الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن وعلم البيان

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن وعلم البيان

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٠٧

وهذا إنما يتم بالحكم الجدّي بكونه قمرا ليكون من شأنه أن يبلى الكتان.

الوجه الثالث عشر : شروط الاستعارة الكاملة .. قال ابن الأثير : لا بد للاستعارة من ثلاثة أشياء : مستعار. ومستعار منه. ومستعار له. فاللفظ المستعار قد نقل من أصل إلى فرع للإبانة ، والمستعار منه ، والمستعار له لفظان حمل أحدهما على الآخر في معنى من المعاني هو حقيقي للمحمول عليه مجازي للمحمول. مثال ذلك قوله تعالى ( وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ) فهذا مستعار ، ومستعار منه ، ومستعار له ، فالمستعار هو الاشتعال ، وقد نقل من الأصل الذي هو النار إلى الفرع الذي هو الشيب قصدا للإبانة ، وأما المستعار منه فهو النار ، والاشتعال لها حقيقة ، وأما المستعار له فهو الشيب والاشتعال له مجاز.

٨١

القسم الحادي والعشرون

التشبيه والكلام عليه من وجوه

الأول : هل هو من المجاز أو لا؟. الثاني : بيان الغرض بالتشبيه .. الثالث :في حده .. الرابع : في معرفة الأشياء التي يكون منها التشبيه .. الخامس : في أقسامه .. السادس : في ذكر أدوات التشبيه ما يكون بأداة ، وما يكون بغير أداة .. السابع : في تشبيه الشيئين بالشيء الواحد .. الثامن : في ذكر ما حسن به موقع التشبيه .. التاسع : في الشرط الذي لا يكون التشبيه حسنا إلا به .. العاشر : فيما يجوز عكسه من التشبيه ، وما لا يجوز .. الحادي عشر :التشبيه في الهيئات التي تقع عليها الحركات .. الثاني عشر : الفرق بين الاستعارة والتشبيه.

أما الأول : فالذي عليه جمهور أهل هذه الصناعة أن التشبيه من أنواع المجاز ، وتصانيفهم كلها تصرح بذلك وتشير اليه. وذهب المحققون من متأخري علماء هذه الصناعة وحذاقها إلى أن التشبيه ليس من المجاز لأنه معنى من المعاني ، وله حروف وألفاظ تدل عليه وضعا كان الكلام حقيقة أو مجازا ، فإذا قلت زيد كالأسد. وهذا الخبر كالشمس في الشهرة. وله رأي كالسيف في المضاء. لم يكن مثل نقل اللفظ عن موضوعه فلا يكون مجازا.

وأما الثاني : فالغرض بالتشبيه وفائدته الكشف عن المعنى المقصود مع ما يكتسب من فضيلة الايجاز والاختصار ، والدليل على ذلك قولنا ـ زيد أسد ـ

٨٢

فإن الغرض بهذا القول أن نبين حال زيد وأنه متصف بشهامة النفس وقوة البطش والشجاعة وغير ذلك مما جرى هذا المجرى ، إلا أنا لم نجد شيئا يدل عليه سوى جعلناه شبيها بالأسد حيث كانت هذه الصفات مختصة به مقصورة عليه ، فصار ما قصدناه من هذا القول أكشف وأبين من أن لو قلنا زيد شهم شجاع قوي البطش جريء الجنان وأشباه ذلك ، لما قد عرف وعهد من اجتماع هذه الصفات في المشبه به ، فإنه معروف بها مشهور بكونها فيه.

وأما الثالث : فقد اختلفت عبارات أهل هذا الشأن في حده ، فقال قوم : حده أن يثبت للمشبه حكما من أحكام المشبه به .. وقال قوم :حده الدلالة على اشتراك شيئين في معنى من المعاني ، وأن أحدهما يسدّ مسدّ الآخر وينوب منابه سواء كان ذلك حقيقة أو مجازا ، أما الحقيقة :فهو أن يقال في شيئين أحدهما يشبه الآخر في بعض أوصافه كقولنا ـ زيد أسد ـ فهذا القول صواب من حيث العرف ، وداخل في باب المبالغة الا أنه لم يكن زيد أسد على الحقيقة.

وأما الرابع : فقال المحققون من علماء هذا الشأن الاشياء التي يكون منها التشبيه لا يخلو إما أن تكون صفة حقيقية ، أو حالة اضافية.فأما الأول فلا يخلو إما أن يكون كيفية جثمانية أو نفسانية ، والاول لا يخلو إما أن تكون صفة محسوسة أو لا تكون محسوسة ، فإن كانت محسوسة ، فإما أن تكون محسوسة أولا أو ثانيا ، والمحسوسات الأول هي مدركات السمع. والبصر. والشم. والذوق. واللمس.فالاشتراك في الكيفية المبصرة مثل تشبيه الورد بالخد لاشتراكهما وكذلك تشبيه الوجه بالنهار والشعر بالليل. والاشتراك في كيفية مسموعة كتشبيه أطيط الرحل بأصوات الفراريج في قول الشاعر :

كأنّ أصوات من ايغالهنّ بنا

أواخر الميس أصوات الفراريج

التقدير ـ كأن أصوات أواخر الميس أصوات الفراريج من إيغالهن

٨٣

بنا ـ فصل بين المضاف والمضاف اليه. والاشتراك في كيفية مذوقة كتشبيه بعض الفواكه الحلوة بالعسل والسكر. والاشتراك في كيفية مسمومة كتشبيه بعض الرياحين برائحة الكافور والمسك والاشتراك في كيفية ملموسة كتشبيه لين ناعم بالخز والحرير ، والخشن بالمسح من الشّعر ، هذا إذا كان فيه الاشتراك محسوسا أولا. أما اذا كان محسوسا ثانيا ، فالمحسوسات الثانية هي : الاشكال. والمقادير. والحركات. والأشكال : إما مستقيمة أو مستديرة فالتشبيه لأجل الاشتراك في الاستقامة مثل تشبيه المستوى المنتصب بالرمح ، والقد بالقضيب والغصن. وان كان الاشتراك في الاستدارة ، فكتشبيه الشيء المستدير بالكرة تارة وبالحلقة أخرى.

وإن كان الاشتراك في المقادير فكتشبيه عظيم الجثة بالجبل والفيل وإن كان في الحركة مع اعتدال الاستقامة ، فكتشبيه الذاهب على الاستقامة بنفوذ السهم ، وأما إذا كان الاشتراك في كيفية جثمانية غير محسوسة ، فهو كالاشتراك في الصلابة ، والرخاوة. وأما اذا كان الاشتراك في كيفية نفسانية فهو كالاشتراك في الغرائز والاخلاق مثل :الكرم. والحلم. والقدرة. والعلى. والذكر. والفطنة. والتيقظ والمعرفة.

وأما اذا كان الاشتراك في حالة الاضافية لا في كيفية حقيقية ، فهو مثل قولك ـ هذه حجة كالشمس ـ فاشتراكهما ليس في شيء من الكيفيات الحقيقية ، ولكن في أمر إضافيّ وهو أن كل واحد منهما مزيل للحجاب .. ثم ان هذه الاضافات قد تكون جلية أو قد تكون خفية ، وربما يبلغ الجلي في القوة الى أن يقرب من القسم الأول. مثال الجلي تشبيه الحجة بالشمس. وكذلك قولهم في صفة الكلام ألفاظ كالماء في السلاسة. وكالنسيم في الرقة. وكالعسل في الحلاوة. يريدون أن اللفظ اذا لم تتنافر حروفه تنافرا يثقل على اللسان ، ولم يكن غريبا حوشيا ، بل

٨٤

كان مألوفا ، ثم إن القلب يرتاح له والنفس تنشرح به فلسرعة وصوله الى النفس صار كالماء الذي يسوغ في الحلق وكالنسيم الذي يسري في البدن ويتخلل المسالك اللطيفة ، ولأجل اهتزاز (١) النفس به أشبه العسل الذي يلذ طعمه ويميل الطبع اليه .. هذا المثال أشد حاجة إلى التفسير من تشبيه الحجة بالشمس ، ولكنه مع ذلك غير بعيد عن الفهم ، وأما المتوغل في البعد عن الطبع وشدة الحاجة إلى التأويل فكقول من ذكر بني المهلب هم كالحلقة المفرغة لا ينتهي طرفاها ألا ترى أنه لا يفهم المقصود من ذلك إلا من له طبع يرتفع عن طبع العامة؟ ..

ومن وجوه التشبيه أيضا التشبيه بالوجه المعقول ، وهو عندهم أقوى وأظهر من التشبه بالمحسوس ، لأن تشبيه المحسوس بالمحسوس يمكن أن يكون لأجل الاشتراك في وصف محسوس ويمكن أن يكون لأجل الاشتراك في وصف معقول ويمكن أن يكون لأجلهما جميعا. مثال الأول :تشبيه الخد بالورد. ومثال الثاني : قوله عليه الصلاة والسلام ايّاكم وخضراء الدّمن الحسن الظاهر القبيح الباطن وهو أمر عقلي. وكذلك تشبيه الرجل النبيه بالشمس ، فإن النباهة صفة عقلية وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام أصحابي كالنجوم المعنى به أنه يهتدى بهم في أمور الأديان كما يهتدى بالنجوم في الليالي المظلمة ، فالشبه في أمر عقلي. ومثال الثالث : تشبيه الشخص الرفيع القدر الحسن الوجه بالشمس. وأما الاقسام الثلاثة أعني تشبيه المعقول بالمعقول ، والمعقول بالمحسوس والمحسوس بالمعقول ، فيمتنع أن يكون وجه المشابهة غير عقلي ، لأن وجه المشابهة لو كان مشتركا بين الجانبين لكان المعقول الموصوف به محسوسا من ذلك الوجه ، وهو محال ، فثبت أن التشبيه بالوصف

__________________

(١) كذا في الأصل ولعله التذاذ فليحرر.

٨٥

المعقول أعم من التشبيه بالوصف المحسوس ، وإذا علم هذا وتبيّن الوجه الذي يكون منه التشبيه تعيّن ذكر أقسام التشبيه مبينة منزّلة على ما قدّمناه.

وأما الخامس : فقد أطبق جمهور علماء هذه الصناعة على أن أقسامه أربعة : الاول : تشبيه محسوس بمحسوس. الثاني : تشبيه معقول بمعقول. الثالث : أن يكون المشبه معقولا ، والمشبه به محسوسا. الرابع : أن يكون المشبه محسوسا والمشبه به معقولا. وقد زاد ابن الأثير قسما خامسا ، وسماه غلبة الفروع على الأصول ، وسيأتي بيانه.

أما الأول وهو تشبيه المحسوس بالمحسوس فكقوله تعالى : ( وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) وقوله تعالى : ( كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ ) ومن شرط هذا النوع أن يكون المشبه والمشبه به مشتركين من وجه مختلفين من وجه ، ولا يخلو إما أن يكون اشتراكهما في الذات واختلافهما في الصفات ، وإما أن يكون بالعكس.فالأول مثل تشبيه العدو بالطيران لأنه ليس الاختلاف بينهما إلا بالسرعة وبالبطء. والثاني كتشبيه الشعر بالليل والوجه بالنهار .. وأما القسم الثاني وهو تشبيه المعقول بالمعقول فهو كتشبيه الموجود العاري عن الفوائد بالمعدوم أو تشبيه الشيء الذي تبقى فوائده بعد عدمه بالموجود. ومنه قول الشاعر :

فرحت وآمالي كحظي كواسف

وعزمي يحاكي سعيه في المكارم

وأما القسم الثالث الذي هو تشبيه المعقول بالمحسوس ، فهو كقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ ). وقوله : ( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً ). وقوله

٨٦

تعالى : ( مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ ) وأيضا مثل تشبيه الحجة بالشمس وبالنور الذي هو محسوس بالبصر ، وليس لأحد ان يقول الحجة أيضا مسموعة.

قلنا المفيد هو المعاني العقلية الحاصلة في الذهن ووجه المشابهة أن القلب مع الشبه كالبصر مع الظلمة في أن البصر في الظلمة لا يفيد لصاحبه مكنة السعي ، ولو سعى فربما دفع إلى الهلاك فتردّى في أهوية ومن الأمثلة تشبيه العدل بالقسطاس ..

وأما القسم الرابع وهو تشبيه المحسوس بالمعقول فهو غير جائز لأن العلوم العقلية مستفادة من الحواس ومنتهية اليها ، ولذلك قيل : من فقد حسا فقد علما ، وإذا كان المحسوس أصلا للمعقول فتشبيهه به يكون جعلا للفرع أصلا وللأصل فرعا ، وهو غير جائز ، وكذلك لو حاول محاول المبالغة في وصف الشمس بالظهور أو المسك بالطيب فقال الشمس في الظهور كالحجة والمسك في الطيب كخلق فلان كان سخفا من القول مع أنه قد ورد في الكلام الفصيح وأشعار العرب والمتأخرين منه ما لا يحصى. فمن ذلك قول بعضهم :

وكأنّ النجوم بين دجاها سنن لاح بينهنّ ابتداع ـ وكقول بعضهم :

ولقد ذكرتك والظلام كأنه

يوم النوى وفؤاد من لم يعشق

ـ وقول بعضهم :

كأنّ ابيضاض البدر من تحت غيمه

نجاة من البأساء بعد وقوعه

ـ وقول التنوخي :

٨٧

أما ترى البرد قد وافت عساكره

وعسكر الحرّ كيف انصاع منطلقا

فانهض بنار الى فحم كأنهما

في العين ظلم وانصاف قد اتفقا

جاءت ونحن كقلب الصبّ حين سلا

بردا فصرنا كقلب الصّبّ إذ عشقا

ـ وقال آخر :

ربّ ليل كأنه أملى فيك وقد رحت عنك بالحرمان

ـ وقول الصاحب حين أهدى العطر إلى القاضي أبي الحسن :

يا أيها القاضي الذي نفسي له

في قرب عهد لقائه مشتاقه

أهديت عطرا مثل طيب ثنائه

فكأنما أهدى له أخلاقه

ومثل هذا في أشعارهم كثير لا يحصى والذي يجمع بين هذا وبين القواعد العقلية أن هذه الاشياء المعقولة لتقررها في الذهن وتخيلها في العقل ، صارت بمنزلة المحسوسات ، فلما نزلت منزلة المحسوسات صح التشبيه وقويت ، وصار المعقول للمبالغة أثبت في النفس وأقوى من المحسوس ، فصار لذلك أصلا يشبّه به. ومن هذا قوله تعالى : ( طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ ) ولهذا قال امرؤ القيس يشبه نصول الرماح :

ومسنونة زرق كأنياب أغوال

فإنهم وإن كانوا لم يشاهدوا الغول وأنيابها لكنهم لما اعتقدوا فيها أي في أنيابها غاية الحدّة حسن التشبيه ، والصحيح أن المحسوس أعرف من التشبيه بالوصف المعقول لثلاثة أوجه. الأول أن أكثر الغرض من التشبيه التخييل الذي يقوم مقام التصديق في الترهيب والترغيب والخيال أقوى على ضبط الكيفيات المحسوسة منه على الأمور الاضافية.

٨٨

والثاني أن الاشتراك في نفس الصفة أسبق من الاشتراك في مقتضاها. الثالث أن المشابهة في الصفة قد تبلغ الى حيث يتوهم أن احدهما الآخر. وأما المشابهة في مقتضى الصفة لا تبلغ إلى هذا الحد لأن من المستحيل أن لا يجد العاقل فصلا بين ما يقتضيه ذوق العسل في نفس الذائق ، وبين ما يحصل بالكلام المقبول في نفس السامع .. وأما القسم الخامس فقال ابن الاثير : ومن أقسام التشبيه قسم يقال له غلبة الفروع على الأصول ، وهو ضرب من الكلام ظريف لا يكاد يوجد منه شيء الا والغرض به المبالغة .. فما جاء من ذلك قول ذي الرّمة :

ورمل كأوراك العذارى قطعته

إذا ألبسته المظلمات الحنادس

ـ ومثل ذلك قول بعضهم :

في طلعة البدر شيء من ملاحتها

وفي القضيب نصيب من تثنيها

والغرض بهذا النوع المبالغة في وصف المشبه به كأن هذا المعنى ثبت له وصار أصلا.

وأما السادس : في أدوات التشبيه فأدواته اسماء وأفعال وحروف. أما الاسماء فمثل بسكون الثاء وتحريكها وشبه بسكون الباء وتحريكها وأشباه ذلك. وأما الافعال كحسبت وخلت ويحسب ويخال ونظائرها. وأما الحروف فالكاف مفردة واذا أضيف اليها ما يجري مجرى ذلك وقد نطق بذلك كله الكتاب العزيز والسنة.

أما الأسماء فقال الله تعالى : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً ).قال تعالى : ( مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ ). وقال تعالى : ( مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ

٨٩

وَالسَّمِيعِ ) وقال تعالى : ( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ). وقال تعالى ( فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ).

وقال تعالى : ( وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً ). وقال تعالى : ( إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا ) وفي الحديث الصحيح فمن أين يكون الشبه والشّبه. وأما الافعال فكقوله تعالى : ( يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً ). وقال تعالى : ( يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى ).

وأما الحروف فكقوله تعالى : ( كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ ). وقوله تعالى : ( كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ ). وقوله تعالى : ( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ). وأما ـ كأنّ ـ فكقوله تعالى : ( كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ ) وفي القرآن من هذا كثير.

وأما في كلام العرب الفصحاء منهم وأشعارهم فشيء كثير أضربنا عن ذكره لكثرته وشهرته .. وقال ابن الأثير وقد وقع في القرآن العزيز التشبيه بغير أداة في مواضع كثيرة. منها قوله تعالى : ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ). وقوله تعالى : ( خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ) وهو أبلغ في التشبيه .. قال جمهور علماء هذا الشأن : التشبيه يكون بأداة تارة ، وتارة بغير أداة ، لكن إذا كان بغير أداة كان أبلغ وأوجز ، لأن قولنا ـ زيد أسد ـ يعطي ظاهره من المعنى أنّا أخبرنا عن زيد أنه أسد ، وذكرنا أنه هو الا أن حرف التشبيه الذي كان مخفيا في الاول فيصير حينئذ تشبيها لزيد بالأسد ، والاول كان قد جعل هوالأسد ، وحرف التشبيه يقدر فيه تقديرا فمن هذا الوجه كان الأول أبلغ وأشد وقعا في النفس. وأما كونه أوجز فلأن قولنا ـ زيد أسد ـ أخص من قولنا ـ زيد كأنه الأسد ـ وان كان المعنيان سواء.

وأما السابع : في تشبيه الشيئين بالشيء ، وقد يشبه الشيئين بالشيء الواحد ، وانما جاز ذلك لأنّ المشبه قد يأخذ صفة من صفات

٩٠

نفسه وصفة غيره ثم يشبههما بشيء آخر كقول الشاعر :

صدغ الحبيب وحالي

كلاهما كاللّيالي

وقد وقع تشبيه الشيئين بالشيء الواحد ، وانما جاز ذلك لأنه لا يخلو الشيئان في تشبيه أحدهما بالآخر من ثلاثة أقسام : إما تشبيه معنى بمعنى ، وإما تشبيه معنى بصورة ، وإما تشبيه صورة بصورة ، وكل واحد من هذه الأقسام الثلاثة لا يخلو من ثلاثة أقسام : إما تشبيه مفرد بمفرد .. وإما تشبيه مركب بمركب. وإما تشبيه مفرد بمركب. فأما تشبيه المفرد بالمفرد فكقول البحتري :

تبسم وقطوب في ندى ووغى

كالغيث والبرق تحت العارض البرد

ومنه قوله تعالى : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ ) الآية. وأما تشبيه المركب بالمركب فقوله تعالى : ( إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ ) الى قوله : ( كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ) الآية. فشبه حال الدنيا في سرعة زوالها وانقراض نعيمها بعد الإقبال بحال نبات الأرض وذلك تشبيه معنى بصورة وهو أبدع ما يجيء في هذا القسم. ومثله في حق المنافقين : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ. لا يُبْصِرُونَ ) تقديره أن مثل هؤلاء المنافقين كمثل رجل أوقد نارا في ليلة مظلمة بمفازة فاستضاء بها ما حوله ، واتقى ما يخاف وأمن فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فبقي مظلما خائفا متحيرا ، وكذلك المنافق إذا أظهر كلمة الايمان استنار بها واعتز بعزها وأمن على نفسه وماله وولده ، فإذا مات عاد إلى الخوف وبقي في العذاب والنقمة.

٩١

ويجوز أن يكن المعنى أنهم لما وصفوا ـ بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى ـ عقب ذلك بهذا التمثيل مثّل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد ـ والضلالة ـ التي اشتروها ، وطبع بها على قلوبهم بذهاب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ، ثم قال الله ـ صمّ بكم عمي ـ كانت حواسهم سليمة لكن لما سدوا مسامعهم عن الإصاخة الى الحق وأبوا أن ينطقوا به بألسنتهم وأن ينظروا ويتبصروا بعيونهم ، جعلوا كأنما أصابت هذه الحواس منهم الآفات ، وهذا من عجائب التشبيه وطريقته عند علماء البيان طريقة قولهم ـ ليوث ـ للشجعان ـ بحور ـ للكرام .. وبعض علماء هذه الصناعة يجعلون ما كان على مثال قوله تعالى : ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ) استعارة وليس كذلك لأن المستعار مذكور.

ـ ومن هذا القسم قول الشاعر :

بكيت عليه حين لم يبلغ المنى

ولم يرو من ماء الحياة المكدّر

ومنه قول المتنبي :

كأن الجفون على مقلتيّ ثياب شققن على ثاكل

وأما تشبيه المفرد بالمركب فمن ذلك قول بعضهم :

كأن السّهى انسان عين غريقة

من الدّمع يبدو كلما ذرفت ذرفا

وأما الثامن : في ذكر ما يحسن به موقع التشبيه .. قال أئمة هذا الشأن : ان كثرة التقييدات يعظم بها حسن موقع التشبيه وتكون أدخل في التشبيه من غيرها لأنها عقلية. مثال ذلك قوله تعالى : ( إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ) إلى قوله : ( كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ) وهذه فيها عشر جمل قيد بعضها ببعض حتى صارت جملة واحدة ، وهي مع ذلك لا يمتنع أن تكون صور الجمل معناها حاصلا يمكن أن يشار

٩٢

إليها واحدة واحدة ، ثم أن التشبيه منتزع من مجموعها من غير أن يمكن فصل بعضها عن بعض ، فإنك لو حذفت منها جملة واحدة من أي موضع كان أخلّ ذلك بالمغزى من التشبيه .. وقد يقع من التشبيه جمل لا يخل اسقاط بعضها بالتشبيه ، وهي كل جملة جمعت أغراضا كثيرة كل واحد منها منفرد بنفسه ولهذا النوع خاصيتان : الأولى أنه لا يجب فيها الترتيب ، ألا ترى أنك اذا قلت ـ زيد كالأسد بأسا. والبحر جودا. والسيف مضاء. والبدر بهاء ـ لم يجب عليك أن تحفظ في هذه التشبيهات نظاما مخصوصا وهو كقول بعضهم :

يا هلالا يدعى أبوه هلالا

جلّ باريك في الورى وتعالى

أنت بدر حسنا وشمس علوا

وحسام حزما وبحر نوالا

ـ الثانية إذا سقط البعض فإنه لا يتغير حال الباقي كقولهم يصفو ويكدر ويحلو ويمر ولو تركت ذكر الكدورة والمرارة لو وجدت المعنى في تشبيهك بالماء في الصفاء والعسل في الحلاوة باقيا على حاله. وقد وقع في بعض الاشعار ما يظن أن فيه تشبيهات مجموعة ، وليس كذلك بل هو تشبيه واحد ، وذلك كقول الشاعر :

كما أبرقت قوما عطاشا غمامة

فلما رجوها أقشعت وثجلت

وأما التاسع : فهو في الشرط الذي لا يكون التشبيه حسنا الا به وهو أن يكون التشبيه جليا ويكون بحال يتبادر الذهن إليه وإلى إدراكه ، ولا يحتاج إلى اطالة فكرة ولا إمعان نظر ، فإن الغرض بالتشبيه بيان حسن موقع التشبيه وظهور مزية المشبه بحسن حال المشبه به أو قبحه ، ولذلك هجنوا تشبيه من شبه الشمس بالمرآة في كف الأشل وكتشبيه البرق بإصبع السارق في قول بعضهم :

أرقت أم نمت لضوء بارق مؤتلفا مثل الفؤاد الخافق

كأنه إصبع كف سارق

٩٣

وأما العاشر : فيما يجوز عكسه من التشبيه وما لا يجوز. فأما الذي لا يجوز عكسه ، فكل تشبيه كان الغرض به إلحاق الناقص بالزائد مبالغة في اثبات الحكم للناقص فهذا يمتنع عكسه ، وهو كما اذا شبهت شيئا أسود بما هو الاصل في شدة السواد كخافيتي الغراب والقار امتنع فيه العكس ، لأن تنزيل الزائد منزلة الناقص تضاد المبالغة في الاثبات. واما الذي يجوز عكسه فهو الجمع بين شيئين في مطلق الصورة أو الشكل ، أو اللون فالعكس مستقيم فيه فهو كتشبيه الصبح بغرة الفرس مع كون البياض قليلا بالاضافة إلى السواد ، وكذلك تشبيه الشمس بالمرآة المجلوة والدينار الخارج من السكة كقول ابن المعتز فهذا حسن مقبول ، وان اعظم التفاوت بينهما لأنك لم تضع التشبيه على مجرد النور ، وانما قصدت إلى مستدير يتلألأ ويلمع ، ثم خصوص جنس اللون الموجود في المرآة المجلوة والدينار للتخلص من حمى المسبك يوجد في الشمس ، فأما مقدار النور بأنه زائد أو ناقص والجرم عظيم أو صغير فمما لم يتعرض له وعلى هذا خرج قوله تعالى : ( اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ ) الآية ، فإنه سبحانه وتعالى لم يرد بالتشبيه بهذه الزجاجة الموصوفة بهذه الصفة المشاركة بين نوره وبين نور هذه الزجاجة ، إذ لا مناسبة بينهما ، بل كان ذلك من التشبيه الذي ينعكس بل الذي يتعين عكسه.

وأما الحادي عشر : في الهيئات التي تقع عليها الحركات فهي عند أرباب هذا العلم على قسمين : أحدهما أن تعرف تغيرها من الأوصاف كالشكل. واللون الثاني أن تجرد هيئة الحركة حتى لا يراد غيرها .. فمن الأول قول ابن المعتز :

والشمس كالمرآة في كفّ الأشل

أراد أن يربك مع الاستدارة ، والاشراق الحركة التي تراها في الشمس إذا أنعمت التأمل ، ثم ما يحصل في نورها من أجل تلك الحركة ، وذلك أن

٩٤

للشمس حركة متصلة دائمة ولنورها بسبب ذلك تموج واضطراب ولا يتحصل هذا الشبه إلا بأن تكون المرآة في يد الاشل لأن حركته تدوم وتتصل ، ويكون لها سرعة وبدوام الحركة يتموج نور المرآة وتلك حال الشمس لأنك ترى شعاعها كانه يهم أن ينبسط حتى يفيض من جوانبها ، ثم يبدو له فيرجع من الانبساط الذي تراه إلى الانقباض كأنه يجمعه من جوانب الدائرة ابن سناء الملك في أبيات هجا فيها الشمس قال فيها :

لا كانت الشمس فكم أصدأت

صفحة خدّ كالحسام الصّقيل

وكم وكم صدّت بوادي الكرى

طيف خيال زارني من خليل

تكذب في الوعد وبرهانه

أن سراب القفر منها سليل

وتحسب النهر حساما فترتا

ع وتحكي فيه قلب الذليل

ومما يشبه التشبيه الاول وان صور في عين المرآة قول المهلب بن ابي صفرة الوزير :

الشمس من مشرقها قد بدت

مشرقة ليس لها حاجب

كأنها بوتقة أحميت

يجول فيها ذهب ذائب

وذلك أن الذهب الذائب يتشكل بشكل البوتقة على النار فإنه يتحرك فيها كل حركة على الحد الذي وصفت لك ، وما في طبع الذهب من النعومة وفي أجزائه من شدة الاتصال والتلاحم بمنعه أن يقع فيها غليان كما في الماء فيرتفع وسطه ارتفاعا شديدا وجملته كأنها تتحرك بحركة واحدة ويكون فيها ما ذكرناه من الانبساط الى الجوانب ثم انقباض ومنها قوله :

كأن في غدرانها حواجبا

أراد ما يبدو في صفحة الماء من أشكال كأنصاف دوائر صغار ، ثم إنك تراها تمتد امتدادا ينقص من انحنائها وتحدّ بها وكأنها تنتقل من التقوس إلى الاستواء ، وذلك

٩٥

أشبه شيء بالحواجب اذا بدت. والثاني ما يكون التشبيه في هيئة الحركة فقط مجردة من كل وصف يقاربها وهناك أيضا لا بد من أخلاط كثيرة في جهات متفرقة مختلفة وكلما كان التقارب أكثر كان التركيب في الهيئة المتحركة أكثر. وقد يقع التشبيه أيضا بالسكون كقول الاخطل في وصف مصلوب :

كأنه عاشق قد مدّ صفحته

يوم الوداع الى توديع مرتحل

أو نائم من نعاس فيه لوثته

مواصل لتمطيه من الكسل

فلطفه بسبب ما فيه من التفصيل ، ولو قال كأنه ممتط من نعاس واقتصر عليه كان قريب التناول. وقد وقع في القرآن العظيم آيات كثيرة شبه فيها الحركات بالحركات والسكون بالسكون. فمن ذلك قوله تعالى : ( وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ ). وقوله : ( يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ ). وقوله تعالى ( يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) شبه سرعة سير الجبال مع سرعة سكون بسرعة سير السحاب مع سكون أيضا وشبه سرعة وميض البرق بسرعة يد المختطف وشبه حركة التفاف جرم السماء بحركة التفاف جرم الكتاب بعضه على بعض وكذلك السكون. ومنه قوله تعالى ( وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً ) ـ والرهو ـ الساكن شبه ذهاب حركة البحر بذهاب حركة الخيل عند سكونها ، تقول العرب جاءت الخيل رهوا أي ساكنة فشبه البحر بها وذلك أنه قام فرقاه ساكنين فقال لموسى عليه الصلاة والسلام دع البحر ساكنا قائما ماؤه كما أخبر الله سبحانه وتعالى : ( فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ).

وأما الثاني عشر : فهو الفرق بين الاستعارة والتشبيه. ذهب جماعة من أهل هذا الشأن إلى ان التشبيه والاستعارة شيئان وفرق الحذاق ، وقالوا إن التشبيه حكم إضافي لا بد فيه من ذكر مشبه ومشبه به ، فإنك اذا قلت ـ رأيت أسدا ـ فهو استعارة لم تذكر شيئا حتى تشبهه بالأسد ، ولو كان تشبيها لتعيّن أن تقول زيد أسد أو زيد كالأسد ولم يكن غرضك في قولك زيد أسد إلا المبالغة

٩٦

في مدح زيد بالشجاعة .. فرق ثان أن التشبيه لا يكون إلا بأداة التشبيه غالبا والاستعارة لا تحتاج الى أداة فإنك إذا قلت ـ لعبت به يد الصبا ـ لم يكن كقولك ـ فلان له خلق كالصبا ـ .. فرق ثالث أن الاستعارة أوجز من التشبيه ، فإنك اذا قلت ـ زيد أسد ـ أوجز من قولك ـ زيد في بسالة الأسد ـ فثبت على هذا التقدير أن التشبيه أحد غرضي الاستعارة.

٩٧

فصل

ومنها التمثيل .. قد أطلق علماء هذه الصناعة اسم التشبيه على كل تمثيل منتزع من أمور مجتمعة بتقييد البعض بالبعض ، وهو قريب من الاستعارة ، ومنه في القرآن كثير. من ذلك قوله تعالى : ( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ). وقوله تعالى : ( مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا ) الآية. ومن ذلك قوله تعالى : ( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ ) .. وقوله تعالى : ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها ) الآية ومثله في القرآن كثير .. ومن هذا النوع المثل السائر ومعنى السائر أنه كثر استعماله واستعماله على أن الثاني بمعنى الأول ، لأن ذكرها على تقدير أن يقال في الواقعة المعينة انها بمنزلة من قيل له هذا القول والأمثال كلها حكايات لا تغيّر وهي أكثر من أن تحصى ، وقد صنف العلماء فيها كتبا وشرحوا معانيها والخوض في ذكرها يطول وقصدت الاختصار لا الإكثار .. ومن الأمثال السائرة في الكتاب العزيز قوله تعالى : ( لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ ). وقوله تعالى : ( وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ ). وقوله تعالى : ( صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً ) .. ومنه في السنة قوله صلّى الله عليه وسلّم الآن حمي الوطيس ، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم أول من فاه بهذا المثل ، ثم صار مثلا سائرا. ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم : « إيّاكم وخضراء الدّمن ». وفي

٩٨

غضون كلامه صلّى الله عليه وسلّم من هذا كثير .. وأما أشعار العرب فقد ورد فيها من ذلك كثير منها ما في البيت مثل واحد ، ومنها ما في البيت مثلان ومنها ما فيه ثلاثة ، ومنها ما فيه أربعة ، ومنها ما فيه خمسة ، ومنها ما فيه ستة فأما ما فيه مثل واحد فكقول أبي فراس :

تهون علينا في المعالي نفوسنا

ومن طلب الحسناء لم يغله المهر

وقول أبي تمام :

فلو صورت نفسك لم تزدها

على ما فيك من كرم الطباع

ـ ومما جاء من الشعر فيه مثلان قول بعضهم :

الله أنجح ما طلبت به

والبرّ خير حقيبة الرّحل

في كل قسم منه مثل قائم بنفسه غير محتاج إلى صاحبه .. ومنه قول الحطيئة :

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه

لا يذهب العرف بين الله والناس

ـ وقول أبي فراس :

ومن لم يوق الله فهو مضيّع

ومن لم يعزّ الله فهو ذليل

ـ وقول المتنبي :

وكلّ امرئ يولي الجميل محبّب

وكلّ مكان ينبت العزّ طيّب

ـ وأما ما فيه ثلاثة أمثال فكقول زهير بن أبي سلمى :

وفي الحلم إدهان وفي العفو ذلّة

وفي الصدق منجاة من الشرّ فاصدق

ـ وأما فيه أربعة أمثال فكقول بعض العرب :

فالهمّ فضل وطول العيش منقطع

والرّزق آت ورزق الله منتظر

ـ وأما ما فيه خمسة فكقول الشاعر :

٩٩

خاطر تفد وارتد تجد واكرم تسد

وانقد تقد واصغر تعدّ الأكبرا

ـ وأما ما فيه ستة فكقول ابن اللبّانة الأندلسي :

ته أحتمل واستطل أصبر وعزّ أهن

وللّ أقبل وقل أسمع ومر أطع

ـ والمثل ـ جمعه أمثال وسمى المثل مثلا لأنه ماثل بخاطر الانسان أي شاخص يتأسى به ويتعظ ويخشى ويرجو والشاخص المنتصب وهو من قولهم طلل ماثل أي شاخص ، وهذا رسمه اللغوي ، والذي تقدم في أول الباب حده الصناعي.

١٠٠