الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن وعلم البيان

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن وعلم البيان

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٠٧

( أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ ) جعل السموات والارض والمخلوقات كلها محلا لتعلق النظر لا لنفس النظر لا لنفس النظر فان الناظر قائم بالنظر حالّ فيه. ومنه قوله تعالى : ( أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ).

الرابع : من التجوز به أن يجعل المعنى محلا للجرم وهو عكس الأول فتجوز به عن كثرة ما جعل ظرفا مجازا لما كان الحاوي أعظم من المحوى شبه به ما توالى أو كثر من المعاني ، ومنه في القرآن شيء كثير. من ذلك قوله تعالى : ( إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) ومنه : ( صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ ) أي صم وبكم فى الضلالات. ومنه قوله تعالى : ( فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ) ومنه قوله تعالى : ( أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ ) وأما قوله تعالى : ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ، فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَفَواكِهَ ) فمن جمع بين الحقيقة والمجاز جعل ـ في ـ بالنسبة الى الجنان ظرفا حقيقيا وبالنسبة إلى العيون والنهر والنعيم ظرفا مجازا ، ومن لم يجمع بينهم يقدر ان المتقين في جنات وفي نعيم وفي عيون. وفي نهر فيكون في الثانية مجازا محضا مشبعا بكثرة النعيم والانهار والعيون والفواكه ، ويدع الأولى على حقيقتها ، ولك أن تجعل الجميع مجازا على حذف لذات تقديره إن المتقين في لذات جنات ونعيم ، وفي لذات جنات وعيون ، وفي لذات جنات ونهر ، وفي لذات وفواكه أو تقدر ان المتقين في نعيم جنات وعيون وفواكه أو ما أشبهه ، ولا تقدر مثل هذا في قوله ـ في جنات ونعيم ـ اذ يبقى التقدير ، وفي نعيم نعيم وهو سمج لا يقدر مثله في كتاب الله.

وأما قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُ ) فظاهره عند من جمع بين الحقيقة والمجاز لحكمه فيمن يعقل على السجود المعهود ، وفيما لا يعقل على الانقياد للقدرة والارادة ، وأما قوله تعالى :

٦١

( أَفِي اللهِ شَكٌ ) فالتقدير فيه أفي وحدانية الله شك فهو من جعل المعنى ظرفا لتعلق المعنى. وأما قوله تعالى : ( وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ ) وقوله : ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) فليس الظرف هنا متعلق بجوهر ولا عرض ، وإنما هذا من مجاز التشبيه عبر بكونه في السموات والأرض عن علمه بما فيهن ، لأن من حضر مكانا لم يخف عليه ما فيه وأما قوله ـ كل يوم هو في شأن ـ فهو يشبه : ( إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ ) وكقولهم : أنا في شغلك وحاجتك ولا يخفى وجه التشبيه فيه ..

الخامس : التجوز ـ بعلى ـ وحقيقتها استعلاء جرم على جرم كقوله تعالى : ( وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ ) ومنه قوله تعالى : ( لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ) وأما مجازها فعلى قسمين. أحدهما : التجوز عن الثبوت والاستقرار كقوله تعالى : ( أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ ) وقوله تعالى : ( قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ) وقوله : ( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً ) ومنه قوله تعالى : ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) وهذا أيضا من مجاز التشبيه شبه التمكن من الهدى والأخلاق العظيمة الشريفة والثبوت عليها لمن علا دابة يصرّفها كيف شاء ..

الثاني : أن يجعل المعنى على الجرم تجوزا كقوله تعالى : ( رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ) وكقوله : ( أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ) والغرض بذلك كثرة الصلاة والرحمة لأن ما علاك وجللك فقد أحاط بك. وأما قوله تعالى : ( وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ) فهو من نزول جرم على جرم ولا بد فيه من حذف تقدير ، وأنزلنا على أشجاركم أو على محلتكم. وأما قوله تعالى : ( فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ) معناه فخرج على نادي قومه ، أو على محل قومه.

ومثله قوله تعالى ( اخْرُجْ عَلَيْهِنَ ) فمعناه اخرج على مجلسهن أو

٦٢

مكانهن.

ومثله قوله تعالى : ( كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً ) معناه كلما دخل مكانها أو محرابها.

السادس : ـ عن ـ وهي حقيقة في مجاوزة جرم عن جرم ، وتعديته عنه ، ثم يستعمل في المعاني على طريق التشبيه كقوله تعالى ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ) شبه انصراف البصيرة عن تأمل ذكره بانصراف المجاوز عما يجاوزه.

وكذلك قوله تعالى : ( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ) إن حمل على ترك القتال كان المعنى فانصرف عن قتالهم ، وإن حمل على غيره فمعناه تجاوز عن أذيتهم ، وفي الحديث تجاوز عما تعلم المعنى ترك المؤاخذة لأن المتجاوز عن الشيء تارك له ، وكذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم : « إنّ الله تجاوز لأمّتي عمّا حدّثت به أنفسها ».

السابع : حرف ـ من ـ وهي حقيقة في ابتداء غاية الأمكنة ، ويتجوز بها عن ابتداء الغاية في الأزمنة مثل قوله تعالى : ( لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ) فاستعملها غاية في الأزمنة لشبهها بالأماكن ، وكذلك تجوز بها عن التعليل في مثل قوله تعالى : ( مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا ) أي من أجل خطاياهم أغرقوا لأن ابتداء غاية المعلول صادر عن علة ، فشبه ذلك بابتداء الغاية بالمكان.

الثامن : حرف ـ ثم ـ ويستعمل حقيقة في تراخي الزمان والمكان ، ثم يتجوز بها في تراخي بعض الرتب عن بعض بالتباعد المعنوي ، فشبه التراخي المعنوي بالتراخي الزماني والمكان ، وهو في القرآن العظيم كثير. فمن ذلك قوله تعالى : ( ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) فجاء ـ بثم ـ للتراخي الذي بين الايمان والعمل الصالح ، فإن الايمان أفضل من

٦٣

جميع أعمال الانسان ، فهو متراخ في الفضل عن فك الرقاب ، وإطعام السغبان ، فهو مؤخر في اللفظ مقدم في الفضيلة والرتبة ، على تباعد وتراخ ، يدل على ذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما سئل أي الأعمال أفضل؟ قال : « الإيمان بالله. قال ثم ما ذا؟ قال : برّ الوالدين قال : ثم ما ذا؟ قال : الجهاد في سبيل الله » ويدلّ أن ـ ثم ـ هاهنا لتراخي الرتب لا لتراخي الزمان لأن الإيمان شرط في اعتبار فك الرقاب وإطعام السغابى ، فلا يجوز أن يتقدم المشروط على شرط .. ومنه قال الشاعر.

إنّ من ساد ثم ساد أبوه

جاء بثم لتراخ بين السؤددين من الفضل.

ومنه قوله تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) على قول بعضهم قال جيء بثم لتفاوت ما بين نعمة التصوير ونعمة السجود لآدم ، قال : فإن إسجاد الملائكة له أكمل إحسان ، وأتم إنعام من التصوير. وقدر بعضهم ولقد خلقنا طينتكم ، ثم صورناكم في ظهر أبيكم ، ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم. وقال بعضهم نسبة الخلق والتصوير إلينا من مجاز نسبة ما يتعلق بالواحد إلى جماعة.

ومثاله قوله عز وجل : ( بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) نسب المعاهدة إلى الجماعة والمراد بها معاهدة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ومثل قوله تعالى : ( أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ ) نسب النكث إلى الكل وانما نكث بعضهم. ومثله قوله تعالى : ( وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ) ولم تقل اليهود كلها ذلك ، وكذلك النصارى ، لأن بعضهم قال ذلك وبعضهم قال : هو الله ، وبعضهم قال هو ثالث ثلاثة ، وقال بعضهم هو عبد الله ورسوله ، فنسب إلى الفريقين ما وجد من بعضهم. ومثله قول

٦٤

امرئ القيس :

فإن تقتلونا نقتلكم

وأمّا : من يقول إن ـ ثم ـ تستعمل في تراخي بعض الأخبار عن بعض ، فلا يستقيم في هذه الآية ولا في قول الشاعر :

إنّ من ساد ثم ساد أبوه

لأنّا نعلم أن الله تعالى ما راخى بين الأخبار في قوله ـ ولقد خلقناكم ، ثم صورناكم ، ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ـ وكذلك قول الشاعر ـ إن من ساد ثم ساد أبوه ـ يعلم أنه لم يقل ـ إن من ساد ثم ـ وقف زمانا طويلا متراخيا ثم قال ـ ساد أبوه ـ وان استعمالها في تراخي الأخبار بعيد في استعمال العرب لأن التراخي الموجود في كلامهم إنما يقع في مداولات الألفاظ لا بين أنفس الألفاظ ، وهذا انما يصح استعماله في مقالات للأخبار فيها تعاقب إن ثبت أنه قول من يعتمد على قوله في هذا الشأن.

التاسع : حرف ـ الباء ـ قال سيبويه : هي للإلصاق والاختلاط والالصاق أضرب. أحدها : حقيقيّ وهو إلصاق جرم بجرم كقولك :ألصقت القوس بالغراء والخشبة بالجدار. والثاني : مجاز إلصاق المعنى بجرم كقولك لطفت بزيد ، ورأفت بعمرو ، فكأنك ألصقت اللطف والرأفة به لتعلقهما به ، وكقولك مررت بزيد ، ولا بد فيه من حذف تقديره مررت بمكان زيد أو بمحل زيد ، وهو من مجازات التشبيه كأنك ألصقت المرور بالمكان.

الثالث : إلصاق المعنى بالمعنى كقوله تعالى : ( أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ) أي النفس مقتولة بقتل النفس والعين مفقوءة بفقء العين ، أتى بالباء ليكون المسبب وهو القصاص منسوبا إلى الجناية

٦٥

نسبة التشبيه ، وهو جار في جميع الأسباب.

العاشر : حرفان وهما ـ لعل وعسى ـ وهما مجاز تشبيه أو تسبب وحقيقتهما الترجي والتوقع ، فالله سبحانه تعالى وتنزه أن يوصف بحقيقتهما ، بل يصح حملهما على مجاز التشبيه والتسبب. أما مجاز التشبيه فلأن معاملته بالأمر والنهي والوعد والوعيد مشبه بمعاملة ملك عامل عبيده بذلك على رجاء إجابتهم ، فإن كل من سمع الملك يأمر وينهى ، ويعد ويوعد يرجو اجابة المأمول واثابته لا سيما إذا كان ذلك الملك كريما صدوقا لا يخلف الميعاد.

( وأما ) مجاز التسبب فلأن رجاء الإجابة وما يترتب عليها من الفلاح مسبب عن لين الخطاب ، وحسن الترغيب والترهيب ، فكذلك أمر الرب ونهيه مع وعده وايعاده يوجبان لكل من سمعهما خوفا ورجاء لا يوجد مثلهما في حق غيره. ويحقق ذلك أن الكلام المنفّر لا يتوقع منه اجابة ولا إنابة ، والكلام اللين المرغب يتوقع كل من سمعه الإجابة والانابة ، فلذلك قيل لموسى وهارون عليهما‌السلام : ( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ) لما كان القول اللين سببا للتذكر والخشية أمرهما به لتقوم عليه الحجة ، فهذا الرجاء المتعلق بكلامه. وأما الرجاء المتعلق بأفعاله فكما في قوله سبحانه : ( وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) لما ذكر هذه النعم الجسام التي لا يتصور وجودها من غيره أردفها بقوله ـ لعلكم تشكرون ـ من جهة أن الشكر مرجو من المنعم عليه متوقع منه ، ولا سيما عند هذه النعم لأنه عاملهم بهذه النعم معاملة الراجي كما عاملهم بالفتن معاملة الفاتن ، فوصفه نفسه بكونه راجيا كوصفه نفسه بكونه فاتنا وكذلك نظائره.

٦٦

القسم العشرون

من أقسام المجاز الاستعارة ،وهي على أربعة أقسام :

وقيل : على قسمين وقيل : على سبعة أقسام.

وقد بيناها في الوجه الثالث من الكلام عليها

اعلم وفقنا الله وإياك أن اللفظ إذا استعمل فيما وضع له فهو حقيقة. وان استعمل في غير ما وضع له ، فإن لم يكن لمناسبة بينه وبين ما وضع له ، فهو الموكل (١) وان كان لمناسبة بينهما فإن حسن فيه أدلة التشبيه فهو مجاز التشبيه ، وان لم يحسن فيه إظهار أداة التشبيه فهو الاستعارة ..

وإذا تقرر هذا فالكلام في الاستعارة على وجوه :

الأول هل هي من أنواع المجاز أم لا؟ .. الثاني في حدها .. الثالث في أقسامها .. الرابع في اشتقاقها .. الخامس فيما تتهيأ به الاستعارة وما لا تتهيأ .. السادس في الاستعارة التخييلية .. السابع في الاستعارة المجردة .. الثامن في الاستعارة المرشحة .. التاسع في الاستعارة الحسنة .. العاشر في الاستعارة القبيحة .. الحادي عشر في بيان ما يظن أنه استعارة وليس باستعارة .. الثاني عشر في الاستعارة بالكناية .. الثالث عشر فيما تتنزل به الاستعارة منزلة الحقيقة.

__________________

(١) كذا في الأصل وكتب بهامشه لعله المنقول فليحرر

٦٧

أما الأول : فقد اختار الإمام فخر الدين رحمه‌الله أن الاستعارة ليست من المجاز لعدم النقل ، وجمهور علماء هذا الشأن عدوها من المجاز لاستعمال اللفظ في غير ما وضع له.

وأما الثاني : فقد اختلفت عبارات علماء هذا الشأن في حدها فقال علي بن عيسى : الاستعارة استعمال العبارة لغير ما وضعت له في أصل اللغة ، وقد أبطل الإمام فخر الدين ما قاله ابن عيسى في حد الاستعارة من وجوه أربعة. الأول : أنه يلزم أن يكون كل مجاز لغوي استعارة. الثاني يلزم أن تكون الاعلام المنقولة من باب المجاز. الثالث :استعمال اللفظ في غير معناه للجهل بذلك. الرابع : أنه يتناول الاستعارة التخييلية على ما سيأتي ..

وقال قوم الاستعارة جعل الشيء الشيء أو جعل الشيء للشيء لأجل المبالغة في التشبيه. فالأول : كما تقول لقيت أسدا ، وتعني الشجاع فقد جعلت الشجاع أسدا فهذا جعل الشيء الشيء. والثاني كقول الشاعر :

إذ أصبحت بيد الشمال زمامها

وسيأتي .. وقال المتقدمون من أرباب الصناعة والاستدلال بالشيء المحسوس على المعنى المعقول. وهذا هو أحد أنواع الاستعارة ، فإن الاستعارة على أقسام وسيأتي بيانه .. وقال قوم : الاستعارة ادعاء معنى الحقيقة في الشيء للمبالغة في التشبيه مع طرح المشبه .. وقال الامام فخر الدين رحمه‌الله الاستعارة : ذكر الشيء باسم غيره وإثبات ما لغيره له لأجل المبالغة في التشبيه.

فقوله ـ ذكر الشيء باسم غيره ـ احترازا عما إذا صرّح بذكر المشبه كقولك : زيد أسد فإنك ما ذكرت زيدا باسم الأسد بل ذكرته باسمه الخاص فلا جرم أن ذلك لم يكن استعارة.

٦٨

وأما قوله ـ وإثبات ما لغيره له ـ ذكره لتدخل فيه الاستعارة التخييلية. وقوله ـ لأجل المبالغة في التشبيه ـ ذكره لتتميز به عن المجاز.

وأما الثالث : فقد اختلفت عبارات أرباب هذه الصناعة في أقسامها فقال قوم : أقسامها أربعة. الأول : أن يكون المستعار ، والمستعار منه محسوسين. الثاني : أن يكونا معقولين. الثالث : أن يكون المستعار معقولا والمستعار منه محسوسا. الرابع : أن يكون على العكس ..

أما استعارة المحسوس للمحسوس فهي على قسمين أحدهما : أن يكون الاشتراك في الذات والاختلاف في الصفات ، والثاني أن يكون العكس. فمثال الأول أن يكونا حقيقتان تتفاوت إحداهما في الفضيلة أو النقص والقوة والضعف ، فينقل اللفظ الموضوع للأكمل في ذلك النوع إلى الأنقص. مثاله : استعارة الطيران للعدو ، فانهما يشتركان في الحقيقة ، وهي الحركة المكانية إلا أن الطيران أسرع من العدو ، فلما تساويا في الحقيقة واختلفا في القوة والضعف في السرعة لا جرم نقلوا اسم الكامل في السرعة إلى الناقص فيها فسموا العدو طيرانا.

وقد يقع في هذا الجنس ما يظن أنه مستعار ولا يكون كذلك وذلك اذا كانت جهة الاختلاف خارجة عن مفهوم الاسم كقول بعضهم :

وفي يدك السيف الذي امتنعت به

صفاة الهدى من ان تدقّ فتخرقا

فالظاهر ان الخرق حقيقة في الثوب مجاز في الصفات ، ولكن التحقيق يأباه لأن الشق يستعمل في الخرق ، فيقال شققت الثوب ، والشق عيب في الثوب ، وهذه الملاقاة على وجه الحقيقة ، فلما قام الشق مقام الخرق ، وجب أن يقوم الخرق مقام الشق ظاهرا ، وإلا لو كان للخرق مفهوم سوى مفهوم الشق ، لكان لفظ الخرق مشتركا بينهما وهو خلاف الأصل فثبت أن الخرق والشق لفظان مترادفان ، ولما كان

٦٩

الشق حقيقة في الصفات كان الخرق المرادف له حقيقة أيضا فيه.

نعم لو قلت خرق الحشمة لم يكن من الحقيقة في شيء لأنه ليس هناك شق فبهذا الطريق عرفنا أن الخرق ليس اسما للتفرق من حيث أنه لا شق هناك كما تقدم خلاف ما تقدم من حيث أن الشق حاصل في الثوب ، بل هذه الخصوصية خارجة عن مفهوم لفظ الخرق ، ولما كانت لفظة الخصوصية التي بها تتميز تفرق أجزاء الحجر بعضها من بعض عن تفرق أجزاء الثوب غير داخلة في مفهوم الخرق كان استعماله في الحجر على طريق الاستعارة ، فهذا هو القانون في هذا الباب بعد أن لا تضايق في المثال هذا كله إذا كان الاشتراك في الحقيقة والاختلاف في العوارض والصفات .. وأما إذا كان بالعكس وهو أن يكون الاشتراك في الصفات والاختلاف في الحقيقة فمثل قولهم : رأيت شمسا ، ويريدون إنسانا يتهلل وجهه كالشمس ، فيشاركه في الوصف ..

( وأما ) القسم الثاني وهو استعارة اسم شيء معقول لشيء معقول ، وهذا أيضا إنما يكون في أمرين يشتركان في وصف عدمي أو ثبوتي وأحدهما بذلك الوصف أولى ، وفيه أكمل فينزل الناقص منزلة الكامل ، ثم إن المشتركين إما أن يكونا متعاندين أو لا يكونا ، كذلك فإن تعاندا فإما أن يكون التعاند بالثبوت ، أو الانتفاء أو بالتضاد.

( مثال ) الأول : استعارة اسم المعدوم للموجود ، أو الموجود للمعدوم. أما الأول : فعند ما لا يحصل من ذلك الموجود فائدة مطلوبة فيكون ذلك الموجود مشاركا للمعدوم في عدم الفائدة ، لكن المعدوم بذلك أولى ، فيستعار لذلك الموجودة اسم المعدوم.

( وأما ) الثاني : فعند ما تكون الآثار المطلوبة من الشيء باقية عند عدم الشيء ، فيكون عند ذلك المعدوم مشاركا للموجود بتلك الفوائد ، لكن الموجود أولى بذلك ، فيستعار لذلك المعدوم اسم الموجود.

٧٠

وأما إذا كان التعاند بالتضاد حقيقة كان أو ظاهرا فمثاله : تشبيه الجهال بالأموات ، لأن المقصود بالحياة الإدراك والعقل ، فإذا عدما فقد عدمت الآثار المطلوبة من الحياة فتصير تلك الحياة مساوية للموت في عدم الفائدة المطلوبة ، والموت أولى بذلك ، فتتنزل الحياة منزلته.

ثم الضدان إذا كانا متقابلين الأشدّ والأضعف ففي أحد الطرفين اسم الأزيد ، وفي الطرف الآخر اسم الأنقص. فشرط مساوئ التشبيه مثلا كل من كان أقلّ علما وأضعف قوّة كان أولى أن يستعار له اسم الميت.

ولما كان الادراك أقدم من الفعل في كونه خاصية للانسان لا جرم كان الأقل علما أولى باسم الميت أو الجماد من الأقل قوّة باسم الحياة ، فالاشرف علما أولى بذلك لقوله تعالى : ( أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ ) هذا اذا كانا متقابلين أما إذا لم يكونا كذلك وهو أن يكونا موجودين يشتركان في وصف من عقول إلا أن ذلك الوصف لأحدهما أولى ، فيتنزل الناقص منزلة الكامل مثل قولهم : فلان لقي الموت إذا كان لقي شيئا من الشدائد لأنها مشاركة للموت في الكراهية ، لكن الموت أولى بها فتتنزل تلك الشدائدمنزلة الموت لاشتراكها في المكروهية ، وعلى هذا قوله تعالى : ( وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ ).

وأما الثالث : فهو أن يستعار للمعقول اسم المحسوس ، وهو كاستعارة الحجة للنور الذي هو محسوس بالبصر ، واستعارة العدل للقسطاس المدرك بحاسة العين.

وأما الرابع : فهو استعارة اسم المعقول للمحسوس ، وهو غير جائز إلا على التأويل الذي نذكره في باب التشبيه إن شاء الله تعالى.

٧١

فصل

وهذه جملة مما احتوى عليه الكتاب العزيز من أقسام الاستعارة وصنوفها نذكرها مفصلة مبينة على حكم ما تقدم من الأقسام الأربعة ، إذ الغرض من هذا الكتاب معرفة ما تضمنه الكتاب العزيز من أنواع البيان وأصناف البديع وفنون البلاغة ، وعيون الفصاحة وأجناس التجنيس .. أما ما جاء في الكتاب العزيز من استعارة المحسوس للمحسوس فآيات كثيرة. منها قوله تعالى : ( وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ) إذ المستعار منه النار والمستعار له الشيب والجامع بينهما الانبساط ، ولكنه في النار يقوى. وفي هذه الآية ثلاث فوائد أخر غير الاستعارة.

الفائدة الأولى : أنه سلك في الآية طريق ما أسند فيه الشيء الى الشيء وهو لشيء آخر لما بينه وبين الأول من التعلق ، فيرفع ذكر ما أسند اليه ويؤتى بالذي الفعل له في المعنى منصوبا بعده مبينا ان ذلك الإسناد إلى ذلك الأول إنما كان من أجل هذا.

الفائدة الثانية : بيان ما بينهما من الاتصال كقولهم : طاب زيد نفسا ، وتصبب عرقا وأشباههما فيما تجد الفعل فيه منقولا عن الشيء إلى ما ذلك الشيء من سببه ، فإنّا نعلم أن الاشتعال للشيب في المعنى وهو للرأس في اللفظ كما أن طاب للنفس وتصبب للعرق ، وإن أسند الى ما أسند إليه ،

٧٢

والدليل على أن شرف هذه الآية بسبب ذلك أنّا لو تركنا هذا الطريق وأسندنا الفعل الى الشيب صريحا فقلنا : اشتعل شيب الرأس ، أو الشيب في الرأس لانتفاء ذلك الحسن.

فإن قلت : فما السبب في إن كان اشتعل إذا استعير للشيب على هذا الوجه كان له هذا الفضل. فنقول السبب فيه أن يفيد مع لمعان الشيب في الرأس أنه شمل وشاع وأخذ به من نواحيه وعم بجملته حتى لم يبق من السواد شيء إلا القليل ، فهذه الفائدة لا تحصل إذا قيل اشتعل الشيب في الناس لا يوجب اللفظ أكثر من ظهور الشيب فيه. وبيانه أنك تقول اشتعل النار في البيت لا يفيد أكثر من اصابتها جانبا. ومثاله من التنزيل قوله تعالى : ( وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً ) فالتفجير للعيون في المعنى ، لكنه وقع في اللفظ على الأرض ليفيد أن الأرض بالكلية صارت عيونا.

الفائدة الثالثة : تعدية الرأس بالألف واللام وإفادة معنى الإضافة من غير الإضافة ، وهو أحد ما أوجب المزية ، ولو قيل واشتعل رأس لذهب الحسن .. ومن هذا الباب قوله تعالى : ( وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) أصل الموج حركة الماء فاستعمل في حركتهم على سبيل الاستعارة. وقوله عز وجل : ( وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ ) للظهور .. وأما استعارة المحسوس للمحسوس لشبه عقلي فكقوله تعالى : ( إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ) المستعار له الريح والمستعار منه المرأة العقيم والجامع بينهما المنع من ظهور النتيجة. ومنه قوله تعالى ( وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ ) المستعار له ظهور النهار من ظلمة الليل ، والمستعار منه ظهور المسلوخ من جلدته ، والجامع أمر عقلي ، وهو ترتيب أحدهما على الآخر. ومنه قوله تعالى ( فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ) أصل الحصيد للنبات والجامع الهلاك وهو أمر عقلي. وقوله ( خامِدِينَ ) أصل الخمود للنار. ومنه قوله تعالى ( وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ ) وهو أفصح من أن يقال في أصل الكتاب ..

٧٣

وأما استعارة المحسوس للمعقول فكقوله تعالى : ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ ) فالقذف والدمغ مستعاران. ومنه قوله تعالى ( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ ). ومنه قوله تعالى ( فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ ). ومنه قوله تعالى ( وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ) وكل خوض ذمه الله في القرآن فلفظه مستعار من الخوض في الماء. ومنه قوله تعالى : ( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ) استعارة لبيانه عما أوحى إليه لظهور ما في الزجاجة عند انصداعها. ومنه قوله تعالى : ( أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ ) البنيان مستعار وأصله للحيطان. ومنه قوله تعالى : ( وَيَبْغُونَها عِوَجاً ) العوج مستعار ، ومنه قوله تعالى : ( لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) وكل ما في القرآن من الظلمات والنور مستعار.

ومنه قوله تعالى : ( فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً ) ، ومنه قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ ) الوادي مستعار وكذلك الهيمان ، وهو على غاية الإفصاح. ومنه قوله تعالى : ( قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) جعل للسماوات والأرض قولا وطاعة. ومنه قوله تعالى : ( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ ) الآية .. وأما استعارة المعقول للمعقول فمنه قوله تعالى : ( مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا ) استعار الرقاد للموت ، وهما أمران معقولان ، والجامع عدم ظهور الأفعال. ومنه قوله تعالى : ( وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ ) والسكوت والزوال أمران معقولان.

وأما استعارة المعقول للمحسوس فمنه قوله تعالى : ( إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ ) المستعار منه التكبر والمستعار له الماء والجامع الاستعلاء المضر. ومنه قوله تعالى : ( وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ ) والعتو هاهنا مستعار. ومنه قوله تعالى : ( تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ) فلفظ الغيظ مستعار. ومنه قوله تعالى : ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً ) وهو أفصح من مضيئة. ومنه قوله تعالى ( حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ) هذا الذي اختاره الامام فخر الدين ومن قبله

٧٤

من المحققين .. وقال قوم الاستعارة على قسمين. الأول أن يعتمد نفس التشبيه ، وهو أن يشترك شيئان في وصف واحد ، أحدهما أنقص من الآخر فيعطي الناقص اسم مبالغة في تحقيق ذلك الوصف له ، كقولك : رأيت أسدا ، وأنت تعني رجلا شجاعا ، وعنّت لنا ظبية وأنت تعني امرأة ، وتجيء الأقسام الأربعة وقد تقدمت.

الثاني : أن تعتمد لوازمه وهو عند ما تكون جهة الاشتراك وصفا انما يثبت بكماله في المستعار منه بواسطة شيء آخر ، فيثبت ذلك الشيء في المستعار له مبالغة في إثبات المشترك ، ويسمى استعارة تخييلية كقول لبيد :

وغداة ريح قد وزعت وقرّة

إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها

استعار ـ اليد ـ للشمال ، وليس هناك مشار إليه يمكن أن يجري اسم اليد عليه كما أجرى الأسد على الرجل ، لكنه خيل إلى نفسه أن الغداة في تصريف الشمال على حكم طبيعتها كالانسان المتصرف في بعيره وزمامه ومقادته في يده ، وتصرف الإنسان إنما يكمل باليد فأثبت لها اليد تحقيقا للغرض وحكم الزمام في الاستعارة للغداة حكم اليد في استعارتها للشمال. وكذلك قول تأبط شرا يصف سيفا :

إذا هزّه في عظم قرن تهلّلت

نواجذ أفواه المنايا الضّواحك

لما شبه المنايا عند هزه السيف بالمسرور وكمال الفرح والسرور إنما يظهر بالضحك الذي تتهلل فيه النواجذ لا جرم اثبته تحقيقا للوصف المقصود ، وإلا فليس للمنايا ما ينقل اليه اسم النواجذ. وكذلك له في الحماسة :

سقاه الرّدى سيف اذا سلّ أومضت

إليه ثنايا الموت من كلّ مرقد

_ ومن ذلك قوله تعالى : ( وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) تحقيق هذا الخلاص عن التشبيه فإن من وضع في نفسه أن كل اسم يستعار فلا بد أن يكون هناك شيء تمكن الإشارة إليه تتناوله في حال المجاز كما يتناوله في حال الحقيقة .. وقال ابن الاثير : تقسم الاستعارة إلى قسمين. الأول يجب

٧٥

استعماله وهو ما كان بينه وبين ما استعير له تشابه وتناسب ، ولنضرب له أمثلة يستدل بها عليه. فمن ذلك قوله تعالى : ( وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ ) وهذا الوصف إنما هو على ما يظهر للعين لا على حقيقة المعنى لأن الليل والنهار اسمان يقعان على هذا الجوّ عند إظلامه وإضاءته بغروب الشمس وطلوعها وليسا على الحقيقة شيئين ينسلخ أحدهما من الآخر إلا أنهما في رأي العين كأنهما كذلك ـ والسلخ ـ يكون في الشيء الملتحم بعضه ببعض فلما كانت هوادى الصبح عند طلوعه كالملتحمة باعجاز الليل أجرى عليهما اسم السلخ ، وكان ذلك لائقا في بابه ، وهو أولى من قوله يخرج ، لأنّ السلخ أدل على الالتحام المتوهم من الاخراج. الثاني ما لا يجب استعماله وسيأتي بيانه ..

وقال قوم الاستعارة على سبعة أقسام : الأول : الاستعارة للمناسبة وهي على أربعة أقسام كما تقدم. الثاني : الاستعارة التخييلية وقد تقدم بيانها.

الثالث : الاستعارة المجردة. الرابع : الاستعارة المرشحة. الخامس :الاستعارة البديعة. السادس : الاستعارة القبيحة. السابع : الاستعارة في الكناية ، وقد بينا متقدما بعضها وسنبين الباقي إن شاء الله تعالى.

الوجه الرابع : من التقسيم الأول في اشتقاقها وهي مشتقة من العارية التي حقيقتها في الإجرام ، ولهذا قال ابن الأثير الاستعارة هي أن تريد تشبيه الشيء بالشيء فتدع الإفصاح بالتشبيه واظهاره ، وتجيء على اسم المشبه به ، فتعبر به عن اسم المشبه تجريه عليه كقولك : رأيت رجلا هو كالأسد في شجاعته ، وقوة بطشه سواء فتدع ذلك وتقول ـ رأيت أسدا ـ والسين التي في الاستعارة ليست سين الالتماس والطلب ، التي هي في قولهم استعان اذا طلب المعونة واستجار اذا طلب الجيرة ، وإنما هي كالتي في قوله تعالى ( فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ). وكقول الشاعر :

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

٧٦

الوجه الخامس : فيما تصح منه الاستعارة وفيما لا تصح .. قال الامام فخر الدين وجماعة من المحققين : إن الأسماء على ثلاثة أقسام : أسماء أعلام ، وأسماء مشتقة ، وأسماء أجناس .. فأما الأسماء الأعلام فلا استعارة فيها لأن المشابهة بين الأصل والفرع معتبرة في الاستعارة ، وهي غير معتبرة في الأعلام .. وأما الأسماء المشتقة فالاستعارة أيضا لا تدخلها دخولا أوليا ، وهل تتحقق في الفعل أم لا؟ فنقول : الفعل شأنه الدلالة على ثبوت المصدر لشيء في زمان معين فالاستعارة تقع أولا في المصدر بواسطة ذلك في الفعل ، فإذا قلت نطقت الحال ، وهذا إنما يصح لأن الحال مشابهة النطق في الدلالة على الشيء فلا جرم استعير النطق لتلك الحالة ، فالاستعارة أولا واقعة على المصدر بواسطته في الفعل ، فإذا الاستعارة في الحقيقة ليست إلاّ في المصدر ، فإذا عرفت ذلك تبين لك أنّ الأسماء المشتقة أيضا كذلك فإن الإسم المشتق هو الذي يدل على ثبوت المشتق منه ، لشيء مع عدم الدلالة على زمان ذلك الثبوت ، فظهر منه أن الاستعارة إنما تقع وقوعا أوليا في أسماء الاجناس ..

وتلخيص هذا الكلام أن المعنى يستعار أولا بواسطة استعارة اللفظ ، وأن الاستعارة تقع في المصدر ثم بواسطة في الفعل ، واستعارة الفعل أما من جهة فاعله كقولك نطقت الحال بكذا ولعبت به الهموم ، وأما من جهة مفعوله كقول ابن المعتز :

جمع الحقّ لنا في إمام

قتل الجوع وأحيا السماح

أو من جهة مفعوليه كقول القطامي :

نقريهم لهذميّات نقدّ بها

ما كان خاط عليها كلّ زرّاد

أو لكليهما كقول الحريري :

وأقرئ المسامع إما نطقت

بيانا يقود الحرون الشّموسا

أو من جهة الفاعل والمفعول. كقوله تعالى : ( يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ

٧٧

أَبْصارَهُمْ ) .. وقال ابن الأثير في جامعه : اعلم أن الاستعارة قد جاءت في الأسماء والصفات والأفعال جميعا تقول : رأيت ليوثا. ولقيت صما عن الخير. وأضاء الحق. إلاّ أنه قد استعمل الضرب الثاني الذي ذكرناه وهو قولنا ـ زيد أسد ـ في باب الاستعارة وأورده جماعة من العلماء مثل قدامة والجاحظ وأبي هلال العسكري والغانمي ، وأبي محمد بن سنان الخفاجي في تصنيفاتهم في باب الاستعارة ولم يذكروا أن الأصل فيه أنه تشبيه بليغ فما أعلم هل ذلك لخفائه عليهم أو أنهم عرفوه ولم يذكروه وهو الأصل المقيس عليه في التشبيه الذي أجمع عليه المحققون من علماء البيان وقد أوردناه نحن في كتابنا هذا في باب الاستعارة تشبيها بالقوم واستنانا بسننهم ، لأنهم السابقون في هذا الفن بالتصنيف إلا أن موضعه باب التشبيه فاعرف ذلك.

الوجه السادس : الاستعارة التخييلية ، وقد تقدم الكلام فيها ونزيد ذلك وضوحا وهو أن علماء البيان قالوا : إن أكثر الآيات التي يتمسك بها أهل التشبيه من هذا. فمنها قوله تعالى : ( وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) اثبات الجناح للذل استعارة تخييلية .. روي أن أبا تمام لما نظم قوله : ( هو حبيب بن أوس الطائي ).

لا تسقني ماء الملام فإنني

صبّ قد استعذبت ماء بكائي

جاءه رجل بقصعة وقال : اعطني قليلا من ـ ماء الملام ـ فقال أبو تمام :لا أعطيكه حتى تأتيني بريشة من ـ جناح الذل ـ فافحم الرجل. ومن ذلك أيضا قوله تعالى : ( سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ ). ومنه قوله تعالى : ( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ). ومنه قوله تعالى : ( إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ). ومنه قوله تعالى ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً ) وفي القرآن العظيم من ذلك كثير.

الوجه السابع : الاستعارة المجردة وهي أن تنظر إلى المستعار من غير نظر إلى غيره كقوله تعالى : ( فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ ) وكقول

٧٨

زهير :

لدى أسد شاكي السلاح مقذّف

لو نظر إلى المستعار منه لقال ـ فكساهم الله لباس الجوع ـ ولقال زهير ـ لدي أسد أوافي المخالب. أو وافي البراثن ـ.

الوجه الثامن : الاستعارة المرشحة وهي أن تنظر إلى جانب المستعار فتراعي جانبه وتواليه ما يستدعيه ، وتضم إليه ما يقتضيه مثل قول كثير :

رمتني بسهم ريشه الكحل لم يضر

وقول النابغة :

وصدر أراح الليل عازب همّه

المستعار في كل واحد منهما وهو الرمي والإزاحة منظور إليه في لفظي ـ السهم والعازب ـ الوجه التاسع : الاستعارة البديعة البالغة ، وهي أن تتضمن المبالغة في التشبيه مع الإيجاز وغالب استعارات الكتاب العزيز كذلك ، وفي أشعار فصحاء العرب منها كثير.

الوجه العاشر : الاستعارة القبيحة ، وليس في الكتاب العزيز منها شيء ، وأما في أشعار العرب وغيرهم فكثير .. ومن قبيح الاستعارة قول أبي تمام :

سبعون ألفا كآساد الشّرى نضجت

أعمارهم قبل نضج التين والعنب

وهذا البيت ليس فيه وجه من وجوه الحسن ، وقد روي في غير هذه الرواية ـ نضجت جلودهم قبل ـ وعلى هذه الرواية ليس في البيت استعارة قبيحة فإن القتلى أنضجت الشمس جلودهم كما تنضج التين والعنب .. وكذلك قوله :

أيا من رمى قلبي بسهم فأدخلا

٧٩

أقام ـ أدخل ـ مقام أنفذ. وفي رواية ـ فأقصدا ـ وفي رواية ـ فأنفذا ـ فعلى من روى فأقصدا وأنفذا فهي استعارة حسنة .. ومما يزيد الاستعارة حسنا وهو أصل في هذا الباب أن يجمع بين عدّة من الاستعارات قصدا لإلحاق الشكل بالشكل ، لاتمام التشبيه كقول امرئ القيس في وصف ليل طويل :

فقلت له لمّا تمطّى بصلبه

وأردف أعجازا وناء بكلكل

لمّا جعل لليل صلبا قد تمطى به بيّن ذلك فجعل له كلكلا قد ناء به فاستوفى جملة أركان الشخص ، وراعى ما يراه الناظر من جميع جوانبه.

الوجه الحادي عشر : الاستعارة بالكناية وبيان ما تتنزل به الاستعارة بالكناية منزلة الحقيقة .. أما الاستعارة بالكناية فهي إذا لم يصرح بذكر المستعار ، بل بذكر بعض لوازمه تنبيها به عليه كقول أبي ذؤيب :

وإذا المنيّة أنشبت أظفارها

ألفيت كلّ تميمة لا تنفع

فكأنه حاول استعارة السبع للمنية ، لكنه لم يصرح بها بل بذكر لوازمها تنبيها بها على المقصود.

الثاني عشر : ما تتنزل به الاستعارة منزلة الحقيقة : وهو أن يذكر لفظا يوهم به أن الاستعارة أصلا كقول أبي تمام :

ويصعد حتى يظنّ الجهول

بأنّ له حاجة في السّماء

لمّا استعار العلوّ لزيادة العلوّ في الفضل والقدر ، ذكره ذكر من يذكر علو مكان .. وكقول ابن العميد :

قامت تظلّلني من الشمس

نفس أعزّ عليّ من نفس

قامت تظللني ومن عجب

شمس تظللني من الشمس

ومدار هذا النوع على التعجب وقد يجيء على عكسه كقوله :

لا تعجبوا من بلا غلالته

قد زرّ أزراره على القمر

٨٠