الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن وعلم البيان

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن وعلم البيان

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٠٧

القسم السابع

الفك والسبك

أما الفك فهو أن يفصل المصراع الأول من المصراع الثاني أو الفقرة الأولى من الفقرة الثانية ، أو الجملة الأولى من الجملة الثانية ، ولا تتعلق الثانية بشيء من معنى الأولى مثل قول زهير :

حيّ الدّيار التي لم يعفها القدم

بلى وغيرها الأرواح والديم

ومن ذلك قول المتنبي :

جللا كما بي فليك التبريح

أغذاء ذا الرّشإ الأغن الشيح

وهذا النوع منه في القرآن كثير ، فإنه يأتي بجملة أثر جملة ليس لها تعلق بالتي قبلها والنحاة يسمون ذلك الجمل المعترضة .. وأما السبك فهو أن تتعلق كلمات البيت أو الرسالة ، أو الخطبة بعضها ببعض من أوله إلى آخره ، ولهذا قيل خير الكلام المسبوك المحبوك الذي يأخذ بعضه برقاب بعض ، والقرآن العظيم آياته كلها كذلك فاعرفه.

٣٤١

القسم الثامن

الحل والعقد

وهو أن يأخذ لفظا منظوما أو منثورا فينظمه مع الاتفاق في المعنى .. وهذا القسم يختص بالإنشاء معروف بالكتّاب البلغاء الفصحاء ، وهو من أجلّ ما يمتّون به وأعظم ما يترفعون بسببه .. وفي القرآن العظيم من جنسه وهو ما ورد فيه من آية مجملة فسرتها آية أخرى أو مفسرة أجملتها آية أخرى فأشبه ذلك الحل والعقد .. وأكثر ما يقع هذا النوع في الشعر والرسائل ، فإن الشعر معقود والنثر يحلله والنثر محلول والشعر يعقده وللماهرين في صناعة الانشاء من هذا كثير ، ليس هذا موضع ذكره إذ ليس غرضنا في هذا الكتاب إلا اثبات ما وقع في الكتاب العزيز من فنون الفصاحة وعيون البلاغة ، وبدائع البديع ، أو ما يجري مجرى ذلك.

٣٤٢

القسم التاسع

الازدواج

وهو أن يزاوج بين الكلمات أو الجمل بكلام عذب وألفاظ حلوة .. ومثاله من الكتاب العزيز قوله تعالى : ( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ). وقوله تعالى : ( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ). وقوله تعالى : ( يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ ) ومثله قوله تعالى : ( وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً ) وقد جاء في الكلام الفصيح وأشعار العرب وغيرها مؤتلفا ومختلفا ، ويكون كلمة وكلمتين .. ومنه الحديث ـ إما محسنا فيزداد وأما مسيئا فيستعتب ـ .. ومنه قول الشاعر :

عتبت عليه فما أعتبا

وعنه اعتذرت وقد أذنبا

٣٤٣

القسم العاشر

تضمين المزدوج

وهو أن يقع في الفقرات لفظان مسجعان بعد مراعاة حدود الاسجاع والقوافي الأصلية كقوله تعالى : ( وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ) بعد مراعاة اللفظ في مقاطع الآي وهي ـ الغائبين ومبين ـ .. ومنه في الشعر والنثر كثير. فمن النثر قول بعض البلغاء : فلان رفع دعامة الجد والمجد باحسانه ، وبرّز بالجد والجد على أقرانه .. ومثاله من النظم قول الشاعر :

تعوّد رسم الوهب والنهب في العلا

وهذان وقت اللطف والعنف دابه

ففي اللطف أرزاق العباد هباته

وفي العنف أعمار العداة نهابه

٣٤٤

القسم الحادي عشر

التسجيع. والكلام عليه من وجوه

الأول : في أقسامه. الثاني : اختلاف العلماء في جواز استعماله وحظره. والثالث : في شرطه ، وما ينبغي أن يكون فيه.

الأول : قد اختلفت عبارات أرباب هذه الصناعة في التسجيع فقال قوم : هو على ثلاثة أقسام : المتوازي. والمتطرف. والمستحسن .. أما المتوازي فهو رعاية الكلمتين الأخيرتين في الوزن والرويّ. وذكر الرويّ في النثر توسعة في الكلام ، وإلاّ فالروي مخصوص بالشعر. مثاله من كتاب الله تعالى قوله عز وجل : ( فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ ) .. ومثاله من السنة النبوية قوله صلى الله عليه وسلم « اللهم اعط منفقا خلفا واعط ممسكا تلفا ».

وأما المتطرف فهو أن تتفق الكلمتان الاخيرتان في الحرف الأخير دون الوزن. مثاله من الكتاب العزيز قوله تعالى : ( ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً ) .. ومنه قول بعض البلغاء ـ جنابة محط الرحال ومجثم الآمال ..

وأما المتوازن فمثاله من الكتاب العزيز قوله تعالى : ( وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) وقال قوم هو على ثلاثة اقسام : قصير موجز. ومتوسط معجز. وطويل مفصح مبين للمعنى مبرز

٣٤٥

.. أما الاول وهو القصير فاعلم أن أقصر الفقرات القصار في السجع ما يكون من لفظين كقوله تعالى : ( وَالْعادِياتِ ضَبْحاً فَالْمُورِياتِ قَدْحاً فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً ). وقوله تعالى : ( وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً ). وأطول الفقرات القصار ما يكون من عشر لفظات وما بين هذين متوسط كقوله تعالى : ( وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى ). وقوله تعالى : ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ) .. وأقصر الطوال ما يكون من أحد عشر لفظة وأطولها غير مضبوط وكلما طالت الفقر زاد بيانها وافصاحها. وقد وقع في الفقر المطوّلة ما هو من عشرين لفظة فما حولها مثل قوله تعالى : ( إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ).

ومثاله فيما دون ذلك قوله تعالى : ( وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ) وقوله تعالى : ( لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) .. والفقرات المسجوعة إما أن تكون متساوية أو لا .. أما المتساوية ففي الاكثر إنما توجد في الفقرات القصار ، كما في قوله تعالى : ( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ).

وأما المختلفة فاختلافها إما أن يكون في فقرتين أو أكثر .. أما

٣٤٦

المختلفة في فقرتين فالأحسن أن تكون الثانية أزيد من الأولى ولا تزيد بقدر كثير كقوله تعالى : ( وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً ). وكذلك قوله تعالى : ( وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا ) .. وأما المختلف في أكثر من فقرتين فأحسنه أن تكون الفقرة الثالثة زائدة والأوليتان متساويتان أو الثانية منه أزيد يسيرا .. وأقل السجع حسنا ما يكون المتأخر من الفقرات أقل مما قبلها.

وأما الثاني : فقد اختلف أرباب علم البيان فيه. فمنهم من قال باستحسان السجع وفضله على الاسترسال في الكلام ورجحه .. ومنهم من كره السجع واقبحه ، واحتج على ذلك بأمرين : أحدهما اشتماله على الكلفة. والثاني قوله عليه الصلاة والسلام : « أسجعا كسجع الجاهلية » وكلا الحجتين فاسد .. أما الاولى فلأنه لم يخل شيء من الكلام من تكلف ما .. وأما الثانية فلأن الإنكار إنما كان لسجع مخصوص ، وهو ما قصد به ابطال حق أو تحقيق باطل ولو كان السجع قبيحا لاستحال وروده في القرآن .. والتسجيع وعدمه أسلوبان جرت عليهما ألسنة فصحاء العرب وخطبائهم يأتون بذلك بغير تكليف ولا تعسف .. وورد في القرآن العظيم آيات كثيرة خالية من السجع وآيات كثيرة مشحونة بالسجع ، وسورة الضحى ، والكوثر فاعرفه.

الثالث : قال علماء علم البيان الأسجاع موضوعة على ان تكون ساكنة الاعجاز موقوفا عليها ، لأن الغرض أن يجانس بين القرائن ويزاوج بينهما ولا يتم ذلك الاّ بالوقف ، ألا ترى أنك لو وصلت قوله : ما من عزّة إلا وإلى جنبها عزّة ، وقولهم ما أبعد ما فات ، وما أقرب ما هو آت لم يكن من اجراء كل الفقرات على ما يقتضيه حكم الاعراب ، فتكون

٣٤٧

قد عطلت عمل الساجع وقوة عزمه .. واذا رأيتهم يخرجون الكلم عن اوضاعها من الازدواج فيقولون أتيتك بالغدايا والعشايا. وهناني الطعام ومراني. وأخذه ما حدث وما قدم. وانصرفن مأزورات غير مأجورات. وقال عليه الصلاة والسلام « أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلال » مع أن فيه ارتكاب ما يخالف اللغة فما ظنك بهم في ذلك؟

٣٤٨

القسم الثاني عشر

الترصيع

وهت أن تكون ألفاظ الكلام مستوية الأوزان متفقة الاعجاز مثل قوله عز وجل : ( إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ). وقوله تعالى : ( إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ). وقوله تعالى : ( فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً ) وهو في كتاب الله كثير. ومنه في النثر كثير منه قول الحريري وهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه ، ويقرع الاسماع بزواجر وعظه .. وهو في الشعر كثير منه قول ابي فراس :

وأفعاله للراغبين كريمة

وأمواله للطالبين نهاب

وقول آخر :

ثمانية لم تفترق مذ جمعتها

فلا افترقت ما ذبّ عن ناظر شفر

يقينك والتقوى وجودك والغنى

ولفظك والمعنى وحربك والنّصر

ومنه قول أبي الورد :

يروح إليهم عازب الحمد وافيا

ويغدو إليهم طالب الرّفد عافيا

وقد يجيء مع التجنيس كقولهم إذا قلت الانصار كلّت الابصار ، وما وراء الخلق الدّميم إلا الخلق الذميم .. وقول المطرزي :

وزند ندا فواضله وريّ

ورند ربا فضائله نضير

ودرّ جلاله أبدا ثمين

ودرّنوا له أبدا غزير

٣٤٩

القسم الثالث عشر

التسميط

وهو على قسمين :

الأول : أن يكون في صدر الكلام أو الرسالة ، أو البيت أبيات مشطورة أو منهوكة مقفاة ، ثم يجمعها قافية مخالفة لازمة للقصيدة حتى تنقضي أو رسالة حتى تنتهي ، فتصير كالسمط الذي احتوى على جواهر متشاكلة. ومنه قوله تعالى : ( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ) إلى قوله : ( عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ ) وقوله تعالى : ( فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ ). وقوله تعالى : ( إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ ) إلى قوله : ( عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ) وقوله تعالى : ( إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ ). وقوله تعالى : ( الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ ). ومثله في القرآن كثير. ومنه قول امرئ القيس :

ومستلئم كشفت بالرمح ذيله

أقمت بعضب ذي شقاشق ميله

فجعت به في ملتقى الحرب خيله

تركت عتاق الطير يحجلن حوله

كأنّ على سرباله نضح جريال

ـ وكقول الآخر :

٣٥٠

حلو شمائله تندى أنامله

إن جاء سائله أعناه نائله

حتى يروح له ما شاء من مال

القسم الثاني : أن يصير كل بيت أربعة أقسام كقول جنوب الهذيلية :

وجرد وردت

وثغر سددت

وعلج شددت

عليه الحمالا

ومال حويت

وخيل حميت

وضيف قريت

يخاف الوكالا

ـ وقد أبدع الحريري في التوشيح بقصيدته التي أولها :

خلّ ادّكار الأربع

والمعهد المرتبع

وعدّ عنه ودع

والظاعن المودّع

واندب زمانا سلفا

سوّدت فيه الصحفا

على القبيح الشنع

ولم تزل معتكفا

ـ ومن بديع التسميط أيضا قوله في قصيدته التي يقول فيها :

وإن لاح لك النقش

من الأصفر تهتشّ

تغاممت ولا غمّ

وإن مرّ بك النعش

ستذري الدم الدّمع

إذا عاينت لا جمع

ولا خال ولا عمّ

يقي في عرصة الجمع

جعل قصيدته كلها على هذا المنوال :

٣٥١

القسم الرابع عشر

التجزي

وهو أن يكون الكلام مجزأ ثلاثة أجزاء أو أربعة أجزاء. مثال الثلاثة أجزاء من الكتاب العزيز قوله تعالى : ( إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) .. ومثال الاربعة قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام يعظ أباه بقوله : ( يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا ) وفي القرآن منه كثير .. ومنه قول ابن المعتز في الثلاثة :

عجبا لمنصلك المقلد كيف لم

تسل الدماء عليك منه سيولا

لك حسنة متقلدا وبهاؤه

متنكبا ومضاؤه مسلولا

ـ ومثال الأربعة الاجزاء قول المتنبي :

فنحن في جدل والروم في وجل

والبحر في خجل والبرّ في شغل

ـ ومنه قول ابن المقري :

٣٥٢

إذا صلدوا أورى وإن عجّلوا ارتأى

وإن بخلوا أعطى وإن غدروا وفّى

فللجود ما أبقى وللمجد ما ابتنى

وللنّاس ما أبدى ولله ما أخفى

٣٥٣

القسم الخامس عشر

في التوشيح

التوشيح أن تكون ذيول الأبيات ذات قافيتين على بحرين أو ضربين من بحر واحد ، فعلى أي القافيتين وقفت كان شعرا مستقيما كقوله :

اسلم ودمت على الحوادث

مارسا ركنا ثبير أو هضاب حراء

ونل المراد منها ممكنا على

رغم الدّهور وفز بطول بقاء

قافيتهما على ثاني قافية من ثاني الكامل ، وعلى الأول من سادسه .. وأما ما هو من بحر واحد ، وقد يسمى هذا النوع المتلوّن وذكره الزنجاني وأنشد فيه :

أبنيّ لا تظلم بمكّة لا الصغير ولا الكبير

ولا الفقير البائس

وقال ان قيدته كان من سابع الكامل ، وان أطلقته كان من سادسه. وهذا النوع في القرآن العظيم ما يشبهه ، وهو ما ورد في الآيات من الوقف الكافي والتمام إن وقفت على الوقف الكافي كان حسنا ، وإن وقفت على التمام كان أجود كقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) ان وقفت على ـ من قبلك ـ كان وقفا حسنا ، وإن وقفت على ـ يوقنون ـ كان أحسن وهو تمام ، وكذلك كل ما أشبهه.

٣٥٤

القسم السادس عشر

براعة المطلب وحسن التوسل

وهو أن تكون ألفاظ المطلب مهذبة مقترنة بتعظيم الممدوح كقوله تعالى : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ). وكقوله تعالى في قصة نوح عليه الصلاة والسلام : ( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ ). وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام : ( رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ ) إلى قوله : ( لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ). وقوله تعالى حكاية عن يوسف عليه الصلاة والسلام : ( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ) إلى قوله : ( وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ). وقوله تعالى حكاية عن هارون عليه‌السلام : ( قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي ) إلى قوله : ( الظَّالِمِينَ ). وقوله تعالى حكاية عن يونس عليه الصلاة والسلام : ( فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ).

وقوله تعالى حكاية عن عيسى عليه الصلاة والسلام : ( وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ) إلى قوله : ( فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ). وقوله تعالى فيما حكاه رسوله عليه الصلاة والسلام عن عباده المؤمنين : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) إلى قوله : ( فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ) .. وجاء من

٣٥٥

هذا النوع في الشعر كثير منه قول المتنبي :

وفي النفس حاجات وفيك فطانة

سكوتي بيان عندها وخطاب

٣٥٦

القسم السابع عشر

المخالفة

اعلم أن المخالفة هو الخروج عن مذهب الشعراء ، وترك الاقتداء بآثارهم مثل قول نصيب :

طرقتك صائدة القلوب وليس ذا

وقت الزّيارة فارجعي بسلام

وليس من المعهود رد المحبوب على عقبه إذا زار .. ومثل قول ابن عتيق :

جعل الندّ والألوة والمسك أصيلا لها على الكافور

ـ ومعلوم أن الزنج على نتن رائحتهم لو تطيبوا ببعض هذا الطيب ، لطابت رائحتهم ، وإنما الحسن الجيد قول امرئ القيس :

ألم تر أني كلما جئت نحوها

وجدت بها طيبا وإن لم تطيّب

ـ ومن ذلك قول امرئ القيس :

أغرّك مني أنّ حبّك قاتلي

وأنّك مهما تأمري القلب يفعل

وهذا مخالف للمعتاد لأن فيه توعدا للمحبوب والمحب لا يتوعد محبوبه .. وكذلك قوله :

٣٥٧

وإن تك قد ساءتك مني خليقة

فسلّي ثيابي من ثيابك تنسلي

ـ والقرآن العظيم كله مخالف لأساليب الشعر ، وقوانين النظم والنثر التي يستعملها الناظمون والناثرون. ولهذا قال الغفاري : لقد عرضته على إقراء الشعر فلم يلتئم فإنه ليس بالشعر.

٣٥٨

القسم الثامن عشر

لزوم ما لا يلزم

ويسمى التضييق والتشديد والإعنات ، وهو التزام أن يكون ما قبل القافية حرفا معينا كما في قوله تعالى : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ). وقوله تعالى : ( وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ ). وقوله تعالى : ( فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ). وقوله تعالى : ( فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ ). وهو في القرآن كثير .. وجاء في الحماسة :

إنّ التي زعمت فؤادك ملّها

خلقت هواك كما خلقت هوى لها

بيضاء باكرها النعيم فصاغها

بلباقة فأدقّها وأجلّها

حجبت تحيتها فقلت لصاحبي

ما كان أكثرها لنا وأقلّها

وإذا وجدت لها وساوس سلوة

شفع الضمير إلى الفؤاد فسلّها

ـ وكذلك قول كثير عزّة في أبيات له :

خليليّ هذا رسم عزّة فاعقلا

قلوصيكما ثم انزلا حيث حلت

فكانت لقطع الحبل بيني وبينها

كناذرة نذرا فأوفت وحلّت

ـ وقول المعري :

٣٥٩

لا تطلبنّ بغير جدّ حاجة

قلم البليغ بغير جدّ معزل

سكن السّما كان السماء كلاها

هذا له رمح وهذا أعزل

وفي هذا القرآن العظيم من هذا النوع كثير .. ومن ذلك قوله تعالى : ( وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ) لزم الياء والدال في أكثر هذه السورة. وقوله تعالى : ( هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ). إلى قوله : ( يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً ) التزم قافية توافق قافية .. ومن ذلك قوله تعالى : ( أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ) والقرآن مشحون بهذا .. وهذا النوع أتى في القرآن عفوا من غير قصد ، وربما وقع في أقوال فصحاء العرب من غير قصد ، والمتأخرون يقصدون ذلك ويتكلفون في استعماله.

ليس التكحّل في العينين كالكحل

٣٦٠