الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن وعلم البيان

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن وعلم البيان

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٠٧

القسم التاسع عشر

التفويف

والمفوف عند أرباب هذه الصناعة فيه قولان : الأول أن تكون ألفاظه سهلة المخارج عليها رونق الفصاحة ، وبهجة الطلاوة ، وعذوبة الحلاوة مع الخلو من البشاعة ، ملطفة عند الطلب والسؤال ، مفخمة عند الفخار والنزال .. وان كان شعرا فليكن شعره سهل العروض ، وقوافيه عذبة المخارج ، سهلة الحروف ومعانيه مواجهة للغرض المطلوب ظاهرة منه حيث لا تحتاج إلى إعمال الفكر في استنباط معانيه ، فإذا كان كذلك سمي مفوّفا بما تنوع من ألفاظه ومعانيه فأشبه البرد المفوّف الذي فيه ألوان مختلفة وألوان متقابلة .. وأصل التفويف بياض يكون على الأظفار.

الثاني : المفوف من الكلام والشعر هو الذي يكون فيه التزامات لا تلزم تكتب بأصباغ مختلفة حتى يفطن للالتزامات التي جعلت عليه ، وعلى كلا القولين فالقرآن العزيز كله كذلك ، فإن كان التفويف بأصباغ مختلفة الألوان فتفويف القرآن العظيم مقاطع آياته وفواتحها وتحزيبه وتعشيره وارباعه واخماسه واسباعه ، فإنّ العلماء رضي الله عنهم رخصوا بأن يكون ذلك بالحمرة ، أو الخضرة ، أو الصفرة ، أو بألوان مخالفة للون الحبر والمداد ، حتى يعلم أنها ليست من نفس القرآن فاستحبوا ذلك ، فاذا صار على هذه الصفة أشبه البرد المفوف ، بل أجل وأحسن

٣٦١

وأبهى وألطف ، وإن كان التفويف القول الأول ، فالقرآن العظيم كله كذلك أيضا فاعرف ذلك.

٣٦٢

القسم الموفى عشرين

التطريز

قال علماء البيان : التطريز هو أن تأتي قبل القافية بسجعات متناسبة ، فيبقى في الابيات أواخر الكلام كالطراز في الثوب .. ومنه قول الشاعر :

أمسي وأصبح من هجرانكم دنفا

يرثي لي المشفقان الأهل والولد

قد خدّد الدّمع خدّي من تذكركم

وهدّني المضنيان الشوق والكمد

كأنما مهجتي شلو بمسبعة

ينتابها الضاريان الذئب والاسد

لم يبق غير خفي الرّوح من جسدي

فدا لك الفانيان الرّوح والجسد

إني لأحسد في العشاق مصطبرا

وحسبك القاتلان الحبّ والحسد

قال المصنف عفا الله عنه : هذا النوع استخرجه المتأخرون ، وليس في شعر القدماء شيء منه ، ولا في كلامهم وقد استقريته من الكتاب العزيز واشعار المولدين فوجدته على ثلاثة أقسام. الأول : ما له علمان علم من أوله وعلم من آخره. الثاني : ما له علم من أوله. الثالث :ما له علم من آخره. فأما الذي له علمان فكقوله تعالى : ( وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ. وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ

٣٦٣

وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ. وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) .. ومنه في الشعر قول بعضهم من أبيات :

والمسعدان عليها الصّبر والجلد

أفناهما الخاذلان الوجد والكمد

والعاذلان عليها ردّ عذلهما

في حبها العاذران الحسن والجيد

والباقيان هواها والغرام بها

فداهما الذّاهبان الروح والجسد

ـ ومنه قوله تعالى : ( أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ، أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ ، أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ).

وأما الذي طرازه من أوله. فمنه في القرآن كثير. فمن ذلك قوله تعالى : ( هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ). وهذا النوع قد ورد فيه من أشعار المتقدمين والمتأخرين فمن ذلك قول البحتري :

تعلوا الوفود ثلاثة في أرضه

إفضاله وجداه والانعام

٣٦٤

وثلاثة تغشاك مهما زرته

إرفاده والمنّ والاكرام

وثلاثة قد جانبت أخلاقه

قول البذا والزور والآثام

وثلاثة في الغرّ من أفعاله

تدبيره والنّقض والإبرام

ـ وأما الذي علمه من آخره ، ففي القرآن منه كثير. فمن ذلك قوله تعالى : ( خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) إلى آخر السورة. ومنه قوله تعالى : ( فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً ) الى آخر السورة .. ومن ذلك في المرسلات قوله تعالى : ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) إلى آخر السورة.

٣٦٥

القسم الحادي والعشرون

ما يقرأ من الجهتين

مثاله من الكتاب العزيز قوله تعالى : ( كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ). وقوله تعالى : ( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) وأرباب علم البيان يسمون هذا النوع العكس والتقليب ، وهو عندهم على أربعة أنواع ، الأول : قلب البعض : وهو أن تقلب حروف الكلمة ، وهو كقوله عليه الصلاة والسلام : ـ « اللهمّ استر عوراتنا وآمن روعاتنا » ـ. ومنه قول الحريري :

لجوب البلاد مع المتربة

أحبّ إليّ من المرتبة

ـ الثاني مقلوب الكل كقولهم ـ كفة بحر ، وجنابه رحب. الثالث :المجنّح وهو أن يقع مقلوب الكل في جناح البيت ، أو جناحي المصراع كقوله :

لاح أنوار الذي

من كفّه في كلّ حال

ـ الرابع المسوى : وهو أن يقرأ طردا وعكسا من الجهتين. ومنه الكلمتان في الآيتين المتقدمتين. ومنه قول الحريري :

أس أرملا إذا عرا

وارع إذا المرء أسا

ـ الأبيات .. ومنه قول الآخر :

أراهنّ نادمنه ليل لهو

وهل ليلهن مدان نهارا

٣٦٦

ـ ومن أنواع هذا الباب ما إذا انعكست الكلمات يخرج منها كلام صحيح كالرسالة المشتملة على مائتي كلمة للحريري في المقامة القهقرية التي أولها الانسان صنيعة الاحسان إلى أن ختم بقوله : الأحرار عند الأسرار .. ومن هذا النوع أيضا ما تقلب فيه الألفاظ بطريق العكس لتفيد معنى آخر كقولهم : كلام الملوك ملوك الكلام ، وعادات الأشراف أشراف العادات.

٣٦٧

القسم الثاني والعشرون

رد العجز على الصدر. ويسمى التصدير

وهو أيضا من ضروب البيان وفنون التلعب باللسان. ومنه قوله تعالى : ( فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ) .. ومنه قولهم القتل أنفى للقتل .. ومنه قول بعض البلغاء الحيلة ترك الحيلة .. ومنه قول الشاعر :

تسير النجوم الدّائرات بحكمه

وذاك إذا عدّت علاه يسير

ـ وقول الآخر :

لقد حاز أنواع الفضائل كلها

وأمسى وحيدا في فنون الفضائل

ـ وقول الآخر :

سألت صروف الدّهر حظّ مملّك

فشحّت وجادت لي بحظّ أديب

٣٦٨

فصل

ومن هذا الضرب التجنيس ، وهو عند أكثر علماء علم البيان على قسمين : تجنيس حقيقي. ومشبه بالتجنيس .. أما التجنيس الحقيقي فهو أن تأتي بكلمتين كل واحدة منهما موافقة للأخرى في الحروف مغايرة لها في المعنى ، ولم يرد ذلك في الكتاب العزيز الاّ في آية واحدة وهي قوله تعالى : ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ ) .. وأما المشبه بالتجنيس فكثير ، وقد احتوى الكتاب العزيز منها على اللباب وأتى منها بالعجب العجاب ، وهو على ضروب :

الأول : التجنيس المماثل وهو أن يكون من اسمين أو فعلين مثل قوله تعالى : ( يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ). وقوله تعالى : ( الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ ). وقوله تعالى : ( وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ ). وقوله تعالى : ( ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ).

الثاني : التجنيس المغاير وهو يكون من اسم وفعل. ومنه قوله تعالى : ( وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ). وقوله تعالى : ( أَزِفَتِ الْآزِفَةُ ). وقوله تعالى : ( فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ ) وفي

٣٦٩

القرآن منه كثير. وقد جمع بعض الشعراء في أبيات نذكرها في آخر هذا الفصل فيها أجناس من التجنيس.

الثالث : تجنيس التصحيف ، وهو أن يكون اللفظ فرقا بين الكلمتين. ومنه قوله تعالى : ( وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ). ومنه قول الشاعر :

القابضون على العليا بكفّهم

والقابضون من الدّنيا بأطراف

المحسبون إذا جدّ الفخار بهم

والمحسنون إذا سيلوا بالحاف

الرابع : تجنيس التحريف : وهو أن يكون الحرف فرقا بين الكلمتين .. ومنه قوله تعالى : ( وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ). وقوله تعالى : ( فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ ).

الخامس : تجنس التشكيل : وهو أن يكون الشكل فرقا بين الكلمتين. ومنه قوله تعالى : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ). وقوله تعالى : ( أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ) .. ومنه قول بعضهم :

أأنتم زعمتم أنني غير عاشق

وأني لا أعبأ ببين مفارقي

فلم قرحت يوم الوداع مدامعي

ولم شاب من هول الفراق مفارقي

وهذه أبيات جمعت فيها أجناس من التجنيس التي نقدم ذكرها وهي :

ربّ خود عرفت في عرفات

سلبتني بحسنها حسناتي

ورمت بالجمار حبّة قلبي

أيّ قلب يقوى على الجمرات

وأفاضت مع الحجيج ففاضت

من دموعي سوابق العبرات

حرّمت حين أحرمت نوم عيني

واستباحت حماي باللحظات

٣٧٠

لم أنل في منى منى النفس لكن

خفت بالخيف أن تكون وفاتي

فقوله ـ عرفت في عرفات ـ تجنيس مغاير وقوله ـ سلبتني بحسنها حسناتي ـ مماثل وكذلك ـ وأفاضت ففاضت ـ وكذلك ـ حرّمت وأحرمت ـ وكذلك ـ بالجمار والجمرات ـ وقوله ـ ولم أنل في منى منى النفس ـ تجنيس التشكيل وقوله ـ خفت بالخيف ـ تجنيس مغاير.

السادس : تجنيس العكس وهو أن تكون حروف الكلمتين غير مرتبة. مثاله من القرآن قوله تعالى : ( إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) وقد جاء في الشعر أن يقدّم حرفا في كلمة ويؤخره في أخرى .. ومنه قول حسان في مدح النبي صلى الله عليه وسلم :

تحمله الناقة الأدماء معتجرا

بالبرد كالبدر غشّى نوره الظّلما

السابع : تجنيس التركيب : وهو أن يجمع بين اسمين أو اسم وفعل ، ثم يجعلهما كالكلمة الواحدة مثال الاسم مع الاسم ـ بعل بك. ومعدي كرب ـ ومثال الفعل مع الاسم حضر موت. ورام هرمز. وقد جاء في القرآن العظيم : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ ) .. وفي الشعر كثير. من ذلك قول بعضهم :

إنّ أسيافنا الغضاب الدّوامي

جعلت ملكنا مديد الدّوام

باقتسام الأموال من وقت سام

واقتحام الأهوال من وقت حام

ـ ومنه :

بأبي غزال نام عن وصبى به

وسجوم دمعي في الهوى وصبيبه

ـ ومنه قول المتنبي :

وشادن قلت له

هل لك في المنادمة

فقال كم من عاشق

سفكت بالمنى دمه

٣٧١

ومنه في الشعر كثير.

الثامن : تجنيس التصريف وهو أن تنفرد إحدى الكلمتين عن الأخرى بحرف مثل قوله تعالى : ( ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ). ومثل قوله تعالى : ( وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ). ومثل قوله : ( لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ ). ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « الخيل معقود في نواصيها الخير » .. ومنه قول الأعشى :

ورأيت أنّ الشيب جا

نبه البشاشة والبشارة

التاسع : تجنيس الترجيع : وهو أن ترجع الكلمة بذاتها كما قال الله عز وجل : ( لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ ). ومنه قوله عز وجل : ( إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ ). وقوله تعالى : ( وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) .. ومنه قول الشاعر :

وما منعت دار ولا عزّ أهلها

من النّاس إلا بالقنا والقنابل

ـ وقال المخبل :

فأتت عليه وماله من ماله

ممّا أفاء ولا أفاد عناق

ـ وقال آخر :

عذيري من دهر موار موارب

له حسنات كلّهنّ ذنوب

ـ ولأبي تمام :

يمدّون من أيد عواص عواصم

تصول بأسياف قواض قواضب

٣٧٢

القسم الثالث والعشرون

التسهيل

وهو أن يكون في القافية ما يدل على الكلام ، أو في أول الكلام ما يدل على القافية كقول أبي حية :

إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة

تقاضاه دهر لا يملّ التقاضيا

ـ ومثله :

فليس الّذي حلّلته بمحلّل

وليس الّذي حرّمته بمحرّم

ـ ومثله :

هي الدّرّ منثورا إذا ما تكلّمت

وكالدّرّ منظوما إذا لم تكلّم

٣٧٣

القسم الرابع والعشرون

الاتفاق والاطراد

وهو أن يوفق شيئا لا يتفق عاجلا مثل قول أبي تمام في الغزل :

لسلمى سلامان وعمرة عامر

وهند بني هند وسعد بني سعد

ـ وقوله أيضا يصف حصانا :

بحوافر حفر وصلب صلّب

ومشاعر شعر وخلق أخلق

ـ ومن ذلك أيضا :

حمدان حمدون وحمدان حارث

ولقمان لقمان ولقمان راشد

وهذه كلها تعسفات ليس في القرآن العظيم منها شيء :

٣٧٤

فصل

وقد كان ينبغي أن يكون مقدما في أول الكتاب ، ذكر ما اشتق منه القرآن ، والسورة والآية والكلمة والحرف وبيان معانيها .. أما القرآن فاشتقاقه فيه قولان. أحدهما التتبع والجمع من قولهم : قرأت الماء في الحوض إذا تتبعته وجمعته فيه فهو جامع لما في كتب الأولين المنزلة على سائر النبيين.

والثاني : أنه مشتق من الإظهار والبيان لأنه أظهر سائر العلوم المحتاج إليها في أمر الدين والدنيا وجمع بينها وكلاهما حسن ، والأول أظهر ، وقد يأتي القرآن بمعنى الصلاة في مثل قوله تعالى : ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) أي وصلاة الفجر ، وبمعنى القراءة .. وفي مرثية عثمان رضي‌الله‌عنه :

ضحّوا بأشمط عنوان السجود به

يقطّع الليل تسبيحا وقرآنا

وأما السورة ففيها أربعة أقوال : الأول : أنها سميت بذلك لعظمها وعلوّ شأنها من قولهم فلان سورة من المجد. الثاني : سميت بذلك لكرمها وتمامها من قولهم : لفلان سورة من الأهل أي أقوام كرام. الثالث : أنها قطعة من القرآن واشتقاقها من السؤر الذي يفضل من الشارب ، وعلى هذا يكون أصلها الهمز ، وإنما ترك لانضمام ما قبله فأبدلوا منه واوا. الرابع : سميت سورة لأن قارئها ينتقل من منزلة في الأجر إلى منزلة أعلى

٣٧٥

منها .. قال الشاعر :

ألم تر أنّ الله أعطاك سورة

ترى كلّ ملك دونها يتذبذب

كأنّك شمس والملوك كواكب

إذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب

ومعناه أعطاك منزلة فوق منازل الملوك ، وهو قول حسن .. وأما الآية ففيها أربعة أقوال : الأول : أنها اشتقت من العلامة ، والآية علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها. الثاني : أنها سميت بذلك لأنها كلمات مجتمعة من القرآن من قولهم : خرج القوم بآيتهم أي بجماعتهم. الثالث : الآية الرسالة والقصد .. قال الشاعر :

ألا أبلغا هذا المعرّض آية

أيقظان قال القول إذ قال أم حلم

معناه بلغاه رسالة والآية رسالة من الله إلى نبيه وخلقه. الرابع :إنما سميت بذلك لأنها عجب لأنها تشبه كلام البشر ، ولا يقدرون على الإتيان بمثلها من قولهم فلان آية من الآيات ، أي عجب وهو قول حسن .. وأما الكلمة فهي اللفظة الدالة على المعنى المفرد ، أو على معنيين أحدهما حقيقة ، والآخر مجاز وهي في كتاب الله تعالى تطلق ويراد بها معان سبعة :

أحدها : كلمة التوحيد وهي لا إله إلاّ الله. الثاني تطلق ويراد بها الشرك قال الله تعالى : ( وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى ) يعني الشرك : ( وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا ) يعني كلمة الاخلاص والتوحيد. ومنه قوله تعالى : ( وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) قال مجاهد والسدّي هي قول لا إله إلا الله. الثالث : تطلق ويراد بها الوعد. ومنه قوله تعالى : ( وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ) يعني وعدم الساعة. قال الله تعالى : ( بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ ). الرابع : تطلق ويراد بها دعاء الله الخلق اليه. ومنه قوله تعالى : ( إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ ) الآية. الخامس : تطلق ويراد بها عيسى عليه الصلاة والسلام. ومنه قوله تعالى : ( وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ) سماه كلمة لأنه

٣٧٦

أوجده بالكلمة وهي قوله « كن ». السادس : تطلق ويراد بها القصة والقصيدة ، والعرب يقولون كلمة امرئ القيس ، يريدون قصيدته ، ويقولون خبرنا كلمة فلان يريدون قصته.

وفي الحديث : « واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله » يعني النساء كأنه يشير إلى قوله تعالى : ( فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ). السابع : تطلق ويراد بها الكلمة الواحدة المفردة التي جمعها كلمات. والكلمات في كتاب الله تعالى تأتي على ستة معان : الأول تطلق ويراد بها علم الله سبحانه وتعالى. ومنه قوله تعالى : ( لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً ). الثاني : يراد بها مواعيده سبحانه وتعالى. ومنه قوله تعالى : ( لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ) أي لا خلف لما وعد. الثالث : تطلق ويراد بها الخصال. ومنه قوله تعالى : ( وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ ) أي بعشر خصال من الطهارة معروفة. الرابع : تطلق ويراد بها الاعتراف وطلب المغفرة. ومنه قوله تعالى : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ ) وهي قوله : ( رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ). الخامس : تطلق ويراد بها عيسى عليه الصلاة والسلام ، قاله الهروي في قوله تعالى : ( وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها ). السادس : تطلق ويراد بها القرآن. ومنه الحديث ـ أعوذ بكلمات الله التامات ـ يعني القرآن قاله الهروي أيضا وغيره ..

وأما الحرف فله في كتاب الله تعالى ، ولسان العرب محامل. أحدها : اللغة يقال هذا حرف بني فلان أي لغتهم. الثاني : يطلق ويراد به معنى من المعاني. ومنه الحديث : « نزل القرآن على سبعة أحرف » أي على سبعة معان. الثالث : يطلق ويراد به أحد القراءات ، وعليه حمل بعضهم قوله صلى الله عليه وسلم : « نزل القرآن على سبعة أحرف ». الرابع : يطلق ويراد به الآية. ومنه الحديث : « لكلّ حرف ظهر وبطن

٣٧٧

وحدّ ومطلع » وفي رواية ـ ولكل آية منه ظهر وبطن وحد ومطّلع ـ. الخامس : يطلق ويراد به الشك. ومنه قوله تعالى : « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ » أي على شك. وقال ابن عرفة معناه : على غير طمأنينة. السادس : يطلق ويراد به الجانب. ومنه قول ابن عباس ـ أهل الكتاب لا يأتون النساء إلاّ على حرف ـ أي جنب. ومنه حرف الجبل جانبه. السابع : الحرف الناقة .. ومنه قول كعب بن زهير :

حرف أخوها أبوها من مهجّنة

وعمها خالها قوداء شمليل

ـ الثامن : يطلق ويراد به أحد حروف الهجاء التي يجمعها أبجد.

٣٧٨

فصل

في ذكر اعجاز القرآن العظيم

قد تكلم العلماء في ذلك فقال قوم : إعجازه من جهة ايجازه واحتواء لفظه القليل على المعاني الكثيرة مثل قوله تعالى : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ) الآية. وقوله تعالى : ( إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ ) الآية. وقوله تعالى : ( فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ) الآية. وقوله تعالى : ( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ). وقوله تعالى : ( وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ ). وقوله تعالى : ( فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا ). وقوله تعالى : ( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ ). وقوله تعالى : ( لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ). وقوله تعالى : ( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ) الآية ، وأشباهها كثير اذا تأملت الكتاب العزيز وجدت فيه من هذا كثير ..

وقد اعترض على هذا القول بأنه قد وجد في السنة وكلام العرب ما لفظه قليل ومعناه كثير مثل قوله صلى الله عليه وسلم : « الأعمال بالنيّات والمجالس بالأمانات ». وأشباهه كثير .. وقال قوم : إعجازه من جهة حسن تركيبه ، وبديع ترتيب ألفاظه ، وعذوبة مساقها وجزالتها ، وفخامتها وفصل خطابها .. وقال قوم : إعجازه من غرابة أسلوبه العجيب واتساقه الغريب الذي خرج عن أعاريض النظم وقوانين النثر وأساجيع

٣٧٩

الخطب وأنماط الأراجيز ، وضروب السجع .. وقد اعترض على هذا القول من وجوه. الأول : لو كان الابتداء بالأسلوب معجزا لكان الابتداء باسلوب الشعر معجزا. الثاني : أن الابتداء بأسلوب لا يمنع الغير من الإتيان بمثله. الثالث : أن الذي تعاطاه مسيلمة من الحماقة في معارضة : ( إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ) ـ والطاحنات طحنا ـ هو في أسلوب في غاية الفظاعة والركاكة ، وكان مبتدئا به ولم يعد ذلك معجزا ، بل عدّ سخفا وحمقا. الرابع : لما فاضلنا بين قوله تعالى : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ ) وبين قولهم ـ القتل أنفى للقتل ـ لم تكن المفاضلة بسبب الوزن ، وإنما تعلق الاعجاز بما ظهرت به الفضيلة. الخامس : إنّ وصف العرب القرآن بأنّ له لحلاوة ، وأنّ عليه لطلاوة لا يليق بالأسلوب .. وقال قوم : اعجازه بمجموع هذه الوجوه الثلاثة ، وهذا الكلام يحتاج إلى نظر لأن مجموع هذه الأقسام الثلاثة إنما تكون معجزة في حق العرب خاصة ، لأن الفصاحة والبلاغة فيهم جبلة وخلقة ، وهم فرسانها أصحاب قصبات السبق فيها إلى الأمد لا يباريهم فيها أحد ، ولا يجاريهم في مضمارها جواد ، ولا يماريهم في التفرد بها ممار ذو عناد قد ألقت الأمم إليهم فيها مقاليد الإذعان ، وخفضوا لهم جناح الذل بما حصل لهم عندهم من العرفان فثبت لديهم أن أحدا لا يجاريهم في هذا المضمار ، ولا يدانيهم في اظهار ولا إضمار فجاءهم ، هذا الكتاب العزيز بقاصمة الظهر وفادحة القهر ، ودعوا إلى المعارضة فلم يقدموا وندبوا الى المساجلة والمجاراة فأمسكوا وأحجموا وقرّعوا بقوارع التوبيخ والتقريع فركبوا خيول العجز واستلأموا فقامت الحجة عليهم بذلك وصحت المعجزة لديهم لحصول التحدي والعجز عن الاتيان بمثله ..

وأما الأعاجم ومن يجري مجراهم فلا تقوم عليهم بذلك حجة ، ولا تصح فيهم بذلك معجزة لأنهم معترفون أن الفصاحة ليست من شأنهم

٣٨٠