الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن وعلم البيان

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن وعلم البيان

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٠٧

( إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ) معناه أحببت محبوب الخير عن ذكر ربي.

الحادي والعشرون : اطلاق اسم الظن على المظنون وهو في القرآن العظيم في موضعين. أحدهما قوله تعالى : ( وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) معناه أي شيء مظنونهم أهو الهلاك أو النجاة. الثاني قوله تعالى : ( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) معناه ذلك الخلق الباطل مظنون الذين كفروا. وأما قوله تعالى : ( اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ) فيجوز أن يكون من مجاز الحذف تقديره اجتنبوا كثيرا من اتباع الظن إن اتباع الظن ذنب ، ويجوز أن يكون تجوز بالظن عن المظنون وهو أمره باجتناب فعل وقع منهم.

الثاني والعشرون : اطلاق اسم اليقين على المتيقن ، وهو في القرآن العظيم في موضعين. أحدهما قوله تعالى : ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) معناه واعبد ربك حتى يأتيك الموت لكل أحد. ومنه قوله تعالى : ( وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ ) معناه : حتى أتانا الموت المتيقن لكل أحد.

الثالث والعشرون : اطلاق اسم الشهوة على المشتهي ، وهو في القرآن العظيم في موضعين. أحدهما قوله تعالى : ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ ) أي حب المشتهيات بدليل أنه قال : ( مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ ) الثاني قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا ) إن الذين يشتهون الفاحشة في أعراض الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ، ولذلك أوجب عليهم في الدنيا الحد ، وفي الآخرة العذاب ولا يتعلق الحد بمجرد حب الاشاعة.

الرابع والعشرون إطلاق اسم الحاجة على المحتاج إليه ، وهو في

٢١

القرآن العظيم كثير. فمن ذلك قوله تعالى : ( وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها ) معناه ما كان دخولهم يدفع عنهم من قضاء الله وقدره شيئا ، ولكن طلب حاجة في نفس يعقوب قضاها ، ويحتمل ولكن حاجة في نفس يعقوب قضى متعلقها ، لأن الحاجة الحقيقية التي هي الافتقاد لا تقضى ، وإنما يقضى متعلقها الذي هو المحتاج اليه ، ومنه : ( وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا ) معناه : ولا يجدون في قلوبهم تمني شيء يحتاجون إليه مما أعطيه المهاجرون .. وهذه الأقسام كلها من مجاز التعبير بلفظ المتعلق به ، أو من مجاز التعبير بلفظ المتعلق به عن المتعلق ومصحح المجاز فيه ما بينهما من النسبة.

٢٢

القسم الثاني

اطلاق اسم السبب على المسبب وهو أربعة أقسام :

القسم الأول : قوله تعالى : ( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) سمى عقوبة الاعتداء اعتداء لأنه المسبب عن الاعتداء ، ومنه قوله تعالى : ( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) تجوز بلفظ الجناية عن القصاص ، فإنه مسبب عنها ، والتقدير جزاء جناية قبيحة عقوبة قبيحة مثلها في القبح ، وإن عبرت بالسيئة عما ساء أي أحزن لم يكن من هذا الباب ، لأن الإساءة تحزن في الحقيقة كالجناية. ومنه قوله تعالى : ( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ ) تجوز بلفظ المكر عن عقوبته لأنه سبب لها .. ويحتمل أن يكون مكر الله حقيقيا ، لأن المكر هو التدبير فيما يضر الخصم خفية ، وهذا متحقق من الله تعالى لاستدراجه اياهم بما أجرى عليهم من نعمه مع ما أعد لهم من نقمه.

الثاني : اطلاق اسم الكتابة على الحفظ فإن الكتابة سبب لحفظ المكتوب ، وهو في القرآن العظيم في موضعين. أحدهما قوله تعالى : ( سَنَكْتُبُ ما قالُوا ) أي سنحفظه ولا ننساه حتى نجازيهم به. والآخر قوله تعالى : ( سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ ) أي نحفظه عليهم فإن الملائكة قد كتبوا ذلك لما قالوا ، وقتلوا الأنبياء فاستعمل اللفظ المستقبل في حفظه دون كتابته ، ( وأما ) قوله تعالى : ( أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ ) فإنه تجوز بالكتابة عن الثبوت والدوام ، فإن الكتابة مستمرّة

٢٣

باقية في العادة ، ( وأما ) قوله تعالى : ( إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ ) ففيه مذهبان. أحدهما : أنه من مجاز الحذف تقديره إن المنافقين يخادعون رسول الله ، والله خادعهم ، فيكون خداعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حقيقيا. وأما خدع الله إياهم ، فيجوز أن يكون من مجاز التعبير بلفظ السبب عن المسبب ، ويجوز أن يكون من مجاز التشبيه معناه أنه عاملهم معاملة المخادع بما أخفاه عنهم من إرادة إضرارهم وإهلاكهم ، ويجوز ان يكون حقيقة بما ذكرناه في المكر ، ويتأتى أن يكون مخادعتهم لله من مجاز التشبيه بمعنى أنهم يعاملونه معاملة المخادع ويكون خدعهم من مجاز المعاملة ، ويجوز أن يكون من مجاز التعبير بلفظ السبب عن المسبب ، فيكون من مجاز المجاز فإن مخادعتهم مجازية تجوز بها عن شبهها وكان اطلاق اللفظ من مجاز التشبيه.

الثالث : اطلاق اسم السمع على القبول وهو في القرآن كثير. من ذلك قوله تعالى : ( ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ ) معناه ما كانوا يستطيعون قبول ذلك والعمل به ، لأن قبول الشيء مرتب على استماعه ومسبب عنه ، ويجوز أن يكون نفي السمع لانتفاء فائدته فيصير كقولهم أنهم لا أيمان لهم أي لا وفاء ايمان لهم ... ومنه قول الشاعر :

وان حلفت لا ينقض النأي عهدها

فليس لمخضوب البنان يمين

معناه : ليس لمخضوب البنان وفاء يمين.

الرابع : اطلاق اسم الايمان على ما نشأ عنه من الطاعة وهو في القرآن كثير. فمن ذلك قوله تعالى : ( وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ ) معناه : ما كان الله ليضيع أجر صلاتكم إلى الصخرة قبل النسخ. ومنه قوله تعالى : ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ) معناه أفتعملون ببعض التوراة وهو فداء الأسارى فتجوز بالايمان عن العمل بما يوافق الكتاب ، لأنه مسبب عن الايمان وتتركون العمل ببعض وهو قتل

٢٤

اخوانكم واخراجهم من ديارهم. ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم :« الايمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق » جعل القول وإماطة الأذى عن الطريق إيمانا لأنهما مسببان عن الايمان.

٢٥

القسم الثالث

اطلاق اسم المسبب على السبب وهو ثمانية أقسام :

القسم الأول : اطلاق اسم العقوبة على الإساءة والجناية. ومنه قوله تعالى : ( وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ) معناه وإن أردتم معاقبة مسيء فعاقبوه بمثل ما بدأكم به من الإساءة فقوله ـ وان عاقبتم ـ من مجاز التعبير بلفظ الفعل عن ارادته وقوله ـ بمثل ما عوقبتم به ـ من مجاز التعبير بلفظ المسبب عن السبب وقوله ـ فعاقبوا ـ حقيقة اكتنفها المجازان. وكذلك قوله : ( ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ ) فعاقب حقيقة وعوقب به من مجاز تسمية السبب باسم المسبب. ومن هذا النوع قول العرب : كما تدين تدان معناه : كما تفعل تجزى لأن الدين هو الجزاء فتجوّز به عن الجناية لأنه مسبب عنها .. وكذلك قول الشاعر :

ولم يبق سوى العدوا

ن دنّاهم كما دانوا

معناه : جزيناهم بما فعلوا فدناهم حقيقة ودانوا مجاز.

القسم الثاني : اطلاق الأكل على الأخذ لمّا كان الأكل مسببا عن الأخذ. ومنه قوله تعالى : ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) معناه لا تأخذوا أموالكم بالسبب الباطل كالقمار ونحوه.

القسم الثالث : اطلاق اسم الغلبة على المقاتلة التي هي مسبّب

٢٦

عنها. ومنه قوله تعالى : ( إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ) عبر بلفظ الغلبة عن المقاتلة ، لأن الغلبة مسببة عن المقاتلة.

الرابع : اطلاق اسم الرجز على عبادة الأصنام. ومنه قوله تعالى : ( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) تجوّز بالرجز وهو العذاب الشديد عن عبادة الأصنام ، لأن العذاب مسبب عنها ( وأما ) قوله تعالى : ( وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ ) فهو من مجاز التعبير بلفظ المسبب عن سبب سببه ، لأن وساوس الشيطان سبب لمعصية الرحمن ، ومعصية الرحمن سبب لعذاب الديان ، فبان أن الوسوسة سبب للمعصية ، والمعصية سبب للعذاب ، ويجوز أن تجعل الوسوسة نفسها رجزا لمشقتها على أهل الايمان ، وكلما اشتدت مشقته على النفوس فهو رجز .. قال أبو عبيد الرجز والرجس :هما العذاب الشديد. وكذلك ما أشبهه.

الخامس : اطلاق اسم المغفرة على التوبة. ومنه قوله تعالى : ( وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ) تجوّز باسم المغفرة عن التوبة.

السادس : اطلاق اسم الكبرياء على الملك لأنها مسببة عن الملك ، ومنه قوله تعالى : ( وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ ).

السابع : اطلق اسم القوة على السلاح ، لأن القوّة على القتال تكون عنها. ومنه قوله تعالى : ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) لأن القوة على قتالهم مسببة عن الأسلحة فسماها باسم مسببها ، أو يكون ذلك من مجاز الحذف تقديره وأعدوا لهم ما استطعتم من أسباب قوة أو من أدوات قوة.

الثامن : اطلاق اسم الاعطاء والإيتاء على الالتزام فمن ذلك قوله تعالى : ( فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ ) معناه اذا سلمتم ما التزمتموه بالمعروف لمّا كان التسليم مسببا عن الالتزام عبر به عنه. ومن ذلك قوله تعالى : ( وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ ) أي اذا التزمتم لهن مهورهن .. ويحتمل أن يكون

٢٧

من مجاز الحذف تقديره اذا آتيتم أهلهن مهورهن ولا يدلّ قوله فانكحوهن بإذن أهلهن على صحة النكاح بغير وليّ ، لأنه لم يذكر المأذون له ، ويجوز أن يكون المراد الوكيل ، ويجوز ويحتمل أن تكون المرأة وحمله على الوكيل أولى ، لأن الغالب في الأنكحة أنه يتولى ذلك الرجال دون النساء ، فيجب الحمل على الغالب لأن مباشرة المرأة النكاح في غاية الندور ، فلا يجوز حمل الكلام عليه اذ لا يوجد لمثل هذا نظير في كلام العرب من أنهم أرادوا بيان شيء والارشاد الى مصلحة فيبينوه بأن أحواله مع الاستغناء عنه ، ويهملوا الأغلب مع مسيس الحاجة إليه.

٢٨

القسم الرابع

اطلاق اسم الفعل على غير فاعله لمّا

كان سببا له وهو أربعة أقسام :

الأول : نسبة الفعل إلى من كان سببا له. من ذلك قوله تعالى : ( قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ) وهو من عند الله على الحقيقة ، ولكنه نسب ما أصابهم من قتل اخوتهم الى سببه. ومنه قوله تعالى : ( فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ) والماهد هو الله على الحقيقة ، ولكنه نسب اليهم تمهيد المرقد لتسببهم اليه بالعمل الصالح.

الثاني : اطلاق نسبة الفعل على سبب سببه وهو في القرآن كثير. ومنه قوله تعالى : ( رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ ) نسبوا صليّ النار إلى سبب سببه لأن الكبراء أمروهم وهم امتثلوه والمقدّم على الحقيقة هو الله تعالى ، وسبب كفرهم أمر رؤسائهم اياهم بالكفر. ومنه : ( فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ ) ومنه قوله تعالى : ( كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ) ومنه : ( فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى ) المخرج والنازع على الحقيقة هو الله تعالى.

الثالث : نسبة الفعل الى الآمر به ، وهو في القرآن كثير. منه قوله تعالى : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ) ومنه : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما ) ومنه قوله تعالى : ( فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ

٢٩

جَلْدَةً ) فان كان هذا أمرا للولاة فهو أمر بالأمر باقامة الحدود ، وان كان أمرا لمستوفى الحقوق أو مباشرها فهو حقيقة ( فأما ) قوله : رجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ماعزا والغامدية. وقوله : لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها. فكل ذلك من باب نسبة الفعل الى الآمر به. ومن ذلك قوله تعالى : ( وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ ) أي أمر من ينادي في قومه.

الرابع : نسبة الفعل إلى الآذن فيه وهو في القرآن كثير. ومن ذلك قوله تعالى : ( وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ) الآخذ على الحقيقة هو الوليّ ، والمرأة الآذنة فيه ، وهذا أخذ مجازي ونسبته اليهن مجازية أيضا كما ذكرناه .. وقد اختلف في الميثاق فقيل : إنه العقد ، وقيل : انه قول الوليّ زوّجتك على ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. ومنه قوله تعالى : ( فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ ) وقوله تعالى : ( فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ) نسب النكاح اليهن لإذنهن فيه وهذا على قول من قال ان المرأة العاقلة البالغة الثيب لا تنكح نفسها. وأما على قول من قال انها تنكح نفسها فهو حقيقة فيهن مجاز فيما سواهن.

٣٠

القسم الخامس

الأخبار عن الجماعة بما يتعلق ببعضهم ، وفي خطابهم بما يتعلق ببعضهم وهو في القرآن كثير. من ذلك قوله تعالى : ( ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ ) معناه ثم اتخذ العجل بعض أسلافكم فإن جميع الخلف والسلف لم يتخذوا العجل إلها ، وإنما وجد من بعضهم فصار هذا كقول امرئ القيس :

فإن تقتلونا نقتّلكم وإن

تقصدوا لدم نقصد

معناه : فإن قتلتم بعضنا نقتّلكم إذ لا يتصوّر أن يقتلوهم بعد استيعاب جميعهم بالقتل ، وهذا الباب كله من مجاز الحذف ، وله قاعدة يتفرع عليها ، وهي إن كان البعض واحدا كان التقدير وإذ فعل أحدكم. ومثاله قوله تعالى : ( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً ) وان كان البعض أكثر من واحد كان التقدير ، وإذا فعل بعضكم. ومثاله قوله تعالى : ( وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً ) وكان القائلون لذلك سبعين ، ومن زعم أنه نسب الفعل إليهم لأنهم رضوا به لا يستقيم قوله لأنا نعلم أنهم لم يتفقوا على الرضى في قتل النفس ولا باتخاذ العجل ولا بقولهم ـ ( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً ) ـ ولا بقولهم : ( لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ ) وأيضا فان نسبة الفعل الى الراضي به مجاز وإلى فاعله

٣١

حقيقة فإذا حمل ـ على ـ عليهما كان حملا على حقيقة غالبة ومجاز مغلوب ، وذلك لا يجوز.

٣٢

القسم السادس

اطلاق اسم البعض على الكل وهو سبعة عشر قسما :

الأول : التعبير بالقيام عن الصلاة. ومن ذلك قوله تعالى : ( قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ) أي صلّ الليل إلا قليلا. وقوله تعالى : ( لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً ) أي لا تصلّ فيه أبدا.

الثاني : التعبير بالركوع عن الصلاة وهو في قوله تعالى : ( وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ) أي صلي مع المصلين. وقوله تعالى : ( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ) أي وإذا قيل لهم صلوا لا يصلون.

الثالث : التعبير عنها بالسجود. وذلك في قوله تعالى : ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ ) أي فصلّ له. ومنه قوله تعالى : ( فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ ) أي فاذا صلوا فليكونوا من ورائكم. ومنه قوله تعالى : ( يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ) أي وهم يصلون لأن التلاوة منهيّ عنها في السجود الحقيقي فلا يصح المدح فيما نهى عنه.

الرابع : التعبير عنها بالقراءة في قوله تعالى : ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) وفي قوله : ( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ).

الخامس : التعبير عنها بالتسبيح في قوله : ( وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ) وفي قوله : ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ) وفي قوله : ( وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) وأمثاله في القرآن كثير.

٣٣

السادس : التعبير عنها بالذكر في قوله : ( وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) وفي قوله : ( فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) معناه فإذا أمنتم فصلوا لله.

السابع : التعبير عنها بالاستغفار في قوله ( وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) وحمله بعضهم على الحقيقة.

الثامن : التعبير بالذقن عن الوجه في قوله تعالى : ( يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً ) وفي قوله : ( يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ ) أي للوجوه.

التاسع : التعبير بالأنف عن الوجه في قوله تعالى : ( سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ) :

العاشر : التعبير بالرقبة عن الجملة في قوله تعالى : ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) وفي قوله : ( وَفِي الرِّقابِ ) وفي قوله : ( فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ ) فإن هذه الأفعال لا تختصّ بالرقاب بل تعمّ الأجساد وكذلك ما أشبهه.

الحادي عشر : التعبير باليدين عن الجملة وهو في القرآن كثير.من ذلك قوله تعالى : ( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ ).

الثاني عشر : التعبير باليمين عن الجملة. ومنه قوله تعالى : ( لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ).

الثالث عشر : التعبير بالعضد عن الجملة في قوله تعالى : ( سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ).

الرابع عشر : التعبير بالأصابع عن الكف والأرجل كقوله تعالى : ( فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ ).

الخامس عشر : التعبير بالوجه عن الجسد. ومنه قوله عز وجل : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) ومنه قوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ

٣٤

عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى ناراً حامِيَةً ) عبر بالوجوه عن الأجساد لأن العمل والنصب صفتان للأجساد.

السادس عشر : التعبير بالمسجد الحرام عن الحرم كله في قوله تعالى : ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ) ( ويجوز ) أن يكون من مجاز الحذف تقديره فلا يقربوا حرم المسجد الحرام.

السابع عشر : التعبير بمكة عن الحرم كله في قوله عليه الصلاة والسلام : « إنّ الله حرّم مكّة يوم خلق السموات والأرض لا ينفّر صيدها ولا يعضد شجرها ». ومعلوم أن البلد نفسه لا صيد فيه مباح ولا شجر أيضا ( وأما ) قوله تعالى : ( ثُمَّ مَحِلُّها ) فإنه تجوّز بالبيت العتيق عن الحرم كله إذ لا يجوز النحر فيما اتصل بالبيت من المسجد المحيط ( ويجوز ) أن يكون من مجاز الحذف تقديره ، ثم محلها إلى حرم البيت العتيق.

٣٥

القسم السابع

اطلاق اسم الكل على البعض وهو أحد عشر قسما

الأول : قوله تعالى : ( وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ ) ومعلوم انه لم ير جملتهم وإنما دائر وجوههم وما يبدأ منهم.

الثاني : قوله تعالى : ( فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ).

الثالث : قوله تعالى : ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) على قول من قال استيعاب مسح الرأس ليس بواجب.

الرابع : قوله تعالى : ( يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ ) وانما جعلوا بعض أناملهم.

الخامس : قوله تعالى : ( ادْخُلُوا مِصْرَ ) ومعلوم أنهم لم يستوعبوها.

السادس : قولهم : « خرجت من المسجد » ومثله في القرآن كثير.

السابع : وصف البعض بوصف الكل وهو في قوله تعالى : ( يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ ).

الثامن : قوله تعالى : ( لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ ) الخطأ صفة للكل فوصفت به الناصية ( وأما ) قوله ـ كاذبة ـ فالكاذب على

٣٦

الحقيقة هو اللسان ونسبة الكذب إلى الإنسان من مجاز وصفه بصفة بعضه وتجوز عن هذا المجاز بأن وصفت به الناصية فيكون مجازا عن مجاز.

التاسع : نسبة الظن إلى الوجوه في قوله تعالى : ( تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ ) فإن الظن وصف للقلوب على الحقيقة ، ويضاف إلى الأجساد على التجوز فيكون مجازا عن مجاز.

العاشر : وصف الوجوه بالخشوع فإن محل الخشوع القلوب ، ثم توصف به الجملة ، ثم توصف الوجوه بصفة الجملة.

الحادي عشر : وصفها بالرضى في قوله تعالى : ( لِسَعْيِها راضِيَةٌ ) وصف لها بصفة القلوب وهذا كله من مجاز القلوب.

٣٧

القسم الثامن

في التجوز بوصف الكل بصفة البعض وهو أربعة أقسام :

الأول : من ذلك قوله تعالى : ( إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ) والوجل الخوف ومحله القلب ويدل عليه قوله تعالى : ( وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ).

الثاني : قوله تعالى : ( لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ) والرعب انما يملأ القلوب فنسب إلى الأجساد ووصف القلوب بالامتلاء مجاز أيضا.

الثالث : قولك زيد عالم وجاهل وراغب وخائف وآمن ومتفكر وشاك ومتذكر وعاقل ولين وقاس وقانع فهذه كلها من أوصاف القلوب ، وقد وصفت بها الجملة.

الرابع : قوله تعالى : ( كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً ) وصف القرآن بالبشارة والنذارة وكلاهما بعض من أبعاضه لاشتماله على الأمر والنهي ، والحدود والحلال والحرام وسائر الأحكام ونسبة البشارة والنذارة إليه مجازية أيضا.

٣٨

القسم التاسع

اطلاق اسم الفعل على مقاربه ومساوقه وهو قسمان :

الأول : قوله تعالى ( وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ) معناه وإذا طلقتم النساء فقاربن انقضاء عددهن وشارفنه فأمسكوهن بمعروف.

الثاني : قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً ) معناه والذين يقاربون الوفاة وترك الأزواج ويشارفونها .. وكذلك ما أشبهه.

٣٩

القسم العاشر

اطلاق اسم الشيء على ما كان عليه وهو قسمان :

الأول : من ذلك قوله تعالى : ( وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ ) معناه الذين كانوا يتامى إذ لا يتم بعد البلوغ.

الثاني : قوله تعالى : ( فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ ) معناه :الذين كانوا أزوجهن لأنها نزلت في معقل بن يسار وأخته لما حلف أنه لا يزوجها من زوجها عبد الله بن رواحة.

٤٠