر. وثانيهما في الدم الأصفر. فنقول أولاً في الدم الأحمر :

المقام الأوّل : إن صريح صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال « المستحاضة تنظر أيامها فلا تصلِّي فيها ولا يقربها بعلها ، فإذا جازت أيامها ورأت الدم يثقب الكرسف اغتسلت للظهر والعصر تؤخّر هذه وتعجّل هذه ، وللمغرب والعشاء غسلاً تؤخر هذه وتعجل هذه ، وتغتسل للصبح وتحتشي وتستثفر ولا تحني ( تحيي ) ، وتضم فخذيها في المسجد وسائر جسدها خارج ، ولا يأتيها بعلها أيام قرئها وإن كان الدم لا يثقب الكرسف توضأت ودخلت المسجد وصلّت كل صلاة بوضوء » (١) أن حكم المستحاضة يختلف باختلاف ثقب الدم الكرسف وعدمه ، فمع الثقب تجب الأغسال الثلاثة ومع عدم الثقب يجب الوضوء ، فالثقب له موضوعية في حكم المستحاضة وأنه المدار في اختلاف أحكامها ، بمعنى أن الدم الذي يثقب الكرسف يجب معه الأغسال ولكنّه هو بعينه لو خرج ولم يثقب وجب معه الوضوء ، فالدم الواحد‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٧١ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ١.

٣٢

الذي يحكم معه بوجوب الأغسال إذا ثقب هو الذي يحكم معه بوجوب الوضوء لو لم يكن ثاقباً ، فلا وجه لتقسيم دم الاستحاضة إلى الصفرة أو الحمرة.

وليس المدار في اختلاف حكمها هو اختلاف لون الدم من الحمرة والصفرة ، بل سواء أكان دمها أحمر أم كان أصفر إذا ثقب الكرسف وجبت معه الأغسال الثلاثة وإذا لم يثقبها وجب معه الوضوء ، فما أفاده قدس‌سره من اختلاف حكم المستحاضة باختلاف لون الدم مخالف لصريح الصحيحة كما عرفت.

نعم ، هي توافق المحقق المزبور في أن دلالتها على وجوب الأغسال الثلاثة مع الثقب على نحو الإطلاق سواء أكان متجاوزاً أيضاً أم لم يكن ، إلاّ أنه لا بدّ من تقييد إطلاقها من هذه الجهة بصحيحة زرارة الدالة على أن وجوب الأغسال الثلاثة إنما هو فيما إذا كان الثقب مع التجاوز ، وأمّا مع عدم التجاوز فالواجب غسل واحد لكل يوم وليلة : « قال قلت له : النفساء متى تصلِّي؟ فقال : تقعد بقدر حيضها وتستظهر بيومين فإن انقطع الدم ، وإلاّ اغتسلت واحتشت واستثفرت وصلّت ، فإن جاز الدم الكرسف تعصبت واغتسلت ثم صلّت الغداة بغسل والظهر والعصر بغسل والمغرب والعشاء بغسل ، وإن لم يجز الدم الكرسف صلّت بغسل واحد (١).

وروايته الأُخرى عن أبي جعفر عليه‌السلام قال « سألته عن الطامث تقعد بعدد أيامها كيف تصنع؟ قال : تستظهر بيوم أو يومين ثم هي مستحاضة ، فلتغتسل وتستوثق من نفسها وتصلِّي كل صلاة بوضوء ما لم ينفذ ( يثقب ) الدم فإذا نفذ اغتسلت وصلّت » (٢). إلاّ أنها ضعيفة بمحمد بن خالد الأشعري ، فهي صالحة للتأييد دون الاستدلال بها.

وكيف كان فبدلالة صحيحة زرارة صريحاً يقيد إطلاق قوله عليه‌السلام في الصحيحة المتقدمة « ورأت الدم يثقب الكرسف اغتسلت للظهر ... » بما إذا كان متجاوزاً وأمّا مع الثقب من دون تجاوز فالواجب في حقها غسل واحد ، فالصحيحتان تدلاّن على المسلك المشهور من انقسام المستحاضة إلى أقسام ثلاثة ، ووجوب الوضوء مع‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٧٣ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٥.

(٢) الوسائل ٢ : ٣٧٥ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٩.

٣٣

عدم الثقب ، والغسل الواحد مع الثقب من دون تجاوز ، والأغسال الثلاثة مع الثقب والتجاوز.

وبإزائهما موثقة سَماعة المتقدِّمة (١) ، وما هو بمضمونها التي اعتمد عليها المحقق الخراساني قدس‌سره ، وذلك بتقريب أن قوله عليه‌السلام « إذا ثقب الدم الكرسف اغتسلت لكل صلاتين ... » مطلق يشمل ما إذا كان الثقب مع التجاوز وما إذا لم يكن متجاوزاً ، فتدل هذه الجملة على وجوب الأغسال الثلاثة مع الثقب من دون فرق بين المتجاوز وغيره.

ثم إن قوله عليه‌السلام في الجملة الثانية « وإن لم يجز الدم الكرسف فعليها الغسل لكل يوم مرّة » تصريح بالمفهوم المستفاد من الجملة السابقة ، ومعناه وإن لم يثقب الدم الكرسف فعليها الغسل ، لأن مفهوم قوله عليه‌السلام « إذا ثقب » إذا لم يثقب.

وعليه فالموثقة تدلّنا على أن أمر الدم الأحمر الذي تراه المستحاضة مردد بين أمرين ، لأنه إما أن لا يثقب فالواجب فيه غسل واحد لكل يوم ، وإما أن يثقب فالواجب فيه الأغسال الثلاثة تجاوز الدم أم لم يتجاوز ، فليس للمستحاضة التي ترى الدم الأحمر أقسام ثلاثة يجب في أحدها الوضوء ، هذا.

وجوه المناقشة في الاستدلال بالموثقة

ولكن للمناقشة في الاستدلال بالموثقة مجال واسع ، وهي من وجوه :

الأوّل : أنّا لو سلمنا أن الجملة الثانية تصرح بالمفهوم المستفاد من الجملة السابقة يدور الأمر بين ارتكاب أحد أمرين كلاهما خلاف الظاهر ، وذلك لأن المفهوم هو عبارة عن نفي ما ورد في المنطوق ، ومنطوق الموثقة « إذا ثقب الدم الكرسف » ، والمذكور في الجملة الثانية « وإن لم يجز الدم ... » ، والمفروض أنه مفهوم الجملة الأُولى ولا يمكن إبقاؤهما على حقيقتهما والعمل على أصالة الحقيقة في كليهما.

فإمّا أن يراد من الثقب التجاوز فيصير معنى « إذا ثقب » إذا تجاوز ، ليصح كون‌

__________________

(١) في ص ٢٧.

٣٤

الجملة الثانية مفهوماً للجملة الاولى ، وحينئذ تدل الموثقة على أن الدم إذا تجاوز الكرسف فيجب فيه الأغسال الثلاثة ، وإذا لم يتجاوز يجب فيه غسل واحد. وهذا خلاف ما يدعيه المحقق الخراساني ، وهو عين ما التزم به المشهور في الدم المتجاوز والدم الثاقب غير المتجاوز.

وإمّا أن يعكس الأمر ويتصرف في الجملة الثانية بحمل التجاوز على الثقب ، أي إذا لم يثقب الدم وجب عليها غسل واحد ، وهو ما ادعاه قدس‌سره في المقام ، وبما أنه لا قرينة على تعيين أحد التصرفين وارتكاب إحدى المخالفتين للظاهر ولا مرجح له تصبح الموثقة المذكورة مجملة لا محالة.

الثاني : أن الجملة الثانية ليست تصريحاً بمفهوم الجملة الاولى ، بل الظاهر المستفاد من الموثقة أن الجملة الأُولى مطلقة ، وقد دلّت بإطلاقها على وجوب الأغسال الثلاثة مع الثقب تجاوز أم لم يتجاوز ، والجملة الثانية بيان ومقيد لإطلاق الجملة الأُولى وتدل على أن وجوب الأغسال الثلاثة إنما هو إذا ثقب الدم وتجاوز ، وأمّا إذا ثقب ولم يتجاوز فالواجب غسل واحد.

ولا بأس بالإطلاق في الجملة المتقدمة مع بيان القيد في الجملات المتأخرة ، بل هو كلام فصيح ، وقد وقع نظيره في كلام الله سبحانه كما في قوله تعالى ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) فإنّه بإطلاقه شامل للجنب وغيره ، ثم أتى بمقيدة بقوله عزّ من قائل ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) (١) فإنه مقيد لإطلاق الجملة السابقة ودال على أن وجوب الوضوء إنما هو في حق غير الجنب ، وأمّا الجنب فحكمه أن يتطهر.

وعليه فالموثقة تدل على مذهب المشهور ، غاية الأمر أن نضيف عليها الحكم بوجوب الوضوء مع عدم الثقب أصلاً بمقتضى صحيحة معاوية بن عمار المتقدمة.

ويدلُّ على ما ذكرناه موثقة أُخرى لسَماعة مسندة عن أبي عبد الله عليه‌السلام بخلاف هذه الموثقة فإنها مضمرة ، « قال : غسل الجنابة واجب ، وغسل الحائض إذا طهرت واجب ، وغسل المستحاضة واجب إذا احتشت بالكرسف وجاز الدم الكرسف‌

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

٣٥

فعليها الغسل لكل صلاتين وللفجر غسل ، وإن لم يجز الدم الكرسف فعليها الغسل كل يوم مرّة والوضوء لكل صلاة ... » (١) فإنها صريحة فيما ذكرناه حيث عبرت بتجاوز الدم وبعدم تجاوزه ، والراوي عن سماعة في كلتا الروايتين شخص واحد وهو عثمان بن عيسى ، والوجه في الاستدلال بها أن من البعيد أن تكون هذه الرواية متضمنة لمطلب آخر غير الرواية ، بل الظاهر أنهما متكفلتان لمطلب واحد عبر في إحداهما بتعبير وفي الأُخرى بتعبير آخر.

الثالث : هب أنّا سلمنا أن الجملة الثانية مفهوم للجملة السابقة إلاّ أن الالتزام بمدلولها وأن الدم الثاقب مطلقاً يجب معه الأغسال الثلاثة تجاوز أم لم يتجاوز ، وغير الثاقب يجب معه غسل واحد ، إنما هو فيما إذا كانت الرواية منحصرة بالموثقة.

وليس الأمر كذلك لما عرفت من الصحيحتين ، فلا بد من التصرف في الموثقة بقرينتهما وحمل الثاقب على المتجاوز بتقييد إطلاقها ، والحكم في الثاقب غير المتجاوز بالغسل الواحد وفي غير الثاقب أصلاً بوجوب الوضوء بمقتضى صريح الصحيحتين لأنّ التجاوز في مثلهما ليس بمجمل ، وإنما يراد به التجاوز عن الكرسف ولا يحتمل أن يراد به الثقب.

فتدلنا الصحيحتان وغيرهما من الأخبار على أن الدم مع الثقب والتجاوز يجب فيه الأغسال الثلاثة ، ومع الثقب غير المتجاوز يجب غسل واحد ، ومعه تكون هاتان الروايتان قرينة على أن المتعين في الموثقة أن يتصرف في الثقب بحمله على التجاوز ، لا أن يتصرف في التجاوز بحمله على الثقب.

هذا كله في الدم الأحمر.

المقام الثاني : في الدم الأصفر ، وقد عرفت أنه قدس‌سره فصّل فيه بين الكثير العرفي وأوجب فيه الغسل ، وبين القليل العرفي وحكم فيه بوجوب الوضوء ، وقال إنه لا ثالث لهما في البين ، واستدل عليه بالطائفة الدالة على أن المستحاضة إذا رأت صفرة تتوضأ وتصلِّي ، وبما دلّ على أن المستحاضة إذا رأت صفرة تغتسل وتصلِّي ، بدعوى‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٧٣ / أبواب الجنابة ب ١ ح ٣.

٣٦

أنهما متعارضتان بالتباين وهناك شاهد جمع بينهما ، أعني ما رواه محمد بن مسلم حيث دلّت على وجوب الوضوء مع كون الدم قليلاً أصفر.

ولكن يرد عليه أن ما أقامه شاهداً للجمع بين الطائفتين ضعيف السند لإرساله.

إعادة وتتميم

ذكرنا أن المحقق الخراساني قدس‌سره خالف المشهور في المقام ، وذهب إلى التفصيل في دم الاستحاضة بين الأحمر والأصفر ، وذكر أن الدم الأحمر يدور أمره بين وجوب الأغسال الثلاثة فيما إذا تجاوز الدم عن الكرسف ، ووجوب غسل واحد فيما إذا ثقب الدم الكرسف من غير أن يتجاوز ، واستدل عليه بموثقة سماعة المتقدمة بالتقريب السابق.

وأمّا الدم الأصفر فقد ذكر أنه إذا كان كثيراً عرفياً لا بحسب الاصطلاح الذي هو بمعنى تجاوز الدم عن الكرسف وجب فيه الغسل ، وإذا كان قليلاً عرفاً وجب فيه الوضوء ، وذكر أنه على ذلك تكون الاستحاضة المتوسطة المصطلحة داخلة في الاستحاضة القليلة عنده ، لأن كون الدم بحيث يوجب الثقب فحسب لا يعد دماً كثيراً عرفاً ، بل هو من الدم القليل فيجب فيه الوضوء ، بل بعض أقسام الاستحاضة الكثيرة يدخل في القليلة عنده ، كما إذا ثقب الكرسف وتجاوز عنه بشي‌ء يسير ، فإن مثله لا يعد كثيراً عرفاً بل هو قليل فيجب فيه الوضوء ، إلاّ أن يكون سائلاً على وجه يعد كثيراً عرفاً ، هذا.

وقد قدمنا أن ما أفاده في الدم الأحمر غير تام ، لصحيحة معاوية بن عمّار الدالة بصراحتها على أن المدار في اختلاف أحكام المستحاضة إنما هو الثقب وعدمه ، وأن الدم الثاقب يجب معه الأغسال الثلاثة وغير الثاقب يجب معه الوضوء ، بمعنى أن الدم الذي يجب معه الغسل إذا كان ثاقباً هو الذي يجب معه الوضوء إذا كان غير ثاقب وعليه فلا عبرة بحمرة الدم وصفرته ، بل المدار إنما هو بثقب الدم وعدم ثقبه.

ولمّا كانت الصحيحة مطلقة من حيث دلالتها على وجوب الأغسال الثلاثة مع‌

٣٧

الثقب سواء أكان متجاوزاً أم لم يكن ، فلا بدّ من تقييدها بصحيحة زرارة الدالّة على أن وجوب الأغسال الثلاثة إنما هو مع تجاوز الدم الثاقب (١) ، وأمّا الدم الثاقب غير المتجاوز فإنما يجب معه غسل واحد ، وعليه فالصحيحتان بعد تقييد مطلقهما بمقيدهما صريحتان في مسلك المشهور ، هذا.

مناقشات المحقق الخراساني ( قدس‌سره ) :

وللمحقق الخراساني قدس‌سره (٢) مناقشات في الاستدلال بالصحيحة على المسلك المشهور بين الأصحاب :

المناقشة الاولى : أن الصحيحة وإن دلت على وجوب الوضوء عند عدم كون الدم ثاقباً إلاّ أنها لا تدل على عدم وجوب الغسل حينئذ ، لعدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة ، أي من جهة وجوب الغسل وعدمه ، وإنما وردت للدلالة على وجوب الوضوء حينئذ ، فلا يمكن التمسك بإطلاقها في الحكم بعدم وجوب الغسل حينئذ.

وهذه المناقشة منه قدس‌سره عجيبة ، وذلك لأنه مع ورود الرواية لبيان ما يجب على المستحاضة حسب اختلاف حالاتها ووجوب الغسل عليها ثلاث مرّات مع الثقب ، كيف لا تكون بصدد البيان عند عدم ثقبه ، إذ لو لم تكن بصدد بيان الغسل الواجب عليها لم تتعرض لوجوبه مع الثقب أيضاً ، وكونها مع الثقب في مقام البيان وعدم كونها كذلك عند عدم الثقب الذي هو مفروض الرواية في الجملة الثانية منها عجيب غايته.

المناقشة الثانية : أن المراد بالتوضؤ في قوله عليه‌السلام « وإن كان الدم لا يثقب الكرسف توضأت ودخلت المسجد وصلّت كل صلاة بوضوء » لم يعلم أنه الوضوء المصطلح عليه ، بل المراد به هو الاغتسال من التنظيف والتطهير ، إذ لو أُريد به الوضوء‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٧٣ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٥.

(٢) كتاب الدماء : ٨٥.

٣٨

المصطلح عليه للزم التكرار في الرواية ، حيث ذكرت وجوب الوضوء عليها في آخر الرواية « وصلّت كل صلاة بوضوء » وعليه فتكون الصحيحة موافقة لمسلكه قدس‌سره من وجوب الغسل الواحد عند عدم ثقب الدم.

وهذه المناقشة أيضاً غريبة ، وذلك لأن التوضؤ بمعناه اللغوي المعبّر عنه بـ « شستشو » وإن كان قد يستعمل في كلامهم إلاّ أنه بمعنى الغُسل مما لم يعهد استعماله بوجه ، بل الظاهر إرادة الوضوء المصطلح عليه منه.

ودعوى أنه يلزم التكرار حينئذ واضحة الدفع ، لأن قوله عليه‌السلام « وصلّت كل صلاة بوضوء » إنما هو لبيان أن المستحاضة ليست كبقية المكلفين في جواز اكتفائها بوضوء واحد في جميع صلواتها ، بل يجب عليها أن تتوضأ لكل صلاة وليس معناه وجوب أصل الوضوء عند حدث الاستحاضة ليلزم التكرار.

المناقشة الثالثة : أن دلالة الصحيحة على عدم وجوب الغسل عند عدم ثقب الكرسف إنما هي بالإطلاق بعد قطع النظر عن المناقشتين المتقدمتين ، نظراً إلى أنها في مقام البيان ومعه تعرضت لوجوب الوضوء على المستحاضة حينئذ ولم تتعرض لوجوب الغسل في حقها ، فمن سكوتها في مقام البيان يستكشف عدم وجوبه.

إلاّ أنه لا مانع من رفع اليد عن إطلاقها وتقييدها بموثقة سَماعة الدالّة على أنه مع عدم ثقب الدم يجب عليها الغسل مرة واحدة بناء على ما قدمناه في تقريب دلالتها وأن قوله عليه‌السلام « وإن لم يجز الدم » معناه أن الدم إذا لم يثقب.

وعليه يقال : إن مقتضى الصحيحة وإن كان وجوب الوضوء على المستحاضة مع عدم الثقب ، إلاّ أن الموثقة تدل على أنه مع الوضوء يجب عليها الاغتسال ، وبضم إحداهما إلى الأُخرى يستفاد أن وظيفة المستحاضة عند عدم ثقب الكرسف هو الغسل الواحد والوضوء لكل صلاة ، لأنها حينئذ محدثة بالحدث الأصغر وبالحدث الأكبر ، فيجب عليها الوضوء والاغتسال كما هو مسلكه قدس‌سره.

وهذه المناقشة لا بأس بها فيما إذا تم ما ذكره في تقريب استدلاله بالموثقة ، بأن يكون قوله عليه‌السلام « وإن لم يجز الدم الكرسف » مفهوماً للجملة السابقة عليه‌

٣٩

وأن يكون بمعنى عدم كون الدم ثاقباً ، فإنه لا مناص مما أفاده ، لإطلاق الصحيحة من حيث وجوب الغسل حينئذ ، فيرفع عنه اليد بدلالة الموثقة على وجوب الغسل معه.

إلاّ أنك عرفت أن ما أفاده قدس‌سره ليس بتام ، لعدم كون الجملة الثانية مفهوماً للجملة المتقدمة عليها ، بل الظاهر أنها مقيدة لإطلاق الجملة الأُولى نظير قوله تعالى ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) المقيد لإطلاق قوله عزّ من قائل ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ... ) (١).

ومع الغض عنه فإن كون « إن لم يجز » بمعنى إن لم يثقب وإن كان محتملاً حينئذ إلاّ أنه يحتمل أن يكون قوله « إذا ثقب الدم » بمعنى إذا تجاوز الدم ، فإن اللازم هو أحد هذين التصرفين في الجملتين بناء على أن الجملة الثانية مفهوم للجملة السابقة عليها وأمّا تعيين خصوص الأول فهو مما لا مرجح له.

ومعه تصبح الموثقة مجملة لو لم نقل برجحان المحتمل الثاني ، لدلالة سائر الروايات كصحيحة زرارة على أن وجوب الأغسال الثلاثة إنما هو مع تجاوز الدم عن الكرسف لا مع كون الدم ثاقباً فقط ، فإن التجاوز والثقب لو كان مجملاً فإنما هو

كذلك في هذه الرواية ، وأمّا بقية الروايات فلا إجمال في شي‌ء منها ، وهو ظاهر.

المناقشة الرابعة : مع الغض عن جميع المناقشات المتقدمة لا دلالة في الصحيحة على أن إيجاب الوضوء عند عدم كون الدم ثاقباً إنما هو فيما إذا كان الدم أحمر ، بل الصحيحة مطلقة من هذه الجهة ، فأيّ مانع من حملها على الدم الأصفر بقرينة موثقة سَماعة الدالة على أن الدم الأحمر إذا لم يثقب الكرسف وجب فيه الغسل ، حيث ورد في ذيلها « هذا إن كان دمها عبيطاً ».

وبه ترتفع المنافاة بينهما وتكون الأخبار الواردة في المقام بعد تقييد مطلقها بمقيدها وإرجاع بعضها إلى بعض ، دالّة على أن الدم الأحمر يدور أمره بين وجوب الأغسال الثلاثة معه كما إذا كان ثاقباً ، وبين وجوب الغسل الواحد كما إذا لم يثقب ، وأمّا الدم‌

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

٤٠