الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن وعلم البيان

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن وعلم البيان

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٠٧

خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً ). وقوله تعالى : ( حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ ). وقوله تعالى : ( قاصِراتُ الطَّرْفِ ) الآية. وفي القرآن العظيم كثير.

٣٢١

القسم الموفي ثمانين

الاستدراج

قال ابن الاثير وهو التوصل إلى حصول الغرض من المخاطب والملاطفة له في بلوغ المعنى المقصود من حيث لا يشعر به. وفي ذلك من الغرائب والدقائق ما يؤنق السامع ويطربه ، لأن بناء صناعة التأليف عليه ومنشأها .. ومن هذا الباب قوله تعالى : ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ) إلى قوله : ( فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا ) هذا الكلام يهز أعطاف السامعين ، ويبهج نفوس المتأملين ، فعليك أيها المترشح لهذه الصناعة امعان النظر في مطلوبه ، وترداد الفكر في اثنائه واتخاذه قدوة لك ونهجا تعتقبه ، ألا ترى حين أراد إبراهيم النظر في مطلوبه ، وترداد الفكر في اثنائه واتخاذه قدوة لك ونهجا تعتقبه ، ألا ترى حين أراد إبراهيم أن ينصح أباه ويعظه فيما كانت متورطا فيه من الخطأ العظيم الذي عصي به أمر العقل ، كيف رتب الكلام معه في أحسن سياق وانتظام مع استعمال المجاملة واللطف واللين والأدب الجميل ، والخلق الحسن مستصحبا في ذلك نصيحته وذلك انه طلب منه أولا نقله عن خطيئته طلب منبه على تماديه موقظ له من إفراطه وقلة تناهيه ، لأن المعبود لو كان حيا مميزا سميعا بصيرا مقدرا على الثواب والعقاب إلا أنه بعض الخلق لا يشك في نقص عقل من أهله للعبادة ووصفه بالربوبية ، ولو كان أشرف الخلق كالملائكة

٣٢٢

والنبيين ، فكيف بمن جعل المعبود جمادا لا يسمع ولا يبصر؟ ثم ثنى ذلك بدعوته إلى الحق مترفقا به ومتطلفا فلم يتهم أباه بالجهل المطلق ولا نفسه بالعلم الفائق ، ولكن قال : إن معي لطائف وشيئا منه ، وذلك علم الدلالة على الطريق السويّ ، فلا تستنكف وهي أني وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك فاتّبعني أنجّك من أن تضل فتنبه ثم ثلّث بتنشيطه ونهيه عما كان عليه بأن الشيطان الذي استعصى على ربك الرحمن الذي جميع ما عندك من النعم من عنده وهو عدوّك وعدوّ أبيك آدم هو الذي ورّطك في هذه الورطة وألقاك في هذه الضلالة ، إلا أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لامعانه في الخلاص لم يذكر من جناية الشيطان إلا الذي يختص منها بالله عز وجل وهي عصيانه واستكباره ، ولم يلتفت الى ذكر معاداته لآدم وبنيه ، ثم ربع ذلك بتخويفه سوء العاقبة ، وما ينتج عليه من الوبال ولم يخل هذا الكلام من حسن أدب حيث لم يصرح بالعقاب اللاحق بأبيه ، ولكنه قال ـ اني أخاف أن يمسّك عذاب من الرحمن ـ فذكر الخوف والمس اعظاما لهما وترك العقاب وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه أكثر من العذاب ، وصدر كل نصيحة من النصائح الأربع بقوله ـ يا أبت ـ توسلا إليه واستعطافا فقال له في الجواب : ( أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ) ألا ترى كيف أقبل عليه الشيخ بفظاظة الكفر وغلظ العناد فناداه باسمه ، ولم يقابل قول ـ يا أبت ـ بيا بني وقدم الخبر على المبتدأ في قوله ـ أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ـ لأنه كان أهم عنده وفيه ضرب من التعجب والإنكار لرغبة إبراهيم عن آلهته وأن آلهته لا ينبغي أن يرغب أحد عنها ، ومن هذا الباب قوله تعالى : ( وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ ) إلى قوله : ( إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) ألا ترى ما أحسن مأخذ هذا الكلام وألطف مغزاه ، فإنه أخذهم

٣٢٣

بالاحتجاج على طريقة التقسيم ، فقال لا يخلو هذا الرجل من أن يكون كاذبا فكذبه يعود عليه ولا يتخطاه ، وإن كان صادقا فيصيبكم بعض الذي يعدكم إن تعرضتم له. وفي هذا الكلام من حسن الأدب والإنصاف ما أذكره لك أيها المتأمل وأقول : إنما قال : يصبكم بعض الذي يعدكم ، وقد علم أنه نبي صادق ، وإن كل ما يعدهم به لا بد من أن يصيبهم لا بعضه ، ولأنه احتاج مع أدلة خصم موسى أن يسلك معهم طريق الإنصاف والملاطفة في القول ، ويأتيهم من جهة المناصحة ، فجاء بما علم أنه أقرب إلى تسليمهم لقوله : وأدخل في تصديقهم له وقبولهم منه فقال : وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم وهو كلام المنصف في مقابلة خصمه غير المشتط فيه ، وذلك حين وصفه الله بكونه صادقا فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يقر به ، لكنه أردفه بقوله : ( يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ) ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافيا فضلا من أن يتعصب له ، وتقديم الكاذب على الصادق من هذا القبيل ، وكذا قوله : ( إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) أي لو كان مسرفا كذابا لما هداه الله بالنبوة ولا عضده بالبينات ، فتبين أيّها المتأمل لهذه الدقائق اللطيفة الصنع تدل على التيقظ في صناعة التأليف.

٣٢٤

القسم الحادي والثمانون

خذلان المخاطب

وهو الأمر بعكس المزاد ويدل ذلك على الاستهانة بالمأمور وقلة المبالاة بأمره أي انا مقابلك على فعلك ومجازيك بحسبه. فمن ذلك قوله تعالى : ( وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ ). فقوله ـ قل تمتع بكفرك ـ من باب الخذلان كأنه قال له إذ قد أبيت ما أمرت به من الإيمان والطاعة فمن حقك ان لا تؤمر به بعد ذلك ونأمرك بتركه. وهذا مبالغة في خذلانه ، لأن المبالغة في الخذلان أشد من أن يبعث على ضدّ ما أمر به .. ومن هذا الباب قوله تعالى : ( قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ) فإن المراد بهذا الأمر الوارد على وجه التخيير المبالغة في الخذلان على ما سبق ذكره. وفي هذا الكلام معنيان لطيفان الأول أي أن عبادتكم لله وعبادتكم لغيره إنما تنفع أو تضر لكم لا لسواكم فالله تعالى مستغن عن عبادتكم له. الثاني : توعده لهم بالمقابلة على فعلهم من غير تصريح بالوعيد ، وذلك أبلغ من الإصراح به لوقوع الموعود في حيرة من أمره ، وترامي وهمه عند ذلك إلى كل خطب عظيم من المجازاة والمقابلة ، كقولك لمن عصاك افعل ما شئت أي إني مقابلك عليه. وهذا نوع من علم البيان شريف.

٣٢٥

القسم الثاني والثمانون

التعليق والإدماج

وهو أن يدمج مدحا بمدح أو هجوا بهجو ، أو معنى بمعنى كما قال المتنبي :

إلى كم تردّ الرّسل عما أتوا به

كأنهم فيما وهبت ملام

أدمج رد الرسل برد اللوم ، وكلاهما مدح .. وقوله أيضا :

حسن في وجوه أعدائه

أقبح من ضيفه رأته السّوام

أدمج الحسن مع القبح وكلاهما مدح وصفه بالكلام ، لأن ابله إذا رأت ضيفه علمت أنه ينحرها له ، وقد سمى العسكري هذا النوع في كتاب الصناعتين له المضاعف ، وأنشد فيه :

وأسرعت نحوك لما دعو

ت كأني نوالك في سرعته

ـ ومثله في وجيه الدولة :

وبات أسعدنا حظّا بصاحبه

من كان في الحبّ أشقانا بصاحبه

وقاعدة هذا الباب أن يكون أحد المعنيين تلويحا والآخر تصريحا. وفي القرآن العظيم من هذا النوع كثير.

٣٢٦

القسم الثالث والثمانون

الاستخدام

وهو أن تكون الكلمة لها معنيان فيحتاج إليهما فيذكرها وحدها فيستخدم المعنيين كما قال الله تبارك وتعالى : ( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) والصلاة هاهنا يحتمل ان تكون فعل الصلاة ، أو موضع الصلاة فاستخدم الصلاة بلفظ واحد ، لأنه قال سبحانه : ( إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ ) فدل على أنه أراد موضع الصلاة. وقال تعالى : ( حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) فدل على أنه أراد فعل الصلاة .. وأنشد للبحتري :

فسقى الغضا والساكنيه وإن هم

شبّوه بين جوانح وقلوب

ـ الغضا ـ يحتمل أن يكون الموضع ، ويحتمل أن يكون الشجر فاستخدم المعنيين به ـ والساكنيه ـ أراد المكان والشجر بقوله ـ وإن هم شبوه ـ ومن ذلك لبعض العرب :

إذا نزل السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

ـ والسماء ـ يحتمل معنيين المطر والنبات فاستخدم المعنيين بقوله ـ إذا نزل ـ يعني المطر ـ رعيناه ـ يعني النبات .. وكما قال الشيخ أبو العلاء :

( وفقيه أفكاره شدن للنعمان ما لم يشده شعر زياد )

يحتمل معنيين : أحدهما أن يكون النعمان بن المنذر الملك ،

٣٢٧

والآخر أن يكون النعمان بن ثابت الفقيه ، فاستخدم المعنيين بلفظ واحد فقال ـ شدن للنعمان ـ يعني أبا حنيفة رضي‌الله‌عنه وقال ـ شعر زياد ـ يعني النعمان بن المنذر ، لأن زيادا هو النابغة مدح النعمان .. وكما قال أبو تمام :

وإذا مشت تركت بصدرك ضعف ما

بحليّها من شدّة الوسواس

لأن ـ الوسواس ـ يحتمل معنيين وهو بلابل الصدر ، وصوت الحليّ فاستخدم المعنيين بقوله : ـ تركت بصدرك ـ يعني البلابل وبقوله ـ ضعف ما بحليها ـ يعني صوت الحلي .. ومنه :

اسم من ملّني ومن صدّ عني

وجفاني لغير ذنب وجرم

والذي ضنّ بالوصال علينا

مثل ما ضنّ بالهوى قلب نعم

هذا استخدام في الاعراب ، لأن قلب مرفوع بالخبر فاعل ضن وهو أيضا استخدام في المعنى ، لأنها بمعنى قلب من المقلوب ، لأن الاسم ـ معن ـ فهو معكوس ـ نعم ـ فاعرفه. ومنه في الكتاب العزيز كثير من ذلك قوله تعالى : ( وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ) يحتمل أن يكون أراد ـ وراءهم ـ أي في طلبهم ويحتمل أن يكون أراد أمامهم. ومن ذلك قوله تعالى : ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) ـ والقرء ـ الحيض والقرء أيضا الطهر ، واللفظ يحتمل المعنيين فاعرفه.

٣٢٨

القسم الرابع والثمانون

التفقير

وهو أن يأتي في البيت ذكر نكتة ، أو بيت أو رسالة أو خطبة ، أو غير ذلك فيومئ إليها الشاعر ، أو الناثر مثل قوله تعالى : ( فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ ) فإن امرأ القيس أومأ إليه بقوله :

من القاصرات الطّرف لو دبّ محول

من الذّرّ فوق الأنف منها لأثرا

ـ ومنه قول الآخر :

ألوم زيادا في ركاكة رأيه

وفي قوله أيّ الرّجال المهذّب

وهل يحسن التهذيب منك خلائقا

أرقّ من الماء الزّلال وأطيب

٣٢٩

الفن الثاني

ما يتعلق بالألفاظ من الفصاحة كما أن ما يتعلق بالمعاني من البلاغة ، ولهذا قيل معنى بليغ ولفظ فصيح يقال أفصح الأعجمي وفصح اللحان. وهذا الفن يسمى أيضا البديع. والبديع علم يبحث فيه عن أحوال اللفظ المؤلف من حيث لا يمكن أن يؤتى به إلابحسن انتظام وهو ينقسم إلى أقسام :

الأول التهذيب :

وهو تخليص الألفاظ من ثقل العجمية ، وهجنة الحوشية ، وفظاظة النبطية ، وأن يترك الكلام عذب المساق حسن الاتساق قريبا من فهم السامع عذب المساغ في اللهوات والمسامع يدخل الأذن بغير إذن ويتصور معناه في العقل بدقيق التدبر ولطيف التفكر. والقرآن العظيم كله من أوله الى آخره على هذه المثابة غير ما فيه من المتشابه ، فإنه يحتاج إلى الإمعان في التذكر ، وترديد التدبر ، وذلك أيضا على غاية ما يكون من الحسن ، فكل في بابه قد استوفى بديع نصابه قد بسقت اشجاره وعذبت ثماره واتسقت ألفاظه ، واستحكمت معانيه ، وحسن رونقه ، وعظمت حلاوته وطلاوته ، لا تمله الأسماع مع كثرة ترداده ، ولا تنفر منه الطباع مع ابراقه وإرعاده ، بل هو الذي أحكمت آياته وفصلت وكملت

٣٣٠

معانيه في ألفاظه ، وحصلت وأحكمت أحكامه ، وأصلت فهو كما قال الله تعالى : ( كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ ) قد سلم من حوشي الألفاظ ورذلها ، وتخلص من فظاظة العجمة وثقلها ، وكل كلمة منه حلت محلها وقرنت بمثلها فهو كما قال البحتري :

وإذا دجت أقلامه ثم انتحت

برقت مصابيح الدّجى في كتبه

فاللفظ يقرب فهمه في بعده

منّا ويبعد نيله في قربه

حكم سحائبها خلال بنانه

هطالة وقليبها في قلبه

كالروض مؤتلفا بحمرة نوره

وبياض زهرته وخضرة عشبه

وكأنها والسمع معقود بها

شخص الحبيب بدا لعين محبه

وهذه الأبيات من أحسن ما قيل من التهذيب ، وأبلغ ما نظم في التنقيح والترتيب ويتعين على كل ناظم وناثر أن لا يملي قصيدة ، أو رسالة أو خطبة حتى يتلمحها بعين بصيرته. ويقدح لها زناد فكرته وقريحته ويهذب ألفاظها ويحقق معانيها ، ويحسن مساغها ويؤسس مبانيها كما قيل :

لا تعرضنّ على الرواة قصيدة

ما لم تبالغ قبل في تهذيبها

فإذا عرضت الشعر غير مهذّب

عدّوه مثل وساوس تهذي بها

٣٣١

القسم الثاني

الانسجام :

وهو أن يأتي الكلام سهل المساق عذب المذاق ، حسن الاتساق منحدرا في الأسماع كتحدر الماء المنسجم حتى يكون للجملة من المنثور ، والبيت من الموزون موقعا في النفوس وعذوبة في القلوب ما ليس لغيره مع بعده من التصنع ، وأكثر ما يقع غير مقصود كمثل الكلام الموزون الذي تأتي به الفصاحة في ضمن النثر عفوا كانصاف أبيات وقعت في أثناء الكتاب العزيز ، وفي السنة. وقد وقع من ذلك كثير في الخطب والرسائل ومن (١) أن يكون بيتا أو نصف بيت. وقد وقع في غير القرآن بيتان فصاعدا وليس بشعر وإن لم يقصد. فأما القرآن العزيز فلم يقع فيه من ذلك إلاّ مثل البيت الواحد أو النصف والبيت المفرد لا يسمى شعرا ، وأيضا فإن الشعر إنما سمي شعرا لكونهم شعروا به أي فطنوا. وهذا إنما جاء عفوا في درج الكلام .. فمما ورد من ذلك في القرآن العزيز قوله تعالى : ( وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ ) فوافق هذا في درج الكلام قول امرئ القيس :

امرؤ القيس رهين

مولع بالفتيات

__________________

(١) كذا في الاصل.

٣٣٢

مكرم الضيف بلحم

وشحوم البكرات

في جفان كالجواب

وقدور راسيات

ـ وقد قال بعض أهل العلم بالعروض ان الذي في القرآن من ذلك ليس بمتزن ، ولا موافق لبحر بيت امرئ القيس وهو صحيح .. ومن ذلك قوله تعالى : ( إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ). وقوله عز وجل : ( نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ). وقوله تعالى : ( لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) والتلاوة أيضا لا تستقيم على الوزن إنما الوزن يكون على تحبوا دون النون كما قال بعض الشعراء :

لن تنالوا البرّ حتى

تنفقوا مما تحبوا

وقد جوّز الحذاق الماهرون بأوزان القريض العالمون بضروبه واجزائه وتقطيعه هذه الأبيات ، فلم يجدوها موزونة ، بل مباينة لأوزان الشعر ، إما بزيادة أو نقصان ، ولو لا خشية التطويل لبينت ذلك.

٣٣٣

القسم الثالث

الاشتقاق ويسميه بعضهم الاقتضاب أيضا

وهو من باب التجنيس ، وإن عدّ أصلا برأسه

وهو أن يجيء بألفاظ يجمعها أصل واحد في اللغة كقوله تعالى : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ ) .. وقول أبي تمام :

عممت الخلق من نعماك حتى

غدا الثقلان منها مثقلان

قال المصنف عفا الله عنه : هذا الباب أولى بأن يكون من أجناس التجنيس ، والآية التي استشهد بها هي من التجنيس المغاير ، والبيت الذي استشهد به من التجنيس المماثل. وسنذكر أجناس التجنيس وأقسامه في فصل مفرد بعد ان شاء الله تعالى .. ومما يشبه هذا النوع وليس منه ويسمى المشابهة قوله تعالى : ( إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ ) .. وقول البحتري :

وإذا ما رياح جودك هبّت

صار قول العداة فيها هباء

ذكره الزنجاني في تكلمته ..

قال ابن الاثير : الاشتقاق على قسمين : صغير. وكبير. فالصغير أن تأخذ أصلا من الأصول فتجمع بين معانيه ، وإن اختلفت صيغه ومبانيه كتركيب س ل م فإنك تأخذ معنى السلامة في تصرفه ، نحو سلم وسالم وسلمان وسليم والسليم للديغ أطلق عليه ذلك تفاؤلا بسلامته. وعلى

٣٣٤

هذا جاء غيره من الأصول كقولنا هشمتك هاشم وحاربك محارب ، وسالمك سالم وأصاب الأرض صيّب لأن الصيب هو المطر الذي يشتد صوته ووقعه على الأرض. وأمثال ذلك كثير .. ولهذا الضرب من الكلام رونق لا يخفى على العارف بهذه الصناعة .. فمما جاء منه قول بعضهم :

أمحلّتي سلمى بكاظمة أسلما

ـ وكذلك قول الآخر وهو جرير بن عطية :

وما زال معقولا عقال عن الندا

وما زال محبوسا عن الخير حابس

ـ وقال غيره :

إنّ قومي لهم جداد الجديد

وشكي إلى بعض الخلفاء جور عامل له وسئل أن يكتب إليه كتابا فقال ما ترك فضة إلاّ فضها ولا ذهبا إلاّ أذهبه ، ولا غنيمة إلاّ غنمها ، ولا مالا الاّ مال عليه فأي شيء بعد يكتب اليه. وأمثال هذا كثير فاعرفها .. قال ابن الأثير ، وأما الاشتقاق الكبير فهو أن تأخذ أصلا من الأصول فتعقد عليه وعلى تراكيبه معنى واحدا يجمع تلك التراكيب ، وما تصرّف منها ، وإن تباعد شيء من ذلك ردّ بلفظ الصيغة والتأويل اليها كما يفعل الاشتقاقيون. ولنضرب لذلك مثلا فنقول ان لفظة ق ر م من الثلاثي لها ستة تراكيب وهي قرم. قمر. رمق. رقم. مقر. مرق. فهذه التراكيب الستة يجمعها معنى واحد وهو القوة والشدة ـ والقرم ـ شدة شهوة اللحم ـ وقمر ـ الرجل إذا غلب من يقامره ـ والرقم ـ الداهية وهي الشدة التي تلحق الانسان من أمره وعيش ـ مرمق ـ أي ضيق وذلك نوع من الشدة أيضا ـ والمقر ـ شبه الصبر يقال أمقر الشيء إذا أمرّ وفي ذلك شدة على الذائق وكراهة ـ ومرق ـ السهم إذا نفذ من الرمية ، وذلك لشدة مضائه وقوته .. واعلم أنه إذا سقط من تركيب الكلمة شيء فجائز ذلك في

٣٣٥

الاشتقاق ، لأن الاشتقاق ليس من شرطه كمال تراكيب الكلمة ، بل من شرطه أن الكلمة كيف تقلبت بها تراكيبها من تقديم حروفها وتأخيرها أدّت الى معنى واحد يجمعها .. فمثال ما سقط من تركيب الثلاثي لفظة وس ق فإن لها خمسة تراكيب وهي : وس ق. وق س. س وق. ق س و. ق وس. وسقط من جملة التركيب قسم واحد وهو س ق وو جميع هذه الكلمة تدل على القوة والشدة ـ فالوسق ـ من قولهم استوسق الامر أي اجتمع وقوى ـ والوقس ـ ابتداء الحرب وفي ذلك شدة على من يصيبه ـ والسوق ـ متابعة السير ، وفي هذا عناء وشدة على السائق والمسوق ـ والقسوة ـ شدة القلب وغلظه ـ والقوس ـ معروف وفيه نوع من الشدة والقوة لسرعة السهم واخراجه إلى ذلك الرمي المتباعد .. واعلم أنا لا ندعي أن هذا يطّرد في جميع اللغة ، بل قد جاء شيء منها كذلك ، وهذا مما يدل على متانتها وحكمها لأن الكلمة الواحدة تتقلب على ضروب من التقاليب ، وهي مع ذلك دالة على معنى واحد ، وهذا من أعجب الأمور التي توجد في لغة العرب وأعذبها فاعرفه.

٣٣٦

القسم الرابع

الجزالة والرذالة

أما الجزالة فقد تقدم الكلام عليها والقرآن العظيم من وجوه اعجازه جزالة ألفاظه ، وهو من أوله إلى آخره لابس حلل الجزالة والفصاحة ، سالم من الرذالة والفظاعة .. وأما الرذالة فهي في غير القرآن ، فمنها في المنظوم والمنثور كثير .. اما المنظوم فمثل قول بعض العرب :

زياد بن عين عينه تحت حاجبه

واسنانه بيض وقد طرّ شاربه

ومثله ما أنشد سيبويه في كتابه :

إذا ما الخبر تأدمه بلحم

فذاك أمانة الله الثريد

ـ ومثل قول أبي العتاهية :

مات الخليفة أيّها الثقلان

فكأنني أفطرت في رمضان

وأما النثر فمثل قولهم ـ فلان لئيم الخيم كأنّ كفه ميم ، وكأن عقله جيم ، إن واصلته منع وان أعطيته قطع ـ والقرآن العظيم أجلّ وأعظم من أن يكون فيه شيء من ذلك ، او يماثله.

٣٣٧

القسم الخامس

السهل الممتنع

وهو الذي يظن من سمعه لسهولة ألفاظه ، وعذوبة معانيه أنه قادر على الاتيان بمثله ، فإذا أراد الاتيان بمثله عزّ عليه مثاله ، وامتنع عن طالب معارضته ، فلا يناله والقرآن العظيم كله على هذا المنوال خلا ما فيه من المتشابه والحروف التي في أوائل السور ، فإذا فسرت كانت كذلك. ومنه في السنة كثير .. من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم ـ تنكح المرأة لجمالها ومالها وحسبها عليك بذات الدين تربت يداك » ـ. وقوله صلى الله عليه وسلم ـ « إياكم وخضراء الدّمن قالوا وما خضراء الدّمن؟ قال المرأة الحسناء في المنبت السّوء ». وقوله صلى الله عليه وسلم ـ « المعدة بيت الدّاء والحمية رأس كل دواء وعوّدوا كل جسد ما اعتاد » ـ وقوله صلى الله عليه وسلم. ـ » الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ظهورها عزّ وبطونها كنز » ـ. وأما في النثر والنظم فقليل مثاله في النثر قول العماد الكاتب ـ ولو جعل الله حظه من الذهب كحظه من الادب لاستجدى من سعته قارون واستعان بفصاحته هارون ـ .. ومنه في الشعر مثل قول مروان بن أبي حفصة :

بنو مطر يوم اللّقاء كأنّهم

أسود لها من غيل خفان أشبل

هم يمنعون الجار حتّى كأنّما

لجارهم بين السماكين منزل

هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا

أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا

٣٣٨

بها ليل في الإسلام سادوا ولم يكن

كأوّلهم في الجاهلية أول

ولا يستطيع الفاعلون فعالهم

وإن أحسنوا في النائبات وأجملوا

تلاث بامثال الجبال حباهم

وأحلامهم منها لدى الوزن أثقل

٣٣٩

القسم السادس

الرشاقة والجهامة

فأما الرشاقة فقد ذكرناها آنفا ، وفي القرآن العظيم منه كثير .. وأما الجهامة فليس في القرآن منها شيء فإن الجهامة لا تكون إلا عن غلظ طبع وشدة حصر ، ولكن والقرآن العظيم منزه عن ذلك.

٣٤٠