الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن وعلم البيان

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن وعلم البيان

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٠٧

القسم الثامن والستون

الاقتضاء

وهو طلب الموعود بالوعد السالف. وهو على ضربين : حسن وخشن. فالحسن مرغوب فيه ، لأنه يحصل المقصود وينجز الموعود .. وأما المذموم فهو سبب الحرمان وحسم لمادة الاحسان. وقد وقع منه في الكتاب العزيز القسمان .. أما الحسن فمثل قوله تعالى : ( رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ ). وقوله تعالى : ( قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ ). وقوله تبارك وتعالى : ( رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ) استنجزوا وعده الكريم وهو قوله تعالى : ( وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) .. وأما الخشن فورد منه في القرآن كثير أيضا. فمنه قوله تعالى : ( وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ) الآية. وقوله تعالى : ( وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ ). وقوله تبارك وتعالى : ( فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ). وفي الشعر منه كثير :

٣٠١

القسم التاسع والستون

التذكير

وهو التنبيه لمن غفل أو سهى عن شكر نعمة أسديت إليه ، ومنن أزلفت لديه نسيها أو تناساها لتقوم عليه حجة المنعم ، وليوقظ من نوم غفلته في ليل نسيانه أو تناسيه المظلم. وفي الكتاب العزيز منه كثير من ذلك قوله تعالى : ( يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ. اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ ). وقوله تعالى : ( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ) ومعناه لعله يتذكر سترنا له وانعامنا عليه في أمر النيل إذ تضرع الينا ، فأجرينا له النيل لما التمس قومه منه إجراء النيل ، أو يخشى انتقامنا منه في الدنيا بالغرق وفي الآخرة بالنار والحرق .. والفرق بين الاقتضاء والتذكير أن التقاضي لاستبعاد حصول المطلوب لطول مدة انتظار المرغوب. والتذكار إنما يكون عن غفلة أو نسيان كقول بعضهم :

جئتك للأذكار مستحرضا

لا لتقاضيك وحوشيتا

ولست بالمهمل لكنّما

لكثرة الأشغال أنسيتا

٣٠٢

القسم الموفي السبعين

الوعد والوعيد

أما الوعد فهو اطماع بإحسان في المستقبل ، وهو على قسمين متحقق الوقوع ، وهو وعد الله سبحانه وتعالى لقوله تعالى : ( وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ ). وقوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ ) ووعد مرجو وقوعه ، وهو وعد العباد. والوعد يكون في الخير والشر ، لكن استعماله في الخير أكثر قال الله تعالى : ( جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ). وقال تعالى : ( الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً ). وفي هذه الآية شاهد للمعنيين. وقد ورد في القرآن العظيم وفي الشعر منه كثير. أما القرآن فمنه ما قدمناه. ومنه قوله تعالى : ( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ). وقوله تعالى : ( وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها ). وقوله تعالى : ( رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ ) ..

وأما الوعيد فهو تخويف بسوء المجازاة في المستقبل تحذيرا من الوقوع في المخالفات. وفي القرآن العظيم منه كثير. فمن ذلك قوله تعالى : ( آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً ). وقوله تعالى : ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً

٣٠٣

فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً ). وقوله تعالى : ( وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ ). وقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ) إلى قوله : ( وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ )

٣٠٤

القسم الحادي والسبعون

العتاب والانذار

وهو دليل بقاء المودة ودوام عقد الالفة والصحبة. والغرض به إزالة ما في النفوس من الوحشة ، لأن بجريانه يظهر ما في القلوب من آثار الجناية ، ويبدو ما في البواطن من تأكيد أسباب العناية إذ لو لا بقاء المودة الخفية لحلت القطيعة بالكلية ، ولم يحتج إلى عتاب ، ولم يرغب في الأعتاب ولهذا قيل :

ويبقى الودّ ما بقي العتاب

ومنه في القرآن العظيم كثير .. فمن ذلك قوله عز وجل : ( عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ). وقوله تعالى : ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ ). وقوله تعالى : ( عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى ). وقوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ ) إلى قوله : ( وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .. وفي القرآن من جميل العتاب شيء كثير ..

وأما الانذار ففي القرآن منه كثير لا يحصى. فمنه قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ).

٣٠٥

ومنه قوله تعالى : ( وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ ) الآية. وقوله تعالى : ( وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ).

٣٠٦

القسم الثاني والسبعون

الاعتاب

وهو رجوع الانسان عما عتبت عليه بسببه يقال : عتبته فاستعتب أي أرجعته فارتجع. ومنه قوله تعالى : ( فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ). وفي الحديث : « اما محسنا فيزداد وإمّا مسيئا فيستعتب » .. ومنه قول الشاعر :

عتبت عليه فما أعتبا

وعنه اعتذرت وقد أذنبا

٣٠٧

القسم الثالث والسبعون

الاعتذار

وهو التوسل إلى محو الذنب وإزالة أثر الجرم مأخوذ من قولهم اعتذرت المنازل اذا درست .. ومنه قوله تعالى : ( يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا ) الآية. وقوله تعالى : ( وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ). وقوله تعالى : ( تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ ).

٣٠٨

القسم الرابع والسبعون

تأكيد الضمير المتصل بالمنفصل

يفعل ذلك لضرب من المبالغة. وفي القرآن العظيم منه كثير ..فمن بديع ما جاء منه قوله تعالى : ( قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ) قولهم ـ يا موسى إما أن تلقي ـ تخيير منهم له ، وحسن أدب راعوه معه ، كما يفعل أرباب الصناعات إذا تلاقوا في تقديم بعضهم على بعض ، كالمتناظرين قبل أن يتخاوضوا في الجدال ، وإنما قالوا ـ وإما أن نكون نحن الملقين ـ ولم يقولوا وإما أن نلقي كما قالوا ـ يا موسى إما أن تلقي ـ لرغبتهم في أن يلقوا قبله وتشوفهم إلى التقدم عليه ، وذلك لما فيه من تأكيد الضمير المتصل بالمنفصل .. ومما يجري على هذا المنهاج قوله عز وجل : ( فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى ) فتوكيد الضمير هاهنا في قوله ـ لا تخف انك أنت الأعلى ـ نفي الخوف من قلب موسى ، وأثبت في نفسه الغلبة والقهر ولو قال : لا تخف إنك الأعلى أو ـ وأنت الاعلى ـ لم يكن في التأكيد لنفي الخوف من قلب موسى كما له من القوة في تقرير الغلبة ، ونفي الخوف بقوله ـ إنك أنت الأعلى ـ وذلك لأن في هذه الثلاث كلمات وهي قوله تعالى : ( إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى ) ست فوائد. الاولى إنّ المشددة التي من شأنها التأكيد لما يأتي بعدها كقولك : زيد قائم ، ثم تقول إنّ زيدا قائم ففي قولك إن زيدا قائم من الإثبات لقيام زيد ،

٣٠٩

والتقرير له ما ليس في قولك زيد قائم. الثانية تكرير الضمير في قوله تعالى ـ انك أنت ـ ولو قال فأنت الأعلى لما كان بهذه المثابة من التقرير لغلبة موسى والإثبات لقهره. الثالثة : لام التعريف في قوله ـ الأعلى ـ فلو قال إنك أنت أعلى فنكّره وكان صالحا لكل واحد من جنسه كقولك رجل فإنه يصلح أن يقع على كل واحد من الرجال واذا قلت الرجل فقد خصصته من بين الرجال بالتعريف وجعلته علما فيهم.

وكذلك قوله ـ إنك أنت الاعلى ـ أي أنت الأعلى دون غيرك. الرابعة : لفظ أفعل الذي هو من شأنه التفضيل ، ولم يقل العالي. الخامسة : اثبات الغلبة من عال. السادسة : الاستئناف في قوله ـ انك أنت الاعلى ـ ولم يقل لأنك أنت الاعلى ، لأنه لم يجعل علة انتفاء الخوف عنه ، لأنه عال وإنما نفى الخوف عنه أولا بقوله ـ لا تخف ـ ثم استأنف الكلام بقوله ـ إنك أنت الاعلى ـ فكان ذلك أبلغ في تقرير الغلبة لموسى عليه الصلاة والسلام واثبات ذلك في قلبه ونفسه. فهذه ست فوائد في هذه الكلمات الثلاث فانظر أيها المتأمل إلى هذه البلاغة العجيبة التي تحيّر العقول وتذهب الألباب ومعجز هذا الكلام العزيز الذي أعجز البلغاء وأفحم الفصحاء ورجّل فرسان الكلام.

فإن قيل : لو كان توكيد الضمير المتصل بالمنفصل أبلغ من الاقتصار على أحدهما لورد ذلك عند ذكر الله تعالى نفسه في كتابه حيث هو أحق بما هو أبلغ من الكلام ، وقد رأينا في الكتاب العزيز مواضع تختص بذكر الله تعالى وقد ورد فيها أحد الضميرين دون الآخر كقوله تعالى : ( قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فما الموجب لذلك ان كان تأكيد الضمير المتصل بالمنفصل أبلغ في بابه من الاقتصار على أحدهما دون الآخر ، فقد كان يجب عند ذكر الله تعالى نفسه ، لأنه أحق بالأبلغ من العلاء ، وإن كان الأمر بخلاف

٣١٠

ذلك فكيف قلنا أن توكيد الضمير المتصل بالمنفصل أبلغ؟

الجواب : عن ذلك انا نقول : توكيد المتصل بالمنفصل إنما يرد في الكلام لتقرير المعنى واثباته في الذهن وما يختص بالله تعالى لا يفتقر إلى تقرير ولا اثبات ، لأنه إذا قيل عنه انه على كل شيء قدير ، لم يحتج في ذلك إلى توكيد حتى يتحقق ويتبين أنه على كل شيء قدير ، بل علم وعرف أنه على كل شيء قدير ، وأن قدرته جارية على كل مخلوق ، فصار هذا من الأمر المعروف الذي لا يعتريه شك ، ولا يعترضه ريب ، وما هذا سبيله في الوضوح والبيان فلا حاجة فيه إلى التوكيد إذ كان التوكيد من شأنه التقرير للمعنى المراد اثباته في النفس ، وكون الله سبحانه على كل شيء قدير ثابت في النفوس ، فلم يحتج إلى تقرير واثبات.

فإن قيل : فقد ورد في القرآن العزيز عند ذكر الله تعالى نفسه التأكيد بالضمير المنفصل للضمير المتصل كقوله تعالى : ( وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ) إلى قوله : ( إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) كما انك على كل شيء قدير.فما السبب في هذا ، وهلا كان الجميع شرعا واحدا؟

فالجواب على ذلك : إنا نقول توكيد الضميرين أحدهما بالآخر في هذه الآية لا ينقص علينا ما أشرنا اليه أولا ، لأنه إن وقع الاقتصار على أحدهما دون الآخر ، فإن القول في ذلك ما تقدم في الآية الأولى ، وإن جيء بهما معا ، فإن ذلك أبلغ في بابه وآكد ، والله تعالى أحق بما هو أبلغ من الكلام وآكد. ولنمثل لك في استعمال الضميرين معا والاقتصار على أحدهما دون الآخر مثالا تتبعه فنقول : إذا كان المعنى المقصود أمرا معلوما قد ثبت في النفس ورسخ في الالباب ، فأنت بالخيار بين أن توكد أحد الضميرين بالآخر في الدلالة عليه ، وبين أن تقتصر على أحدهما دون الآخر ، لأنك إن وكدت الكلام فيه أعطيت المعنى حقه ، وإن لم

٣١١

توكد فإنه لا يحتاج إلى تأكيد لبيانه وظهوره ، فإن كان المعنى المقصود خفيا ليس بظاهر ولا معلوم فالأولى توكيد أحد الضميرين بالآخر لتقرره وتكسبه وضوحا وبيانا. ألا ترى إلى قوله لموسى عليه‌السلام ـ قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى ـ فإنه كان ظهور موسى عليه‌السلام على السحرة وقهره لهم أمرا مستقرا في ضمن الغيب لا يعلم ولا يعرف ، وأراد الله عز وجل أن يخبره بذلك ليذهب عنه الخوف والحذر بالأبلغ من الكلام ، ليكون ذلك أثبت في نفس موسى وأقوى دليلا عنده في انتفاء الخوف عنه ، فوكد الضمير المتصل بالمنفصل ، فجاء المعنى كما ترى ، ولو لم يؤكد كان ذلك أيضا اخبارا لموسى عليه الصلاة والسلام بنفي الخوف عنه واستظهاره على السحرة ، ولكن ليس له من التقرير في نفس موسى عليه الصلاة والسلام ما لقوله إنك أنت الاعلى فاعرف.

وعلى نحو من ذلك قوله تعالى ـ قالوا يا موسى إما أن تلقي ، وإما أن نكون نحن الملقين ـ فإن إرادة الإلقاء قبل موسى لم يكن معلوما عنده ، لأنهم لم يصرحوا بما في أنفسهم من ذلك لكنهم لما عدلوا عن مقالة خطابهم لموسى إلى ما هو توكيد ما هو لهم بالضميرين علم أنهم يريدون التقدم عليه ، والإلقاء قبله لأن من شأن مقابلة خطابهم لموسى عليه الصلاة والسلام بمثله أن يقولوا : إما أن تلقي ، وإما أن نلقي لتكون الجملتان متقابلتين ، فحيث قالوا عن أنفسهم ـ وإما أن نكون نحن الملقين ـ استدل بذلك على إرادتهم الإلقاء قبله فهذه معان لطيفة ورموز غامضة ، لا ينتبه لها إلاّ الفطن اللبيب فاعرفها.

٣١٢

القسم الخامس والسبعون

الخطاب بالجملة الفعلية والخطاب بالجملة الاسمية

المؤكدة بأنّ المشددة وتفضيل إحداهما على الأخرى

وذلك كقولنا قام زيد وان زيدا قائم ، فقولنا قام زيد معناه الإخبار عن زيد بالقيام ، وقولنا إن زيدا قائم إخبار عن زيد بالقيام أيضا إلاّ أن في الثانية زيادة ليست في الأولى ، وهي توكيده بأن المشددة التي من شأنها الإثبات لما يأتي بعدها من الكلام .. ومن هذا النحو قوله تعالى : ( وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ ) فإنهم انما خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية وشياطينهم بالجملة الاسمية المحققة بأن المشددة فقالوا في خطاب المؤمنين ـ آمنا ـ ولاخوانهم ـ إنا معكم ـ لأنهم في مخاطبة إخوانهم بما أجروا به عن أنفسهم من اثبات على اعتقاد الكفر ، والبعد من أن ينزلوا عنه على صدق ورغبة ووفور نشاط ، وكان ذلك متقبلا منهم ورائجا عند اخوانهم وما قالوه للمؤمنين ، فإنما قالوه تكلفا واظهارا لايمان خزيا ومداجاة ، وكانوا يعلمون أنهم لو قالوا بأوكد لفظ وأشده لما راج لهم عندهم إلاّ رواجا ظاهرا لا باطنا ، ولأنهم ليس لهم من عقائدهم باعث قويّ على النطق في خطاب المؤمنين بمثل ما خاطبوا به اخوانهم من العبارة المؤكدة ، فلذلك قالوا في خطاب المؤمنين بخلاف ما قالوه في خطاب اخوانهم ، وصرّحوا في كلامهم لإخوانهم أن ما خاطبوا به

٣١٣

المؤمنين إنما هو هزء فقالوا : ( إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ ) .. وهذه نكت دقيقة ولطائف خفية لا توجد في نوع من الكلام العربي الاّ في القرآن الكريم ، وما أكثر ذلك وأمثاله في آياته وأوفره مودعا في غضونه فاعرفه وقس عليه ترشد.

٣١٤

القسم السادس والسبعون

في لام التأكيد

اعلم وفقنا الله وإياك أن علماء علم البيان وعلماء العربية اتفقوا على أن هذه اللام تدخل في الكلام لنوع من المبالغة وذلك أنهم اذا عبروا عن أمر يعز وجوده أو يعظم أمر إحداثه ووقوعه جيء بها محققة لذلك وشاهدة .. فمن ذلك قوله تعالى : ( أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً ). وقوله تعالى : ( أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ ) ألا ترى كيف دخلت اللام في آية المطعوم دون آية المشروب ، وإنما جاءت كذلك لأن جعل الماء العذب ملحا ليس بعظيم ، ولأن كثيرا ما إذا جرت المياه العذبة على الأراضي المتغيرة التربة أحالتها إلى الملوحة والمرارة ، فلم يحتج في جعل الماء العذب ملحا ، إلى زيادة تأكيد ، فلذلك لم تدخل عليه لام التأكيد المفيدة زيادة التحقيق ، وأما المطعوم فإن جعله صعب ، فلذلك قرن بلام التأكيد زيادة في تحقيق ، وأما المطعوم فإن جعله صعب ، فلذلك قرن بلام التأكيد زيادة في تحقيق أمره ، وتقرير ايجاده. وكونه هكذا يفعل بكل كلام فيه نوع خصوصية.

٣١٥

القسم السابع والسبعون

في الاقتصاد والإفراط والتفريط

قال ابن الاثير رحمه‌الله : الاقتصاد أن يكون المعنى المضمن في العبارة على حسب ما يقتضيه المعبر عنه في منزلته .. وأما التفريط والإفراط فهو أن يكون المعنى المضمن في العبارة بخلاف ما يقتضيه منزلة المعبر عنه ، إمّا لانحطاطه دونها وهو التفريط ، وإمّا تجاوزا عنها وهو الإفراط لأن أصل التفريط في وضع اللغة من فرط في الأمر إذا قصر فيه وضيعه ، وأصل الافراط في وضع اللغة من أفرط في الأمر إذا تجاوز عنه .. والتفريط عيب في الكلام فاحش كقول الأعشى :

وما مزبد من خليج الفرا

ت جون غواربه تلتطم

بأجود منه بماعونه

إذا ما سماؤهم لم تغم

فإنه قد مدح ملكا يجود بماعونه ـ والماعون ـ هو كل ما يستعمل من قدوم ، أو فاس أو قصيعة ، أو قدر ، وما أشبه ذلك فلا سبيل إلى جعله مدحا البتة ، بل هو إلى الذم أقرب منه إلى المدح ، فهذا من أقبح التفريط فاعرفه. وأما الإفراط فهو بمنزلة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن رجلا جاءه فكلمه فقال ما شاء الله وشئت فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم أجعلتني لله ندّا ، قل ما شاء الله وحده .. ومن هذا الباب قول عنترة :

٣١٦

وأنا المنيّة في المواطن كلّها

والطعن مني سابق الآجال

فإن الطعن لا يسبق الأجل ، لأن الأجل لا يتقدم ولا يتأخر بالياء باثنتين من تحتها وهو أقرب أمرا من كونه بالباء الموحدة غير أن كليهما افراط .. واعلم أن علماء علم البيان في استعمال الإفراط على ثلاثة أضرب. فمنهم من يكرهه ولا يراه صوابا كأبي عثمان الجاحظ فيما روي عنه ، ومنهم من يختاره ويؤثر كقدامة بن جعفر الكاتب ، فإنه كان يقول الغلوّ عندي أجود المذهبين فإن أحسن الشعر أكذبه. ومنهم من يذهب إلى التوسط بين الغلوّ والتفريط وهو الاقتصاد ، وذلك أن يجعل الغلوّ وهو الافراط مثلا ، ثم يستثنى فيه بأو ، أو يكاد أو ما جرى هذا المجرى ، فيدرك مراده ويسلم من عيب عائب أو طعن طاعن ، وذلك كقول بعضهم في مدح الحسين :

يكاد يمسكه عرفان راحته

ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

ـ وكقول أبي عبادة البحتري :

ولو أنّ مشتاقا تكلّف فوق ما

في وسعه لسعى إليك المنبر

وهذا المذهب المتوسط أليق المذاهب الثلاثة وأدخلها في الصنعة فاعرفه.

قال المصنف عفا الله عنه : أما الاقتصاد والافراط فقد ورد في الكتاب العزيز منه شيء كثير ، وقد تقدم بيانه ، وأما التفريط فليس في القرآن منه شيء.

٣١٧

القسم الثامن والسبعون

الغزل

وهو من محاسن النظم ، والغزل التصابي ، والاشتهار بمودة النساء ، ولهذا قال بعضهم :

أيّام تدعونني الشيطان من غزل

وكن يهوينني إذ كنت شيطانا

واشتقاقه من الرقة لأن المتغزل يرقق ألفاظه حتى يستميل بها القلوب ويعدها للرسائل ، والوسائل بين المحب والمحبوب. وينبغي أن تكون ألفاظه مستعذبة ومعانيه ملهية مطربة. وينبغي أن يكثر فيه من ذكر الأجرع والحمى. ولعلع. والتقى. وطويلع. وقبا. والعقيق. وحاجز. والمنحنى وما أشبه من الألفاظ مثل ذكر المنازل التي تترشف ذكرها القلوب ، وتصبو إليها النفوس من غير أن تراها ، وكذلك يكثر فيه من ذكر الحنين والتشويق والتحزين. وقد يحتاج في بعض المواضع إلى ذكر الكرم والشجاعة والفصاحة والبراعة ليميل بذلك قلب المحبوب ، ويكون مدعاة إلى نيل المطلوب ألا ترى إلى قول بعض الشعراء :

يودّ بأن يمسي عليلا لعلّها

إذا سمعت منه بشكوى تراسله

ويهتزّ للمعروف في طلب العلى

لتحمد يوما عند سلمى شمائله

ـ ومثل قول المتنبي :

أيقنت أنّ سعيدا آخذ بدمي

لمّا بصرت به بالرّمح معتقلا

٣١٨

اراد انها اذا رأته على هذه الصورة المليحة هويته ، فنالها من هواه كما نال المتنبي من هواها ، فكأنه أخذ بثأره .. ومنه قوله في هذه القصيدة أيضا :

علّ الأمير يرى ذلّي فيشفع لي

إلى التي جعلتني في الهوى مثار

يشير إلى أنها إذا أحبت الامير علمت مقدار المحبة وعززت من يحبها كما قيل :

إنّما يرحم المحبّ المحبّو

ن ويحنو على المشوق المشوق

والقرآن العظيم من جملة إعجازه كثرة الشجا ، وترقيقه للقلوب واستمالته للنفوس بحيث أنه لا يسمعه أحد الاّ ومال إليه قلبه وامتلأت به جوانحه وانطوت على مثل جمر الغضا ضلوعه وجرت على صفحات خده دموعه ، وفيه من وصف الجنة ونعيمها ومنازل الزلفى وطيب رسومها ما يشوق القلوب إلى لقائها ، ويسوق النفوس إلى الحلول بفنائها مثل قوله تعالى : ( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ). وقوله تعالى : ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ). وقوله تعالى : ( وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ) وقوله تعالى : ( إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً ) إلى آخر السورة. وقوله تعالى : ( وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ذَواتا أَفْنانٍ ) إلى آخر السورة. وفي القرآن العظيم من هذا النوع كثير.

٣١٩

القسم التاسع والسبعون

في التشبيب

وهو اللفظ الدال على محاسن النساء ، ومحاسن أخلاقهن ، وتصرف أحوال الهوى معهن ، ويدخل فيه الشوق والتذكر لمعاهد الأحبة وتغيرها بالرياح الهابّة والبروق اللامعة وأمثالها .. ومن محاسن التشبيب قول بعضهم.

لو جادهنّ غداة رمن رواحا

غيث كدمعي ما أردن براحا

ماتت بفقد الظاعنين ديارهم

فكأنّهم كانوا لها أرواحا

النائيات النافذات نواظرا

والنّافذين أسنّة وسلاحا

وأرى العيون ولا كأعين عامر

قدرا مع القدر المتاح متاحا

متوارثي مرض العيون وإنّما

مرض العيون بأن يكنّ صحاحا

لا عيب فيهم غير شحّ نسائهم

ومن السماحة أن يكنّ شحاحا

طرقته في أترابها فجلت له

وهنا من الغرر الصباح صباحا

وبسمن عن برد تألّف نظمه

فرأيت ضوء البرق ثمّت لاحا

أبرزن من تلك العيون أسنّة

وهززن من تلك القدود رماحا

يا حبّذا ذاك السّلاح وحبّذا

وقت يكون الحسن فيه سلاحا

والأشعار في مثل هذا كثيرة. وفي القرآن العظيم من وصف النساء كثير مثل قوله تبارك وتعالى : ( عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً

٣٢٠