الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن وعلم البيان

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن وعلم البيان

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٠٧

القسم الحادي عشر

اطلاق اسم الشيء بما يؤول اليه وهو قسمان :

الأول : من ذلك قوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى ) أي فيمن يقتل من القتلى.

الثاني : قوله تعالى : ( إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً ) أي أعصر عنبا .. ومن ذلك قوله تعالى : ( وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً )

٤١

القسم الثاني عشر

اطلاق اسم المتوهم على المحقق وهو خمسة أقسام :

الأول : من ذلك قوله تعالى : ( يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ) أي في ظنكم وحسبانكم.

والثاني : قوله تعالى : ( وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) أي في ظن الناظر اليهم وحسبانه.

الثالث : قوله تعالى : ( وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) ولم يصر كالعرجون القديم إلا في الحسبان والظن ورأي العين .. وكذلك تقديره منازل إنما هي منازل من رأي العين فإن القمر في الفلك الأول والمنازل في الفلك الثامن ، ولا يتصور نزوله في شيء منها وانما يقع ذلك في نظر الناظرين وحسبان الظانين.

الرابع : قوله تعالى : ( لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) أي يسبحون في رأي العين فإن الناظر إلى الفلك يعتقده ساكنا والكواكب جارية فيه وليس كذلك.

الخامس : قوله تعالى : ( فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى ) أي كان قاب قوسين أو أدنى في ظن رائيه وحسبانه.

٤٢

القسم الثالث عشر

اطلاق اسم الشيء الذي يظنه

المعتقد والأمر على خلافه وهو ستة أقسام :

الأول : من ذلك قوله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً ) ذكر ذلك بالنسبة إلى ظنهم وزعمهم إذ ليس له ضد ولا ند.

الثاني : قوله تعالى : ( أَيْنَ شُرَكائِيَ ) وليس هذا إثباتا للشركاء بل هو يتنزل على قول الخصم معناه أين شركائي بزعمكم. وقوله صلّى الله عليه وسلّم حكاية عن ربه : « من عمل عملا أشرك فيه غيري تركته لشريكي » معناه تركته لشريكي بزعمه.

الثالث : قوله تعالى : ( إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ) لم يقرّ فرعون برسالة موسى عليه‌السلام ، بل المعنى بزعمه أنه رسول.

الرابع : قوله عز وجل : ( يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) ليس هذا إقرارا بتنزيل الذكر وإنما المعنى يا أيها الذي نزل عليه الذكر بزعمه.

الخامس : قوله تعالى (١)

__________________

(١) سقط من الأصل ذكر الآية والقسم السادس.

٤٣

القسم الرابع عشر

التضمين : وهو أن يضمن اسما معنى اسم لافادة معنى الاسمين

فتعديه تعديته في بعض المواطن وهو أربعة أقسام :

الأول : قوله تعالى : ( حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَ ) ضمن حقيقا معنى حريص ليفيد عليه أنه محقوق يقول الحق وحريص عليه.

الثاني : من التضمين أيضا أن تضمّن فعلا معنى فعل آخر لافادة معنى فعلين وتعدّيه أيضا في بعض المواطن وهو في القرآن كثير. منه قوله تعالى : ( لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً ) ضمن لا تشرك معنى لا تعدل ـ والعدل ـ التسوية أي لا تسوي بالله شيئا في العبادة والمحبة فإنهم عبدوا الأصنام كعبادة الله وحبّوها كحب الله ، ولذلك قال الذين في النار : ( تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ ) وما سوّوهم به إلا في العبادة والمحبة دون أوصاف الكمال ونعوت الجمال والجلال.

الثالث : قوله عز وجل : ( إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها ) ضمن لتبدي به معنى لتخبر به أو لتعلم ليفيد الاظهار معنى الإخبار لأن الخبر قد يقع سرا غير ظاهر.

٤٤

الرابع : قوله تعالى : ( عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ ) ضمن يشرب معنى يروي أو معنى يلتذ ليفيد الشرب والريّ أو الشرب والالتذاذ جميعا.

٤٥

القسم الخامس عشر

في مجاز اللزوم وهو ثمانية تحت كل قسم أقسام قد بيناها فيه :

الأول : التعبير بالإذن عن المشيئة لان الغالب أن الإذن في الشيء لا يقع إلا بمشيئة الآذن واختياره الملازمة الغالبة مصححة للمجاز. ومن ذلك قوله تعالى : ( وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ ) أي إلا بمشيئة الله .. ويجوز أن يراد في هذا بالإذن أمر التكوين والمعنى :وما كان لنفس أن تموت إلا بقول الله موتي. ونظيره : ( فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ ) فحذف تقديره فقال لهم الله موتوا فماتوا لدلالة قوله ـ ثم أحياهم ـ عليه. ومثله : ( وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ ) أي بمشيئة الله أو بأمر التكوين فإن ملازمة المشيئة للأمر غالبا كملازمة مشيئة المريد غالبا.

الثاني : التعبير بالإذن عن التيسير والتسهيل وهو في قوله تعالى :

( وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ) أي بتسهيله وتيسيره إذ لا يحسن أن يقال دعوته باذني ولا قمت وقعدت باذني هذا قول الزمخشري .. ويجوز أن يراد بالإذن هاهنا الأمر أي يدعوكم إلى الجنة والمغفرة بأمره.

الثالث : تسمية المسافر بابن السبيل. وذلك في قوله تعالى :

٤٦

( وَابْنَ السَّبِيلِ ) لملازمته السبيل وهو الطريق كما يلازم الولد أمه. وذلك في قوله تعالى : ( وَابْنَ السَّبِيلِ ) لملازمته السبيل وهو الطريق كما يلازم الولد أمه. وذلك قيل للطير ابن الماء لملازمته للماء.

الرابع : نفي الشيء لانتفاء ثمرته وفائدته للزومها عنه غالبا في مثل قوله تعالى : ( كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ ) أي وفاء عهد وإتمام عهد فنفي العهد لانتفاء ثمرته وهو الوفاء والاتمام. ومنه قوله تعالى : ( وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ ) نفي الايمان بعد اثباتها لانتفاء ثمرتها وفائدتها وهو البر والوفاء .. ويجوز أن يكون من مجاز الحذف تقديره انهم لا وفاء أيمان لهم.

الخامس : اطلاق اسم الريب على الشك لملازمة الشك القلق والاضطراب فإن حقيقة الريب قلق النفس بدليل قوله : ( نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) أي مقلقات الدهور. وبدليل قوله عليه الصلاة والسلام في الظبي الحاقف لا يريبه أحد ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم : « ان فاطمة بضعة مني يريبني ما يريبها ». ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي :

أ من المنون وريبها تتوجع

السادس : التعبير بالمسافحة عن الزنا لأن السفح صب المنيّ وهو ملازم للجماع غالبا لكنه خص بالزناء إذ لا غرض فيه سوى صبّ المني بخلاف النكاح فإن مقصوده الولد والتعاضد والتناصر بالأختان والأصهار والأولاد والأحفاد. ومثاله قوله تعالى : ( مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ) أي غير مزانين. وقوله تعالى : ( مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ ) أي غير مزانيات.

السابع : اطلاق اسم المحل على الحالّ فيه لما بينهما من

٤٧

الملازمة الغالبة كالتعبير باليد عن القدرة والاستيلاء وبالعين عن الادراك وبالصدر عن القلب وبالقلب عن العقل وبالافواه عن الألسن وبالألسن عن اللغات وبالقرية عن قاطنيها وبالساحة عن نازليها وبالنادي والنديّ عن أهلها ، وبالغائط وهو المكان المنخفض عما يخرج من الانسان لانهم كانوا في الغالب يقضون الحاجة في الأماكن المنخفضة تسترا عن الناس ( أما ) التعبير باليد عن القدرة فهو في القرآن كثير من ذلك قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى ) وقوله تعالى : ( تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ) واما التعبير بالعين عن الإدراك فهو في قوله تعالى : ( أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها ) أي يبصرون بإدراكها أو بنورها ( وأما ) التعبير بالصدر عن القلب فهو في القرآن كثير. من قوله تعالى : ( فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ) أي في قلبك. ومنه قوله تعالى : ( وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ).

( وأما ) بالقلب عن العقل فهو في القرآن في موضعين : أحدهما قوله تعالى : ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ ) والثاني في قوله تعالى : ( لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ) أي لهم عقول لا يفقهون بها .. ويجوز أن يكون من مجاز الحذف تقديره لهم قلوب لا يفقهون بعقولها كما في قوله : ( وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها ) أي لا يسمعون بأسماعها أو بادراكها ( وأما ) التعبير بالأفواه عن الألسن فهو في قوله تعالى : ( مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ) أي بألسنتهم لأن القول إنما يكون باللسان ومنه قوله تعالى : ( يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) ( وأما ) التعبير بالألسن عن اللغات فهو في القرآن كثير من ذلك قوله تعالى : ( فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ ) أي بلغتك ومنه قوله تعالى : ( بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) أي بكلام عربي مبين ( وأما ) التعبير بالساحة عن نازليها ففي قوله تعالى : ( فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ ) معناه فإذا نزل بهم ( وأما ) التعبير بالقرية عن قاطنيها ففي قوله تعالى : ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها ) ( وأما ) التعبير بالنادي عن أهله ففي قوله تعالى : ( فَلْيَدْعُ نادِيَهُ ) ( وأما ) التعبير بالندى

٤٨

عن أهله ففي قوله : ( أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ) أي أحسن أهل مجلس ( وأما ) التعبير بالغائط وهو المكان المنخفض عما يخرج من الانسان ففي قوله تعالى : ( أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ) ومن مجاز الملازمة وهو التعبير بالارادة عن المقاربة لأن من أراد شيئا قربت مواقعته إياه غالبا وهو في قوله تعالى : ( فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ ) أي قارب الانقضاض. ومنه قول الشاعر :

يريد الرّمح صدر أبي رياح

ويرغب عن دماء بني عقيل

( ومنه ) التعبير بالكلام عن الغضب لأن الهجران وترك الكلام يلزمان الغضب غالبا وهو في القرآن العظيم في موضعين. أحدهما قوله تعالى : ( وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ ) والآخر قوله تعالى :

( وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) ( ومنه ) التجوز بالاياس عن العلم لأن الإياس من نقيض المعلوم ملازم للعلم غير منقلب عنه. ومن ذلك قوله تعالى : ( أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً ) ( ومنه ) التعبير بالدخول عن الوطء لأن الغالب من الرجل إذا دخل بامرأته انه يطأها ليلة عرسها. ومثاله قوله تعالى : ( وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ ) ومنه وصف الزمان بصفة ما يشتمل عليه ويقع فيه وهو القرآن العظيم كثير. من ذلك قوله تعالى : ( فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ) وصفه بالعسر ، والعسر صفة للأهوال الواقعة في ذلك اليوم ومنه يومئذ قوله تعالى : ( فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) وصف اليوم بالعظم وهو صفة للعذاب الواقع فيه .. وأما قوله تعالى :

( يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ) فانه مجاز تشبيه شبه اليوم في انقطاع خيره بانقطاع ولادة العقيم. ومنه قوله تعالى : ( وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ ) وصفه بكونه عصيبا وهو صفة للشر الذي يقع فيه.

٤٩

القسم السادس عشر

التجوز بالمجاز عن المجاز :

وهو أن يجعل المجاز المأخوذ عن الحقيقة بمثابة الحقيقة بالنسبة الى مجاز آخر فيتجوز بالمجاز الأول عن الثاني بعلاقة بينه وبين الثاني.مثال ذلك قوله تعالى : ( وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا ) ، فإنه مجاز عن مجاز فإن الوطء تجوز عنه بالسر لأنه لا يقع غالبا إلا في السر ، فلما لازم السر في الغالب سمي سرا وتجوز بالسر عن العقد ، لأنه سبب فيه ، فالمصحح للمجاز الأول الملازمة ، والمصحح للمجاز الثاني التعبير باسم المسبب الذي هو السر عن العقد الذي هو سبب كما سمي عقد النكاح نكاحا ، لكونه سببا في النكاح ، وكذلك سمي العقد سرا لأنه سبب في السر الذي هو النكاح ، فهذا مجاز عن مجاز مع اختلاف المصحح فمعنى قوله ـ ولكن لا تواعدوهن سرا ـ لا تواعدوهن عقد نكاح وكذلك قوله : ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ) قال مجاهد : ومن يكفر بلا إله الا الله فقد حبط عمله فإن حمل قوله على ظاهره كان هذا من مجاز المجاز لأن قول لا إله الا الله مجاز عن تصديق القلب بمدلول هذا اللفظ والتعبير بلا إله الا الله عن الوحدانية من مجاز التعبير بالقول عن المقول فيه ، والأول من مجاز التعبير بلفظ السبب عن المسبب ، لأن توحيد اللسان مسبب عن توحيد الجنان.

٥٠

القسم السابع عشر

التجوز في الاسماء وهو على سبعة أقسام :

الأول : اطلاق اسم الأسد على الشجاع.

الثاني : التجوز بالبحر عن الجواد.

الثالث : اطلاق اسم الفوز والحياة على الايمان والعرفان.

الرابع : اطلاق اسم الظلمة والموت على الجهل والضلال.

الخامس : اطلاق اسم السراج والنور على الهادي.

السادس : اطلاق اسم الحطب على النميمة بإثارتها نار الحقد والغضب.

السابع : اطلاق اسم الانسان على تمثاله وكذلك الحيوان والبلدان وقد تقدم جميع أمثلة ذلك إلا الحطب المعبر به عن النميمة فانه في قوله تعالى : ( حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ).

٥١

القسم الثامن عشر

التجوز في الافعال وهو على عشرة أقسام وتحت كل قسم منها

أقسام :

الأول : التجوز بالماضي عن المستقبل تشبيها له في التحقيق ، والعرب تفعل ذلك لفائدة وهو أن الفعل الماضي اذا أخبر به عن المضارع الذي لم يوجد بعد كان أبلغ وآكد وأعظم موقعا وأفخم بيانا ، لأن الفعل الماضي يعطي من المعنى أنه قد كان وجد وصار من الأمور المقطوعة بكونها وحدوثها. ومنه قوله تعالى : ( وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ ) فإنه إنما قال ـ ففزع ـ بلفظ الماضي بعد قوله ـ ينفخ ـ وهو مستقبل للاشعار بتحقق الفزع وثبوته وأنه كائن لا محالة واقع على أهل السموات والارض ، لأن الفعل الماضي يدل على وجود الفعل بكونه مقطوعا به. ومن هذا الجنس قوله تعالى : ( وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً ) فبرزوا بمعنى يبرزون يوم القيامة وانما جيء به بلفظ الماضي لان ما أخبر الله به لصدقه وصحته فإنه قد كان ووجد. ومثل ذلك قوله عز اسمه : ( أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) فأتى هاهنا بمعنى يأتي وإنما حسن فيه لفظ الماضي لصدق إثبات الأمر ودخوله في جملة ما لا بد من حدوثه ووقوعه فصار يأتي بمنزلة أتى ومضى. وكذلك قوله تعالى : ( وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ) فإنه انما قال ـ

٥٢

وحشرناهم ـ ماضيا بعد ـ نسيّر. وترى ـ وهما مستقبلان للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير والبروز ليعاينوا تلك الاهوال كأنه قال وحشرناهم قبل ذلك وهو في القرآن العظيم كثير.

قال الشيخ الامام عز الدين بن عبد السلام في كتابه المعروف بالمجاز أكثر ما يكون هذا في الشروط وأجوبتها وقد يجيء في غيرها.مثاله في غير الشرط قوله تعالى : ( وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ) ومنه ( وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ ) ومنه ( وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ ) ومنه ( وَنادَوْا يا مالِكُ ) ومنه : ( وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ ) ومنه : ( وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ ). ومنه : ( إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً ). ومنه : ( وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا ) وأمثاله في القرآن كثير ( وأما ) مثاله في الشرط فقوله تعالى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا ) معناه وإن تكونوا في ريب. ومنه : ( فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) معناه وإن تتوبوا فهو خير لكم. ومنه : ( فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ ) معناه فإن تك في شك. ومنه : ( إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا ) معناه إن تكونوا مؤمنين بالله فعليه توكلوا ( وأما ) في جواب الشرط فقوله تعالى : ( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ ). ومنه : ( وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا ) معناه وإن تعودوا الى قتال محمد عدنا الى نصره والشرط لا يكون إلا مستقبلا ، والمرتب على المستقبل مستقبل لا محالة ، وهذا من مجاز التشبيه شبه المستقبل في الحقيقة وثبوته بالماضي الذي دخل في الوجود بحيث لا يمكن رفعه.

الثاني : التعبير بالمستقبل عن الماضي وهو في القرآن العظيم كثير. من ذلك قوله تعالى : ( وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ ). ومنه : ( فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ ) معناه وفريقا قتلتم ..

ويجوز أن يكون القول في هاتين الآيتين حكاية حال ماضية مثله في قوله

٥٣

تعالى : ( تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا ) وكما في قوله تعالى : ( ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ ). ومنه قوله تعالى : ( وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ ) ومنه : ( وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ ) ومنه : ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ ) معناه وإذ قلت وهو في القرآن كثير ( وانما ) قصدت العرب بالاخبار عن الفعل الماضي بالمستقبل لأن الاخبار بالفعل المضارع اذا أتى به في حالة الاخبار عن وجود كان ذلك أبلغ من الاخبار بالفعل الماضي ، وذلك لأن الفعل المضارع يوضح الحال التي يقع فيها ويستحضر تلك الصورة حتى كأن السامع يشاهدها ، وليس كذلك الفعل الماضي والفرق بينه ، وبين القسم الذي قبله هو أن الفعل الماضي يخبر به عن المضارع اذا كان الفعل المضارع من الاشياء الهائلة التي لم توجد ، والأمور المتعاظمة التي لم تحدث فتجعل عند ذلك فيما قد كان ووجد ووقع الفراغ من كونه وحدوثه ، وأما الفعل المضارع اذا أخبر به عن الماضي ، فإن الغرض بذلك تبيين هيئة الفعل واستحضار صورته ليكون السماع كأنه يعاينها ويشاهدها.

الثالث : التجوز بلفظ الخبر عن الأمر وهو في القرآن العظيم كثير. من ذلك قوله تعالى : ( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ ) ومنه قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ) ومنه قوله تعالى : ( تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ) معناه آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وانفسكم ولذلك أجيب بالجزم في قوله : ( يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ ) ولا يصح أن يكون جوابا للاستفهام في قوله ـ هل أدلكم ـ لأن المغفرة وإدخال الجنات لا يترتب على مجرد الدلالة ، وهذا من مجاز التشبيه شبه الطلب في تأكيده بخبر الصادق الذي لا بد من وقوعه ، واذا شبه بالخبر الماضي كان آكد ، وكذلك الدعاء والأمر والنهي بالخبر الماضي اذا أريد

٥٤

تأكيد ما عبر عنها بالخبر المستقبل ، فإن بالغت في التأكيد تجوزت عنها بالخبر الماضي.

الرابع : التجوز بلفظ الخبر عن الدعاء وهو في القرآن العظيم كثير. من ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم : « يرحم الله أخي لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد » ومن ذلك تشميت العاطس يرحمك الله ، وفي اجابته يهديكم الله ويصلح بالكم .. المعنى اللهم ارحمه اللهم اهدهم.

الخامس : التجوز بلفظ الخبر عن النهي وهو في القرآن كثير. من ذلك قوله تعالى : ( وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ ) معناه ولا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله. ومنه قوله تعالى : ( لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ ) معناه لا تعبدون الا الله. ومنه قوله تعالى : ( لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ).

السادس : التجوز بلفظ الأمر عن الخبر توكيدا للخبر لأن الامر للايجاب فيشبه الخبر به في ايجابه وهو في القرآن في موضعين قوله تعالى : ( قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا ) تقديره قل من كان في الضلالة يمدد له الرحمن مدا أو مد له الرحمن مدا. الثاني : ( اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ. )

السابع : التجوز بجواب الشرط عن الأمر وهو في القرآن العظيم كثير. من ذلك قوله تعالى : ( إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ) معناه عند الجمهور فليغلبوا مائتين. ومنه : ( وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً ) معناه فليغلبوا ألفا ومنه : ( فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ) معناه فليغلبوا مائتين ( وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ ) معناه فليغلبوا ألفين والمراد به التأكيد ، لأنه خبر تجوز به عن الطلب.

٥٥

الثامن : التجوز بلفظ النهي عن أشياء ليست مرادة بالنهي وانما المراد بها ما يقاربها أو يلازمها ، أو تكون مسببة عنه ، وهو في القرآن العظيم كثير. فمن ذلك قوله تعالى : ( وَذَرُوا الْبَيْعَ ) نهى عن البيع في اللفظ وهو مباح وأراد ما يلزم عنه من ترك الواجب. ومنه قوله تعالى : ( وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) النهي عن الموت نفسه لا يصح ، لأنه ينافي التكليف ، لكنه تجوز به عما يقارنه من الكفر فكأنه قال ولا تكفروا عند موتكم. ومنه قولهم : لا أرينّك هاهنا معناه لا تحضرن فأراك فتجوز برؤيته عن سببها وهو الحضور. ومنه نهيه صلّى الله عليه وسلّم عن البيع على بيع الأخ ، ليس النهي عن نفس البيع ، لأنه مجتمع بشرائط الصحة إنما النهي عن أذية الأخ المقترنة بالبيع. ومنه النهي عن الخطبة على خبطة الأخ ليس النهي عن الخطبة نفسها ، وإنما النهي عما يلزمها من تأذي الخاطب.

التاسع : التجوز بالنهي لمن لا يصح نهيه والمراد به من يصح نهيه وهو في القرآن كثير. فمنه قوله تعالى : ( وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ ) النهي في اللفظ للعينين والمراد بذلك ذو العينين أي لا تنظر إلى غيرهم. ومنه : ( لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ) النهي في اللفظ للأموال والأولاد وفي المعنى لذوي الأموال والأولاد. ومنه : ( لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ) النهي في اللفظ للتقلب والمراد به النهي عن الاغترار بالتقلب. ومنه قوله : ( فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ) النهي في اللفظ للحياة الدنيا والمراد به نهي المخاطبين عن الاغترار بها. ومنه قوله تعالى : ( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ ) النهي في اللفظ للأموال والأولاد وفي المعنى نهي المخاطبين عن الاعجاب بهما. ومنه قوله تعالى : ( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ ) النهي للرأفة في اللفظ وللمخاطبين في المعنى. ومنه قوله تعالى : ( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ) النهي لضمير الفتنة في اللفظ

٥٦

وللمخاطبين في المعنى لا تتعرضن لاصابة الفتنة اياكم لسبب تقريرها وترك نكيرها والتقدير واتقوا تقدير فتنة لا تصيبن عقوبتها أو شؤمها ، أو وبالها الذين ظلموا منكم خاصة.

العاشر : التجوز بنهي من يصح نهيه والمنهي في الحقيقة غيره ، وهو في القرآن العظيم كثير. منه قوله تعالى : ( وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ ) معناه ولا تصدن عن آيات الله بسبب صدهم إياك. ومنه : ( فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها ) معناه فلا تصدن عنها. ومنه قوله تعالى : ( وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ) معناه ولا تخفن.

٥٧

القسم التاسع عشر

التجوز بالحروف بعضها عن بعض وهو عشرة أقسام :

الاول : ـ هل ـ يتجوز بها عن الأمر والنفي والتقدير وهو في القرآن العظيم كثير .. أما التجوز بها عن الامر ففي مواضع. منها قوله تعالى : ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) معناه أسلموا. ومنه قوله تعالى : ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) معناه فانتهوا .. أما التجوز بها في النفي فهو في مواضع.منها قوله تعالى : ( فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ ) وقوله تعالى : ( فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ ) معناه فما ترى لهم من باقية فلا يهلك إلا القوم الفاسقون. وقوله تعالى : ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ ) معناه ما ينظرون الا أن يأتيهم الله في ظلل ومثل هذا في القرآن كثير. وأما قوله تعالى : ( هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ) فقيل إنه نفي الاستزادة معناه لا مزيد فيّ ، وقيل انه طلب لها معناه زدني .. وأما التجوز بها في التقرير فهو في القرآن العظيم في آيتين. احداهما قوله تعالى : ( هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا ) الثانية في قوله تعالى : ( هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ ).

الثاني : ـ همزة الاستفهام ـ ويتجوّز بها عن النفي وعن الأمر والايجاب والتقرير والتوبيخ .. أما التجوز بها عن النفي ففي القرآن العظيم منه كثير. من ذلك قوله تعالى : ( أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) معناه لست مكره الناس حتى يكونوا مؤمنين. وقوله

٥٨

تعالى : ( أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ) معناه لست منقذ من في النار. وقوله تعالى : ( أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ ) معناه لست مسمع الأصمّ ، ولا هادي الأعمى ، ومثله في القرآن كثير .. وأما التجوز بها في الايجاب فهو في القرآن كثير. فمن ذلك قوله تعالى : ( أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ ) معناه الوعد بكفاية العباد. وقوله : ( أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ ) وقوله تعالى : ( أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ) ..

ومنها قول جرير :

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح

وقول الآخر :

ألست أرى النجم الذي هو طالع

عليها وهذا للمحبين نافع

وأما التجوز بها في التقرير فهو في القرآن كثير. من ذلك قوله تعالى : ( أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ) وقوله تعالى : ( أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ ) وقوله تعالى : ( آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ ) .. وأما التجوز بها في التوبيخ فهو في القرآن كثير.فمن ذلك قوله تعالى : ( أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ ) وقوله تعالى : ( أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) وقوله تعالى : ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) وقوله تعالى : ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ).

الثالث : التجوز ـ بفي ـ وله حقيقة تتحقق في قسمين : أحدهما :احتواء جرم على جرم كقوله تعالى : ( أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ) وقوله تعالى : ( وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ ) الثاني : احتواء جرم على معنى كقوله تعالى : ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) وقوله تعالى : ( وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ ) وكقوله : ( إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ

٥٩

بِبالِغِيهِ ) وأمثاله في القرآن كثير .. وأما التجوز بها فهو أنواع. الأول : أن يجعل المعنى ظرفا لتعلقه بمعنى آخر وذلك قوله تعالى : ( وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ) وهو طاعته واجتناب معصيته أو القتال في سبيله ظرفا لتعلق الجهاد ، والجهاد قائم بالمجاهد. ومن ذلك قوله تعالى : ( لا رَيْبَ فِيهِ ) ومن ذلك قوله تعالى : ( وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها ) جعل الساعة والكتاب ظرفين لتعلق الريب لا لنفس الريب ، فإن الريب حال في المرتاب ، ومنه قوله تعالى : ( وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ ) أي في توريثهن جعل التوريث محلا لتعلق الاستفتاء ، ثم قال : ( قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ ) أي في توريثهن فجعل التوريث محلا لتعلق بيان الفتيا وهو قول المفتى. ومنه قوله تعالى : ( فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ) جعل الحق محلا لتعلق الاختلاف قائم بالمختلفين. ومنه قوله تعالى : ( فَادَّارَأْتُمْ فِيها ) أي فادّارأتم في قتلها فجعل القتل محلا لتعلق الدرء. ومنه قوله تعالى : ( فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ) جعل حبه أو مراودته ظرفا لتعلق لومهن لا لنفس اللوم ، فإن لومهن قائم بهن ..

الثاني : التجوز بها عن الباء التي للسبب وهي في القرآن العظيم كثير. فمن ذلك قوله تعالى : ( وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ ) أي بسبب ما أخطأتم. ومنه قوله تعالى : ( وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ) أي بسبب نصرة سبيل. وكذلك الحب في الله والبغض في الله أي بسبب تعظيم الله ، وله نظائر كثيرة ولما كان المسبب متعلقا بالسبب جعل السبب ظرفا لتعلق المسبب ..

الثالث من التجوز به وهو أن يجعل الجرم محلا لتعلق المعنى ، وهو في القرآن المجيد كثير. من ذلك قوله تعالى : ( وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) جعل الأجرام محلا لتعلق الفكر لا لنفس الفكر فإن الفكر قائم بالتفكر. ومنه قوله تعالى :

٦٠