الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن وعلم البيان

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

الفوائد المشوّق إلى علوم القرآن وعلم البيان

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٠٧

فصل

يشتمل على ذكر جمل عطف بعضها على بعض

بالواو. والفاء. وثم. واختلاف معانيها

فمن ذلك قوله تعالى : ( هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ) عطف أولا بالواو ، لأن الاطعام والاسقاء ليس فيهما ترتيب واجب مع أن تأخير الإسقاء أولى ، ولذلك أخره في الذكر ، وعطف ثانيا بالفاء إذ لا مهلة بين المرض والشفاء وعطف بثم لما بين الإماتة والاحياء من المهلة ، ومع ذلك نسب الموت الى الله لما في ذلك من إظهار القدرة والقهر ، ونسب المرض إلى نفسه ، لأن الادب أن لا ينسب الى الله تعالى الاّ ما يحمد والموت ، وإن كان مذموما لكنه عند قاتل هذا محمود لأنه على يقين من السعادة الأخروية.

ومن ذلك قوله تعالى : ( فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ ) إنما عطف بالفاء مع أن بين مجيء المخاض والحمل مهلة ، لأن المهلة التي بين حملها ومخاضها كانت مدة يسيرة قيل كانت يوما ، وقيل كانت ثلاث ساعات ، وعليه أكثر المفسرين حتى يتميز حملها عن سائر النساء ، ويكون ذلك كرامة لها. فعلى هذا يكون المراد بالآية بيان ذلك .. وجميع أفعال المطاوعة إذا كانت على معانيها فإنما يعطف عليها بالفاء ، لا الواو ، وتقول دعوته : فأجاب وأعطيته فأخذ ولا يحسن أعطيته ، وأخذ ولا دعوته وأجاب قال الله تعالى حكاية عن ابليس : ( وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ

٢٨١

مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ) وكذلك تقول كسرته فانكسر ولا تقول كسرته وانكسر. وأما إذا كان فعل المطاوعة على غير معناه فقد يحسن العطف عليه بالواو كما في قوله تعالى : ( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ ). ومن المعطوف بالواو أيضا قوله تعالى : ( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) ولو قال لفي هدى ، أو على ضلال لم يحسن لأن ـ على ـ تفيد الاستعلاء ، وهو مناسب للحق ـ وفي ـ تفيد الوعاء والكافر كأنه مغموس في الضلال .. ومن هذا النوع قوله تعالى : ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) ما عدل عن اللام في الأصناف الأخيرة الا لبيان أن تلك الأصناف أحق بالصدقات ينبغي أن توضع فيهم وضع الشيء في الوعاء ، وكرر في البيان أن سبيل الله أولى بذلك فتأمله فهو كثير في القرآن.

٢٨٢

القسم الثامن والخمسون

في الوصف

والوصف أصله الكشف والاظهار من قولهم ـ وصف الثوب الجسم ـ إذا لم يستره ونم عليه .. وأحسنه ما يكاد يمثل الموصوف عيانا ، ولأجل ذلك قال بعضهم : أحسن الوصف ما قلب السمع بصرا .. ومنه في القرآن العظيم كثير مثل قوله تعالى في وصف البقرة التي أمر بنو اسرائيل بذبحها لما سألوا أن توصف لهم بقولهم : ( ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ ) وقوله لما سألوه أن يصف لهم لونها : ( قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ) وقوله لما سألوه بيان فعلها قال انه : ( يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها ) فجمع في هذه الآية جميع الأحوال التي يضبط بها وصف الحيوان فإن الحيوان عند البيع والإجارة وسائر وجوه التمليكات يحتاج فيه إلى معرفة سنه ولونه وعمله ، ثم يفتقر فيه إلى معرفة عيوبه فنفى الله سبحانه وتعالى عن تلك البقرة كل عيب ـ بقوله ـ لا شية فيها ـ فجمع في هذه الآية جميع وجوه الوصف فإنه في الأول وصف سنها وفي الثاني وصف لونها ، وفي الثالث وصف خلقها وعملها .. ومن ذلك قوله تعالى : ( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ) أي صفة الجنة التي وعد المتقون كيت وكيت. ومنه قوله تعالى : ( مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا ). وقوله تعالى : ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ ) الآية. وقوله تعالى :

٢٨٣

( مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا ) الآية .. ومن هذا الباب في القرآن كثير لا يحصى ، وكذلك في السنة النبوية ، وكذلك في الشعر .. ومن بديع ما ورد في الشعر قول أبي تمام في وصف سحابة :

ديمة سحت العهاد سكوب

مستغيث بها الثرى المكروب

لو سعت بقعة لا عظام أخرى

لسعى نحوها المكان الجديب

ـ والوصف قريب من التشبيه الاّ أن الفرق بينهما أن التشبيه مجاز والوصف راجع إلى حقيقته وذاته. وفي القرآن العظيم والكلام الفصيح منه كثير.

٢٨٤

القسم التاسع والخمسون

تنسيق الصفات بغير حرف نسق

وهو أن تصف الشيء بصفات عديدة متوالية ، إما لتعظيمه ، وإما لتحقيره ، وإما لبيان خصوصية فيه. ومنه في الكتاب العزيز كثير .. أما في التعظيم فمثل قوله تعالى : ( هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ ) الى آخر السورة. وأما في التحقير فكقوله تعالى : ( وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ ).

وما لبيان الخصوصية واظهار الكرامة فكقوله تعالى : ( عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً ) الآية. ومنه في السنة النبوية قوله صلى الله عليهم وسلم ـ » ألا أخبركم بأحبكم إليّ وأقربكم مني مجالس يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا المؤطئون أكنافا الّذين يألفون ويؤلفون » ـ ومن الذم ـ ألا أخبركم بأبغضكم إليّ وأبعدكم مني مجالس يوم القيامة أساوئكم أخلاقا الثرثارون المتفيهقون ـ .. ومن هذا النوع في الشعر كثير. من ذلك قول العباس يمدح رسول الله صلى عليه وسلم :

وأبيض يستسقي الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

ـ وقول حسان :

بيض الوجوه كريمة أحسابهم

شمّ الأنوف من الطراز الأوّل

٢٨٥

القسم الستون

حسن النسق

وهو أن تأتي بكلمات من النثر أو النظم متتاليات ومتعاقبات منسوقة بعضها على بعض بحرف العطف ، كل كلمة إذا أفردت كانت تقوم بمعنى مفرد مستقبل ، وكل بيت إذا جرد من تلوه استقل معناه ولم يفتقر إلى غيره ، وإن ضم إليه تلوه صارا كأنهما بيتا واحدا .. ومنه في الكتاب العزيز قوله تعالى : ( وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) فأنت ترى هذه الجمل معطوفا بعضها على بعض بواو النسق على الترتيب الذي تقتضيه البلاغة ، لأنه سبحانه بدأ بالأهم إذ كان المراد إطلاق أهل السفينة من سجنها ، ولا يتهيأ لذلك الاّ بانكشاف الماء عن الأرض ، فلذلك بدأ بالأرض فأمرها بالانقلاع ، ثم علم سبحانه أن الأرض إذا ابتلعت ما عليها ولم تنقطع مادة السماء تأذّى بذلك اهل السفينة عند خروجهم منها ، وربما ينزل من السماء أكثر مما تبتلع الأرض فأمرها بالاقلاع بعد أن أمر الارض بالابتلاع ، ثم أخبر بعيض الماء عند ما ذهب ما على الأرض ، وانقطعت مادة السماء ، وذلك يقتضي أن تكون ثالثة الجملتين المتقدمتين ، ثم قال تعالى ـ وقضي الامر ـ أي هلك من قدر هلاكه ونجى من قضيت نجاته وهذا كنه الآية وحقيقة المعجزة ، ولا بد أن تكون معلومة لأهل السفينة ، ولا يمكن علمهم بها إلاّ بعد

٢٨٦

خروجهم منها ، وخروجهم موقوف على ما تقدم ، وبذلك اقتضت البلاغة أن تكون هذه الجملة رابعة الجمل ، وكذلك استواء السفينة على الجودي أي استقرارها على المكان الذي استقرت فيه استقرارا لا حركة معه لتبقى آثارها عبرة لمن يأتي بعد أهلها ، وذلك يقتضي أن تكون بعد ما ذكرنا.

وقوله سبحانه وتعالى : ( وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) وهذا دعاء أوجبه الاحتراس ممن يظن أن الهلاك ربما شمل من لا يستحق فدعا الله سبحانه وتعالى على الهالكين وسماهم ووصفهم بالظلم احتراسا من هذا الاحتمال ، وذلك يقتضي أن يكون بعد كل ما تقدم والله أعلم. فانظر إلى حسن هذا النسق كيف وقع القول فيه وفق الفعل سواء .. وقد حكي أن ابن المقفع العبدي عارض آي القرآن ، فلما بلغ إلى هذه الآية أمسك عن المعارضة وقال هذه الفصاحة التي لا تبارى ، والبلاغة التي لا يسابق المتكلم بها ولا يجارى ، والقول الفصل الذي لا يختلف فيه ولا يتمارى. وهذا في الشعر كثير .. ومن أحسنه قول ابن شرف القيرواني :

جور عليّا ولا تحفل بحادثة

إذا ادّرعت فلا تسأل عن الأسل

سل عنه وانطق به وانظر إليه تجد

ملء المسامع والأفواه والمقل

٢٨٧

القسم الحادي والستون

المدح والذم

وفي كتاب الله تعالى منه كثير. المدح للمؤمنين. والذم للكافرين. ومدحه هو المدح على الحقيقة. وذمه هو الذم على الحقيقة .. وقد مدح الله تعالى نفسه بقوله : ( اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ). وقوله تعالى : ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) حتى قال بعض العلماء لكل أحد نسبة ونسبة الله تعالى ـ قل هو الله أحد ـ ومدح الله عز وجل نبيه بآيات كثيرة كقوله تعالى : ( إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً ) ومدح نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في آيات كثيرة. منها قوله تعالى : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً ) ومدح المؤمنين بقوله تعالى : ( التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ ).

ذم سبحانه وتعالى الكافرين بآيات كثيرة. منها قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللهُ ) الآية. وذم المنافقين بقوله : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ

٢٨٨

أَلِيمٌ ) .. وأما مدح الناس بعضهم بعضا فينبغي لمن أراد أن يمدحه بألفاظ حسنة مستعذبة واضحة المعنى رائقة اللفظ غير حوشية ولا قلقة ، وأن تكون القصيدة أو الرسالة حسنة المطلع بديعة التخلص عذبة المقطع ، وأن يكثر في وصف الممدوح ونشر مآثره وتعديد مكارمه ونحو ذلك ..

وقد قال قدامة الأوصاف التي يمدح بها اربعة ، الاول : العقل ويدخل فيه الحياء والثبات والسياسة والكفاءة وثقافة الرأي والصدع بالحجة والحلم عن سفاهة السفهاء وأمثال ذلك. الثاني : الشجاعة ويدخل فيها المهابة والحماية والدفاع والاخذ بالثأر والنكاية في العدو ، وقتل الأقران ، والسير في المهامة وأشباه ذلك. الثالث : العفة ويدخل فيها القناعة وقلة الشره وطهارة الإزار ونحو ذلك. الرابع : العدل ويدخل فيه السماحة والإطلاق والتبرع بالنائل واجابة السائل وقراء الضيف. ويحدث من تركيب الشجاعة مع العفة إنكار الفواحش ، والغيرة على الحريم. ومع العدل الإتلاف وترك الخلاف. ويحدث من تركيب العفة مع العدل الإسعاف بالقوة والإيثار على النفس ونحو ذلك .. واستوعب زهير الأقسام الأربعة فقال :

أخي ثقة لا تهلك الخمر ماله

ولكنّه قد يهلك المال نائله

وصفه بالعفة لقلة إمعانه في اللذات وبالسخاء ووصفه بالشجاعة والعقل فقال :

ومن مثل حصن في الحروب ومثله

لإذهاب ضيم أو لخصيم يجادله

وأما قوله ـ أخي ثقة ـ فهو وصف

بالوفاء ، وهو داخل فيما ذكرناه

.. وفي الذم يأتي بأضداد ما تقدم. وقيل أحسن الهجاء ما لا تستحي العذراء من انشاده. وقيل في الذم أن تأتي بالألفاظ المنكية ، والمعاني

٢٨٩

المشجية والمقاصد المؤلمة المبكية ، ويتوخى أقبح معايب المهجوّ وأعظم وجوه الازدراء به ، ولهذا المعنى حرّمه الله ورسوله وعم بالذم والانكار كل من يحفظه أو يقوله.

٢٩٠

القسم الثاني والستون

الحمد والشكر

وقد اختلف العلماء فيهما ، فقال قوم وهم الجمهور : الحمد هو ذكر ما في الانسان من المآثر الحسنة والصفات المستحسنة والشكر ثناء يقصد به مجازاة المنعم .. وقال بعض أهل العلم ان الحمد وصف الحلال كقول الخنساء أخت صخر :

وما بلغت كفّ امرئ متناولا

من المجد إلاّ والّذي نلت أطول

وما بلغ المهدون للناس مدحة

وإن أطنبوا إلا التي فيك أفضل

والشكر وصف الأفعال كقول الشاعر :

وانكم بقية حيّ قيس

وهضبته التي فوق النصاب

تبارون الرياح إذا تبارت

وتمتنّون أفعال السحاب

يذكرني مقامي في ذراكم

مقامي أمس في ظلّ الشباب

وقيل ان الحمد والشكر سواء. وقال أهل اللغة ـ حمدت الرجل ـ اذا شكرت له صنيعه ـ وأحمدته ـ إذا وجدته محمودا .. وقال ابن الانباري ـ حمد ـ مقلوب مدح ، وقد قيل كيف يكون الحمد والشكر سواء والحمد نقيضه الذم والشكر نقيضه الكفران ، والذي أختاره أن الحمد أعمّ من الشكر ، وانه قد يحمد الشخص على ما فيه من الأخلاق الجليلة والصفات الجميلة ، ويحمد على حسن خلقه من الصباحة والجمال

٢٩١

والكمال ويحمد على ما فيه من الفصاحة والبلاغة والنجابة ، ويحمد على كثرة انعامه واحسانه والشكر ، إنما يكون للمنعم عليك فقط ، فإذا حمدت أحدا إن نويت بالحمد الشكر له على ما اسدى إليك من الانعام والإحسان ، كان هذا الحمد هو الشكر لأنه مجازاة لصنيع ومكافأة لاحسان فقد اتيت بأعلى درجات الشكر هو الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله الحمد رأس الشكر ، وهو الذي يجوز إطلاقه على الشكر ، وإطلاق الشكر عليه ، وإن أردت بالحمد الثناء على صفاته الجميلة الكاملة التي خلقه الله عليها ، فهذا اخو المدح ، وهو اعلاه ويجوز إطلاقه على المدح وحسن الشيم والخلال والثناء عليه بما أسدى إليك وإلى غيرك من الانعام والإفضال ، فهذا هو الحمد الكامل ، ولا يجوز أن يطلق عليه الشكر والمدح ، فهذا هو الحق .. وقد تكلم المفسرون في الحمد والشكر والفرق والجمع بينهما وبين المدح ، ومن علم ما ذكرته هنا سهل عليه الاختلاف والائتلاف ، والله الموفق للصواب لا رب غيره.

٢٩٢

القسم الثالث والستون

تأكيد المدح بما يشبه الذم

وهو كقولهم : بحار العلم إلا أنهم جبال الحلم .. ومنه قول بديع الزمان :

هو البدر إلاّ أنه البحر زاخرا

سوى انه الضرغام لكنّه الوبل

وهذا من نوع الغلوّ والإغراق ، وسيأتي بيانه عقيب هذا القسم ان شاء الله تعالى. وهذا النوع في القرآن كثير.

٢٩٣

القسم الرابع والستون

المبالغة وتسمى الافراط والغلوّ والايغال

ومعنى هذه الاسماء متقاربة وبعضها أرفع من بعض

قال علماء علم البيان : المبالغة الزيادة على التمام ، وسميت مبالغة لبلوغها إلى زيادة على المعنى لو أزيلت تلك الزيادة وأسقطت كان المعنى تاما دونها ، لكن الغرض بها تأكيد ذلك المعنى في النفس وتقريره .. وفي القرآن العظيم والكلام الفصيح والأشعار منه كثير .. أما الكتاب العزيز فقوله تعالى : ( إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا ).

ومنه قوله تعالى : ( وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ ) وقد قيل إن هذه الآية ليست من باب المبالغة بل حكاية عما وقع.

ومنه قوله تعالى : ( تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا ). وقوله تعالى : ( وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى ) الآية .. وأما الكلام الفصيح فقد روي عن العرب أنهم قالوا فلان يهدّ الجبال ويصرع الطير ويفزّع الجن ويزوي الماء ..

وقال بعض العرب في فرسه ـ يحضر ما وجد أرضا ، وإن الوابل

٢٩٤

ليصيب عجزه ولا يبلغ معرفته حتى أنال حاجتي ـ. وذم اعرابي رجلا فقال ـ يكاد يعدي لؤمه من تسمى باسمه ـ. وقالت سكينة ـ ما لبست بنتي الدرّ إلاّ لتفضحه ـ ومنه في الشعر كثير .. فمن ذلك :

أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم

دجى اللّيل حتى نظّم الجزع ثاقبه

وقال المتنبي :

لقيت الرّوابي والشناخيب دونه

وجبت هجيرا يترك الماء صاديا

وقال آخر :

لو كان يقعد فوق النّجم من كرم

قوم لقيل اقعدوا يا آل عباس

وقال آخر :

فكنت إذا جئت ليلى بأرضها

أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها

من الخفرات البيض ودّ جليسها

اذا ما مضت أحدوثة لو تعيدها

وكيف يودّ القلب من لا يودّه

بلى قد تريد النفس من لا يريدها

ـ وقال آخر :

وحديثها السحر الحلال لو انه

لم يجن قتل المسلم المتحرّز

إن طال لم يملل وان هي أوجزت

ودّ المحدّث أنها لم توجز

شرك النفوس ونزهة ما مثلها

للمطمئنّ وعقلة المستوفز

والاشعار في هذا الباب كثيرة لا تحصى :

٢٩٥

القسم الخامس والستون

الرثاء والتعزية

فأما الرثاء فهو مدح الميت بما كان فيه من المناقب المذكورة والمحاسن المأثورة. ومنه قوله تعالى في حق إبراهيم عليه الصلاة والسلام : ( وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ). وقوله تعالى : ( إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ). وقوله تعالى في حق نوح عليه الصلاة والسلام. ( وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) .. وأما التعزية فهو ان يذكر ما يتوصل به الى تسلية مخلفي الميت وتصبيرهم واطفاء نار ثكلهم. وفي القرآن من ذلك كثير وهي كثيرة في أشعار المتقدمين والمتأخرين .. أما القرآن فقوله تعالى : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ).

وقوله تعالى : ( وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا ). وقوله تعالى : ( أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ) وقوله تعالى : ( الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ). وقوله تعالى : ( وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) وأما الأشعار فقد ورد منها في هذا

٢٩٦

كثير لا يحصى .. فمن أحسن ذلك قول بعضهم :

مضى ابن سعيد حيث لم يبق مشرق

ولا مغرب إلا له فيه مادح

وما كنت أدري ما فواضل كفّه

على النّاس حتى غيّبته الصفائح

وأصبح في لحد من الأرض مفردا

وكانت به حيا تضيق الصحاصح

لئن عظمت فيه وحسنها

لقد عظمت من قبل فيه المدائح

ـ ومن بديع التعزية قول بعضهم :

أيتها النفس أجملي جزعا

إن الذي تحذرين قد وقعا

ـ وقول بعضهم :

قسمة الموت قسمة لا تجور

كلّ حيّ بكاسها مخمور

ـ وقول الخنساء :

يذكّرني طلوع الشّمس صخرا

وأندبه لكل غروب شمس

ولو لا كثرة الباكين حولي

على إخوانهم لقلت لقتلت نفسي

وما يبكون مثل أخي ولكن

أسلّي النّفس عنه بالتأسّي

٢٩٧

القسم السادس والستون

في الشكاية

وهي في القرآن على قسمين : ملفوظ بها. وغير ملفوظ بها .. أما الملفوظ بها ففي قوله تعالى : ( إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ ) .. ومن الشعر قول بعضهم :

إلى الله أشكو لا إلى النّاس أنني

أرى الأرض تطوى والأخلاّء تذهب

ـ وقال آخر :

ولا خير في شكوى إلى غير مشتكى

ولا بدّ من شكوى إذا لم يكن صبر

ـ وأما غير الملفوظ بها ففي القرآن منه كثير. من ذلك قوله تعالى :

( قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي ). وقوله تعالى حكاية عن نوح عليه الصلاة والسلام : ( قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً ) إلى قوله : ( وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً ). وقوله تعالى : ( وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ ) ومثله في القرآن كثير وفي الشعر كثير .. فمن بديعه قول الشاعر :

يا إلهي قد أثقلتني الذنوب

فاعف عني فالعفو منك قريب

وتجاوز عن مذنب بخطايا

ه عن الخير قلبه محجوب

٢٩٨

كل يوم يمضي عليه ويدري

إنّه من حياته محسوب

وهو في غفلة بعيد من الخ

ير قريب منه الخطا والذنوب

ـ ومن بديعه أيضا قول بعضهم :

يا من يناجي بالضمير فيسمع

أنت المعدّ لكلّ ما يتوقع

يا من يناجي للشدائد كلّها

يا من إليه المشتكى والمفزع

يا من خزائن جوده في قول كن

امنن فإن الفضل عندك أجمع

ما لي سوى قرعي لبابك حيلة

فإذا رددت فأيّ باب أقرع

ومن الذي أدعو واهتف باسمه

إن كان برّك عن فقيرك يمنع

حاشى لجودك أن يقنط راجيا

الفضل أجزل والمواهب أوسع

ـ وفي هذا الباب أشعار كثيرة لا تحصى :

٢٩٩

القسم السابع والستون

الحكاية

وهو ان يحكي كلام المتكلم ، اما بلفظه أو بمعناه والقرآن العظيم مشحون بذلك. وهو على قسمين : ظاهر. ومقدر .. أما الظاهر فكما حكاه الله سبحانه وتعالى من قول الملائكة : ( قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ). ومنه قوله تعالى : ( وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى ) وكذلك كل ما حكاه الله تعالى من أقوال القرون الخالية والأمم الماضية. وأما المقدر فكقوله تعالى : ( ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) التقدير يقولون ـ ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ـ دليل ذلك انه ردّ عليهم بقوله : ( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ) ومثله في القرآن العظيم كثير.

٣٠٠